الأربعاء، 31 مايو 2017

سيد درويش وثورة النغم ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
سيد درويش وثورة النغم ...
عماد أبو غازي

 "عندما ولد سيد درويش كانت الموسيقى المصرية والغناء فنًا للخاصة، وعندما مات كانت موسيقاه وألحانه تتردد في أنحاء البلاد ملكًا للعامة من أبناء الشعب كله... وعندما بدأ سيد درويش حياته الفنية كانت الموسيقى المصرية الغنائية لا تعرف غير الشجن والوجد والهيام، وعندما انتهت حياته كانت الموسيقى تغني للوطنية، وتعبر عن طوائف العمال، وتوحي بجو الريف وتسخر من الحكام الطغاة..."
 بهذه الكلمات البليغة لخصت أستاذة الموسيقى الراحلة الدكتورة سمحة الخولي إنجاز سيد درويش ومسيرته الإبداعية في مقال لها بعنوان: "وقفة تأمل في ذكرى سيد درويش" نشرته جريدة الجمهورية في مارس 1968 بمناسبة الذكرى السادسة والسبعين لميلاده، وبعد أقل من عام على هزيمة يونيو 1967، التي كان من بين آثارها الجانبية دفع المصريين للنظر مجددًا في الإنجاز الثقافي المهم لجيل الثورة المصرية، ثورة 1919، ذلك الإنجاز الذي جرى تهميشه بدرجات متفاوتة منذ سيطر نظام يوليو على مقدرات الحياة المصرية.


 وتشرح الدكتورة سمحة الخولي بالتفصيل دور سيد درويش في الموسيقى والغناء في مصر فتقول: "ولد سيد درويش في عصر لا يعرف في الموسيقى غير المغني الفرد، فيمجده ويقدسه ويخضع له الموسيقى، كما يخضع له البطانة الصغيرة التابعة له، وعندما مات كان قد أصّل غناء الثنائيات بأسلوب الحوار الغنائي، بل وطرق مجالًا أكثر صعوبة هو مجال الغناء الكورالي المتعدد الألحان ... وقد توصل إلى هذا الغناء الكورالي بفطرته دون تعليم خاص في هذا المجال بالذات... إن سيد درويش ولد في عصر كان فيه الغناء فنًا أرستقراطيًا منعزلًا عن الغناء الشعبي، يستعلي عليه ويرفضه، ومات سيد درويش بعد أن حقق امتزاجًا خصبًا بين الموسيقا الفنية والشعبية، قرب بين فن الخاصة والعامة، ورفع صوت طوائف الشعب في الموسيقا..."
 ولا يقتصر التقييم الإيجابي لدور سيد درويش في الموسيقى والغناء في مصر على ما نردده نحن المصريين فقط، فها هو المستشرق إدوارد لويس في دراسة له عن سيد درويش يضمها كتاب "سيد درويش حياة نغم" من إعداد محمد علي حماد، والذي صدر في عام 1970، يقول لويس: "إن الشيخ سيد درويش بنبوغه وثقته بنفسه يعتبر مرحلة في هذا الانقلاب الهائل الشاق الذي يتمثل في النهضة العلمية للشعب المصري، فقد نفخ في موسيقى بلاده روحًا جديدة كل الجدة، واستطاع أن يرتفع بها إلى مستوى يتمكن المرء معه أن يعبر عن عواطفه ونزعاته بواسطتها..."
 لقد امتلك سيد درويش إحساسًا واعيًا بروح الشعب المصري، وعبر عن هموم البسطاء ومشاعرهم، وتوج حياته بالالتحام بثورة سنة 1919 وأصبح المعبر عنها وعن قيمها بالكلمة واللحن والأغنية، وربما كان سيد درويش ومختار من بين أبناء جيلهما، كما قال الناقد الراحل بدر الدين أبو غازي  في محاضرة له عن سيد درويش ومختار ألقاها في أتيله القاهرة بمناسبة الذكرى التسعين لميلاد سيد درويش سنة 1982، هما الأكثر تعبيرًا في مجال الفنون عن الثورة المصرية وقيمها، والأبلغ في التعبير عن أبناء الشعب البسطاء صانعي الحضارة من فلاحين وحرفيين وعمال، والأقدر على استلهام أعمالهما من روح هذا الشعب وتراثه، وعلى حل إشكالية الأصالة والمعاصرة.
 لقد نجح سيد درويش في حياته القصيرة وحياته الفنية الأقصر أن يجسد الشعب المصري من خلال أغانيه، ونجح في أن يعبر عن المبادئ التي تكونت خلال نضال المصريين منذ أواخر القرن الثامن عشر وتبلورت في أجلى صورها مع ثورة 19، مبادئ الاستقلال الوطني والديمقراطية وبناء الدولة المدنية التي تقوم على أسس المواطنة، وحول هذه المبادئ إلى كلمات يتغنى بها الناس، ففي نشيد فليعش وطنا القريب جدًا في كلماته ولحنه من نشيد مصر القومي الذي أعده لاستقبال سعد، وكان قد كتبه ولحنه ليكون ضمن ألحان رواية كليوباترا ومارك أنطونيو إلا أن منيرة المهدية حذفته، يقول في مطلعه:
فليعش وطننا    وحدته أملنا              كلنا جميعا    للوطن ضحية
نجمع صليبنا    ويا هلالنا                في حبك   أنت يا حرية
وفي لحن الكشافة المعروف بقوم يا مصري، ينشد:
حب جارك      قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى     ومسلمين قال إية ويهود
دي العبارة      نسل واحد م الجدود
 وفي النشيد الوطني والذي أخذت عبارته الأولى من النشيد الخديوي الذي يعود إلى عصر إسماعيل تقول كلمات المقطع الأخير:
فلينزل غضب الشعب    على من يتصدى للوطنية
وتحيا مصر الاستقلال    وتحيا فيها القومية
لقد ظلت ذكرى سيد درويش خالدة بما قدمه لوطنه ولنهضة بلاده رغم رحيله المبكر والمفاجئ والذي عبر عنه صديق عمره ورفيق كفاحه بديع خيري في الذكرى الخامسة عشر لرحيله سنة 1938 بقصيدة مطلعها:
اللي زيك مش غريب كونه يموت      في بلد مالهاش من النابغ نصيب
بختها ما اعرفش ليه بين البخوت       لم نصفها يوم ملهم أو أديب
لو مثيلك من أيادي الموت يفوت        هو ده اللي كان بقى حادث عجيب
الحياة أشبه بخيط العنكبوت              والتراب يا ما كنوز جواه تغيب
 صحيح يا عم بديع "التراب يا ما كنوز جواه تغيب".
الدستور 27 سبتمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق