السبت، 27 مايو 2017

القناة لنا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
القناة لنا...
عماد أبو غازي

 لقد بدأت قصة مشروع قناة السويس في عهد سعيد باشا، عندما حصل الفرنسي فرديناند دليسبس في 30 نوفمبر 1854على عقد امتياز تأسيس شركة عامة لحفر قناة السويس واستثمارها لمدة 99 سنة تبدأ من تاريخ افتتاح القناة للملاحة، وكانت شروط العقد مجحفة بمصر.


 ويروي دليسبس كيف حصل على امتياز القناة من صديقه القديم سعيد باشا عقب توليه حكم مصر، بعد شهر من تقديمه للمشروع، عندما عرض عليه الفكرة أثناء رحلة عبر الصحراء من الإسكندرية إلى القاهرة، فيقول: "بعد أن قبل سعيد باشا المشروع استدعى قواد جنده، ودعاهم إلى الجلوس أمامه، وقص عليهم الحديث الذي دار بيننا، وطلب منهم أن يبدوا رأيهم في مشروع صديقه، فلم يكن من هؤلاء المستشارين وقد فاجئهم هذا الاقتراح، وهم أقدر على إبداء الرأي في مناورات الخيل منهم في التكلم عن مشروع عظيم لا يستطيعون فهم مراميه، إلا أن نظروا إلي بملء أعينهم، كأنما يريدون إفهامي أن صديق مولاهم الذي رأوه يقفز على الحواجز ممتطيًا جواده بمهارة فائقة لا يمكن إلا أن يدلي إلا بآراء صائبة، وكانوا أثناء الحديث يرفعون أيديهم إلى رءوسهم بين آن وآخر".
 وكان دليسبس أثناء رحلته مع سعيد باشا من القاهرة إلى الإسكندرية قد أبدى مهارة في ركوب الخيل واجتياز الموانع الطبيعية في الصحراء وهو ممتطيًا جواده، مما أثار إعجاب حاشية سعيد باشا وقادة جيشه بالصديق الأجنبي لمولاهم...
 وفي موضع آخر يذكر دليسبس أثر إعجاب هؤلاء القادة بفروسيته على قرارهم بالموافقة على مشروعه، تلك الموافقة التي لم تستغرق سوى أسابيع قليلة من الدراسة، لم تصل إلى شهر، في بلد كانت تتميز بيروقراطيته ونخبته العسكرية بالبطء القاتل في اتخاذ القرار، فما سر هذه السرعة المذهلة؟
يقول دلسيبس: "جمع سعيد باشا قواد جنده، وشاورهم في الأمر، ولما كانوا على استعداد لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم للرجل العالم المثقف انحازوا إلى جانبي، ولما عرض عليهم الباشا المشروع بادروا إلى القول بأنه لا يصح أن يرفض مشروع صديقه، وكانت النتيجة أن منحني الباشا ذلك الامتياز العظيم".
 بهذه البساطة حصل دليسبس على امتياز شق القناة، بهذه البساطة كانت النخبة الحاكمة تتخذ قرارًا يحدد مصير الوطن لسنوات طويلة.
  وبعد انتهاء مرحلة الدراسات التمهيدية للمشروع التي استغرقت عامًا وبضع أسابيع تم تعديل عقد الامتياز في 5 يناير سنة 1856 بشروط أكثر إجحافًا بمصر.
وفي 25 إبريل سنة 1859 توجه دليسبس بصحبة أعضاء مجلس إدارة الشركة إلى شاطئ البحر المتوسط بالقرب من الفرما، عند الموقع الذي أُنشئت فيه مدينة بورسعيد بعد ذلك، وفي احتفال كبير ضرب الرجل أول معول في الأرض إيذانًا ببداية حفر قناة السويس، الحفر الذي استغرق أكثر من عشر سنوات، ضرب فيها مئات الآلاف من الفلاحين المصريين ملايين المعاول، في ظروف عمل غير إنسانية وأوضاع قاسية، سقط عشرات الآلاف من الفلاحين، وتكبدت الخزانة المصرية أعباء مالية جسيمة بلغت أكثر من ستة عشر مليون جنيه.
 بعد تلك السنوات العشر افتتح الخديوي إسماعيل قناة السويس في احتفال تاريخي بدأ من مدينة بورسعيد يوم 16 نوفمبر سنة 1869، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ مصر وعلاقاتها الدولية.
 لقد أعاد مشروع قناة السويس مصر مرة أخرى إلى قلب الصراع الدولي، فبعد أن كانت أمور البلاد قد استقرت في أعقاب معاهدة 1840، عادت مصر مرة أخرى مسرحًا للتنافس الاستعماري وصراع المصالح بين الدول الأوروبية الكبرى.
 وقد دفع هذا الوضع كثيرًا من الساسة والمؤرخين المصريين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى القول بأن مشروع القناة كان نقمة على البلاد، بل أنه كان المسئول الأول عن أزمة الديون التي انتهت بالاحتلال البريطاني لمصر.
 ومنذ الإعلان عن عقد الامتياز تنبه القنصل الإنجليزي في مصر مستر بروس إلى أن حفر القناة "سيؤدي إلى ازدياد المواصلات التجارية بين أوروبا وبلاد الشرق، وسيترتب على ذلك أن تنشأ مراكز قانونية للدول الأجنبية في هذه البلاد، وسيؤدي هذا الوضع إلى أن تحدث منازعات بين تلك المراكز وشعوب الشرق، وسوف تكون هذه المنازعات ذريعة تتيح للدول الأوروبية التدخل المسلح والاحتلال الدائم للبلاد..."، وقد صدق بالفعل توقع القنصل الإنجليزي، فبدأ التنافس البريطاني الفرنسي على مصر من جديد، وبدأ التدخل الأجنبي في شئون البلاد، ذلك التدخل الذي انتهى بالاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882.
 وطوال سنوات الاحتلال التي جاوزت السبعين، وخلال كل المفاوضات التي دارت بين الحكومات المصرية المتعاقبة والحكومة البريطانية كانت قناة السويس وحماية الملاحة الدولية فيها من القضايا الشائكة المعقدة التي تؤدي دومًا بالمفاوضات إلى طريق مسدود.
 لقد كان الوجود العسكري البريطاني حول قناة السويس بدعوى تأمينها أمرًا مرفوضًا من المصريين الذين رأوا دائمًا ـ محقين في ذلك ـ أنهم قادرون على حماية القناة والدفاع عنها، وكان المطلب المشروع الذي رفعته الحركة الوطنية في مصر: "أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة"
وهو ما لم يتحقق إلا يوم التأميم.

الدستور 9 أغسطس 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق