الثلاثاء، 30 مايو 2017

مشروع القناة عمره من عمر مصر... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مشروع القناة عمره من عمر مصر...
عماد أبو غازي

 تُرجع بعض المصادر الإغريقية حفر قناة تربط النيل بالبحر الأحمر إلى عصر الدولة الوسطى، وعلى وجه التحديد إلى عصر سونسرت المعروف لدى الإغريق باسم سيزوستريس، حيث يقول أرسطوطاليس في كتابه "علم الظواهر الطبيعية": "نحن نعتبر أقدم البشر هؤلاء المصريين الذين تظهر كل بلادهم قاطبة من عمل النيل ولا تعيش إلا به، وهذه الحقيقة تفرض نفسها على أي فرد يجوب هذه البلاد، ولدينا شاهد ظاهر نجده في إقليم البحر الأحمر، والواقع أن أحد الملوك شرع في القيام بحفر البرزخ لربط النيل بالبحر، وجعل هذا الممر صالحًا للملاحة، وكان له فائدة عظيمة، والظاهر أن سيزوستريس هو أول الملوك القدامى الذين تبنوا هذا العمل ولكنه لاحظ أن مستوى الأراضي كان أكثر انخفاضًا عن مستوى البحر...".


 ولا تقتصر الروايات التي تعود بقصة حفر تلك القناة إلى زمن الدولة الوسطى على ما ذكره أرسطوطاليس، بل نجد لها أصداء في ملحمة الأوديسا التي تنسب إلى هوميروس، وعند الجغرافي إسترابون والمؤرخ الروماني بليني القديم، كذلك ترجع المصادر العربية بهذه القناة إلى نفس الفترة في تاريخنا المصري القديم.
 وبالرغم من أن هناك شواهد أثرية كثيرة تؤكد علاقة مصر بعالم البحر الأحمر منذ هذه العهود البعيدة إلا أنه لا توجد أدلة مؤكدة على حفر القناة الملاحية، لكن بعض علماء المصريات المحدثين يذهبون إلى أن العلاقات التجارية والحربية القوية بين مصر وشواطئ البحر الأحمر الشرقية والجنوبية، والتي ترجع إلى عصر الدولة الوسطى على الأقل، ما كان لها أن تقوم دون وسائل مواصلات مباشرة وسهلة، كما تشير الأدلة الأثرية إلى وجود أطلال لمدن يرجع بعضها إلى عصر الدولة القديمة في مواقع مختلفة بالمنطقة التي يفترض أن تلك القناة اخترقتها، ويستنتج هؤلاء العلماء احتمال وجود قناة تمد المناطق الواقعة شرق دلتا النيل بالماء العذب منذ عصر الإسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى. وتؤكد الشواهد الأثرية على وجود تلك القناة في وادي الطميلات زمن الدولة الحديثة إبان عصر رمسيس الثاني.
 أما الروايات شبه المؤكدة فترجع البدء في مشروع القناة الملاحية إلى العصر الصاوي، حوالي القرن السابع قبل الميلاد، حيث تؤكد رواية المؤرخ الإغريقي هيردوت الذي زار مصر في زمن الاحتلال الفارسي، أي في فترة قريبة من العصر الصاوي، على أن صاحب المشروع هو الفرعون المصري نخاو الثاني، أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وقد حكم مصر في الفترة ما بين سنتي 610 و595 قبل الميلاد على الأرجح، ورغم أن الآثار المادية لهذا الفرعون قليلة إلا أن المصادر التاريخية القديمة والنصوص الدينية المتأخرة لليهود تحفل بالكثير عن عصره، فقد قام نخاو بهزيمة الملك يوشيا ملك يهوذا وسحق جيشه خلال إحدى حملاته الحربية التي قادها بنفسه في فلسطين، وسيطرت مصر في بداية عصره على مناطق واسعة من فلسطين وسوريا ولبنان، وحاول أن يتصدى للنفوذ البابلي الصاعد لكنه فشل في ذلك بعد هزيمته في موقعة قرقميش التي تراجعت مصر بعدها إلى حدودها الطبيعية.


وتنسب إلى هذا الفرعون مشروعات ضخمة مثل الر حلة التي قام بها أسطول مصري فينيقي للدوران حول قارة أفريقيا بدء من البحر الأحمر بمحاذاة الساحل الشرقي للقارة حتى رأس الرجاء الصالح، ثم الصعود شمالًا بمحاذاة الساحل الغربي حتى المضيق المعروف الآن بمضيق جبل طارق والدخول عبره إلى البحر المتوسط للعودة إلى مصر مرة أخرى، كما ينسب إليه المؤرخ الإغريقي هيردوت الشروع في حفر القناة التي تصل بين النيل والبحر الأحمر، حيث يقول: "كان للملك بسماتيك ابن يدعى نخاو خلفه على العرش، وكان هو أول من بدأ حفر القناة التي تجري لتصب في البحر الأحمر، وكان دارا ملك الفرس ثاني ملك اهتم بها، وكان طولها أربعة أيام بالسفينة، وكانت تتسع لسير سفينتين فيها متحاذيتين، وكان ماؤها يخرج من النيل من فوق مدينة بوبسطة بمسافة قليلة، وتمر بمدينة باتوم، وتسير لتصب في البحر الأحمر، وهكذا فإن هذه القناة الطويلة التي التي تجري من الغرب إلى الشرق مخترقة الأودية الصغيرة حتى الخليج الغربي، وفي أثناء انشغال نخاو بالقناة المذكورة مات فيها مائة وعشرون ألف مصري، وقد أمر بوقف العمل بسبب ذلك، وكذلك نزل عليه وحي معترضًا سير العمل فيها قائلًا: إن همجيًا سينجزها".
 وقد انجزت هذه القناة أو ربما أعيد افتتحها في عهد الملك الفارسي دارا الأول حيث تشير إلى ذلك لوحة تذكارية ترجع إلى عام 518 قبل الميلاد. وقد كان الفرس أثناء احتلالهم لمصر يحتاجون إلى مثل هذه القناة لربط مصر بالعاصمة الفارسية بطريق بحري متصل.
 وقد أعيد حفر تلك القناة عدة مرات في عصور البطالمة والرومان والعرب إلى أن طمر الجزء الأكبر منها في بداية عصر الدولة العباسية كما يذكر المقريزي، ولم يعد المشروع إلى الوجود إلا مع دلسيبس.
 تُرى من هو الهمجي المقصود في نبوءة نخاو من هؤلاء الذين حفروا القناة؟
 ومشروع نخاو في ضوء رحلة الأسطولين المصري والفنيقي حول القارة الأفريقية كان يهدف بلا شك إلى ربط البحرين الأبيض والأحمر وليس النيل والبحر الأحمر فقط، وهكذا فعندما تم حفر قناة السويس التي تعد اليوم من أهم طرق الملاحة العالمية، كان ذلك إحياء لمشروع مصري قديم عمره من عمر مصر.
الدستور 23 أغسطس 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق