الأربعاء، 16 مايو 2018

الصناعات الثقافية في مجتمع المعرفة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات

الصناعات الثقافية في مجتمع المعرفة

عماد أبو غازي

 مع دخول عالمنا إلى العصر الذي أصبح يسمى عصر مجتمع المعرفة ازدادت قيمة الانتاج الثقافي وأهميته، وأصبحت الصناعات الثقافية عنصرا أساسيا من عناصر حساب قوة الدول والشعوب، قوتها المعنوية والمادية أيضا.
 ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية ببعض الأنشطة الفكرية والإبداعية للإنسان أي بالمعنى الضيق للثقافـة، فللثقافـة معناهـا العام الذي يتفق عليه السسيولوجيون والأنثروبولوجيون باعتبارها استجابة الإنسان لإشباع حاجاته من خلال نماذج معيشية أو نماذج للفكر والعمل ابتدعها الإنسان في سبيل البحث عن إشباع هذه الحاجات المعيشية، وهى نماذج مكتسبة يصل إليها الإنسان إما بالتفكير والعقل كاستجابة للوسط الذي يعيش فيه، أو عن طريق النقل من المجتمعات الأخرى، كما تتميز الثقافة بأنها اختراع أو اكتشاف إنساني ينتقل من جيل إلى جيل مع القابلية للإضافة وللتعديل والتغير. أما الثقافة بمعناها الضيق فيقصد بها الأنشطة الفكرية الإبداعية والفنية التي يمارسها الإنسان، أي أن هذا المعنى ينصرف إلى الآداب والفنون بشكل أساسي ثم إلى بعض أشكال الإنتاج الفكري. ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية بهذا المعنى الأخير للثقافة.
  ومفهوم الصناعات الثقافية من المفاهيم لصيقة الصلة  بالتحديث وبعصر الثورة الصناعية، ويقصد به عادة الأعمال الثقافية الموجهـة إلى الجماهير الواسعة، والتي تنتج بأسلوب الإنتاج الكبير أو الإنتاج للجماهير، وتدخل في عملية إنتاجها رؤوس أموال كبيرة، وتمر بمراحـل متعددة حتى تخرج في صورتها النهائية، ويدخل في إنتاجها ممول أو منتج وعمالة كبيرة العدد نسبيا ليست بالضرورة هي المصنف للعمـل أو المبدع له، وتشبه العمـلية الإنتاجية فيها ما يتم في مجـال الصناعات الحديثة، مما جعل هذا النوع من المنتج الثقافي يوصف بأنه "صناعة ثقافية" حيث تتحول طرق إنتاج الأعمـال الإبداعية والفكرية من الطرق التقليدية التي يلعب فيهـا المبدع الفرد أو مجموعـة المبدعين الدور الأساسي في إخـراج المنتج الثقافي بصورته النهائية، لتتحول إلى عملية إنتاجية مركبة يشـارك فيهـا آخرون، ويستعاض عن الاتصال المباشر بين المبدع والمتلقي بآليات السوق لنقل العمل الإبداعي إلى قطاعات أوسع من الجمهور من خلال وسائط مختلفة.
  ومثلمـا كان التصنيع مسئولا عن النمو الهائل في قدرة المجتمعات الحديثة على توليد الثروة مقارنة بالمجتمعات التقليدية، فإن التصنيع الثقافي كان مسئولا كـذلك عن التطور الهائل في القدرة على توليد "الثروة" الفكرية والفنية والثقافية في تلك المجتمعات، وعلى تحقيق الاتصال الواسع بين المبدع والجمهور، ذلك الجمهور الذي أصبح جمهورا كبيرا من المتلقين، وعن تغيير نوعية المتلقين للمنتج الثقافي،  فبعد أن كانت الصفة الغـالبة للجمهور المتلقي للفنون والآداب "نخبوية"، أتاحت الصناعات الثقافية إمكانية وصول الإنتاج الثقافي إلى قطاعات واسعة من الجماهير التي تنتمي إلى مختلف الطبقات بغض النظر ـ حتى ـ عن معرفة المتلقين الجدد للقراءة، كذلك أدى ظهور الصناعات الثقافية وتطورها إلى تغير محتوي المنتج الثقافي، بل وتغير رسالته التي يحملها، وتعاظم تأثير الإنتاج الثقافي في المجتمع بصورة لافتة.
  ومن أبرز الأمثلة على الصناعات الثقافية السينما والدراما التليفزيونية ونشر الكتب والتسجيلات الموسيقية والغنائية المنتجة بهدف التسويق الواسع والبرامج التليفزيونية الثقافية.
 إذن فالصناعة الثقافية تقوم على: "مادة خام" هي الإنتاج الفكري أو العمـل الإبداعي، وعملية تحويلية تتم عبر التصنيع الـذي يعتمد على المقومات التقليدية للصناعة: التنظيم ورأس المال وقوة العمل ووسائل الإنتاج المتطورة، وينتج عن كل هذا عمل إبداعي في صورة جديدة، ثم تأتى في النهاية عملية التسويق.
 لقد كانت البداية الأولى لتحول العمل الثقافي إلى صناعة ـ بهذا المعنى ـ مع ابتكار يوحنا جوتنبرج للطباعة بالأحرف المتحركة، حقـا لقد ظهرت الطباعة في الصين وبعض بلدان الشرق الأقصى قبل ظهورها في أوروبا بعدة قـرون، لكنها لم تنتشر على النطاق العالمي انطلاقا من هناك، كمـا ظهرت أشكال من الطباعة كذلك في مصر مـا بين القرنين العاشر والرابع عشر للميلاد لكنها ظلت لا تشكل سوى ظاهرة هامشية في المجتمع المصري واختفت فجأة دون أن تترك أثرا قويا، أما ابتكار جوتنبرج فقد تحقق له الانتشار والتطور، وربما كان ذلك بسبب ارتباط ابتكاره بتحولات اجتماعية وفكرية وثقافية عميقة عاشتها المجتمعات الأوروبية في فترة التحولات التاريخية في القرن الخامس عشر الميلادي، التي انتقلت فيها تلك المجتمعات من العصور الوسيطـة إلى العصور الحديثة، وكانت الطباعة علامة من علامات التحول وآداة من أدواته في الوقت نفسه.
 وقـد حققت الطباعة لأول مرة في التاريخ الإنساني إمكانية الإنتـاج الكبير للكتاب، فأتاحت الفرصة لانتشار المعرفـة وإمكانية تداولهـا بين الجماهير، لقد دفعت الحاجة إلى المعرفة الإنسان للبحث عن وسيلة لنشرهـا على نطاق واسع، فكان التطور التقني في إنتاج الكتاب ـ وسيلة نقل المعـرفة في ذلك الحين ـ الذي تمثل في التحول من الكتاب المخطوط الذي يحصل عليه عشرات من أفـراد النخبة إلى الكتاب المطبوع الذي يتاح الحصول عليه لآلاف ممن يعـرفون القراءة، الأمر الذي أدى بدوره إلى سلسلة من التحولات الفكرية والثقافية والعلمية والاجتماعية واسعة النطاق، وكانت تلك هي اللبنة الأولي في صرح الصناعات الثقافية.
الدستور 5 مارس 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق