الأربعاء، 31 مايو 2017

سيد درويش وثورة النغم ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
سيد درويش وثورة النغم ...
عماد أبو غازي

 "عندما ولد سيد درويش كانت الموسيقى المصرية والغناء فنًا للخاصة، وعندما مات كانت موسيقاه وألحانه تتردد في أنحاء البلاد ملكًا للعامة من أبناء الشعب كله... وعندما بدأ سيد درويش حياته الفنية كانت الموسيقى المصرية الغنائية لا تعرف غير الشجن والوجد والهيام، وعندما انتهت حياته كانت الموسيقى تغني للوطنية، وتعبر عن طوائف العمال، وتوحي بجو الريف وتسخر من الحكام الطغاة..."
 بهذه الكلمات البليغة لخصت أستاذة الموسيقى الراحلة الدكتورة سمحة الخولي إنجاز سيد درويش ومسيرته الإبداعية في مقال لها بعنوان: "وقفة تأمل في ذكرى سيد درويش" نشرته جريدة الجمهورية في مارس 1968 بمناسبة الذكرى السادسة والسبعين لميلاده، وبعد أقل من عام على هزيمة يونيو 1967، التي كان من بين آثارها الجانبية دفع المصريين للنظر مجددًا في الإنجاز الثقافي المهم لجيل الثورة المصرية، ثورة 1919، ذلك الإنجاز الذي جرى تهميشه بدرجات متفاوتة منذ سيطر نظام يوليو على مقدرات الحياة المصرية.


 وتشرح الدكتورة سمحة الخولي بالتفصيل دور سيد درويش في الموسيقى والغناء في مصر فتقول: "ولد سيد درويش في عصر لا يعرف في الموسيقى غير المغني الفرد، فيمجده ويقدسه ويخضع له الموسيقى، كما يخضع له البطانة الصغيرة التابعة له، وعندما مات كان قد أصّل غناء الثنائيات بأسلوب الحوار الغنائي، بل وطرق مجالًا أكثر صعوبة هو مجال الغناء الكورالي المتعدد الألحان ... وقد توصل إلى هذا الغناء الكورالي بفطرته دون تعليم خاص في هذا المجال بالذات... إن سيد درويش ولد في عصر كان فيه الغناء فنًا أرستقراطيًا منعزلًا عن الغناء الشعبي، يستعلي عليه ويرفضه، ومات سيد درويش بعد أن حقق امتزاجًا خصبًا بين الموسيقا الفنية والشعبية، قرب بين فن الخاصة والعامة، ورفع صوت طوائف الشعب في الموسيقا..."
 ولا يقتصر التقييم الإيجابي لدور سيد درويش في الموسيقى والغناء في مصر على ما نردده نحن المصريين فقط، فها هو المستشرق إدوارد لويس في دراسة له عن سيد درويش يضمها كتاب "سيد درويش حياة نغم" من إعداد محمد علي حماد، والذي صدر في عام 1970، يقول لويس: "إن الشيخ سيد درويش بنبوغه وثقته بنفسه يعتبر مرحلة في هذا الانقلاب الهائل الشاق الذي يتمثل في النهضة العلمية للشعب المصري، فقد نفخ في موسيقى بلاده روحًا جديدة كل الجدة، واستطاع أن يرتفع بها إلى مستوى يتمكن المرء معه أن يعبر عن عواطفه ونزعاته بواسطتها..."
 لقد امتلك سيد درويش إحساسًا واعيًا بروح الشعب المصري، وعبر عن هموم البسطاء ومشاعرهم، وتوج حياته بالالتحام بثورة سنة 1919 وأصبح المعبر عنها وعن قيمها بالكلمة واللحن والأغنية، وربما كان سيد درويش ومختار من بين أبناء جيلهما، كما قال الناقد الراحل بدر الدين أبو غازي  في محاضرة له عن سيد درويش ومختار ألقاها في أتيله القاهرة بمناسبة الذكرى التسعين لميلاد سيد درويش سنة 1982، هما الأكثر تعبيرًا في مجال الفنون عن الثورة المصرية وقيمها، والأبلغ في التعبير عن أبناء الشعب البسطاء صانعي الحضارة من فلاحين وحرفيين وعمال، والأقدر على استلهام أعمالهما من روح هذا الشعب وتراثه، وعلى حل إشكالية الأصالة والمعاصرة.
 لقد نجح سيد درويش في حياته القصيرة وحياته الفنية الأقصر أن يجسد الشعب المصري من خلال أغانيه، ونجح في أن يعبر عن المبادئ التي تكونت خلال نضال المصريين منذ أواخر القرن الثامن عشر وتبلورت في أجلى صورها مع ثورة 19، مبادئ الاستقلال الوطني والديمقراطية وبناء الدولة المدنية التي تقوم على أسس المواطنة، وحول هذه المبادئ إلى كلمات يتغنى بها الناس، ففي نشيد فليعش وطنا القريب جدًا في كلماته ولحنه من نشيد مصر القومي الذي أعده لاستقبال سعد، وكان قد كتبه ولحنه ليكون ضمن ألحان رواية كليوباترا ومارك أنطونيو إلا أن منيرة المهدية حذفته، يقول في مطلعه:
فليعش وطننا    وحدته أملنا              كلنا جميعا    للوطن ضحية
نجمع صليبنا    ويا هلالنا                في حبك   أنت يا حرية
وفي لحن الكشافة المعروف بقوم يا مصري، ينشد:
حب جارك      قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى     ومسلمين قال إية ويهود
دي العبارة      نسل واحد م الجدود
 وفي النشيد الوطني والذي أخذت عبارته الأولى من النشيد الخديوي الذي يعود إلى عصر إسماعيل تقول كلمات المقطع الأخير:
فلينزل غضب الشعب    على من يتصدى للوطنية
وتحيا مصر الاستقلال    وتحيا فيها القومية
لقد ظلت ذكرى سيد درويش خالدة بما قدمه لوطنه ولنهضة بلاده رغم رحيله المبكر والمفاجئ والذي عبر عنه صديق عمره ورفيق كفاحه بديع خيري في الذكرى الخامسة عشر لرحيله سنة 1938 بقصيدة مطلعها:
اللي زيك مش غريب كونه يموت      في بلد مالهاش من النابغ نصيب
بختها ما اعرفش ليه بين البخوت       لم نصفها يوم ملهم أو أديب
لو مثيلك من أيادي الموت يفوت        هو ده اللي كان بقى حادث عجيب
الحياة أشبه بخيط العنكبوت              والتراب يا ما كنوز جواه تغيب
 صحيح يا عم بديع "التراب يا ما كنوز جواه تغيب".
الدستور 27 سبتمبر 2006

فيردي مصر ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
فيردي مصر ...
عماد أبو غازي
 في إحدى الأمسيات أشار بعض أصدقائه إلى الشبه الغريب بين شكل رأسه وشكل رأس الموسيقي الإيطالي الكبير فيردي صاحب أوبرا عايدة، والذي يعتبر من أبرز مؤلفي الأوبرا الإيطاليين في القرن التاسع عشر، بل هو أحد أعلام الموسيقى العالمية عبر العصور.
 يومها أجاب الرجل على ملاحظة صديقه قائلًا: "أنا لا أقل عن فيردي، أنا فيردي مصر".

 إنه سيد درويش الذي توفي في مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر عام 1923، توفي وهو في قمة مجده الفني وتوهجه الإبداعي، توفي وهو يستعد لاستقبال الزعيم سعد زغلول يوم عودته من المنفي بالنشيد الذي ألفه ولحنه خصيصًا لهذه المناسبة وقال في مطلعه:
مصرنا وطنا سعدها أملنا           كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا    أن تعيش مصر عيشة هنية
وختمه بقوله:
إحنا غايتنا       نرفع رايتنا
أحرار خلقنا      نأبى المذلة
يا عيشنا سعدا    يا متنا شهدا
لنحيا أمة   مستقلة
 لقد رحل سيد درويش وهو بعد شاب تجاوز الحادية والثلاثين من عمره بشهور قليلة، فقد ولد صاحبنا بالإسكندرية في شهر مارس عام 1892 بحي كوم الدكة، ونشأ في بيئة شعبية بسيطة، والتحق مثل غيره من أبناء جيله بكُتّاب الحي، وفي الكُتّاب، كُتّاب حسن حلاوة لمس مدرسه سامي أفندي ـ الذي كان يُحفّظ الأناشيد ويُلقنها للصغار ـ استعداد الصبي سيد درويش البحر لاستيعاب الأغاني والألحان بسرعة، وعندما التحق بمدرسة "شمس المدارس" بحي رأس التين التقى بنجيب أفندي فهمي ضابط المدرسة الذي كان مولعًا هو الآخر بتلقين تلاميذه الأناشيد التي كانت تعرف في ذلك الوقت بالسلامات، وتفتتح بها الحفلات المدرسية. وفي عام 1905 عندما بلغ الفتى الثالثة عشرة من عمره تقدم بطلب للالتحاق بالمعهد الديني بمسجد المرسي أبو العباس، وواصل سيد درويش الدراسة بالمعهد الديني لمدة عامين، تعلم خلالهما تجويد القرآن ودرس بعض علوم الدين، وارتدى الزي التقليدي للمشايخ الأزهريين وطلبة المعاهد الدينية، لكن روح الفنان داخل سيد درويش كانت غالبة، فانصرف تدريجيًا عن الدراسة، وتردد على الموالد للإنشاد فيها، ومنها إلى الحفلات والأفراح، وأدى عدم تفرغه للدراسة وتردده الدائم على مجالس السمر في حي كوم الدكة الذي ولد ونشأ فيه إلى فصله نهائيًا من المعهد الديني في نهاية عامه الدراسي الثاني به، بعد إنذاره أكثر من مرة،  ليخسر بذلك الفتى سيد درويش البحر ابن الخمسة عشر عامًا "مستقبله" الدراسي كما كان يراه معظم أهل عصره من أبناء الطبقات الشعبية، ولتكسب مصر علمًا من أعلام نهضتها الحديثة فنان الشعب سيد درويش.
 لقد عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن العشرين لحظات مخاض لدور جديد من أدوار النهضة الثقافية والبعث الوطني في العصر الحديث، فبعد كبوة الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882 بسنوات بدأت مصر تستعيد عافيتها مرة أخرى وعادت بذور النهضة الثقافية والفكرية لتنبت نبتًا جديدًا، وإذا كانت تلك البدايات قد جاءت على أيدي رجالًا ينتمون إلى الجيل الذي شهد أحداث الاحتلال من أمثال الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين ومصطفى كامل ومحمد فريد وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فسرعان ما التحق بهم جيل جديد من الشبان الذين ولدوا بعد الاحتلال بسنوات، لقد كان سيد درويش أحد أبناء ذلك الجيل الذي حمل على كاهله عبء حلقة من حلقات نهضة مصر الحديثة، إنه الجيل الذي ولد أبناؤه في آواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، وبدأت مواهبهم تتفتح في العقدين الأولين من القرن العشرين، لكن انطلاقهم الحقيقي كان مع الثورة الشعبية الكبرى ثورة 1919، إنه الجيل الذي ضم طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وأحمد أمين ثم توفيق الحكيم في الأدب والفكر، وبيرم التونسي وبديع خيري في الزجل وشعر العامية، ومختار وناجي وراغب عياد ويوسف كامل وأحمد صبري ومحمد حسن ومحمود سعيد في الفنون الجميلة، وكان سيد درويش هو علامة ذلك الجيل في الموسيقى والغناء.
 وقد تميز أبناء ذلك الجيل بأنهم نبغوا في مرحلة الشباب المبكر، فأغلبهم قدم إنجازًا مهما وهو بعد في العقد الثالث من عمره، كما أنهم عرفوا كيف يتمردون على الثوابت ويتجاوزوا الواقع متطلعين إلى المستقبل، فكانوا بذلك بناة نهضة حقيقية، ثم جاءت الثورة المصرية سنة 1919 لتطلق أقصى طاقاتهم الإبداعية، حيث ارتبطوا بالثورة وبالحركة الوطنية المصرية وأصبحوا لسان حالها في الفن والأدب والثقافة، لقد حولتهم الثورة التي اندمجوا بمسيرتها إلى شموس في سماء الوطن، ومن بين هؤلاء كان سيد درويش أو فيردي مصر كما قال على نفسه، الذي كان صوت الثورة وأغنيتها وكان في ذات الوقت ثورة في النغم والغناء.
الدستور 20 سبتمبر 2006

الثلاثاء، 30 مايو 2017

لو فعلوها لتغير وجه التاريخ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
لو فعلوها لتغير وجه التاريخ
عماد أبو غازي

 المتتبع لمشروعات ربط النيل بالبحر الأحمر بقناة صناعية يكتشف أن الفكرة لم تغب عن المصريين منذ زمن الدولة الوسطى على الأقل، وإن هذه المشروعات أدت بطريق غير مباشر إلى ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر معا عبر النيل.
 لكن الغريب في الأمر، إنه بعد ردم آخر خليج أمير المؤمنين في بدايات العصر العباسي لم تتكرر المحاولة مرة أخرى لإعادة حفر قناة جديدة، حتى في ظل عصور الاستقلال زمن الفاطميين والمماليك، رغم أهمية هذه القناة لمصر، والغريب في الأمر كذلك أن أخر من كتب عن هذه القناة المؤرخ تقي الدين المقريزي، الذي توفي قرب منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، والذي عاش في ظل حكم المماليك الـجراكسة، كان معاصرًا للزمن الذي كانت مصر فيه مركزا رئيسيا لطرق التجارة العالمية، فقد كانت تجارة مصر الخارجية مزدهرة حتى أواخر القرن الخامس عشر، وفي ذلك الزمن كانت عوائد تجارة المرور التي تعبر الأراضي المصرية تشكل المصدر الثاني لموارد الدولة بعد الزراعة، وتشكل مصدرا مهما لموارد سلاطين المماليك الشخصية في ظل سياسة الاحتكار التي اتبعوها منذ عصر السلطان الأشرف برسباي، وكانت سلطنة المماليك في حلف استراتـيجي مع جمهورية البندقية أقوى الدول التجارية في ذلك العصر، وقد قام هذا الحلف على أساس المصالح التجارية المشتركة ومواجهة التهديدات القادمة من الشرق ومن الغرب لمصالحهما المشتركة، فكان هناك العدو الواحد الذي بات يشكل تهديدًا لكلا الدولتين، أعني الدولة العثمانية الصاعدة، وكانت هناك من ناحية أخرى مهمة مواجهة طموح دول غرب أوروبا الصاعدة خاصة أسبانيا والبرتغال بكشوفهما الجغرافية الساعية للوصول إلى الشرق الأقصى عبر طريق بحري مباشر، يمكنهما من إنهاء الاحتكار المملوكي البندقي لتجارة الشرق.


 لقد كانت بقايا خليج أمير المؤمنين لا تزال موجودة ومعروفة لدى الناس باسم الخليج الحاكمي، وتاريخ الخليج وفكرته معروفة ـ على الأقل ـ لدى النخبة المحيطة بالسلطة، كما نستنتج من رواية المقريزي، فلماذا لم تقم مصر المملوكية عندما واجهت الأخطار الناجمة عن كشوف الأسبان والبرتغاليين البحرية، والتي كانت معروفة أيضا لدولة المماليك كما يتبين ذلك من قراءة ابن إياس المصري مؤرخ عصر سقوط دولة المماليك، بالتفكير في مشروع لإعادة شق خليج أمير المؤمنين لتربط طرق التجارة بين الشرق والغرب، ولتحبط مشروعات البرتغاليين والأسبان؟
 ولماذا لم تفكر جمهورية البندقية الحليف التجاري ـ القوي حتى ذلك الوقت ـ في ذلك المشروع؟
 إن المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الفترة سواء المصرية منها أو الإيطالية تشير إلى أن كل ما فكرت فيه جمهورية البندقية لمواجهة منافسة دول جنوب غرب أوروبا كان شرح الموقف الصعب الذي تتعرض له المصالح المشتركة للطرفين بسبب نجاح البرتغاليون والأسبان في الوصول إلى الهند والشرق الأقصى الضغط على سلطنة المماليك في مصر لتخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على التجارة التي تمر عبر الموانئ المصرية، ومناشدتهم التخفيف من العوائق التي يواجهها تجار البندقية في مصر، تلك العوائق الناتجة عن الفساد والبيروقراطية، كذلك طالب البنادقة من سلطان مصر مخاطبة حكام الهند المسلمين ومناشدتهم عدم التعامل مع البرتغاليون والأسبان، وشرح مخاطر هذا التعامل على مستقبل الهند، إلا أن أيا من المصريين أو البنادقة لم يفكر في الحل الحاسم المتمثل في إعادة استكمال شق القناة الواصلة بين النيل والبحر الأحمر ليتصل بذلك الطريق مباشرة بين موانئ إيطاليا والهند عبر مصر، ويفقد بذلك كشف فاسكو دا جاما لطريق رأس الرجاء الصالح قيمته وأهميته.
 لقد قال لي أساتذتي الذين علموني التاريخ دوما: إن مثل هذه الأسئلة غير واردة في دراسة التاريخ، فالتاريخ بمفهومه التقليدي لا يعرف سؤال ماذا لو كان؟ التاريخ دراسة ما حدث بالفعل فقط، وليس دراسة ما كان يمكن أن يحدث!
 لكن لعبة السيناريوهات الوهمية والأسئلة الافتراضية في التاريخ لعبة ممتعة، لا أستطيع مقاومتها.
 لنفكر معا لماذا لم يقم المماليك والبنادقة بمثل هذا المشروع؟
 ربما يرجع إلى الأزمة السكانية التي كانت تعيشها مصر، فقد فقدت البلاد أكثر من نصف سكانها في سلسلة من الأوبئة والمجاعات منذ الفناء الكبير في أواخر عصر دولة المماليك البحرية لم تعد هناك أيدي عاملة تكفي لزراعة الأرض، فما بالنا بحفر قناة مات في حفرها بعد أربعة قرون عشرات الآلاف، وربما يرجع إلى ضعف الإمكانيات المالية للدولة، وربما يرجع إلى أن الدولة كانت تعيش أزمة النهاية التي فقدت فيها طاقاتها الإبداعية ومثل هذا المشروع كان يحتاج لعقلية مغامرة لا تمتلكها دولة شاخت وهرمت، وما ينطبق على دولة المماليك ربما ينطبق بدرجة أو بأخرى على جمهورية البندقية، التي سرعان ما زال مجدها بعد سقوط دولة المماليك بفترة ليست بالكبيرة.
 لقد عجز المماليك والبنادقة عن الإمساك باللحظة التاريخية، ولم يفكروا في مواجهة الأخطار المحيطة بهما بأكثر الطرق مباشرة، بمشروع "ثوري" لربط البحرين الأبيض والأحمر، في أعلى لحظة احتياج لهذا المشروع.
 عزيزي القارئ أطلق لخيالك العنان وتصور مصير العالم لو أنهم فعلوا ذلك، حقا لو فعلوها لتغير تاريخ مصر والمنطقة العربية بل وربما تاريخ العالم! لكن التاريخ لا يعرف كلمة لو، التي "تفتح عمل الشيطان" حسب المأثور الديني، والتي هي "حرف شعلقه في الجو" حسب المأثور الشعبي.

الدستور 13 سبتمبر 2006

من قناة سيزوستريس إلى خليج أمير المؤمنين... القناة مصرية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات

من قناة سيزوستريس إلى خليج أمير المؤمنين... القناة مصرية

عماد أبو غازي

 عودة إلى قناة السويس في عامها الذهبي بعد توقف قصير... إذا كانت مصر في عصورها القديمة قد عرفت مشروعات لربط البحرين الأبيض والأحمر عبر النيل، فإن هذه المشروعات قد تجددت مرة أخرى بعد دخول العرب إلى مصر في القرن السابع الميلادي، ومصدرنا عن هذه المشروعات كتابات المؤرخين العرب، التي تتحدث عن الخليج الذي كان يعرف باسم خليج أمير المؤمنين، وتعود تلك الكتابات بأصول المشروع إلى قناة سيزوستريس التي تذكرها المصادر الإغريقية، وترجع المصادر العربية بهذا المشروع إلى فترة مبكرة جدًا في الحقبة العربية من تاريخ مصر، إلى عصر أول الولاة العرب عمرو بن العاص.
 هذا وتحفل الروايات التاريخية العربية بكثير من الاضطراب فيما يتعلق بحفر القناة في عصور الحضارة المصرية القديمة، وربما أتى الاضطراب نتيجة انقطاع صلة المؤرخين العرب بالتراث المصري القديم، ورغم ما تحمله تلك الروايات من خلط بين الأساطير والخرافات والوقائع التاريخية فإنها روايات لا تخلو من دلالة على وجود هذه القناة وأهميتها في ربط مصر بجزيرة العرب تجاريا منذ أقدم العصور، فماذا يقول تقي الدين المقريزي شيخ مؤرخي مصر في القرن الخامس عشر الميلادي عن هذه القناة ؟
 في خططه المعروفة بـ"كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" يتحدث المقريزي  عن الخليج المسمى بخليج أمير المؤمنين نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فيقول: "هذا الخليج بظاهر القاهرة من جانبها الغربي فيما بينها وبين المقس"... والمقس منطقة تقع ما بين ميدان رمسيس وبولاق أبو العلا الآن، كانت بها إدارة جباية الرسوم الجمركية على البضائع الواردة للقاهرة، حيث كان ميناء بولاق يعد الميناء الشمالي للمدينة، وكلمة مقس أو مكس كلمة غير عربية تعني الضريبة وكانت تستخدم للرسوم الجمركية خاصة، ومن هنا يتكرر إطلاق اسم المكس على الحي الأحياء المجاورة للموانئ، كما كانت كلمة مكس وجمعها مكوس تحمل معنًا آخر له دلالة سلبية حيث يشير بها الناس في العصور الوسطى إلى الضرائب غير الشرعية.
  ونعود مرة أخرى لشيخنا المقريزي الذي قال عن الخليج: "عرف في أول الإسلام باسم خليج أمير المؤمنين، ويسميه العامة الخليج الحاكمي وخليج اللؤلؤة، وهو خليج قديم أول من حفره طوطيس بن ماليًا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف، وهو الذي قدم إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في أيامه إلى مصر، وأخذ منه امرأته سارة وأخدمها هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليهما، فلما أخرجها إبراهيم هي وابنها إسماعيل إلى مكة بعثت إلى طوطيس تعرفه أنها بمكان جدب وتستسقيه، فأمر بحفر هذا الخليج وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها إلى جدة، فأحيى بلد الحجاز".
 ومن المفترض أن ترجع وقائع تلك القصة إلى زمن يقابل عصر الدولة الوسطى في تاريخنا المصري القديم، الزمن الذي شهد وفود العديد من القبائل السامية من مناطق غرب آسيا إلى مصر، والتي تسجلها النقوش المصرية القديمة. ويسترسل المقريزي في تتبع تاريخ القناة في العصر الروماني فيقول: "ثم أن أندرومانوس الذي يعرف بإيليا أحد ملوك الرومان بعد الإسكندر بن فيلبس المقدوني جدد حفر هذا الخليج، وسارت فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة عام" وينتقل بعد ذلك إلى مشروع تجديد القناة عقب دخول العرب إلى مصر قائلًا: "ثم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه جدد حفره لما فتح مصر، وأقام في حفره ستة أشهر وجرت فيه السفن تحمل الميرة إلى الحجاز، فسمي خليج أمير المؤمنين، فإنه هو الذي أشار بحفره، ولم تزل تجري فيه السفن من فسطاط مصر إلى مدينة القلزم (السويس الآن)، وكان يصب ماء النيل في البحر عند مدينة القلزم إلى أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بطمه في سنة خمسين ومائة،  فطم وبقى منه ما هو موجود الآن"...
 ومن رواية المقريزي التي سعى فيها للتأصيل التاريخي لتلك القناة تبدو بوضوح محاولته للربط بين القناة التي حفرها ملك مصر لإمداد السيدة هاجر بالطعام وقناة أمير المؤمنين، فللقناتين نفس الهدف، إمداد الحجاز بقمح مصر وخيرتها، لكن الحقيقة أن قناة أمير المؤمنين لها نفس دوافع قناة دارا الفارسي، أي ربط ولاية جديدة بمركز الإمبراطورية.
 الغريب في الأمر أن مصر في عصر المقريزي، أي القرن الخامس عشر الميلادي وفي ظل حكم المماليك الـجراكسة كانت مركزا رئيسيا لطرق التجارة العالمية، وكانت تجارتها الخارجية مزدهرة، بل كانت عوائد تجارة الترانزيت تشكل المصدر الثاني لموارد الدولة بعد الزراعة، وكان هناك تحالف استراتـيجـي بين سلطنة المماليك وجمهورية البندقية أساسه مصالحهم التجارية المشتركة في السيطرة على تجارة العالم القديم، وكانت بقايا خليج أمير المؤمنين لا تزال موجودة، وتاريخ الخليج وفكرته معروفة، فلماذا لم تقم مصر المملوكية بمشروع لإعادة شق خليج أمير المؤمنين لتربط طرق التجارة بين الشرق والغرب، خاصة بعد أن بدأت الكشوف الجغرافية التي قام بها الأسبان والبرتغاليين تؤتي ثمارها في كشف طريق بحري مباشر إلى شرق آسيا بالدوران حول رأس الرجاء الصالح؟

الدستور 6 سبتمبر 2006

الفرعون يجدد شبابه... وعم أحمد الغرباوي يعيد مجد الأجداد من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الفرعون يجدد شبابه...
 وعم أحمد الغرباوي يعيد مجد الأجداد

عماد أبو غازي

اليوم ... صباح الجمعة 25 أغسطس بدأت كتابة مخربشاتي الأسبوعية، كنت أنوي أن أكمل حديثي عن مشروعات القناة عبر العصور، بعد أن انتهيت من المقال قررت أن تأجيله للأسبوع القادم، كان السبب ما شاهدته منذ ليلة أمس حتى ساعات من الظهيرة على شاشات التلفزيون المصري من تغطية مباشرة لعملية نقل تمثال رمسيس من ميدانه إلى مقره الجديد بموقع المتحف المصري الكبير، فقد دفعني هذا الحدث التاريخي المهم لتغيير موضوع مقالي، كان كل شيء عبقري، من ليلة أمس النقل يذاع على الهواء آلاف أو ربما عشرات الآلاف كانوا في وداعه في الميدان، ومصاحبين له في الرحلة عبر شوارع القاهرة والجيزة، ثم في استقباله في مستقره الجديد.


 بالفعل أثبت من نقلوا التمثال أنهم أحفاد من صنعوه، لقد تمت العملية بدقة وبراعة مذهلة تعيد إلى الأذهان زمن الإتقان المصري، وتمحو قليلًا آثار كود الإهمال الذي نعيش في ظله ونكتوي بناره كل يوم.
 أما عم أحمد الغرباوي سواق الكساحة التي نقلت التمثال فقصة أخرى عبقرية مصرية تخلدها البساطة والصدق والإتقان، إنسان جميل وحفيد حقيقي لبناة الأهرام، عمل لمدة 40 سنة سائقًا، لابد أن نذكر اسمه دائمًا لقد تحمل مسئولية جسيمة بهدوء وبساطة.
 وكان آلاف الملتفين حول رمسيس في رحلته يبدون كما لو أنهم من رعايا الفرعون، ممن عاشوا في عصره، كأنهم استيقظوا من ماض سحيق وجاءوا ليحتفوا بملكهم، جاءوا من عصر رمسيس الثاني الذي تحققت فيه أزهى أمجاد الحضارة المصرية سياسيًا وعسكريًا وفنيًا ومعماريًا، رمسيس الثاني الفرعون المقاتل الذي حقق الانتصارات في ساحات الحرب، بنفس القدر الذي نجح فيه في ميدان السياسة والدبلوماسية، فوقع أقدم معاهدة سلام في التاريخ نعرفها حتى الآن، إنها معاهدته مع الحيثيين التي وصلت إلينا نصوصها مدونة على جدران المعابد المصرية بالهيروغليفية، كما وصلت نسخة بالمسمارية مدونة على الألواح الطينية اكتشفت في خليج كوي في آسيا الصغرى، أما في الفن والعمارة فآثار عصر رمسيس الثاني تملأ متاحف العالم، كما تمتد على أرض مصر من شمالها إلى أقصى جنوبها، ويكفي عصر رمسيس فخرًا في مجال العمارة إنجاز المعبدين العظيمين: معبدا أبو سمبل.
 كانت الرحلة الأخيرة للفرعون وسط شعبه عظيمة، لقد التف المصريون حول الفرعون العظيم كما لو كان حيًا بيننا، هتفوا له ولوحوا ورفعوا الأعلام وغنوا النشيد الوطني، في مشهد احتفالي جدد فيه الفرعون شبابه وأعاد إلى ذهني صور عيد السِد، أو اليوبيل الذي كان يحتفل به ملوك مصر القديمة كل 30 عاما، وقد تقاربت مدة الاحتفال في عصر رمسيس الثاني، فبعد يوبيله الأول الذي أقامه في موعده كان يحتفل بعيد السِد كل ثلاث سنوات، فاحتفل بذلك 13 مرة باليوبيل، وكان الملك يجدد شبابه في هذا العيد في احتفال كرنفالي مهيب يشاركه فيه شعبه، ويجدد الشعب الولاء للفرعون، وكان لهذا العيد المهم في الحضارة المصرية طقوسه الخاصة والتي كان من بينها العدو لمسافة محددة تأكيدًا لحيويته وها هو رمسيس الثاني يجدد شبابه مرة أخرى ويحتفل بيوبيله الرابع عشر بعد 3219 سنة على انتقاله لمملكة أوزير.
أكثر المشاهد تأثيرًا كان مشهد أفراد أسرة مصرية تسكن على ناصية شارع الفجالة وقفوا في شرفة منزلهم يلوحون للتمثال بأيديهم ومناديلهم مودعين جارًا عظيمًا كانوا يفتحون عيونهم على رؤيته، يصادفونه كل يوم في ذهابهم وإيابهم طوال خمسين سنة، منظر يجعلك تبكي من التأثر ومن الفرح أيضًا، الفرح لأن الأوان قد آن أخيرًا ليغادر الفرعون العظيم مكانه الذي احتله منذ منتصف الخمسينيات، بعد أن أصبح ميدان رمسيس غابة من الكباري التي تسيء للتمثال ولصاحبه، غادر مكانه دون أن تغادر قلوبنا مكانته، غادر مكانه ليصبح أول من يدخل إلى المتحف المصري الكبير الذي كان حلمًا بات تحققه قريب المنال.
 تهنئة لكل من حملوا عبء هذا العمل الكبير الناجح، وفي انتظار حلم أخر جميل أعلن عنه الفنان فاروق حسني وزير الثقافة على الهواء وهو ينتظر وصول الفرعون إلى موضع المتحف، لقد بشرنا بقرار نقل مركب الشمس من موقعها الذي يشوه مشهد الهرم الأكبر ويعتدي على حرمه منذ أكثر من أربعين سنة، إنه قرار آخر جريء يستحق التحية والدعم حتى يستعيد الهرم هيبته واحترامه.
 آخرًا وأنا أتابع المشهد تذكرت الأستاذة صافيناز كاظم وتمنيت لو أنها تشاهد في التلفزيون ما يشاهده الملايين، لعل في هذا المشهد الذي خرج فيه عشرات الآلاف من المصريين من مختلف الأعمار في مصاحبة تمثال الملك العظيم رمسيس الثاني في رحلته إلى مستقره الجديد ردًا على قولها بأن المصريين ضد التماثيل ويكرهونها وعلاقتهم بها أنهم يصفعون وجهها وأقفيتها، تيجي تتفرج وتشوف!!!

الدستور 30 أغسطس 2006

مشروع القناة عمره من عمر مصر... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مشروع القناة عمره من عمر مصر...
عماد أبو غازي

 تُرجع بعض المصادر الإغريقية حفر قناة تربط النيل بالبحر الأحمر إلى عصر الدولة الوسطى، وعلى وجه التحديد إلى عصر سونسرت المعروف لدى الإغريق باسم سيزوستريس، حيث يقول أرسطوطاليس في كتابه "علم الظواهر الطبيعية": "نحن نعتبر أقدم البشر هؤلاء المصريين الذين تظهر كل بلادهم قاطبة من عمل النيل ولا تعيش إلا به، وهذه الحقيقة تفرض نفسها على أي فرد يجوب هذه البلاد، ولدينا شاهد ظاهر نجده في إقليم البحر الأحمر، والواقع أن أحد الملوك شرع في القيام بحفر البرزخ لربط النيل بالبحر، وجعل هذا الممر صالحًا للملاحة، وكان له فائدة عظيمة، والظاهر أن سيزوستريس هو أول الملوك القدامى الذين تبنوا هذا العمل ولكنه لاحظ أن مستوى الأراضي كان أكثر انخفاضًا عن مستوى البحر...".


 ولا تقتصر الروايات التي تعود بقصة حفر تلك القناة إلى زمن الدولة الوسطى على ما ذكره أرسطوطاليس، بل نجد لها أصداء في ملحمة الأوديسا التي تنسب إلى هوميروس، وعند الجغرافي إسترابون والمؤرخ الروماني بليني القديم، كذلك ترجع المصادر العربية بهذه القناة إلى نفس الفترة في تاريخنا المصري القديم.
 وبالرغم من أن هناك شواهد أثرية كثيرة تؤكد علاقة مصر بعالم البحر الأحمر منذ هذه العهود البعيدة إلا أنه لا توجد أدلة مؤكدة على حفر القناة الملاحية، لكن بعض علماء المصريات المحدثين يذهبون إلى أن العلاقات التجارية والحربية القوية بين مصر وشواطئ البحر الأحمر الشرقية والجنوبية، والتي ترجع إلى عصر الدولة الوسطى على الأقل، ما كان لها أن تقوم دون وسائل مواصلات مباشرة وسهلة، كما تشير الأدلة الأثرية إلى وجود أطلال لمدن يرجع بعضها إلى عصر الدولة القديمة في مواقع مختلفة بالمنطقة التي يفترض أن تلك القناة اخترقتها، ويستنتج هؤلاء العلماء احتمال وجود قناة تمد المناطق الواقعة شرق دلتا النيل بالماء العذب منذ عصر الإسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى. وتؤكد الشواهد الأثرية على وجود تلك القناة في وادي الطميلات زمن الدولة الحديثة إبان عصر رمسيس الثاني.
 أما الروايات شبه المؤكدة فترجع البدء في مشروع القناة الملاحية إلى العصر الصاوي، حوالي القرن السابع قبل الميلاد، حيث تؤكد رواية المؤرخ الإغريقي هيردوت الذي زار مصر في زمن الاحتلال الفارسي، أي في فترة قريبة من العصر الصاوي، على أن صاحب المشروع هو الفرعون المصري نخاو الثاني، أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وقد حكم مصر في الفترة ما بين سنتي 610 و595 قبل الميلاد على الأرجح، ورغم أن الآثار المادية لهذا الفرعون قليلة إلا أن المصادر التاريخية القديمة والنصوص الدينية المتأخرة لليهود تحفل بالكثير عن عصره، فقد قام نخاو بهزيمة الملك يوشيا ملك يهوذا وسحق جيشه خلال إحدى حملاته الحربية التي قادها بنفسه في فلسطين، وسيطرت مصر في بداية عصره على مناطق واسعة من فلسطين وسوريا ولبنان، وحاول أن يتصدى للنفوذ البابلي الصاعد لكنه فشل في ذلك بعد هزيمته في موقعة قرقميش التي تراجعت مصر بعدها إلى حدودها الطبيعية.


وتنسب إلى هذا الفرعون مشروعات ضخمة مثل الر حلة التي قام بها أسطول مصري فينيقي للدوران حول قارة أفريقيا بدء من البحر الأحمر بمحاذاة الساحل الشرقي للقارة حتى رأس الرجاء الصالح، ثم الصعود شمالًا بمحاذاة الساحل الغربي حتى المضيق المعروف الآن بمضيق جبل طارق والدخول عبره إلى البحر المتوسط للعودة إلى مصر مرة أخرى، كما ينسب إليه المؤرخ الإغريقي هيردوت الشروع في حفر القناة التي تصل بين النيل والبحر الأحمر، حيث يقول: "كان للملك بسماتيك ابن يدعى نخاو خلفه على العرش، وكان هو أول من بدأ حفر القناة التي تجري لتصب في البحر الأحمر، وكان دارا ملك الفرس ثاني ملك اهتم بها، وكان طولها أربعة أيام بالسفينة، وكانت تتسع لسير سفينتين فيها متحاذيتين، وكان ماؤها يخرج من النيل من فوق مدينة بوبسطة بمسافة قليلة، وتمر بمدينة باتوم، وتسير لتصب في البحر الأحمر، وهكذا فإن هذه القناة الطويلة التي التي تجري من الغرب إلى الشرق مخترقة الأودية الصغيرة حتى الخليج الغربي، وفي أثناء انشغال نخاو بالقناة المذكورة مات فيها مائة وعشرون ألف مصري، وقد أمر بوقف العمل بسبب ذلك، وكذلك نزل عليه وحي معترضًا سير العمل فيها قائلًا: إن همجيًا سينجزها".
 وقد انجزت هذه القناة أو ربما أعيد افتتحها في عهد الملك الفارسي دارا الأول حيث تشير إلى ذلك لوحة تذكارية ترجع إلى عام 518 قبل الميلاد. وقد كان الفرس أثناء احتلالهم لمصر يحتاجون إلى مثل هذه القناة لربط مصر بالعاصمة الفارسية بطريق بحري متصل.
 وقد أعيد حفر تلك القناة عدة مرات في عصور البطالمة والرومان والعرب إلى أن طمر الجزء الأكبر منها في بداية عصر الدولة العباسية كما يذكر المقريزي، ولم يعد المشروع إلى الوجود إلا مع دلسيبس.
 تُرى من هو الهمجي المقصود في نبوءة نخاو من هؤلاء الذين حفروا القناة؟
 ومشروع نخاو في ضوء رحلة الأسطولين المصري والفنيقي حول القارة الأفريقية كان يهدف بلا شك إلى ربط البحرين الأبيض والأحمر وليس النيل والبحر الأحمر فقط، وهكذا فعندما تم حفر قناة السويس التي تعد اليوم من أهم طرق الملاحة العالمية، كان ذلك إحياء لمشروع مصري قديم عمره من عمر مصر.
الدستور 23 أغسطس 2006

السبت، 27 مايو 2017

قناة الفراعنة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
قناة الفراعنة
عماد أبو غازي

 لقد كان مشروع قناة السويس ـ في رأي الكثيرين ـ سببا في وضع مصر في بؤرة الصراعات الدولية منذ منتصف القرن التاسع عشر، فهل كان هذا أمرًا جديدًا بالنسبة لمصر؟ وهل كانت فكرة ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وليدة الفكر الأوربي في العصر الحديث، في مرحلة الثورة الصناعية؟ أو لم يكن لمصر امتياز الموقع منذ عصور تاريخها القديم؟ أو لم يدرك المصريون قيمة موضع بلدهم وموقعها ويفكروا في استغلاله؟
 الواقع أنه منذ ظهر مفهوما النظام الإقليمي والنظام العالمي، أي منذ عرف الإنسان في موطنه أنه جزء من منظومة أكبر، منذ ذلك الحين ومصر تحتل موقعًا محوريًا ضمن المنظومتين الإقليمية والعالمية بمعايير الإقليمية والعالمية في ذلك العصر البعيد، فبعد عدة قرون من بدء الحضارة المصرية وتكوين الدولة الواحدة الموحدة في الوادي والدلتا أدرك المصريون أنهم جزءًا من نظام أوسع يتخطى حدودهم، وبدء اتصالهم بالعالم المحيط بهم. وفي إطار ذلك العالم القديم الذي كان محددًا في البداية بمراكز أكثر تطورًا، تلك التي شهدت ميلاد الثورة الزراعية وشكلت مركزًا متقدمًا لهذا العالم، في مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى، وأطرافًا أقل تطورًا في المحيط الأوسع في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وشرقها ووسط آسيا، كانت مصر تحتل موقعًا متوسطًا في ذلك العالم وتعد نقطة ارتباط بين أطرافه، ومن هنا تولدت لدى المصريون أفكارًا حول ربط أطراف ذلك العالم بعضها ببعض، فما قصة تلك الأفكار؟ وهل تحولت إلى مشروعات في الواقع؟
 إننا نعرف جميعا قصة مشروع قناة السويس الحالية ودور دلسيبس فيها، كما نعرف أن فكرة ربط البحرين الأحمر والأبيض سابقة على دلسيبس، فقد جاء علماء حملة بونابرت على مصر  ومعهم مشروعا لقناة تربط البحرين لكنهم أحجموا عن تنفيذ المشروع لخطأ الحسابات الناتج عن حجم المعرفة العلمية المتاحة وقتها من ناحية ولما أصاب أوضاع الحملة في مصر من اضطراب من ناحية أخرى، كما نعرف كذلك أن مشروعًا آخر لشق القناة طرحه مهندسون أوروبيون من رجال الحركة السانسيمونية ـ وهي حركة إصلاحية ذات توجهات اجتماعية ـ  على محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن الباشا رفض المشروع لإحساسه بأنه سيضع مصر في بؤرة الصراعات الدولية، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن المشروع الذي ظهر إلى الوجود في القرن الماضي كان في الأصل مشروع مصري قديم.


  ففكرة الربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط فكرة قديمة راودت المصريين قبل عشرات القرون، بل تحققت بالفعل في بعض عصور التاريخ المصري، فعندما حفر دلسيبس قناة السويس كان يحيي مشروعا قديما للغاية، ففي زمن ما في الماضي البعيد كان البحر الأبيض المتوسط متصلا بالبحر الأحمر عبر نهر النيل، فقد كان خليج السويس يصل إلى الموضع الحالي لمدينة الإسماعيلية، حيث كان يتصل هناك بأحد الفروع القديمة للنيل الذي كان يتجه من الدلتا نحو الشرق. وتؤكد الدراسات الـﭽيولوﭽية لتلك المناطق هذه الحقيقة، فقد تركت المياة المتراجعة أثرها في الأرض، وآخر هذه الآثار وادي الطميلات وبحيرة التمساح والبحيرات المرة.
 وقد أوحت المنخفضات الطبيعية التي تمتلئ بها المنطقة للمصري القديم بالمسار الذي يمكن له أن يحفر فيه قناة تصل ما بين نهر النيل وقمة خليج السويس، وقد كانت لدى المصريين القدماء دوافعهم لإعادة شق طريق مائي صناعي يحل محل المجرى الطبيعي الذي طُمر مع مرور الزمان.
 لقد ارتبطت مصر منذ أقدم العصور بعالم البحر الأحمر، فكان للمصريين تجارتهم المستمرة مع المناطق الجنوبية والشرقية، وقد سجلوا تفاصيل رحلاتهم تلك في النقوش على جدران المقابر والمعابد، وكان شق مثل تلك القناة يمكن أن يوفر عليهم رحلة شاقة في الصحراء الشرقية ثم في صحراء سيناء فجزيرة العرب، أو في الصحراء الشرقية إلى الموانئ المصرية الجنوبية على شاطئ البحر الأحمر، فعبر تلك القناة كان يمكن أن تنتقل سفن الأسطول المصري مباشرة من وادي النيل إلى البحر الأحمر.
 إذًا فلم يكن قصد المصريين القدماء من وراء شق هذه القناة هو ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، بل مجرد ربط النيل بالبحر الأحمر وتوفير القدرة للأسطول المصري على أن يجوب البحر الأحمر منطلقًا من منف على رأس وادي النيل، لكن نتيجة هذا المشروع الضخم كانت تحقيق إمكانية الانتقال ما بين البحرين بسهولة ويسر، وربط طرق التجارة في العالم القديم بطريق بحري متصل.
 وتحفل المصادر التاريخية القديمة وكذلك النصوص الأدبية ـ سواءً في ذلك المصادر الإغريقية أو الفارسية أو الرومانية أو العربية ـ بالعديد من الروايات التي تغلفها كثير من الأساطير، وتلك الروايات مختلفة في تفاصيلها وإن اتفقت في مضمونها حول حفر هذه القناة ووجودها.
 ولما تقوله تلك الروايات وما تحمله من قصص تجمع بين الحقيقة والخيال حديث آخر.

الدستور 16 أغسطس 2006

القناة لنا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
القناة لنا...
عماد أبو غازي

 لقد بدأت قصة مشروع قناة السويس في عهد سعيد باشا، عندما حصل الفرنسي فرديناند دليسبس في 30 نوفمبر 1854على عقد امتياز تأسيس شركة عامة لحفر قناة السويس واستثمارها لمدة 99 سنة تبدأ من تاريخ افتتاح القناة للملاحة، وكانت شروط العقد مجحفة بمصر.


 ويروي دليسبس كيف حصل على امتياز القناة من صديقه القديم سعيد باشا عقب توليه حكم مصر، بعد شهر من تقديمه للمشروع، عندما عرض عليه الفكرة أثناء رحلة عبر الصحراء من الإسكندرية إلى القاهرة، فيقول: "بعد أن قبل سعيد باشا المشروع استدعى قواد جنده، ودعاهم إلى الجلوس أمامه، وقص عليهم الحديث الذي دار بيننا، وطلب منهم أن يبدوا رأيهم في مشروع صديقه، فلم يكن من هؤلاء المستشارين وقد فاجئهم هذا الاقتراح، وهم أقدر على إبداء الرأي في مناورات الخيل منهم في التكلم عن مشروع عظيم لا يستطيعون فهم مراميه، إلا أن نظروا إلي بملء أعينهم، كأنما يريدون إفهامي أن صديق مولاهم الذي رأوه يقفز على الحواجز ممتطيًا جواده بمهارة فائقة لا يمكن إلا أن يدلي إلا بآراء صائبة، وكانوا أثناء الحديث يرفعون أيديهم إلى رءوسهم بين آن وآخر".
 وكان دليسبس أثناء رحلته مع سعيد باشا من القاهرة إلى الإسكندرية قد أبدى مهارة في ركوب الخيل واجتياز الموانع الطبيعية في الصحراء وهو ممتطيًا جواده، مما أثار إعجاب حاشية سعيد باشا وقادة جيشه بالصديق الأجنبي لمولاهم...
 وفي موضع آخر يذكر دليسبس أثر إعجاب هؤلاء القادة بفروسيته على قرارهم بالموافقة على مشروعه، تلك الموافقة التي لم تستغرق سوى أسابيع قليلة من الدراسة، لم تصل إلى شهر، في بلد كانت تتميز بيروقراطيته ونخبته العسكرية بالبطء القاتل في اتخاذ القرار، فما سر هذه السرعة المذهلة؟
يقول دلسيبس: "جمع سعيد باشا قواد جنده، وشاورهم في الأمر، ولما كانوا على استعداد لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم للرجل العالم المثقف انحازوا إلى جانبي، ولما عرض عليهم الباشا المشروع بادروا إلى القول بأنه لا يصح أن يرفض مشروع صديقه، وكانت النتيجة أن منحني الباشا ذلك الامتياز العظيم".
 بهذه البساطة حصل دليسبس على امتياز شق القناة، بهذه البساطة كانت النخبة الحاكمة تتخذ قرارًا يحدد مصير الوطن لسنوات طويلة.
  وبعد انتهاء مرحلة الدراسات التمهيدية للمشروع التي استغرقت عامًا وبضع أسابيع تم تعديل عقد الامتياز في 5 يناير سنة 1856 بشروط أكثر إجحافًا بمصر.
وفي 25 إبريل سنة 1859 توجه دليسبس بصحبة أعضاء مجلس إدارة الشركة إلى شاطئ البحر المتوسط بالقرب من الفرما، عند الموقع الذي أُنشئت فيه مدينة بورسعيد بعد ذلك، وفي احتفال كبير ضرب الرجل أول معول في الأرض إيذانًا ببداية حفر قناة السويس، الحفر الذي استغرق أكثر من عشر سنوات، ضرب فيها مئات الآلاف من الفلاحين المصريين ملايين المعاول، في ظروف عمل غير إنسانية وأوضاع قاسية، سقط عشرات الآلاف من الفلاحين، وتكبدت الخزانة المصرية أعباء مالية جسيمة بلغت أكثر من ستة عشر مليون جنيه.
 بعد تلك السنوات العشر افتتح الخديوي إسماعيل قناة السويس في احتفال تاريخي بدأ من مدينة بورسعيد يوم 16 نوفمبر سنة 1869، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ مصر وعلاقاتها الدولية.
 لقد أعاد مشروع قناة السويس مصر مرة أخرى إلى قلب الصراع الدولي، فبعد أن كانت أمور البلاد قد استقرت في أعقاب معاهدة 1840، عادت مصر مرة أخرى مسرحًا للتنافس الاستعماري وصراع المصالح بين الدول الأوروبية الكبرى.
 وقد دفع هذا الوضع كثيرًا من الساسة والمؤرخين المصريين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى القول بأن مشروع القناة كان نقمة على البلاد، بل أنه كان المسئول الأول عن أزمة الديون التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر.
 ومنذ الإعلان عن عقد الامتياز تنبه القنصل الإنجليزي في مصر مستر بروس إلى أن حفر القناة "سيؤدي إلى ازدياد المواصلات التجارية بين أوروبا وبلاد الشرق، وسيترتب على ذلك أن تنشأ مراكز قانونية للدول الأجنبية في هذه البلاد، وسيؤدي هذا الوضع إلى أن تحدث منازعات بين تلك المراكز وشعوب الشرق، وسوف تكون هذه المنازعات ذريعة تتيح للدول الأوروبية التدخل المسلح والاحتلال الدائم للبلاد..."، وقد صدق بالفعل توقع القنصل الإنجليزي، فبدأ التنافس البريطاني الفرنسي على مصر من جديد، وبدأ التدخل الأجنبي في شئون البلاد، ذلك التدخل الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882.
 وطوال سنوات الاحتلال التي جاوزت السبعين، وخلال كل المفاوضات التي دارت بين الحكومات المصرية المتعاقبة والحكومة البريطانية كانت قناة السويس وحماية الملاحة الدولية فيها من القضايا الشائكة المعقدة التي تؤدي دومًا بالمفاوضات إلى طريق مسدود.
 لقد كان الوجود العسكري البريطاني حول قناة السويس بدعوى تأمينها أمرًا مرفوضًا من المصريين الذين رأوا دائمًا ـ محقين في ذلك ـ أنهم قادرون على حماية القناة والدفاع عنها، وكان المطلب المشروع الذي رفعته الحركة الوطنية في مصر: "أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة"
وهو ما لم يتحقق إلا يوم التأميم.

الدستور 9 أغسطس 2006

الثلاثاء، 23 مايو 2017

قناة السويس تاريخ من المغامرة... من أرشيف مقالاتي القديمة

 مخربشات
قناة السويس تاريخ من المغامرة
عماد أبو غازي
 الأربعاء الماضي احتفلت مصر بالعيد الذهبي لقرار تأميم شركة قناة السويس، ذلك القرار الذي غير تاريخ مصر والمنطقة العربية، بل يمكن أن نقول بلا مبالغة أنه كان قرارًا مؤثرًا على المستوى العالمي، بحيث يمكن أن نعتبره حدثًا من أهم أحداث القرن العشرين، ومازالت آثار هذا القرار ماثلة بيننا إلى الآن.
 لقد منح قرار التأميم لعبد الناصر ـ صاحب القرار المغامرة ـ شعبية جارفة وشرعية جماهيرية لم تتحقق له قبل ذلك اليوم، فلم يلق إجراء من الإجراءات التي اتخذها مجلس قيادة الثورة أو الحكومات المتعاقبة التي توالت على مصر منذ قامت حركة الضباط الأحرار بانقلابها فجر 23 يوليو 1952من التأييد مثلما لقي قرار تأميم قناة السويس. لقد حقق بذلك القرار الحلم الذي ظل يراود المصريين قرابة تسعين عامًا، لذلك فقد رحب المصريون بالقرار رغم ما كان متوقعًا من سخط الدول الغربية على مصر بسببه، ورغم ما كان متوقعا من أن يجلبه على البلاد من "عواقب وخيمة"، وقد جاء رد الفعل الغربي الذي تحقق بعد شهور قليلة عندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي الغاشم ـ كما تعودنا أن نصفه في طفولتنا ـ ذلك العدوان الذي بدأ في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر من السنة نفسها باحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء، وأعقبه احتلال إنجليزي فرنسي لمنطقة القناة بدعوى تأمين القناة والفصل بين الطرفين المتحاربين.

 نعود إلى قرار التأميم، ففي يوم 26 يوليو 1956، وبمناسبة الذكرى الرابعة لمغادرة الملك فاروق لمصر بعد تنازله عن العرش، تلك المناسبة التي كان قادة انقلاب يوليو يحتفلون بها في الإسكندرية التي غادر منها فاروق البلاد، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في كلمات محددة ضمن خطابه الذي ألقاه في ميدان المنشية قرار تأميم شركة قناة السويس وتحويلها إلى شركة مساهمة مصرية، وقد عبر الشعراء عن هذا الحدث المهم في تاريخنا الوطني، التأميم، من خلال عشرات القصائد، بالنسبة لي أجملها ما عبر به الشاعر والفنان المبدع صلاح جـاهين عن مشاعر الشعب الجياشة تجاه التأميم في قصيدته الطويلة "موال للقنال" قائلًا:
يا سايق الغليون
عدي القنال عدي
وقبل ما تعدي
خد مننا وأدي
ده اللي فحت بحر القنال جدي
بحر القنال يا كترها رماله
وجدنا ... فوق الكتاف شاله
بحر القنال اتبدلت حاله
وجدنا متهني بعياله
واحنا على الشطين
مفتحين العين
عارفين طريقنا منين
واللي صديقنا فين
يا سايق الغليون
دي أرضنا     وأرضنا لينا
ضرب الرصاص    للي يعادينا
دي أرضنا          وتربها أجددنا
ضرب الرصاص      للي يعاندنا
  لم يكن قرار تأميم شركة قناة السويس نهاية المطاف في قصة مصر مع القناة، بل كان بداية لمرحلة جديدة من الكفاح دفاعًا عن القناة، كما لم يكن بالطبع بداية القصة فتاريخنا مع القناة طويل ممتد، وكله تاريخ من المغامرة والمقامرة، كان الشعب المصري دائمًا بطلها.
 وقد عبرت المذكرة الإيضاحية لقرار التأميم عن هذا التاريخ الطويل مع القناة في عبارة موجزة جاء فيها: "بالدماء المصرية شُقت قناة السويس لتخدم الملاحة البحرية"، وهذه حقيقة تاريخية عادت المذكرة ففصلت ما أجملته لتبرهن عليها: "إنه من عام 1859 حتى عام 1864 مضت خمس سنوات سخر فيها المصريون دون أجر أو شكر لحفر القناة، وأن ستين ألفا من المصريين كانوا يُخصصون شهريًا لهذه الخدمة في وقت لم يتجاوز فيه تعداد جميع المصريين أربعة ملايين، ولقد مات من هؤلاء العمال تحت الانهيارات الرملية ما يزيد على المئة ألف دون دفع أي تعويض عنهم أو جزاء، كما قامت الجهود المصرية في كل من ترسانة القاهرة وترسانة الإسكندرية بإعداد المشروعات اللازمة لإكمال حفر القناة، ووُضعت جميع وسائل النقل البري والنهري في خدمة الشركة بالمجان، ومنحتها الحكومة جميع الأراضي والمناجم اللازمة، ولم تكتف الحكومة المصرية بذلك، بل ساهمت مساهمة جبارة في تمويل عمليات حفر القناة، فقد بدأت الشركة برأس مال لا يتجاوز نصف مليون من الجنيهات، بينما تكلف إنشاء القناة ما يزيد على الستة عشر مليون جنيه، وتحملت مصر بهذا الفرق جميعه".
 لقد كانت تلك مبررات أوردتها المذكرة الإيضاحية لقرار التأميم الذي أيده الشعب رغم ما حمله من مخاطر وما كان واضحًا فيه من روح المغامرة، فكيف تكون لدى المصريون الإحساس بأهمية هذا القرار وضرورته؟
 إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب العودة إلى الوراء أكثر إلى بداية مشروع القناة وهذا حديث آخر.
الدستور 2 أغسطس 2006


لبنان في القلب دائمًا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
لبنان في القلب دائمًا
عماد أبو غازي
 عشرة أيام كئيبة مرت منذ بدأ العدوان الإسرائيلي الذي فاق كل الحدود وكل التوقعات على لبنان، تنقل شاشات التلفزيون ووكالات الأنباء ورسائل البريد الإلكتروني أخبار ضحايا الجريمة الإسرائيلية. حتى الآن ـ 22 يوليو ـ سقط ما يزيد عن ثلاثمائة مدني لبناني أكثر من نصفهم من الأطفال، غير آلاف الجرحى ومئات الآلاف من المهجرين عن ديارهم، وفوق ذلك كله تدمير مجنون للبنية الأساسية اللبنانية، التي أعاد اللبنانيون تشيدها بعد سنوات الحرب الأهلية المريرة وما تخللها من تدخل سوري وثلاث غزوات إسرائيلية، لبنان الذي كان قد أوشك أن يتعافى من آثار ثلاثين عاما من الحروب، يدمر مرة أخرى، تدمره إسرائيل تدميرا شاملا، بتأييد غير محدود ودعم سياسي وعسكري مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، وعجز دولي وعربي كامل، مرة أخرى يدفع شعب لبنان الثمن نيابة عنا جميعا، مرة أخرى يُفرض على هذا البلد أن يتحول إلى ساحة لصراع المصالح والإرادات في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط كلها.
 إننا نقف اليوم أمام جريمة إسرائيلية جديدة تضاف إلى قائمة الجرائم الطويلة لآلة الحرب الإسرائيلية طوال ما يقارب ستين عاما هي عمر دولة إسرائيل، لكن ما الذي تريده إسرائيل من عدوانها هذه المرة؟ والسؤال هنا للكاتب والمفكر اللبناني كريم مروة في مقال له بعنوان "لبنان في قمة الخطر" تلقيته على بريدي الإلكتروني وأنا أكتب هذا المقال، يتساءل مروة: "ما الذي تريده إسرائيل من عدوانها على لبنان؟  هل تريد أن تهيئ لاجتياح جديد للبنان شبيه باجتياح عام 1982؟  هل تريد بالعشوائية والوحشية اللتين تدمر بهما المنشآت المدنية اللبنانية، جسوراً وطرقات ومحطات كهرباء ومطارات، أن تخلق فتنة تعيد إلى لبنان حرباً أهلية عبثية جديدة؟" ويستطرد مروة قائلا: "إنها أسئلة حقيقية يطرحها اليوم اللبنانيون بأعلى الصوت، لكي يسمعها العالم كله".

كريم مروة
 ويؤكد كريم مروة أنه رغم أن اللبنانيين يميلون بأكثريتهم لتحميل المسؤولية عما جرى إلى حزب الله، فإنهم يؤكدون وحدتهم، بما في ذلك مع حزب الله، في مواجهة هذه البربرية الإسرائيلية التي بات يعرفها العالم في كل تاريخها. وإن وحدة اللبنانيين اليوم في مواجهة هذه العدوانية الإسرائيلية هي الرد الصاعق على الأهداف التي تبغي إسرائيل تحقيقها من هذا النوع من العدوان على بلدهم.... ويسترسل قائلا: "إن لبنان اليوم كله، واللبنانيين كلهم، هم أكثر وحدة من أي وقت مضى.  ولن تستطيع إسرائيل أن تهز وحدتهم القوية هذه.  إنهم جميعهم في خندق واحد ضد هذه البربرية الإسرائيلية المتجددة.  ولن تنجح إسرائيل في منع لبنان من أن يبقى نموذجاً نقيضاً لنموذجها، نموذجاً راقياً للحرية والتعدد الديني والثقافي، ونقيضاً لعنصرية أولئك الذين يريدون إبقاء الشعب الإسرائيلي في غيتو شبيه بغيتوات العهود القديمة البغيضة".... "ألم يحن الوقت، بعد أن تأخر كثيراً، لكي يمارس لبنان حقه في الحرية والسيادة والاستقلال، أسوة بسائر دول العالم؟  هل يصح أن يبقى في عذابه الدائم، وفي الآلام والمآسي التي لا حدود لها، التي تأتيه من داخله ومن خارجه؟  ألا يستحق أن يساعد من قبل الأشقاء ومن قبل الأصدقاء في العالم لكي يحقق شعبه الطموح العريق عنده في أن يكون، تكريساً لتقاليده القديمة، واحة للحرية والديمقراطية في المنطقة، وملتقى تاريخياً للثقافات جميعاً، في الشرق والغرب؟  إننا كلبنانيين نصرّ على أن نذهب بكل طاقاتنا إلى المستقبل وفي اتجاه هذه المهمات التاريخية على وجه التحديد.  لكننا ملزمون في هذه اللحظة العصيبة بأن نكون أقوياء في وحدتنا في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وفي التصدي لهذا العدوان البربري الذي يتعرض له بلدنا وشعبنا. لكن النقاش مع حزب الله مؤجل إلى أن ينتهي العدوان.  والمهمة الآن أمام جميع اللبنانيين هي استمرار وحدتهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي وهي الدفاع عن لبنان، أرضاً وشعباً ومؤسسات."
 لكن في التو واللحظة وأنا أقرأ مقال كريم مروة ـ الذي أتفق مع كل حرف فيه ـ تأتي إجابة أخرى على سؤال ما الذي تسعى إسرائيل إلى تحقيقه من عدوانها، جاءت الإجابة عبر شاشات التلفزيون على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس، تعليقا على مئات القتلى وآلاف الجرحى الذين تحصدهم قنابل إسرائيل وصواريخها، قالت رايس: "إنها آلام المخاض! مخاض ميلاد شرق أوسط جديد تتشكل ملامحه الآن"! لذلك ستفتح الولايات المتحدة ـ وفقا لوكالات الأنباء اليوم أيضًا ـ مخازن أسلحتها لتزود إسرائيل بمئات جديدة من القنابل الموجهة بالليزر، لتستمر الحرب، مزيد من القنابل تحمل مزيدا من القتل والخراب.
 إذًا الموضوع أكبر من لبنان وأوسع من حدوده الصغيرة، إذًا نحن أمام مرحلة تتصور الإدارة الأمريكية إنها الأخيرة في تشكيل خريطة جديدة لمنطقتنا، خريطة ترسم بأشلاء الأطفال ودمائهم، ويدفع لبنان ثمنها، خريطة تتصور الإدارة الأمريكية أنها ستحقق مصالحها في المنطقة، لكنها لو قدر لها النجاح لن تحقق إلا سقوط شعوب منطقتنا العربية تحت سطوة التطرف والإرهاب، اليمين المسيحي الأمريكي المتطرف من ناحية، وإرهاب الدولة الإسرائيلية التي يقودها اليمين الصهيوني والقوى الدينية المتطرفة من ناحية أخرى، وقوى التطرف الديني الإسلامي التي ستصبح نموذج "المقاومة" لشعوب المنطقة من ناحية ثالثة، ولعل ما حدث ويحدث في العراق شاهد على ذلك.
 لكن شعب لبنان الذي حمل عنا جميعًا في المنطقة العربية أعباء الصراعات ودفع فواتيرها وأثبت مرات ومرات قدرته على الانتصار على المعتدين سيظل الأمل الأخير لوقف هذا المخطط لو نجحت القوى المعادية للحرب والعدوان على صعيد العالم في عرقلة آلة الحرب الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا ووقفها.

الدستور 26 يوليو 2006

الاثنين، 22 مايو 2017

جريمة "تحبيذ" الوطنية!!! من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
جريمة "تحبيذ" الوطنية!!!
عماد أبو غازي

 بين عامي 1908 و1910 أصدرت حكومة بطرس باشا غالي ومن بعدها حكومة محمد باشا سعيد مجموعة من التشريعات المقيدة للحريات العامة، وقد وجهت تلك التشريعات ضربات قاسية للحريات في مجالات الصحافة والمسرح والشعر، وكانت ضرباتها تلك تهدف إلى محاصرة الحركة الوطنية المتصاعدة بعد حادثة دنشواي، فقد كان دور الصحافة واضحًا لكل ذي عينين في فضح ما جرى في تلك الحادثة، وفي حشد الناس خلف قيادات الحركة الوطنية المطالِبة بالاستقلال والدستور، وأدركت سلطات الاحتلال والخديوي والحكومة مدى تأثير الصحافة في التحريض السياسي ضد الاحتلال وسياسته وضد الحكومة المنفذة لتعليماته وضد المواقف الجديدة للخديوي عباس حلمي الثاني الذي تحول من مصادمة الاحتلال إلى التحالف معه، كما لمس الجميع دور الفن والأدب في شحن الوجدان الوطني، ومن هنا كان إصدار الحكومة لتشريعات رقابية تقييد حرية الإبداع، وإحياء قوانين مهجورة للمطبوعات تسمح للحكومة بحبس الصحفيين، وتعديل مواد في قانون العقوبات تحاسب الناس على نواياهم.

محمد فريد
 وكان كُتاب الحزب الوطني وساسته وصحافيوه هم المستهدفون أساسًا، ذلك لأنه منذ أسس مصطفى كامل الحزب في أواخر 1907 أصبح رأس الحربة للحركة الوطنية المصرية، وأضحت صحافته صوتًا لكل الوطنيين الداعين للاستقلال، الذين يربطون بوضوح بين استقلال الوطن والدستور الذي يحقق رقابة الأمة من خلال ممثليها المنتخبين لما تقوم به الحكومة، ومثلما شهدت مواقف عباس حلمي الذي بدأ حكمه وطنيًا معاديًا للاحتلال تحولًا واضحًا في تلك السنوات، شهدت الحركة الوطنية هي الأخرى تحولات في مواقفها، خاصة في ظل زعامة محمد فريد لها بعد وفاة مصطفى كامل، فقد أصبحت الرؤية أكثر وضوحًا وتحديدًا، زالت الأوهام حول مساندة الدولة العلية (تركيا) لمصر في مسعاها نحو الاستقلال، كما اتجهت الحركة الوطنية إلى الشعوب الأوروبية والأحزاب العمالية والاشتراكية وحركة السلام العالمي لمساندتها في مطالبها بدلًا من الاتجاه لحكومات الدول الأوروبية التي كانت لا تختلف في توجهات الاستعمارية بل تختلف في صراعها حول المستعمرات، وكان التوجه الثالث للحزب الوطني والذي شكل الخطر الحقيقي على الوجود الاستعماري في مصر وعلى السلطة الاستبدادية للخديوي يتمثل في الإيمان بأن التغيير لن يأتي إلا من خلال حركة شعبية واسعة، ومن هنا اتجه الحزب إلى دعم إنشاء تنظيمات طلابية وعمالية ونقابية دفع بحركة الناس إلى الأمام، لذلك أصبح ضرب الحزب الوطني هدفًا أساسيًا للحكومة والاحتلال والخديوي.
 توالت القضايا ضد صحف الحزب الوطني وتعرضت للإنذار وللإغلاق الإداري أكثر من مرة، كما سجن أكثر من كاتب وصحفي من كتابها، لكن الحزب استمر والحركة الوطنية تصاعدت، فبدأ التخطيط لتوجيه ضربة مباشرة لرئيس الحزب محمد فريد، وجاءت الفرصة مع صدور ديوان وطنيتي للشاعر علي الغاياتي، وكان الديوان قد صدر بمقدمتين واحدة للشيخ عبد العزيز جاويش والثانية لمحمد فريد حملت عنوان: "تأثير الشعر في تربية الأمم"، تحدث فيها عن أهمية الشعر في حفز الروح الوطنية لدى الشعوب، وأشار إلى الأثر السلبي لاستبداد حكومة الفرد ـ سواء في الغرب أو في الشرق ـ على الشعر، وكيف أدت إلى "ظهور قصائد المدح البارد والإطراء الفارغ للملوك والأمراء والوزراء"، وفي نفس الوقت أشاد بشعراء الأرياف الذين "وضعوا عدة أناشيد وأغان في مسألة دنشواي وما نشأ عنها، وفي المرحوم مصطفى كامل باشا ومجهوداته الوطنية، وفي موضوع قناة السويس، ورفض الجمعية العمومية لمشروع مد امتيازها، وأخذوا ينشدونها في سمرهم وأفراحهم على آلاتهم الموسيقية البسيطة"، واعتبر أن هذه الظاهرة "تبشر بقرب زمن الخلاص من الاحتلال ومن سلطة الفرد"، فكانت تلك المقدمة سببا في محاكمة فريد بتهمة أنه "يحبّذ" و"يحسّن" و"يمتدح" ديوانًا يدعو إلى حب الوطن.
 وتمت محاكمة الشاعر علي الغاياتي والشيخ جاويش في أغسطس 1910 وصدر الحكم غيابيًا بحبس الغاياتي سنة مع الشغل، وحضوريًا بحبس الشيخ جاويش ثلاثة أشهر، أما محمد فريد فكان في أوروبا، وأمامه فرصة كاملة للبقاء هناك هربًا من المحاكمة، لكنه قرر العودة ومواجهة الموقف، ويذكر المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي أن ابنة فريد أرسلت له خطابًا تدعوه إلى العودة لمواجهة المحاكمة قالت فيه:
 "ولنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكم به على الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم، وما تحملتم الهوان في سبيل وطنكم ... وأختم جوابي بالتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن"
تذكرة السجن 
  في يناير 1911 تمت محاكمة فريد وحكم عليه بستة أشهر أمضاها كاملة في سجن الاستئناف بباب الخلق من 23 يناير إلى 17 يوليو لأنه حبذ الوطنية!

صورة لمحمد فريد في السجن نقلًا عن الرافعي
 وعندما خرج محمد فريد من السجن فجر يوم 18 يوليو كتب يوم خروجه مقالًا بعنوان "من سجن إلى سجن"، اقتبس منه:
 "مضى عليّ ستة أشهر في غيابات السجن، ولم أشعر أبدًا بالضيق إلا عند اقتراب أجل خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر، هو سجن الأمة المصرية، الذي تحده سلطة الفرد ويحرسه الاحتلال ... حقيقة لم أشعر بأي انشراح عند حلول أجل مفارقتي لهذه الغرفة الضيقة التي قضيت بها ستة أشهر قمرية ... لعلمي أني خارج إلى سجن أضيق، ومعاملة أشد، إذ أصبح مهددا قانون المطبوعات، ومحكمة الجنايات، محروما من الضمانات التي منحها القانون العام للقتلة وقطاع الطريق، فلا أثق أني أعود لعائلتي إن صدر مني ما يؤلم الحكومة من الانتقاد، بل ربما أوخذ من محل عملي إلى النيابة، فالسجن الاحتياطي، فمحكمة الجنايات فالسجن النهائي، وستبقى حالتنا كذلك حتى نسترد الدستور."   

الدستور يوليو 2006