الأربعاء، 23 مايو 2018

المرأة العربية المبدعة في لندن... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
المرأة العربية المبدعة في لندن
عماد أبو غازي
 اليوم الثاني من أيام الرحلة اللندنية، الخميس 15 أبريل، تبدأ أعمال المؤتمر، حوالي التاسعة صباحا إلتقينا في بهو فندق أنطونيت الذي نقيم فيه، بعض المشاركات والمشاركين يلتقون للمرة الأولى، حضرت الدكتورة نهى منظمة المؤتمر واصطحبتنا سيرا على الأقدام إلى جامعة كينجستون، الجامعة تبعد خطوات قليلة عن الفندق كما أبلغتنا نهى من قبل بالبريد الإلكتروني، اكتشفت بعد عودتي إلى الفندق أن شباك غرفتي يطل على المدخل الخلفي للجامعة.


 في قاعة المؤتمر بدأ التعارف بين المشاركين أثناء تناول الشاي والقهوة، ثم بدأت وقائع المؤتمر الذي استمر على مدى يومين، كان المؤتمر أقرب إلى حلقة بحثية تناقش إبداع المرأة العربية من زوايا مختلفة، الحاضرون في الجلسات العشر للمؤتمر هم المنظمون وصاحبات وأصحاب الأوراق البحثية وعدد من طالبات وطلاب الدكتورة نهى مولر بالإضافة إلى بعض المهتمين بالموضوع من الجامعة ومن خارجها، أظن أن الحضور كان في حدود مائة، وأظن أيضا أن هذا عدد ملائم لإنجاز عمل جاد ورصين، كانت قاعة المؤتمر مرتبة بشكل مريح.


 قبل أن تبدأ وقائع المؤتمر طلبت منا مساعدات الدكتورة نهى تعبئة استمارة تفيد موافقتنا على قيام الجامعة بتسجيل وقائع الجلسات بالصوت والصورة واستخدامها بعد ذلك، الكاميرات كانت أمامنا وليست كاميرات خفية، مع ذلك لم يبدأ التصوير إلا بعد أن وافقنا جميعا ووقعنا الاستمارات، هناك يحترمون حقوق الملكية الفكرية، فما سنقوله ملك لنا لا يجوز استخدامه إلا بموافقتنا، رغم أن الجامعة دعتنا وتحملت تذاكر سفرنا ونفقات إقامتنا، ذكرني ذلك بصديق عزيز في مصر، سينمائي مبدع يتحرك بجهاز تسجيله وكاميرته ويسجل بها في جلسات خاصة دون استئذان، حقا يخرج بتسجيلات صادقة وموثقة لشخصيات مهمة في حياتنا، لكنه يضحي بمبادئ احترام الخصوصية، بعدها بأيام كنا نسير في هايد بارك لفتت هالة جلال نظري إلى وجود لافتات تنبه زوار الحديقة إلى أن هناك كاميرات مراقبة بالحديقة، رغم أن الكاميرات واضحة تماما لكل من يدخل الحديقة، إنه احترام الخصوصية ومبادئ حقوق الإنسان، إنه فارق بين ثقافة مجتمع وثقافة مجتمع.
 جزء من جلسات المؤتمر كان شهادات لمبدعات في مجالات السينما والمسرح والإعلام والأدب ناقشن فيها تجاربهن الإبداعية من زوايا مختلفة ألقين من خلالها الضوء على موقف المجتمعات العربية من إبداع المرأة، وحاولن الإجابة على أسئلة كانت عناوين للجلسات في اليوم الأول، مثل: ماذا يعني الإبداع بالنسبة لي؟ إلى أي مدى يشكل إبداعي قيمة مهمة في مجتمعي؟ هل هناك ميزة لكوني إمرأة فيما يتعلق بإبداعي؟ والسؤال المقابل له، هل كوني إمرأة يشكل عائق في أمام إبداعي؟
 أما اليوم الثاني فبدأ بحوار أجرته نهى مع الروائية اللبنانية الكبيرة حنان الشيخ حول حياتها كقاصة.



 ثم ناقشت أبحاث المؤتمر في يومه الثاني قضايا التسويق العالمي للمنتج الإبداعي، ونظم المؤسسات التعليمية وتأثيرها على العملية الإبداعية سلبا وإيجابا، كما تضمن اليوم الثاني كذلك محاضرات عن تسويق العمل الثقافي والمبادرة الثقافية والاستجابات الثقافية السريعة لآليات الإعلام.
 شاركت في المؤتمر خمسة وعشرين من المبدعات والباحثات من لبنان والمغرب والعراق وسوريا والأردن ومصر وإنجلترا، وشارك ثلاثة باحثين من الدانمارك وإنجلترا وأنا من مصر.
 كانت الإنجليزية هي لغة المؤتمر، لكن بعد انتهاء المتحدثات في الجلسة الأولى من أبحاثهن ظهرت مشكلة، اللغة الأجنبية للمغربيات المشاركات الفرنسية وليست الإنجليزية، كان هناك ضرورة للترجمة إلى العربية أو الفرنسية، تحدث المغاربة والمصريون بالعربية التي يعرفها جل المشاركين في المؤتمر باستثناء أربعة أوروبيين تولى بعض مساعدي نهى وطلبتها الترجمة لهم، وتحدث باقي المشاركين بالإنجليزية، وقام المترجمون أيضا بالترجمة للمغاربة.
 في اليوم الأول قام المنظمون بدعوتنا على العشاء في مطعم في منطقة وسط ضاحية كينجستون يطل على نهر التيمز اسمه "ها.. ها"، كنا قد عرفنا بأخبار البركان لكن كان غالبيتنا يتصورن أن الموضوع لن يستغرق سوى ساعات ويعاد فتح المطارات.
 في اليوم الثاني، وبعد انتهاء أعمال المؤتمر عدنا إلى فندق أنطونيت وجلسنا في الحديقة لتناول المشروبات، ومعنا نهى وخلود الجمال الصحفية المصرية التي تعمل الآن في جامعة كينجستون وإحدى المشاركات في تنظيم المؤتمر، كانت الصورة قد باتت أوضح، البعض غادر الفندق إلى بيوت الأصدقاء في لندن حسب تخطيط سابق، والبعض ممن يعيشون في أوروبا يبحث عن وسائل نقل أخرى للعودة إلى البر الأوروبي، وبقينا في الفندق ستة من المشاركين بعد أن أدركنا أننا محتجزون في لندن لحين إشعار آخر.
الدستور 28 أبريل 2010

يوميات محجوز بعيدا عن الوطن... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
يوميات محجوز بعيدا عن الوطن
عماد أبو غازي
 الأسبوع الماضي كانت على موعد مع رحلتين خارجيتين متتابعتين، الرحلة الأولى إلى المملكة المتحدة بدعوة من جامعة كينجستون لحضور مؤتمر علمي حول المرأة العربية المبدعة، والدعوة الثانية إلى بيروت للمشاركة في المؤتمر الأول للسياسات الثقافية في الوطن العربي الذي تنظمه مؤسسة المورد الثقافي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بين المؤتمرين كان ينبغي أن أمر بالقاهرة لساعات لبعض مواعيد العمل ولإلقاء محاضرتي لطلابي بجامعة القاهرة، ثم الانطلاق إلى المطار مرة أخرى في الطريق إلى بيروت، أنا استمتع بالسفر للخارج بعد سنوات من الحرمان بسبب رهاب ركوب الطائرات الذي شفيت منه وأنا في سن التاسعة والأربعين، لذلك أحاول ألا أضيع أي فرصة للسفر لتعويض ما فات فيما تبقى من العمر، المشكلة أنني أمام رحلتين قصيرتين مليئتين بالعمل بعد أسبوعين حافلين بالعمل شهدا ثلاثة مؤتمرات دولية متوالية في المجلس الأعلى للثقافة، منذ يوم 28 مارس حتى 9 إبريل، وأيام من العمل المتواصل من الثامنة صباحًا حتى منتصف الليل، مع ذلك قبلت المشاركة في المؤتمرين وأعددت أوراقي.
 يوم الأربعاء الماضي توجهت إلى المملكة المتحدة للمرة الأولى في حياتي، طائرة الخطوط الجوية البريطانية تغادر في السابعة والنصف صباحًا، علي إذًا أن أكون في المطار في الخامسة، ذهبت في الموعد وتناولت إفطاري بمطار القاهرة، ألتقيت في بوابة المغادرة بالمخرجة المصرية هالة جلال المدعوة للمؤتمر هي الأخرى.

 كانت الرحلة مريحة وصلنا إلى مطار هيثرو لم نجد سائق التاكسي في انتظارنا كما أخبرنا المنظمين للمؤتمر، اتصلت هالة بالدكتورة نهى مولر الأستاذة بجامعة كينجستون ومنظمة المؤتمر، وهي مصرية الأصل، أبلغتنا أن السيارة تلتقط زائرة أخرى من لبنان من صالة أخرى في المطار وستكون عندنا في خلال دقائق، وبالفعل قبل أن ننتهي من شرب قهوتنا، كان السيد توني سائق التاكسي يبحث عنا، نقلنا التاكسي ومعنا المخرجة اللبنانية الشابة كورين شاوي إلى فندق أنتونيت بكينجستون حيث نقيم، في الطريق مررنا بقصر أثري يرجع لهنري الثامن كما شرح لنا سائقنا، كما مررنا على نهر التيمز، إنه نهر كبير يشبه نهر النيل في حجمه، على ضفة النهر عشرات من العوامات المسكونة، تذكرني بعوامات القاهرة التي انقرضت تقريبا ولم يتبق منها إلا آحاد قليلة في منطقة الكيت كات، أذكر في طفولتي في الخمسينيات من القرن الماضي عشرات العوامات على شاطئ النيل من كوبري عباس إلى كوبري إمبابة، ظلت تنقرض وترحل إلى الشمال لتنحصر في هذا العدد القليل الذي تبقى منها، لماذا أزلناها؟ لا أعرف، هل لنحول شواطئ النيل إلى نوادي خاصة للنقابات والهيئات المختلفة؟ ربما! هذا ما فكرت فيه عندما شاهدت عوامات نهر التيمز.






 بعد وصولنا بساعة غادرنا ضاحية كينجستون الهادئة إلى لندن بالقطار، فالمؤتمر لن يبدأ إلا صباح الخميس، وقد لا تأتي فرصة أخرى لزيارة المدينة لأن المؤتمر سيتواصل على مدى يومي الخميس والجمعة، وسنغادر لندن بعد ظهر السبت، هذا ما كنا نتصوره وقتها!
 أخذنا خريطة لمنطقة كينجستون من موظفة الاستقبال في الفندق، وشرحت لنا الطريق إلى محطة ساربتون للقطارات، وهي الأقرب إلى الفندق وخطوطها الأسرع في الوصول إلى لندن.
 ذهبنا إلى المحطة، هالة وأنا، أول انطباع تطرق إلى ذهني عندما شاهدت محطة ساربتون، إنها المرة الأولى التي أدرك فيها أن مصر كانت مستعمرة بريطانية، وتأكد الشعور بقوة عندما وصلنا إلى لندن، ونزلنا في محطة وترلو، طراز محطة ساربتون من الخارج نفس طراز محطة سيدي جابر، ربما مبنى محطة سيدي جابر بلونه الحجري الأحمر أجمل من مبنى محطة ساربتون الأبيض، بطول الخط تشعر بتأثير قوي لتصميم محطات القطارات في إنجلترا على محطات القطارات القديمة في مصر كلها. تذكرنا محطة باب اللوق ومحطة مترو المعادي القديمة التي هدمت بلا مبرر مفهوم بعد تشغيل مترو الأنفاق بشهور قليلة لتحل محلها مباني قبيحة لا طابع لها.



 أخذنا نتجول في منطقة ويستمنيستر بمبانيها التاريخية وجسورها المتميزة وحدائقها التي تشغل التماثيل حيزًا واضحًا فيها، أدركت لأول مرة أيضًا معنى القوة الاستعمارية الكبرى التي كانتها بريطانيا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، زرنا الأكواريوم، متحف الأحياء المائية، وتحسرنا على ما آلت إليه أحوال حديقة الأسماك لدينا.



 عدنا في المساء إلى كينجستون، فقدت الطريق في حالة نادرة من حالات فقدان الاتجاه عندي، فإحساسي بجغرافيا المكان عالي، لكن الشوارع متشابها والعلامات التي وضعتها موظفة الاستقبال على الخريطة كانت بمظهر فسفوري أصفر اختفى تمامًا في الإضاءة الليلية للشوارع، لم نضل الطريق طويلًا ووصلنا بعد سؤال بعض المارة.
 عدنا لنستعد لليوم الأول من أيام المؤتمر.
الدستور 21 أبريل 2010

الثلاثاء، 22 مايو 2018

ثقافة المجتمع المصري وتولي المرأة المناصب القيادية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
ثقافة المجتمع المصري
وتولي المرأة المناصب القيادية
عماد أبو غازي

نظمت رابطة المرأة العربية يومي 11 و12 أبريل مؤتمرها الثالث حول المرأة العربية والقضاء في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، وبمشاركة ورعاية من أمانة الجامعة.
حمل المؤتمر عنواناً دالاً: «قصص نجاح المرأة العربية في كرسي القضاء». ويهدف المؤتمر ضمن ما يهدف إليه إلي دعم المرأة ومساندتها من أجل الحصول علي حقها الدستوري في تولي المناصب في جميع الهيئات القضائية دون تفرقة بين المرأة والرجل خاصة بعد أن أثبتت المرأة نجاحها في هذه المناصب من خلال تقارير التفتيش القضائي.
وكانت رابطة المرأة العربية التي تتولي رئاستها الدكتورة هدي بدران قد بدأت حملتها من أجل تولي المرأة المصرية منصب القضاء عام 1998 بعد أن وصلت المرأة في 11 بلدا عربيا إلي مناصب القضاء وظلت المرأة في مصر محرومة من حقها في ولاية القضاء.
وكانت البداية بمؤتمر الرابطة الأول: «المرأة العربية في الهيئات القضائية» الذي عقد بالتعاون مع نادي قضاة مصر.
وفي عام 2002 عقدت الرابطة مؤتمرها الثاني بعنوان: «المرأة العربية سنوات في كرسي القضاء بالتعاون مع المجلس الأعلي للثقافة».
عندما عقد المؤتمر الأول لم تكن هناك قاضيات في مصر ونتيجة لجهود الرابطة وجهود منظمات مصرية أخري ومساندة قطاعات في المجتمع والدولة لقضايا المرأة تبوأت المرأة مناصب القضاء.
لكن علي الرغم من أن السنوات الماضية شهدت تولي المرأة في مصر عديداً من المناصب القضائية، بداية من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية مرورا بمحاكم الأسرة ومحاكم الاستئناف وانتهاء بالمحكمة الدستورية العليا، ورغم أن عدد القاضيات في مصر أصبح خلال أقل من عشر سنوات يعد بالعشرات، فإن المرأة ما زالت محرومة من تولي بعض المناصب القضائية.
ورغم عدم وجود موانع قانونية أو دستورية تحول بين المرأة وتولي القضاء، بل علي العكس من ذلك فإن نصوص الدستور تساوي بين الرجل والمرأة في جميع الأحوال، ورغم أن هناك 11 دولة عربية تشترك مع مصر في الموروث الثقافي قد عينت قاضيات منذ سنوات، تصل في بعض البلدان إلي ما يزيد علي أربعين سنة، ففي مصر ما زال تولي المرأة للقضاء مسارا للجدل في المجتمع.
ومشكلة تولي المرأة المناصب القيادية في مصر مشكلة ثقافية بالأساس وليست مشكلة قانونية أو دستورية.
فالتطور التشريعي الذي مرت به مصر خلال قرن ونصف القرن منذ صدور أول دستور وتحول مصر إلي النظم القانونية الحديثة حتي الآن شهد تحولاً إيجابيًا تدريجيًا في الوضع القانوني للمرأة تجاه تولي المناصب القيادية. فقد انتزعت المرأة حقوقها السياسية خطوة بخطوة إلي أن نالت في دستور 1956 حق الانتخاب والترشح في المجالس النيابية، وبالفعل دخلت المرأة المصرية إلي البرلمان لأول مرة في عام 1957 بعد أقل من مائة عام علي بدء الحياة البرلمانية في مصر، ولم تمض خمس سنوات إلا وكانت المرأة المصرية قد تقلدت منصب الوزارة.
ولم يعد هناك قيد دستوري أو قانوني من الناحية النظرية علي تولي المرأة لأي منصب قيادي لكن القضية الأساسية تظل في ثقافة المجتمع المصري التي تتحفظ أو ترفض في بعض الأحيان تولي المرأة المصرية لبعض المناصب خاصة منصب القضاء، والغريب أن يأتي هذا التحفظ في المجتمع المصري الذي كانت للمرأة فيه مكانة بارزة عبر التاريخ؛ فمنذ أقدم عصور الحضارة المصرية والمرأة تحتل مكانًا مهم».
والوقائع التاريخية تؤكد تولي المرأة الحكم منذ عصر الدولة القديمة وأسماء مثل خنتكاوس ونيتوكريس وأحمس نفرتاري وحتشبسوت، وغيرهن من الملكات المصريات تشهد علي مكانة المرأة في مصر القديمة، كذلك فإن صورة المرأة في الفن المصري القديم تؤكد مبدأ المساواة التامة بين الجنسين، وهناك أيضا العقيدة الأوزيرية المصرية التي تبرز الموقع الذي تحتله المرأة في الوجدان المصري، كل هذه مؤشرات لها دلالة في تبيان مكانة المرأة في الحضارة المصرية القديمة.
وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة قد عرفت الملكات فإنها عرفت أيضا القاضيات، بل إن العدالة نفسها رمز إليها برمز نسوي ماعت.
وكان الوضع القانوني للمرأة في إطار النظم القانونية في مصر القديمة وضعا يقوم علي مبادئ المساواة الكاملة بينها وبين الرجل، وعندما خضعت مصر لفترات طويلة من الحكم الأجنبي كانت النظم القانونية للغزاة تتسم بالتمييز لصالح الرجل، وعندما حاول البطالمة الانتقاص من مكانة المرأة المصرية وفرض تشريعاتهم علي المصريين باءت محاولاتهم بالفشل، بل انتهي عصرهم بتولي امرأة حكم البلاد، فقد كانت كليوباترا آخر من تولي حكم مصر من ملوك البطالمة.
وفي العصر الإسلامي تقبل المصريون ببساطة تولي شجرة الدر للسلطنة، كما احتفظ لها الوجدان الشعبي بمكانة خاصة في سيرة الظاهر بيبرس.
إن ما نعيشه اليوم من مواقف في مواجهة حقوق المرأة أشبه بركام من الأتربة يغطي علي الجوهر النفيس للوجدان الثقافي المصري، ويحتاج الأمر منا إلي تضافر جهود أنصار الاستنارة لإزالته.
وكما قالت السفيرة ميرفت التلاوي في كلمتها الافتتاحية للمؤتمر «إننا نحتاج إلي حراس لحقوق المرأة». 
الدستور 14 أبريل 2010

الاثنين، 21 مايو 2018

الثقافة في عصر الوسائط الحديثة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثقافة في عصر الوسائط الحديثة
عماد أبو غازي
  في مطلع الشهر الماضي عقدت مجلة العربي الكويتية ندوتها السنوية، ومجلة العربي واحدة من أعرق المجلات الثقافية العربية، جاوز عمرها الخمسين عاما حافظت خلالها على مستواها بين المطبوعات الثقافية العربية الجادة، وقد اختارت المجلة موضوعا مهما لندوتها هذا العام، "الثقافة العربية والوسائط الحديثة"، وشارك في الندوة مثقفون وباحثون من ثماني دول عربية، قدموا مجموعة من الأوراق المهمة التي تناولت هذا الموضوع المهم من زوايا متعددة، ومثل هؤلاء المشاركون أجيالا مختلفة من مثقفي العالم العربي ومبدعيه، كما شكلوا أيضا تمثيلا لمجالات معرفية وإبداعية متنوعة، وقد عالج المشاركون في مداخلاتهم واقع الثقافة العربية في ظل التحولات في مجال وسائط الإنتاج الثقافي والثورة المعرفية والتقنية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وتأتي أهمية الموضوع من التأثير الضخم لهذه التحولات على المجال الثقافي، الأمر الذي يستدعي منا التوقف أمامه لتحسس مواقع أقدامنا في هذه المرحلة الفارقة في التاريخ الإنساني.
 لقد شهد العقد الأخير من القرن الماضي ـ خاصة في سنواته الأخيرة ـ تطورا هائلا في مجال المعرفة ووسائل اكتسابها بفضل إنجازات ثورة المعلومات المستندة إلى مـا تحقق من تقدم هائل في الاتصالات، وقد انعكس هذا التطور بدوره على عمليات الإنتاج الثقافي في أكثر من اتجـاه، بصورة تجعل الاحتمالات المستقبلية الـواردة فيما يخص الصناعـات الثقافية متعددة، فقد تدفع ثورتـا الاتصالات والمعلومات بالصناعات الثقافية إلى الأمام بقوة بما تقدمانه من إمكانيات كبيرة في إنتاج الثقافة ونشرها، وقد تؤدى إلى ظهور مفـاهيم جديدة للإنتاج الثقافي مغايرة تماما لتلك المفاهيم التي سادت منذ عصر الثورة الصناعية، فمن ناحية ترصد تقارير اليونسكو أن تداخل المنتج الثقافي والمعلوماتي والإعـلامي أصبح ظاهرة واضحة في المجتمعات الجديدة التي قطعت شوطا على طريق بناء أسس حضارة الموجة الثالثة، وإن التطور في تقنيات المعلومات والاتصالات يؤدى كل يـوم إلى مزيد من طمس الحدود بين المنتج المعلوماتي والمنتج الثقافي وإلى تداخلهمـا مع المنتج الترفيهي، فأساليب الإنتاج وهياكله وعمليات التوزيع وظروف استخدام المستهلك للسلعة في الحالات الثلاثة تكاد تكون متطابقة الآن، ومن ناحية أخرى ترصد هذه التقارير أيضا سيطرة أشكال الإنتاج عابرة القارات والتي تتخطى حدود الدول والكيانات القومية، وتتجـاوز الهويات الثقافية لتفرض أنماطـا "عالمية" مدعمة بتقنيات المعـلومات والاتصالات، ويرتبط بذلك هيمنة اللغـة الإنجليزية على التعامل في شبكات المعلومات، تلك الشبكات التي أصبحت تحتل يوما بعد يوم المكانة الأولي بين مصادر اكتساب المعرفة وباتت أهميتها في تداول الإنتاج الثقافي وتسويقه تتزايد بصورة واضحة، الأمر الذي يسهم في ترسيخ هيمنة ثقافة واحدة عالميا الأمر الذي تسعى اليونسكو جاهدة إلى الدعوة لتلافيه.
  وفي اتجاه مقابل تتيح ثورتا المعلومـات والاتصالات إمكانات جديدة في إنتاج الثقافة وتلقيها، ليس فقط على مستوى الدول والمجتمعات بل حتى على المستوى الفردي، فكثيرا ممـا كان يعد صناعـات ثقافية أصبح من الممكن إنتاجه بتكلفة محدودة وتوزيعه بشكل واسع النطـاق بالاستعانة بالتقنيات الحديثة للحاسبات الآلية في الاتصالات ونقل المعـلومات عبر الإنترنت، فقد بات متاحـا لنا أن نستخدم التقنيات الرقمية الحديثة في إنتاج الأفلام والكتب والمصنفات الموسيقية والغنائية وصور الأعمال التشكيلية بتكلفة زهيدة نسبيا وبإمكانيات محدودة تختلف من حالة إلى أخرى، فقد أصبح من الممكن على سبيل المثال أن ينتج المؤلف كتابه اليوم من الألف إلى الياء دون حاجة إلى ناشر ومطابع  وموزعين، حيث يكتبه على حاسبه الشخصي، ثم يوزعه إلكترونيا دون أن يكلف نفسه عناء طباعته ورقيا والبحث عن ناشر وموزع له، كما يحصل على العائد مباشرة كـذلك من خلال بطاقات الائتمان ووسائل الدفع الإلكتروني، وهذا يؤدى في المحصلة النهائية إلى منتج ثقـافي أقل سعرا وأكثر انتشارا، فضلا عن إمكانية التفاعـل المباشر بين المؤلف والمتلقي، كذلك تضيف التقنيات الرقمية الكثير من الإمكانيات في مجال التأليف الموسيقى من ناحية وتداول المؤلفات الموسيقية من ناحية أخرى، الأمر الذي ينطبق بشكل ما على صناعة السينما كذلك. إن هذا العصر بقدر مـا يطرح احتمالات الهيمنة الثقافية للدول الأقوى وفرض أنماطها الثقافية بصورة كونية، بقدر ما يفتح الباب أمام الدول الأقل تطورا لتلحق بركب العصر الجديد وتعوض ما فاتها، بقدر ما يطرح أيضا إمكانيات تحقيق فردية الإنسان.
 ومع التقدم السريـع في مجال البرمجيات والذي نعيشه كل يوم ويشعر بآثاره في حياتنا اليومية كل مستخدمو الحاسبات الشخصية، ومع تطور شبكات الاتصالات بالاعتماد المتزايد على الاتصال المباشر بالأقمـار الصناعية وباستخدام الألياف البـصرية، فسوف تشـهد السنوات القليلة القـادمة تعاظما هائلا على صعيد تطوير الإنتاج الثقافي اعتمادا على القـدرات والإمكانيات التي تتيحهـا ثورة المعلومات والاتصالات.
  لذلك فإن تأثير حضارة الموجة الثالثة ـ ودعامتيها ثورة المعلومات وثورة الاتصالات والعولمة كتجسيد لها ـ على الصناعات الثقافية على المستوى القومي من الممكن أن يكون تأثيرا إيجابيا بقدر ما إنه من الممكن أن يكون سلبيا، والأمر يتوقف في جميع الأحوال على تفاعلنا مع العصر الجديد ومعطياته الفكرية والتقنية على حد سواء.
 من هنا فنحن في حاجة إلي التعايش مع العولمة والبحث عن مكان داخلها والسعي إلى العمل على أنسنتها والتصدي لسلبياتها، أكثر مما نحن في حـاجة إلى الانعزال عن التطورات العالمية الجديدة والصدام مع معطيات العصر الجديد، كي لا نفقد موضع قدمنا فيه مثلما فقدناه في عصر الثورة الصناعية عندما عجزنا عن إنجاز عملية التحديث.
 ففي إطار التطور السريع لتقنيات الاتصال وما صاحبها من ثورة في تقنيات المعلومات، لا بد من تناول أبعاد هذه الثورة وتأثيراتها المختلفة في الثقافة الوطنية بالبحث لإعادة النظر في تنظيم المجتمع وكيفية استغلال موارده المتاحة لنتعايش مع عالم اليوم الذي أصبحت فيه المعرفة وتقنية الاتصال ومدى سرعتها في تداول المعلومات هي العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي بل والسيطرة السياسية على كافة المستويات، حيث المعرفة هي السلطة والقوة.
الدستور 7 أبريل 2010

الخميس، 17 مايو 2018

الثورة الصناعية والثورة الثقافية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثورة الصناعية والثورة الثقافية
عماد أبو غازي
  شهد القرن التاسع عشر تطورا فـارقا في مجال الصناعـات الثقافية على النطاق العالمي بفضل التطور التقني الذي تحقق بفضل منجزات الثورة الصناعية، والذي أثر بصورة واضحة على أدوات انتاج الثقافة، فبعد سنوات طويلة من اختراع جوتنبرج للمطبعة جاء عصر التطورات السريعة.
 فبينما استغرق الإنسان الأول عشرات الآلاف من السنين ليصل إلى ابتكار الكتابة، فامتلك بذلك ذاكرة خارجية قادرة على حفظ الخبرة ونقلها عبر الزمان والمكان، وبينما استغرق الأمر بضع آلاف من السنين ليصل الإنسان إلى اختراع الطباعة، لم يحتج الأمر سوى مئات قليلة من السنين ليحقق البشر إنجازا كبيرا ثانيا في مجال إنتاج الثقافة باختراع التصوير الفوتوغرافي، ثم شهدت فترة لا تجاوز نصف قرن ثلاثة اختراعات كبرى، ففي نهاية النصف الأول من القـرن التاسع عشر كان اختراع كاميرات التصوير الفوتوغرافي، ثم ظهـرت الأشكال الأولي لتقنيات التسجيلات الصوتية، وبعدها كان اختراع السينما مع أواخر القرن نفسه.
  وكان لكـل تلك الابتكارات الجديدة نتائج حاسمة في رسوخ الصناعـات الثقافية وتطورهـا، وعبر القرن العشرين تطورت هذه التقنيات ـ تقنيات الوسائط المسموعة والمرئية وتلك التي تجمع بين السمع والرؤية (السمعبـصريات) ـ وكذلك تقنيات الطباعة تطورا هائلا، وإن كان تطور الصناعات الثقافية وسيادتها على الإنتاج الثقافي لم يسر في خط صاعد باستمرار مثلما هو الحال في تاريخ التطور التقني الذي استمر في صعود متواصل، فلم تقض الصناعات الثقافية على الأشكال القديمة والتقليدية للإنتاج الثقافي.
  وقد دفع هذا التطور التقني بالإبداع الذي يأخذ شكل منتجات الصناعات الثقافية ليحتل مكانا متميزا في العمل الثقافي، ولم يعد الأمر قاصرا على انتشار المعرفة المكتوبة فقط بواسطة الطباعة، بل أصبح من الممكن نشر فنون الموسيقى والغناء عبر المكان والزمان بواسطة الاسطوانات، ثم شرائط التسجيل بأنواعها المختلفة، وأخيرا بواسطة الأقـراص المدمجة. كذلك مكن ظهور التصوير الإنسانية من أن تقـوم بتوثيق تراثها المادي والمعنوي وإعادة إنتاج نسـخ منه قابلة للتسويق، كما أتاح تحويل النصوص الأدبية إلى أشكال مرئية.
  ثم كان التطور في وسائل الاتصال عن بعد باختراع الراديو ثم التليفزيون عاملا أضاف قيمة جديدة للصناعـات الثقافية، وأضفى عليها قوة وتميزا، وحقق لهـا انتشارا جماهيريا أكبر بكثير مما تحقق مع التطور التقني في أدوات إنتاج الثقافة، بل أدى هذا التطور إلى ظهور صناعـات ثقافية جديدة، قامت على أنـواع أدبية وفنية لم تكن معروفة من قبل كالدراما الإذاعية والتلفزيونية.
  لقد كان اختراع الطباعة وسيلة لانتشار المعرفة وتراكمها، ووسيلة أيضا لاختراقها حدود الطبقات العليا للمجتمع، فكانت لهذا الاختراع آثاره الاجتماعية والسياسية فضلا عن أثره الثقافي، ثم جاءت الاختراعات الثلاثة الكبرى في مجال الصورة والصوت، آلات التصوير الفوتوغرافي ووسائل التسجيل الصوتي ثم آلة التصوير السينمائي لتحدث نقلات جديدة في مجال الإبداع.
 والأمر المؤكد أن الفضل في ظهور الصناعات الثقافية وتطورها يرجع لأمور تقع خارج نطاق محتوى الإنتاج الثقافي ومضمونه تمامـا، فالثورة التقنية المواكـبة للثورة الصناعية هي المسئولة عن هذا التطور بشكل أسـاسي، فباستثناء الطباعة ترجع كل الإنجازات التي قامت عليها الصناعات الثقافية بالكامل إلى عصر الثورة الصناعية، بل إن الطباعة التي ظهرت قبل ذلك العصر بعـدة قرون شهدت نقلة فارقة بفضل منجزات الثورة الصناعية، ومن هنا فلا غرابة في أن عصر الثورة الصناعية قد صبغ الصناعات الثقافية بصبغته وفرض عليها قيمه، بمـا في ذلك منطق الربح والخسارة، وأيضا المنافسة الضارية بين الصناعات القومية من أجل السيطرة على الأسواق وبسط الهيمنة عليها، وقد أخذت هذه المنافسة أبعادا أكثر عمقا وخطورة في حالة الصناعات الثقافية، حيث أن محتواها يمس بشكل مباشر منظومة القيم والأفكار السائدة في كل مجتمع من المجتمعات، فظهرت مفاهيم مثل الاستعمار الثقافي والتبعية الثقافية وثقافة التبعية.
 ولا شك في أن الصناعات الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحديث، فلقد ارتبط التحديث مفهوما ومصطلحا وسلوكا بعصر الثورة الصناعية وبما أنتجته من قيم أو بحضارة الموجة الثانية إذا استخدمنا مصطلحات ألفن توفلر.
 لقد ظهر مفهـوم الصناعات الثقافية عندما كانت قيم الثورة الصناعية هي السائدة باعتبار الصناعة القيمة العليا، لكن الآن ومع ثورة المعلومات والاتصالات وقيمها الجديدة وما يصاحبها من تطورات ما وضع الصناعات الثقافية؟ وهل استمرت أساليب الإنتاج الثقـافي نفسها، أم أنها تغيرت وتطورت؟ وهل مـازال لمصطلح الصناعات الثقافية استخدامه؟ وهل مازالت له دلالاته نفسها؟
الدستور 12 مارس 2010

الأربعاء، 16 مايو 2018

الصناعات الثقافية في مجتمع المعرفة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات

الصناعات الثقافية في مجتمع المعرفة

عماد أبو غازي

 مع دخول عالمنا إلى العصر الذي أصبح يسمى عصر مجتمع المعرفة ازدادت قيمة الانتاج الثقافي وأهميته، وأصبحت الصناعات الثقافية عنصرا أساسيا من عناصر حساب قوة الدول والشعوب، قوتها المعنوية والمادية أيضا.
 ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية ببعض الأنشطة الفكرية والإبداعية للإنسان أي بالمعنى الضيق للثقافـة، فللثقافـة معناهـا العام الذي يتفق عليه السسيولوجيون والأنثروبولوجيون باعتبارها استجابة الإنسان لإشباع حاجاته من خلال نماذج معيشية أو نماذج للفكر والعمل ابتدعها الإنسان في سبيل البحث عن إشباع هذه الحاجات المعيشية، وهى نماذج مكتسبة يصل إليها الإنسان إما بالتفكير والعقل كاستجابة للوسط الذي يعيش فيه، أو عن طريق النقل من المجتمعات الأخرى، كما تتميز الثقافة بأنها اختراع أو اكتشاف إنساني ينتقل من جيل إلى جيل مع القابلية للإضافة وللتعديل والتغير. أما الثقافة بمعناها الضيق فيقصد بها الأنشطة الفكرية الإبداعية والفنية التي يمارسها الإنسان، أي أن هذا المعنى ينصرف إلى الآداب والفنون بشكل أساسي ثم إلى بعض أشكال الإنتاج الفكري. ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية بهذا المعنى الأخير للثقافة.
  ومفهوم الصناعات الثقافية من المفاهيم لصيقة الصلة  بالتحديث وبعصر الثورة الصناعية، ويقصد به عادة الأعمال الثقافية الموجهـة إلى الجماهير الواسعة، والتي تنتج بأسلوب الإنتاج الكبير أو الإنتاج للجماهير، وتدخل في عملية إنتاجها رؤوس أموال كبيرة، وتمر بمراحـل متعددة حتى تخرج في صورتها النهائية، ويدخل في إنتاجها ممول أو منتج وعمالة كبيرة العدد نسبيا ليست بالضرورة هي المصنف للعمـل أو المبدع له، وتشبه العمـلية الإنتاجية فيها ما يتم في مجـال الصناعات الحديثة، مما جعل هذا النوع من المنتج الثقافي يوصف بأنه "صناعة ثقافية" حيث تتحول طرق إنتاج الأعمـال الإبداعية والفكرية من الطرق التقليدية التي يلعب فيهـا المبدع الفرد أو مجموعـة المبدعين الدور الأساسي في إخـراج المنتج الثقافي بصورته النهائية، لتتحول إلى عملية إنتاجية مركبة يشـارك فيهـا آخرون، ويستعاض عن الاتصال المباشر بين المبدع والمتلقي بآليات السوق لنقل العمل الإبداعي إلى قطاعات أوسع من الجمهور من خلال وسائط مختلفة.
  ومثلمـا كان التصنيع مسئولا عن النمو الهائل في قدرة المجتمعات الحديثة على توليد الثروة مقارنة بالمجتمعات التقليدية، فإن التصنيع الثقافي كان مسئولا كـذلك عن التطور الهائل في القدرة على توليد "الثروة" الفكرية والفنية والثقافية في تلك المجتمعات، وعلى تحقيق الاتصال الواسع بين المبدع والجمهور، ذلك الجمهور الذي أصبح جمهورا كبيرا من المتلقين، وعن تغيير نوعية المتلقين للمنتج الثقافي،  فبعد أن كانت الصفة الغـالبة للجمهور المتلقي للفنون والآداب "نخبوية"، أتاحت الصناعات الثقافية إمكانية وصول الإنتاج الثقافي إلى قطاعات واسعة من الجماهير التي تنتمي إلى مختلف الطبقات بغض النظر ـ حتى ـ عن معرفة المتلقين الجدد للقراءة، كذلك أدى ظهور الصناعات الثقافية وتطورها إلى تغير محتوي المنتج الثقافي، بل وتغير رسالته التي يحملها، وتعاظم تأثير الإنتاج الثقافي في المجتمع بصورة لافتة.
  ومن أبرز الأمثلة على الصناعات الثقافية السينما والدراما التليفزيونية ونشر الكتب والتسجيلات الموسيقية والغنائية المنتجة بهدف التسويق الواسع والبرامج التليفزيونية الثقافية.
 إذن فالصناعة الثقافية تقوم على: "مادة خام" هي الإنتاج الفكري أو العمـل الإبداعي، وعملية تحويلية تتم عبر التصنيع الـذي يعتمد على المقومات التقليدية للصناعة: التنظيم ورأس المال وقوة العمل ووسائل الإنتاج المتطورة، وينتج عن كل هذا عمل إبداعي في صورة جديدة، ثم تأتى في النهاية عملية التسويق.
 لقد كانت البداية الأولى لتحول العمل الثقافي إلى صناعة ـ بهذا المعنى ـ مع ابتكار يوحنا جوتنبرج للطباعة بالأحرف المتحركة، حقـا لقد ظهرت الطباعة في الصين وبعض بلدان الشرق الأقصى قبل ظهورها في أوروبا بعدة قـرون، لكنها لم تنتشر على النطاق العالمي انطلاقا من هناك، كمـا ظهرت أشكال من الطباعة كذلك في مصر مـا بين القرنين العاشر والرابع عشر للميلاد لكنها ظلت لا تشكل سوى ظاهرة هامشية في المجتمع المصري واختفت فجأة دون أن تترك أثرا قويا، أما ابتكار جوتنبرج فقد تحقق له الانتشار والتطور، وربما كان ذلك بسبب ارتباط ابتكاره بتحولات اجتماعية وفكرية وثقافية عميقة عاشتها المجتمعات الأوروبية في فترة التحولات التاريخية في القرن الخامس عشر الميلادي، التي انتقلت فيها تلك المجتمعات من العصور الوسيطـة إلى العصور الحديثة، وكانت الطباعة علامة من علامات التحول وآداة من أدواته في الوقت نفسه.
 وقـد حققت الطباعة لأول مرة في التاريخ الإنساني إمكانية الإنتـاج الكبير للكتاب، فأتاحت الفرصة لانتشار المعرفـة وإمكانية تداولهـا بين الجماهير، لقد دفعت الحاجة إلى المعرفة الإنسان للبحث عن وسيلة لنشرهـا على نطاق واسع، فكان التطور التقني في إنتاج الكتاب ـ وسيلة نقل المعـرفة في ذلك الحين ـ الذي تمثل في التحول من الكتاب المخطوط الذي يحصل عليه عشرات من أفـراد النخبة إلى الكتاب المطبوع الذي يتاح الحصول عليه لآلاف ممن يعـرفون القراءة، الأمر الذي أدى بدوره إلى سلسلة من التحولات الفكرية والثقافية والعلمية والاجتماعية واسعة النطاق، وكانت تلك هي اللبنة الأولي في صرح الصناعات الثقافية.
الدستور 5 مارس 2010

مكتبة الإسكندرية ومطاعمها... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
مكتبة الإسكندرية ومطاعمها
عماد أبو غازي
 
 مكتبة الإسكندرية الجديدة صرح من الصروح الثقافية والفكرية والعلمية في مصر في الألفية الثالثة، وقد أثبتت المكتبة خلال أقل من عشر سنوات جدارتها بأن تكون "نافذة مصر على العالم ونافذة العالم على مصر"، فمكتبة الإسكندرية لا تتميز فقط بما تضمه من مجموعات من الكتب وما أهدي إليها من مكتبات نادرة، ولا بما تحويه من مواد رقمية منها نسخة من أرشيف الإنترنت، بل وزاد من جاذبية المكتبة ما تضمه من متاحف أثرية وفنية وعلمية، ومن متاحف دائمة لبعض مبدعي مصر، هذا غير ما تضمه قاعات العرض المتغيرة على مدار العام، وخلال هذه السنوات أسست المكتبة عددا من المراكز المهمة وتبنت مشروعات ثقافية عديدة تتميز بطابعها الرقمي، وتأتي في سياق زيادة مساحة المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت، وشهدت المكتبة مئات الأنشطة الثقافية في قاعاتها، التي تستقبل أنشطة تتراوح ما بين المحاضرات الثقافية والمؤتمرات الدولية الكبيرة التي يشارك فيها العشرات من أهل الاختصاص.
 نتيجة لهذا كله أصبحت المكتبة مزارا من المزارات الثقافية والسياحية المهمة في مدينة الإسكندرية، احتلت مكانها إلى جانب متاحف الإسكندرية العريقة والجديدة وآثارها التي ترجع إلى العصور البطلمية والرومانية والعربية.
 وطوال السنوات الماضية كانت المكتبة تعمل على تطوير خدماتها بما يواكب زيادة الإقبال من المشاركين في أنشطتها ومن الجمهور المتردد على المكتبة للاستفادة من خدماتها، وعلى مجموعات الزائرين الذين يتوافدون على المكتبة للتعرف على هذا الصرح الثقافي المهم.
 وقد بدأت مكتبة الإسكندرية في الفترة الأخيرة في إنشاءات جديدة في الساحة الخارجية للمكتبة لخدمة المترددين عليها، هذه الإنشاءات عبارة عن مبنى من دورين يضم مجموعة من المطاعم والكافيتريات لتقديم الوجبات الخفيفة والمشروبات، إلى جانب محال لبيع الكتب.
 وقد أثيرت في الفترة الأخيرة حملة ضد مكتبة الإسكندرية بسبب هذه الإنشاءات الجديدة وصلت إلى حد رفع الدعاوى القضائية ضد المكتبة لوقف المشروع، وتستند المعارضة لهذه الإنشاءات على عنصرين، عنصر معماري وعنصر ثقافي.
 فهي تستند أولا إلى أنها ـ أي الإنشاءات ـ تشكل تشويها للشكل المعماري للمكتبة وتعديا على حرمها وحجبا لها ولمبانيها عن أن تُرى من ناحية البحر، والجدير بالملاحظة أن المهاجمين للمشروع هاجموه من تلك الناحية قبل أن يبدأ البناء.
 وتستند ثانيا إلى أن افتتاح مطاعم وكافيتريات في حرم المكتبة يمثل تعديا على رسالة المكتبة الثقافية، كما يعد تشويها للمكانة الحضارية التي تمثلها مكتبة الإسكندرية، وانتقالا بالمكتبة من منطقة الثقافة إلى منطقة التجارة.
 ولأني أثق في ذوق القائمين على المكتبة ورهافة حسهم لم أكن أتصور أن الاعتراض الأول الذي ينصب على أن هذه الإنشاءات الجديدة تشوه المكتبة صحيح، وعندما ذهبت لزيارة معرض الكتاب بمكتبة الإسكندرية مطلع هذا الأسبوع حرصت أن أدور حول المكتبة من جهة البحر لأشاهد هذه المباني الجديدة، وأحاول أن أتبين علاقتها بمباني المكتبة وتأثيرها على المشهد العام، وعندما شاهدت الملحق الجديد تأكد ظني في أن معظم من يكتبون معارضين المباني الجديدة لم يشاهدوها على الأرجح، فالمباني تشغل منطقة جانبية متطرفة من ساحة المكتبة، وتتسق في تصميمها المعماري مع تصميم مبنى المؤتمرات، ولا تحجب رؤية أي من مبنييها الرئيسيين، إنها تحجب فقط العمارات السكنية الثلاثة أو الأربعة المجاورة للمكتبة، وتفصل بينها وبين ساحة المكتبة.
وفيما يتعلق بالاعتراض الثاني فأظنه غريب وبعيد عن المنطق، فكل المتاحف والمكتبات المنشئات الثقافية في العالم تضم بين جنباتها أو بالقرب منها مقاهي ومطاعم للوجبات الخفيفة والسريعة دون أن ينتقص هذا من قيمتها الثقافية أو مكانتها أو دورها الحضاري، والأمر نفسه موجود في مصر منذ زمن، بل إن مكتبة الإسكندرية نفسها تضم منذ البداية مطعما يدار دوما بمعرفة شركات فندقية كبيرة، ولم يعترض أحد على وجوده أو يعتبر فيه انتقاصا من قيمة المكتبة أو قدرها، لكن هذا المطعم لم يعد يفي بالحجم الكبير من المترددين على المكتبة، وفي الأيام التي تشهد مؤتمرات كبيرة يمكن أن تمتد قوائم الانتظار لدخول المطعم لتناول وجبة أو مشروب سريع لفترات طويلة، لذا فقد كان من الضروري إضافة خدمات جديدة للزوار تلبي احتياجاتهم، وفي نفس الوقت يشكل إيجارها مصدرا إضافيا لموارد المكتبة.
 ومن الطبيعي أن يحتاج زوار هذه المرافق الثقافية، خاصة تلك التي يمكن أن يقضي فيها الزائر يوما طويلا، إلى فترات للاستراحة وتناول الأطعمة والمشروبات، وأعتقد أن وجود مثل هذه المطاعم والكافيتريات أمر حضاري ومطلوب، ولا أعرف لماذا يعتبر المعارضون للمشروع أن الأكل والشرب شيء معيب؟ وهل الصيام عن الأكل والشرب أصبح من طقوس زيارة المكتبات؟
الدستور 26 فبراير 2010

من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
المرأة القاضية
عماد أبو غازي
 
 الثلاثاء الماضي طالعتنا الصحف بخبر اجتماع الجمعية العمومية غير العادية لقضاة مجلس الدولة، والقرار الذي اتخذته الجمعية ضد تعيين المرأة بمجلس الدولة، بالمخالفة لقرار المجلس الخاص الذي صدر منذ شهور قليلة.
 من المصادفات إننا في نفس الوقت كنا نحتفل في المجلس الأعلى للثقافة بأول وزيرة مصرية، الدكتورة حكمت أبو زيد عالمة الاجتماع المصرية البارزة والأستاذة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وحكمت أبو زيد قيمة مصرية مهمة، بدأت علاقتها بالعمل العام في ثلاثينيات القرن الماضي وهي طالبة بالمرحلة الثانوية عندما قادت طالبات مدرسة حلوان الثانوية أثناء مظاهرات نوفمبر 1935 التي أطلق عليها المؤرخون اسم ثورة الشباب، والتي انفجرت من أجل المطالبة بعودة دستور 1923 وبالاستقلال التام للبلاد، وقد نجحت الحركة الطلابية في عام 1935 في إعادة الدستور ودفع الأحزاب السياسية لتشكيل جبهة تقود المفاوضات مع بريطانيا، تلك المفاوضات التي انتهت إلى توقيع معاهدة 1936 التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال مصر رغم بقاء قوات بريطانية في البلاد، وكانت هذه المظاهرات مدرسة تخرج منها عدد من قادة العمل العام في مصر في المجال السياسي والنقابي والرياضي في مصر لسنوات، منهم: الساسة والوزراء فيما بعد نور الدين طراف وإبراهيم شكري ومحمد حسن الزيات، ومن النقابيين محمد فريد زعلوك وعبد العزيز الشوربجي، ومن من عملوا في الحقل الرياضي محمود لاشين وأحمد الدمرداش التوني وأحمد طلبة صقر، وممن برزن في الساحة الثقافية والأكاديمية سهير القلماوي، وكان من طلاب المرحلة الثانوية الذين شاركوا في قيادة المظاهرات جمال عبد الناصر وحكمت أبو زيد.
 ومن يومها تواصل دور حكمت أبو زيد في العمل العام إلى أن أصبحت أول مصرية تتولى منصب الوزارة قبل 48 سنة، وعلى وجه التحديد في 29 سبتمبر سنة 1962. وقد قدمت خلال فترة توليها وزارة الشئون الاجتماعية أعمالا مهمة ربما كان من أبرزها مشروع الأسر المنتجة، كما أشرفت على واحدة من أكبر عمليات التهجير في مصر، وهي عملية تهجير أهالي النوبة أثناء مشروع السد العالي.
 بعدها توالى تعيين سيدات في مناصب وزارية، وكانت التالية للدكتورة حكمت أبو زيد مصرية عظيمة أخرى هي الدكتورة عائشة راتب أستاذة القانون بجامعة القاهرة، وقد تولت وزارة الشئون الاجتماعية في الفترة من 11 نوفمبر 1971 إلى 3 فبراير 1977.
 وللدكتورة عائشة راتب قصة ترتبط بموضوع تقليد المرأة منصب القضاء في مصر، وبالتحديد القضاء الإداري، فالدكتورة عائشة راتب تنتمي إلى تلك الأجيال الرائدة من بنات مصر اللاتي نلن حقهن في التعليم الجامعي داخل مصر، وإن كانت لا تنتمي إلى الجيل الأول الذي انتمت إليه سهير القلماوي ونعيمة الأيوبي، أو الجيل حكمت أبو زيد، إلا إنها تنتمي إلى الأجيال الرائدة التي لم تكتفي بالحصول على حقهن في التعليم، بل واصلن الكفاح من أجل أن تنال المرأة المصرية كافة حقوقها، وعندما تخرجت عائشة راتب من كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1949 بتفوق، تقدمت بطلب لشغل وظيفة بمجلس الدولة تؤهلها لأن تكون قاضية ضمن قضاته، وبالرغم من نجاحها في اختبار كشف الهيئة، إلا أن رئيس الوزراء حينذاك رفض طلبها، فما كان منها إلا أن رفعت دعوى قضائية أمام مجلس الدولة مطالبة بحقها، وللأسف رفضت الدعوى على أساس أن تعيين إمرأة في مجلس الدولة أمر مخالف للسياسة العليا للدولة، وإن تقدير مثل هذه الأمور متروك للسلطة التقديرية للحكومة.
 لقد فازت الجامعة بعائشة راتب أستاذة جامعية مرموقة وواحدة من أهم أساتذة القانون في مصر، وفازت بها وزارة الشئون الاجتماعية، في السنوات التي تولت فيها المنصب وسعت خلالها لإدخال تعديلات مهمة على قوانين الأحوال الشخصية في مصر لصالح المرأة ولصالح المجتمع، كما فازت بها الدبلوماسية المصرية عندما أصبحت أول مصرية تعيين كسفيرة، عندما أصبحت سفيرة لمصر في الدانمارك ثم في ألمانيا الاتحادية. وخسرها مجلس الدولة، ويبدو إن مجلس الدولة سيستمر في خسارته للكفاءات بإصراره على حجب المرأة عن مناصب القضاء الإداري.
 لقد خاضت المرأة المصرية طوال القرن الماضي معارك عديدة من أجل الحصول على حقوقها، وهي حقوق ينص عليها الدستور ومواثيق حقوق الإنسان والمنطق والعقل الذي يعلو على كل اللوائح والقوانين، لقد خاضت المرأة جنبا إلى جانب الرجل كل معارك الوطن، خرجت إلى جانبه في المظاهرات واستشهدت برصاص الإنجليز قبل أكثر من تسعين عاما، أسست اتحادها الذي سنحتفل الشهر القادم بالذكرى السابعة والثمانين لتأسيسه، ودخلت الجامعة طالبة ثم أستاذة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وأصبحت نائبة في البرلمان تمارس التشريع منذ أكثر من نصف قرن، ووصلت في المناصب التنفيذية إلى منصب الوزارة، لكن هناك من يضنون عليها بمقعد القضاء ويقفون في مواجهة الدستور والقانون ومبادئ المواطنة وعدم التمييز، فهل يمكن أن ينجحوا؟
الدستور 19 فبراير 2010

تحية لوزير التربية والتعليم... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
تحية لوزير التربية والتعليم
عماد أبو غازي
 في الأسبوع الماضي في سياق مناقشة علاقة التعليم بالمواطنة تعرضت لما حدث في امتحان مادة التربية الفنية بالمرحلة الإعدادية بمحافظة البحيرة، عندما طلب الممتحن من التلاميذ موضوعا في الرسم عن شعائر الحج إلى بيت الله الحرام، وفي الزخرفة حول استخدام الآيات القرآنية في عمل شكل زخرفي، ضاربا عرض الحائط بكل قيم المواطنة ومعانيها، ومتعديا على حقوق الطلاب غير المسلمين في امتحان عادل يمكنهم الإجابة عليه، فلا يفترض أن يستطيع الطفل غير المسلم أن يعبر عن شعائر الحج ولا أن يحفظ آيات القرآن الكريم، وكنت قد قرأت الخبر في "اليوم السابع" وأشارت إليه بعض الصحف والمواقع الإلكترونية.
 اليوم وصلتني رسالة على بريدي الإلكتروني تحمل خبرا يؤكد أن الأستاذ الدكتور أحمد زكي بدر وزير التربية والتعليم قد وقع عقوبات مشددة على القائمين على وضع هذا الامتحان، تتضمن حرمانهم من المشاركة في أعمال الامتحانات، كما أصدر تعليماته بأن لا يضار طالب مسيحي بسبب عدم قدرته على الإجابة على هذا الامتحان، الذي لا يمكن أن يوصف إلا بأنه امتحان ظالم ومتحيز ومسيء، وفي الحقيقة يستحق وزير التربية والتعليم كل التحية والتقدير على هذا الموقف الحازم والحاسم والسريع، وقد يكون هذا الاهتمام من الوزير مؤشرا ينبئ بأسلوب الرجل في التعامل مع المشكلات، إنه مؤشر يدعو للتفاؤل والارتياح، ويبشر باحتمالات إيجابية في التعامل مع قضايا التعليم، وفي مقدمتها دور التعليم في ترسيخ قيم المواطنة.
 وفي الحقيقة لم استغرب من هذا القرار من رجل مثل وزير التربية والتعليم الجديد، فما قام به عندما كان رئيسا لجامعة عين شمس من تصحيح لأوضاع فاسدة كانت تسمح باستمرار المعيدين والمدرسين المساعدين لسنوات عديدة دون إنهاء رسائلهم متجاوزين بذلك كل اللوائح والقوانين في ظل تواطأ غير مفهوم من مجالس الأقسام يؤكد أننا أمام وزير لن يتهاون في خرق القوانين، ما بالنا إذا كان الخرق خرقا لقيم المواطنة.
 وأظن أن ما حدث مع من ارتكبوا هذا الخطأ الذي يرقى إلى مستوى الخطيئة ليس المؤشر الإيجابي الوحيد فيما اتخذه الوزير أحمد زكي بدر من قرارات في الفترة الأخيرة يستحق التحية عليها، فما نشرته الصحف عن قراره بضرورة الالتزام بطابور الصباح وتحية العلم في المدارس أيضا يحمل رسائل لافته للنظر، فاحترام طابور الصباح يعيد للمدرسة قدرا من مكانتها وهيبتها المفقودة، حتى ولو كان أمر شكليا، لكنه مهمة في علاقة التلاميذ الصغار بالمدرسة، كما أن تحية العلم، سلوك يساعد ـ مع أشياء أخرى ـ على ترسيخ قيمة المواطنة بين الأجيال الجديدة، فالعلم ليس مجرد قطعة من القماش الملون، إنه رمز للدولة والوطن، العلم يجمعنا ويوحدنا حوله، وقد حاولت جماعات التطرف الديني التي اخترقت المنظومة التعليمية تدريجيا حتى عششت في أركانها وسيطرت عليها أن تلغي هذا التقليد الذي يرقى إلى درجة الطقوس من كثير من المدارس، لقد كانت تحية العلم مع إنشاد الطلاب للنشيد الوطني طقسا أساسيا في المدارس الحديثة في مصر على مدى عقود، يتغير لون العلم ورسمه، يتغير النشيد الوطني لحنا وكلمات، لكن العلم والنشيد بقيا دوما رمزا للدولة المدنية للوطن للأمة المصرية الموحدة.
 ومصر عرفت الشعارات والرايات منذ أقدم عصور حضارتها، لكن العلم أخذ بعدا جديدا مع بدايات تأسيس الدولة الحديثة في عصر محمد علي باشا عندما ميز العلم المصري عن العلم العثماني، وعندما أصبح للفرق العسكرية راياتها، وللعلم الذي يحمله الجنود في المعارك قسمه ونشيده.
 كان العلم في مصر الحديثة دائما رمزا لمعارك الأمة من أجل استقلالها وتطورها، وكانت تحية العلم صباح كل يوم في مدارس مصر وإنشاد النشيد الوطني المصري تشكل جزءا من الطقوس الشكلية المهمة التي تنمي معاني الانتماء لدى الصغار، وعندما سعى من اخترقوا منظومة التعليم من المتطرفين دينيا إلى إلغاء هذه الطقوس بدعوى وثنيتها ـ متناسين أن الدولة الإسلامية في عصر النبوة كان لها رايتها التي يستشهد المقاتلون دفاعا عنها ـ كانوا يهدمون بوعي وتخطيط خبيث أسس الدولة المدنية الحديثة في مصر، وعندما استبدلوا الأناشيد الدينية في طابور الصباح بالنشيد الوطني المصري كانوا ينخرون في وحدة الأمة ويسعون لشقها.
 لقد اتخذ الوزير الجديد خطوة مهمة تأخرت كثيرا، وأظن أنه سوف يتلوها بخطوات تعيد للتعليم دورها في بناء المواطنة، نتمنى أن تطال محتوى المناهج التعليمية وأساليب التعليم.
 تحية لوزير التربية والتعليم الذي يحتاج في مهمته الصعبة إلى دعم ومساندة كل من يتطلعون إلى مستقبل أفضل لهذا الوطن.
الدستور 12 فبراير 2010

حتى التربية الفنية!!! من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
حتى التربية الفنية!!!
عماد أبو غازي
  انتشرت في مؤسسات التعليم العام سلوكيات تهدم مبادئ المواطنة، فلم يعد يكفينا الانقسام التاريخي الذي بدأ مع عصر محمد علي بين تعليم مدني حديث وتعليم ديني أزهري تقليدي يبدأ منذ المرحلة الابتدائية، بل بدأت ظاهرة المدارس الخاصة الحديثة ذات الطابع الديني، فانتشرت مدارس خاصة تتسمى بأسماء ذات مدلولات دينية إسلامية، وتزداد فيها الجرعة الدينية خارج المقررات الدراسية، وقد عرفت من بعض الأصدقاء التربويين أن الظاهرة انتقلت أيضا إلى المسيحيين المصريين فبدأت تظهر مدارس خاصة مسيحية كرد فعل طبيعي على تلك المدارس الإسلامية، وهي ظاهرة ترسخ الانقسام في المجتمع على أساس الدين.
 وإذا كانت المدرسة هي التي تبني اللبنات الأولى للمواطنة من خلال النظام المدرسي ومن خلال المقررات الدراسية، إذا كانت مقررات التاريخ من بين تلك المقررات تلعب دورا أساسيا لبناء المواطنة لدى التلاميذ منذ مراحل الدراسة المبكرة، فمقررات التاريخ يمكن ـ إذا تمت صياغتها بشكل صحيح ـ أن تشكل الوعي بمعنى المواطنة وقيمتها وأهميتها، من خلال الاستعراض المتوازن للمراحل التي مر بها تاريخ البلاد، ومن خلال إبراز كل المكونات التاريخية للأمة، فإن المقررات الدراسية الأخرى إذا تم إعدادها بشكل غير سليم يمكن أن تهدم المواطنة؛ فباقي المقررات الدراسية قد تضم مواد تعليمية تنمي قيم المواطنة أو على العكس مواد تهدمها حسب ما تُحمّل به تلك المقررات من رسائل ومضامين.
 وللأسف فإن كثير من المقررات الدراسية لدينا لا تسهم بشكل إيجابي في إقامة أسس سليمة للمواطنة تنفي التمييز، فلدينا على سبيل المثال مقررات اللغة العربية التي تضم نصوصا دينية إسلامية من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، يفرض على الطلاب من غير المسلمين دراستها ضمن مقررات النصوص والقراءة، وفي هذا تمييز بين الطلاب، فالطالب غير المسلم هنا يدرس نصوصا دينية لا تخصه ولا يستطيع الامتناع عن حفظها ودراستها، وفي المقابل لا يدرس الطالب المسلم أية نصوص مسيحية مثلا، وبالطبع سيحتج المتخصصون من أهل اللغة العربية ـ وحجتهم تبدو وجيهة فعلا ـ بأن القرآن الكريم كتاب منزل بالعربية، بينما النص العربي للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد نص مترجم إلى العربية وليس نصا عربيا أصيلا، وبالتالي فلا مجال لتدريسه ضمن نصوص اللغة العربية، إذا فمن أجل تحقيق قدر من المساواة لا ينبغي أن تفرض على الطالب غير المسلم نصوصا دينية إسلامية. وفي الشعر والنثر العربي ما يمكن اختياره من نصوص تدرس للطلاب، ويكفي ما يدرسونه في مقررات التربية الدينية الإسلامية من نصوص دينية من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وما يدرسه الطلاب المسيحيون من نصوص من الكتاب المقدس في مادة التربية الدينية المسيحية، وإن كنت شخصيا أظن أن الأفضل أن تستبدل بمادتي التربية الدينية الإسلامية والمسيحية مادة واحدة للأخلاق تختار فيه نصوصا دينية إسلامية ومسيحية تدرس لجميع الطلاب، وإن كان هذا يبدو أمرا بعيد المنال الآن.
 وإذا كان هذا ما يحدث في مقررات اللغة العربية بمبرر يمكن فهمه، دون التسليم به، وهو ارتباط النصوص الدينية الإسلامية باللغة العربية، فإن هذه الروح التمييزية انتقلت إلى مقررات أخرى من خلال ممارسات بعض القائمين على العملية التعليمية، وأشير هنا إلى ما نشرته اليوم السابع من واقعة امتحان مادة التربية الفنية في المرحلة الإعدادية في بعض مدارس البحيرة، حيث طلب الممتحن من الطلاب في سؤال التصوير رسم لوحة تعبر عن شعائر الحج إلى بيت الله الحرام في مكة، وفي سؤال الزخرفة طلب منهم لوحة بالخط العربي تتضمن عبارات دينية إسلامية، وإذا كان الموجه المسئول قد أُحيل إلى التحقيق، إلا أن ما حدث يعكس سلوكا غير مسئول من المسئول عن وضع الامتحانات، سلوك ينم عن عدم تقدير للأمانة التي يتحملها، فما شعور طالب صغير غير مسلم نطلب منه رسم شعائر دين غير دينه، فضلا عن أن هذا الصغير قد يكون جاهلا بتلك الشعائر أصلا، بما يعنيه ذلك من ظلم وعدم مساواة في الامتحان، وإذا كان الممتحن يصر على ربط الامتحان بمناسبة دينية فلماذا لا يترك للتلميذ اختيار المناسبة التي يعبر عنها، وليختار كل تلميذ المناسبة المرتبطة بدينه وعقيدتها، لكن للأسف حتى التربية الفنية التي جاروا عليها وجعلوها مادة هامشية لم يتركوها في حالها واستخدموا امتحاناتها في هدم المواطنة.
الدستور 5 فبراير 2010

الاثنين، 14 مايو 2018

مناهج التاريخ والمواطنة.. من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات

مناهج التاريخ والمواطنة

عماد أبو غازي
 مناهج التاريخ في التعليم العام أهم المناهج التي يمكن للتعليم من خلالها أن يبني قيم المواطنة لدى الأطفال منذ الصغر، لكن ذلك لا يتحقق إلا إذا تمت صياغة هذه المناهج بشكل سليم، فإنها في هذه الحالة تسهم في بناء مواطن ينتمي إلى الوطن الذي يوحدنا جميعا، لا إلى الطائفة الدينية أو العرق أو النوع، أو غير ذلك من الانتماءات التي ينبغي أن تندرج تحت الانتماء الأعلى، أعني الانتماء للوطن، دون أن يترتب على ذلك بالطبع إلغاء لتلك الانتماءات الفرعية أو تذويبها تذويبا قهريا، لكنها تظل انتماءات لا تعلو على الانتماء للوطن.
 لكن هل تحقق المقررات الدراسية لمادة التاريخ في التعليم العام في مصر هذا الهدف، أو على الأقل هل تسهم في تحقيقه؟
 أظن الإجابة بالنفي؛ فلدينا مشكلة مركبة بالنسبة لمناهج التاريخ التي تدرس للتلاميذ في مدارس وزارة التربية والتعليم تحول بين هذه المناهج وبناء قيم المواطنة والانتماء.
 الجانب الأول من المشكلة أن هذه المناهج لا تقدم للتلاميذ منذ الصغر القيم الإيجابية في هذا التاريخ الطويل الممتد، كما أنها لا تتعامل مع التاريخ المصري بصورة متوازنة تغطي فتراته المختلفة وتكشف عما قدمته كل حقبة منها من إسهام في الحضارة الإنسانية.
 كيف هذا؟
 مصر بلد يملك تاريخ ممتد لأكثر من ستة آلاف سنة، تسبقها آلاف السنين من عصور ما قبل التاريخ المكتوب التي وضع خلالها المصريون أسس حضارتهم، ووحدوا بلدهم، وشيدوا قواعد أقدم دولة في التاريخ. ومنذ تحققت الوحدة المصرية الثانية بين الشمال والجنوب، عرف المصريون كيف يحافظون على دولتهم المتحدة على أسس احترام التنوع داخل الوحدة، والاندماج الذي لا يلغي التنوع، ومرت على مصر عصور طويلة ترسخت فيها هذه القيمة وتجذرت في وجدان الإنسان المصري، وتوالت على مصر الغزوات الخارجية والأفكار الوافدة، ونجح المصريون في هضمها واستيعابها داخل منظومتهم الفكرية، إن مقررات التاريخ التي يدرسها الطلاب في مراحل التعليم المختلفة تفشل للأسف في أن تجعل هذه المعاني والقيم تصل إلى الطالب وتتغلغل في وجدانه وتحميه من هجمة الأفكار الأصولية الدينية التي تشق الأمة المصرية على أساس الانتماء الديني، وتهدم أسس وحدتها القائمة على الانتماء الوطني الذي يحترم الاختلاف والتنوع.
 جانب آخر في القضية يرجع إلى أن مصر قد عاشت مراحل متعاقبة في تاريخها، كان لهذا الشعب إسهامه الحضاري والثقافي المتميز في كل مرحلة منها، فالتاريخ المصري القديم المكتوب يمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام، يعقبه الحقبة الهلينستية أو اليونانية الرومانية التي تتجاوز الستمائة سنة، وخلالها انتقل معظم المصريين إلى المسيحية تدريجيا، ليبدأ العصر المسيحي في التاريخ المصري، أو ما نسميه العصر القبطي، رغم أن القبطي تشير في الأصل إلى الانتماء للوطن لا إلى الانتماء الديني، فالقبطي مرادف للمصري، وليس مرادفا للمسيحي، ثم تأتي المرحلة العربية الإسلامية التي بدأت في منتصف القرن السابع الميلادي، وأخيرا بدأت مصر محاولاتها للتحديث وبناء الدولة المدنية القائمة على المواطنة الكاملة خلال القرنين الماضيين، بما شهدته هذه المحاولات من مد وجذر. ومناهج التاريخ لا تغطي هذه المراحل التاريخية بقدر من التوازن، ورغم ما شهدته السنوات الأخيرة من إشارات في مقررات التاريخ إلى المرحلة القبطية المسيحية في تاريخنا المصري إلا أن هذه الإشارات ما زالت لا تفي بتحقيق التوازن المنشود بين عصور التاريخ المصري، ذلك التوازن الذي يمكن أن يحقق للتلميذ منذ الصغر معرفة بالجذور القوية لحضارته المصرية القديمة وللأسس التي قامت عليها، ثم بالحقبة الهلينستية التي شهدت اندماج مصر في عالم البحر المتوسط، والتي كانت الإسكندرية خلالها واحدة من أهم حواضر العالم القديم، إن لم تكن أهمها، ثم المرحلة القبطية المسيحية بما شهدته من نشأة الكنيسة الوطنية المصرية، ومن إسهامات في مجالات اللاهوت والرهبنة والفنون، إن هذه المراحل تتضاءل في مقررات التاريخ لحساب المرحلة العربية الإسلامية، والمرحلة الحديثة، ورغم أهمية المرحلتين الأخيرتين ورغم تأثيرهما في حياتنا المعاصرة، إلا أن التوازن في تقديم مراحل التاريخ المصري يحقق فهما أعمق لدى أبناء هذا البلد للأصول التي يقوم عليها وللكيفية التي حدثت بها التحولات الثقافية والفكرية في المجتمع المصري وللمشاركة التي أسهم بها الأجداد باختلاف الأديان والعقائد والانتماء العرقي والجغرافي بتناغم في إطار الوحدة.
 الشق الثاني من المشكلة يكمن في الهزال الذي أصاب هذه المناهج في السنوات الأخيرة تحت دعاوى التخلص من الحشو الزائد، حتى أصبحت تلك المناهج بلا حشو ولا إطار، وأصبحت في السنوات الأولى من التعليم مجرد صفحات قليلة ضمن المقرر الدراسي المسمى "الدراسات"، أتذكر عندما كنا تلاميذ في المرحلة الابتدائية منذ ما يقارب الخمسين عاما أننا كنا ندرس التاريخ في المرحلة الابتدائية في ثلاث سنوات تبدأ من السنة الرابعة الابتدائية، وكنا ندرس فيها التاريخ المصري القديم، وفي السنة الخامسة ندرس تاريخ العصر الإسلامي، وفي السنة السادسة ندرس التاريخ الحديث، ويتكرر الأمر في المرحلة الإعدادية مع مزيد من العمق والتوسع في المادة العلمية والمحتوى الذي يتلقاه الطالب، وكانت مادة التاريخ في كل سنة في كتاب دراسي مستقل تفوق عدد صفحاته كتاب الدراسات الحالي الذي يضم مقررات التاريخ والجغرافية والمادة البديلة لما كان يسمى أيامنا بالتربية الوطنية، فقد كان كل مقرر من المقررات الثلاثة في الماضي له كتاب مخصص وحصص دراسية مستقلة لكل مقرر، بما يسمح بتكوين معرفة تاريخية لدى الطالب، بغض الناظر عما في هذه المعرفة من جوانب قصور ومناطق غائبة ومعلومات ناقصة أو مضللة في بعض الأحيان، إلا أن المشكلة الآن زاد عليها ضحالة تلك المقررات وهزالها.
الدستور 29 يناير 2010

الخميس، 3 مايو 2018

التعليم والمواطنة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
التعليم والمواطنة
عماد أبو غازي
 من أين نبدأ مواجهة أفكار التطرف الديني والطائفية والعنف؟
 من أين نبدأ إرساء قيم المواطنة في المجتمع؟
 هناك مداخل متعددة للمواجهة مع التطرف والطائفية والعنف، ومداخل متعددة لنشر ثقافة المواطنة وقيمها في مجتمعنا؛ منها المدخل التشريعي، فلاشك في أن هناك تعديلات تشريعية مطلوبة لإنهاء أوضاع قانونية شائها ومُشّوهة لمجتمعنا، أوضاع قانونية تتعارض مع مبدأ المواطنة الذي أرساه الدستور في تعديلاته الأخيرة كمبدأ يعلو على غيره من المبادئ الدستورية، بل أظن أن الدستور نفسه يحتاج إلى تعديل يستبعد أي مواد تتعارض مع مبدأ المواطنة، كما نحتاج إلى تشريع يجرم ممارسة أي موظف عمومي للتمييز ويقضي بعزله، التمييز بكل معانيه، سواء كان هذا التمييز تميزا دينيا أو تميزا على أساس النوع أو الأصل أو بسبب الإعاقة،  نحتاج لتشريع واضح يحدد معنى التمييز بشكل واضح ويعاقب عليه.
 لكن أي تعديل تشريعي لن يصمد دون مساندة مجتمعية، دون تغيير المناخ السائد الذي يؤدي إلى الاحتقان، دون التصدي للخطاب الديني الطائفي في الجانبين، دون إشاعة ثقافة احترام التعددية والتنوع والاختلاف.
 وهنا لابد أن تتضافر جهود متعددة من أجل الخروج من الحالة التي وصلنا إليها، فجهود المثقفين والمبدعين ومؤسسات العمل الثقافي الرسمية والأهلية ضرورية وأساسية في هذا المجال، كذلك دور المبادرات الجماعية التي تقوم بها مجموعات من النخبة الثقافية والسياسية لتكوين مجموعات لمناهضة التمييز الديني أو للتصدي لمناهضة العنف الطائفي أو للمواطنة، بل ودور كل واحد وواحدة منا في التصدي للسلوكيات التي تهدم المواطنة، التصدي لها بين الأهل والأصدقاء وفي العمل والشارع.
 لكني أعتقد أن هناك بداية لابد منها على طريق اقتلاع جذور الطائفية والتطرف والتمييز.
 أظن أن بداية الطريق تأتي من التعليم، فالتعليم مفتاح التكوين الفكري للمواطن الصغير، وعندما بدأت الدولة القومية الحديثة في العالم كانت المدرسة الآداة الرئيسية لأنتاج أفكار المواطنة وبناء مشاعر الانتماء القومي لدى المواطنيين، فمثلما كان المصنع في ذلك العصر وسيلة الإنتاج الصناعي الكبير المتماثل، أو ما يُسمى "الماس برودكشن"، كانت المدرسة الحديثة وسيلة إنتاج "الماس بردكشن" البشري من خلال مناهج ترسخ قيم المواطنة منذ الطفولة، وما حدث في الشمال والغرب حدث عندنا في مصر مع التجربة التحديثية في القرن التاسع عشر، كانت المدرسة منذ ذلك الوقت وعلى مدى قرن ونصف تقريبا مصدرا لمبادئ المواطنة، ومن هنا كانت شعارات مثل "مصر للمصريين" ثم "الدين لله والوطن للجميع" تلقى تجاوبا واسعا من المصريين، لكن السنوات الأخيرة شهدت مدارس من نوع آخر، مدارس تخرج تلاميذ يكرهون الآخر، تخرج تلاميذ عقولهم تربة خصبة لنمو الطائفية والتمييز، فضلا عن إنهم تلاميذ لا يجيدون القراءة والكتابة ولم يكتسب أغلبهم معارف مناسبة للعصر، هذا إذا أسمينا ما اكتسبوه معارف أصلا، إنها مدارس أصبحت أوكارا للتطرف الديني، يحرم بعض القائمين عليها تحية العلم باعتبار العلم "رجس من عمل الشيطان"، ويستبدلون أناشيد دينية بالنشيد الوطني لمصر، مدارس تفرض بعض القائمات عليها الحجاب على الطالبات بل وتحاولن أحيانا فرضه على المعلمات.
 وعندما أتحدث على التعليم ودوره في إرساء قيم المواطنة والتصدي للطائفية لا أقصد فقط تعديل المحتوى الذي يتلقاه الطلاب من خلال المناهج الدراسية، ولا أقصد فقط الإشراف الدقيق على القائمين بالعملية التعليمية ومواجهة تغلغل جماعات الإسلام السياسي وأتباع الوهابية في المدارس وفي التوجيه، بل بالأساس أن تكون هناك مدرسة من الأصل يتوجه إليها التلاميذ لتلقي المعرفة وينتمون إليها، فنتيجة لتواطئ المدارس وأولياء الأمور، خصوصا في المرحلة الثانوية، انتقل التعليم إلى ما يسميه الطلاب "السناتر" جمع "سنتر" أي مركز، وهي مراكز معلنة للدروس الخصوصية امتدت للأسف إلى الجامعات خصوصا فيما يسمونه كليات القمة، مثل الطب، التي يتوجه طلابها إلى الدروس الخصوصية بدلا من أن يذهبوا لكليتهم.
 البداية إذا أن تكون هناك مدرسة، ثم بعد ذلك أن تقدم هذه المدرسة محتوى تعليمي يكسب الطالب معرفة مناسبة للعصر ويعمل على تنمية ملكاته النقدية، ومن خلال ذلك يرسخ لديه منذ الصغر قيم المواطنة، أي الانتماء إلى مصر الوطن الذي يجمعنا كلنا باختلاف أدياننا وعقائدنا وأفكارنا وأصولنا، ينمي لديه قبول الآخر المختلف عنه، محتوى تعليمي يدرك من خلاله أن التمييز على أساس الدين أو الجنس أو الأصل أو اللون جريمة في حق الوطن وفي حق إنسانية الإنسان.
 إنه أفكار لا يمكن أن تتحقق دون مساندة الرأي العام والجماعة الثقافية للوزير المسئول عن التعليم في مواجهته مع الأصولية.
الدستور 22 يناير 2010