الثلاثاء، 30 مايو 2017

لو فعلوها لتغير وجه التاريخ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
لو فعلوها لتغير وجه التاريخ
عماد أبو غازي

 المتتبع لمشروعات ربط النيل بالبحر الأحمر بقناة صناعية يكتشف أن الفكرة لم تغب عن المصريين منذ زمن الدولة الوسطى على الأقل، وإن هذه المشروعات أدت بطريق غير مباشر إلى ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر معا عبر النيل.
 لكن الغريب في الأمر، إنه بعد ردم آخر خليج أمير المؤمنين في بدايات العصر العباسي لم تتكرر المحاولة مرة أخرى لإعادة حفر قناة جديدة، حتى في ظل عصور الاستقلال زمن الفاطميين والمماليك، رغم أهمية هذه القناة لمصر، والغريب في الأمر كذلك أن أخر من كتب عن هذه القناة المؤرخ تقي الدين المقريزي، الذي توفي قرب منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، والذي عاش في ظل حكم المماليك الـجراكسة، كان معاصرًا للزمن الذي كانت مصر فيه مركزا رئيسيا لطرق التجارة العالمية، فقد كانت تجارة مصر الخارجية مزدهرة حتى أواخر القرن الخامس عشر، وفي ذلك الزمن كانت عوائد تجارة المرور التي تعبر الأراضي المصرية تشكل المصدر الثاني لموارد الدولة بعد الزراعة، وتشكل مصدرا مهما لموارد سلاطين المماليك الشخصية في ظل سياسة الاحتكار التي اتبعوها منذ عصر السلطان الأشرف برسباي، وكانت سلطنة المماليك في حلف استراتـيجي مع جمهورية البندقية أقوى الدول التجارية في ذلك العصر، وقد قام هذا الحلف على أساس المصالح التجارية المشتركة ومواجهة التهديدات القادمة من الشرق ومن الغرب لمصالحهما المشتركة، فكان هناك العدو الواحد الذي بات يشكل تهديدًا لكلا الدولتين، أعني الدولة العثمانية الصاعدة، وكانت هناك من ناحية أخرى مهمة مواجهة طموح دول غرب أوروبا الصاعدة خاصة أسبانيا والبرتغال بكشوفهما الجغرافية الساعية للوصول إلى الشرق الأقصى عبر طريق بحري مباشر، يمكنهما من إنهاء الاحتكار المملوكي البندقي لتجارة الشرق.


 لقد كانت بقايا خليج أمير المؤمنين لا تزال موجودة ومعروفة لدى الناس باسم الخليج الحاكمي، وتاريخ الخليج وفكرته معروفة ـ على الأقل ـ لدى النخبة المحيطة بالسلطة، كما نستنتج من رواية المقريزي، فلماذا لم تقم مصر المملوكية عندما واجهت الأخطار الناجمة عن كشوف الأسبان والبرتغاليين البحرية، والتي كانت معروفة أيضا لدولة المماليك كما يتبين ذلك من قراءة ابن إياس المصري مؤرخ عصر سقوط دولة المماليك، بالتفكير في مشروع لإعادة شق خليج أمير المؤمنين لتربط طرق التجارة بين الشرق والغرب، ولتحبط مشروعات البرتغاليين والأسبان؟
 ولماذا لم تفكر جمهورية البندقية الحليف التجاري ـ القوي حتى ذلك الوقت ـ في ذلك المشروع؟
 إن المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الفترة سواء المصرية منها أو الإيطالية تشير إلى أن كل ما فكرت فيه جمهورية البندقية لمواجهة منافسة دول جنوب غرب أوروبا كان شرح الموقف الصعب الذي تتعرض له المصالح المشتركة للطرفين بسبب نجاح البرتغاليون والأسبان في الوصول إلى الهند والشرق الأقصى الضغط على سلطنة المماليك في مصر لتخفيض الرسوم الجمركية المفروضة على التجارة التي تمر عبر الموانئ المصرية، ومناشدتهم التخفيف من العوائق التي يواجهها تجار البندقية في مصر، تلك العوائق الناتجة عن الفساد والبيروقراطية، كذلك طالب البنادقة من سلطان مصر مخاطبة حكام الهند المسلمين ومناشدتهم عدم التعامل مع البرتغاليون والأسبان، وشرح مخاطر هذا التعامل على مستقبل الهند، إلا أن أيا من المصريين أو البنادقة لم يفكر في الحل الحاسم المتمثل في إعادة استكمال شق القناة الواصلة بين النيل والبحر الأحمر ليتصل بذلك الطريق مباشرة بين موانئ إيطاليا والهند عبر مصر، ويفقد بذلك كشف فاسكو دا جاما لطريق رأس الرجاء الصالح قيمته وأهميته.
 لقد قال لي أساتذتي الذين علموني التاريخ دوما: إن مثل هذه الأسئلة غير واردة في دراسة التاريخ، فالتاريخ بمفهومه التقليدي لا يعرف سؤال ماذا لو كان؟ التاريخ دراسة ما حدث بالفعل فقط، وليس دراسة ما كان يمكن أن يحدث!
 لكن لعبة السيناريوهات الوهمية والأسئلة الافتراضية في التاريخ لعبة ممتعة، لا أستطيع مقاومتها.
 لنفكر معا لماذا لم يقم المماليك والبنادقة بمثل هذا المشروع؟
 ربما يرجع إلى الأزمة السكانية التي كانت تعيشها مصر، فقد فقدت البلاد أكثر من نصف سكانها في سلسلة من الأوبئة والمجاعات منذ الفناء الكبير في أواخر عصر دولة المماليك البحرية لم تعد هناك أيدي عاملة تكفي لزراعة الأرض، فما بالنا بحفر قناة مات في حفرها بعد أربعة قرون عشرات الآلاف، وربما يرجع إلى ضعف الإمكانيات المالية للدولة، وربما يرجع إلى أن الدولة كانت تعيش أزمة النهاية التي فقدت فيها طاقاتها الإبداعية ومثل هذا المشروع كان يحتاج لعقلية مغامرة لا تمتلكها دولة شاخت وهرمت، وما ينطبق على دولة المماليك ربما ينطبق بدرجة أو بأخرى على جمهورية البندقية، التي سرعان ما زال مجدها بعد سقوط دولة المماليك بفترة ليست بالكبيرة.
 لقد عجز المماليك والبنادقة عن الإمساك باللحظة التاريخية، ولم يفكروا في مواجهة الأخطار المحيطة بهما بأكثر الطرق مباشرة، بمشروع "ثوري" لربط البحرين الأبيض والأحمر، في أعلى لحظة احتياج لهذا المشروع.
 عزيزي القارئ أطلق لخيالك العنان وتصور مصير العالم لو أنهم فعلوا ذلك، حقا لو فعلوها لتغير تاريخ مصر والمنطقة العربية بل وربما تاريخ العالم! لكن التاريخ لا يعرف كلمة لو، التي "تفتح عمل الشيطان" حسب المأثور الديني، والتي هي "حرف شعلقه في الجو" حسب المأثور الشعبي.

الدستور 13 سبتمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق