الأحد، 21 مايو 2017

أحمد عبد الله... رمز جيلي... من أرشيف مقالاتي القديمة

 مخربشات
أحمد عبد الله... رمز جيلي
عماد أبو غازي
 مساء الثلاثاء الماضي السادس من يونيو قرب العاشرة مساءً بدأ رنين التليفونات بين مجموعة من الأصدقاء تحمل سؤالًا واحدًا، هل رحل أحمد عبد الله حقًا؟
 نعم رحل أحمد عبد الله السياسي والكاتب والمفكر، رحل القائد البارز للحركة الطلابية المصرية في مطلع السبعينيات، الرئيس المنتخب للجنة الوطنية للطلبة التي قادت الانتفاضة الطلابية في يناير 1972، إذن رحل رمز جيلنا، الجيل الذي اختلف أبناؤه كثيرًا وتفرقت بهم الطرق والمشارب، لكن أحمد عبد الله ظل نقطة الاتفاق بيننا.


 لقد عرفت أحمد عبد الله قبل أن أراه، ففي عام 1972 عندما انطلقت انتفاضة يناير كنت طالبًا في الثانوية، توجهت إلي وسط البلد لأشاهد ما يحدث، وكان اسم أحمد عبد الله كزعيم للطلبة يتردد بيننا نحن الذين لم نلتحق بالجامعة بعد محاطًا بهالات من البطولة، في العام التالي عندما التحقت بالجامعة كنت أنتظر على نار أن تنطلق المظاهرات لأشارك فيها، بعد أسابيع من بدء الدراسة ظهرت مجلات الحائط في الجامعة وبدأت حلقات النقاش السياسي حولها وتشكلت لجان الدفاع عن الديمقراطية، وبدأت المظاهرات داخل الجامعة والاعتصام في القاعة الرئيسية، ثم انطلقت المظاهرات يوم 3 يناير 73 إلى الشوارع، شاهدت أحمد عبد الله لأول مرة في أواخر عام 1972، رأيته يخطب في الطلاب ويقودهم يسيطر بإشارة على الاعتصام الذي يشارك فيه الآلاف، كان بالنسبة لنا نحن الوافدين الجدد على الجامعة بطلًا أسطوريًا، لم أكن أتصور أن أحدثه مباشرة، لم أعرفه عن قرب إلا بعد أن عاد من لندن وتوطدت العلاقة بيننا، أصبح باحثًا بارزًا ومتميزًا له عشرات الدراسات والأبحاث في العلوم السياسية والتاريخ وقضايا الشباب وعمالة الأطفال، لكنه ظل بالنسبة لي زعيم الطلبة، فأنا أنتمي إلى جيل تفتح وعيه السياسي مع هزيمة نظام عبد الناصر في يونيو 1967، كانت صدمة الهزيمة كافية لكي يفيق من كان منا غارقًا في الأوهام التي روج لها النظام الاستبدادي الذي تأسس عقب انقلاب يوليو 1952، وليدركوا أنه لا يمكن أن نستبدل "العدالة" الاجتماعية ولا الحلم الوطني بالديمقراطية، فالاستبداد لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفساد والخراب والهزيمة وضياع الوطن والمواطن.
 وعن هذا الجيل كتب أحمد عبد الله في مقدمة كتابه "الوطنية المصرية" الذي نشرته دار "ميرت للنشر والمعلومات"، سنة 2000، قال وهو يقدم نفسه وكتابه للقارئ: " ... جيل 1967، الجيل الشاب الذي داهمته هزيمة حرب الأيام الستة والتي دفع هذا الجيل ثمنها مباشرة بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن الأمة كلها، دفع ثمنها قتلى وجرحى وأسرى في ميدان القتال، وواصل دفع ثمنها سنوات طوال في التجنيد الإجباري، واستمر يدفع الثمن في صورة إحساس بالألم الحاد والمزمن من الجرح النازف لكرامة أمة مهزومة، خصوصًا أن الهزيمة جاءت نقيضًا مزلزلًا لشعارات قومية ووطنية عالية الضجيج حول الحرية والتحرير والعزة والكرامة، وما إلى ذلك من مصطلحات بددتها الحقيقة العارية للهزيمة نفسها، فقد أثبتت هذه الهزيمة أن تلك المصطلحات كانت كلها كلمات غير مكلفة بل مجانية تفوه بها دون تكلف مسئولون لم يعرفوا معنى المسئولية، فقبلها بسنوات كانت فكرة المسئولية نفسها قد ألغيت بإلغاء الحريات العامة والمؤسسات الرقابية المنتخبة في إطار ديمقراطي، ... نشأ هذا الجيل إذًا على الشعارات الوطنية فسرت في عروقه لكنها لم تتبخر مثلما تبخرت على ألسنة مطليقها حين تعرضوا لاختبار تجسيد الشعار، ففشلوا فيه بدرجة كبيرة كبر مساحة أرض سيناء التي ضاعت في سويعات، وما أن واتت هذا الجيل الفرصة لاندمال الجرح واسترداد الكرامة والأرض حتى اقتنصها وأبلى في حر ب أكتوبر 1973 بلاء حسنًا استدرك الأمر، لكن مرة أخرى اقتنص الطغاة أمجاد الحرب لأنفسهم فحكموا واستبدوا باسمها دون عرفان للمستحقين.
 لكن درسًا مهمًا خرج به هذا الجيل من هذه المحنة هو أن الوطنية ليست شعارات بل ممارسات وأن الوطنية بلا ديمقراطية لا تؤدي فقط للهزائم بقيادة مسئولين ممنوع أن يسألهم أحد، وإنما تؤدي لما هو أسوأ. تؤدي لتحول الوطن نفسه إلى خشبة مسرح يعرض عليها المشهد الهزلي لأمة مربوطة في سلاسل العبيد، وتلهب ظهرها سياط الحاكم الوطني البطل قائد المسيرة الذي يطلب من مواطنيه ـ أقصد عبيده ـ رفع أصواتهم المتغنية بنشيد "يحيا الوطن" أو بالأحرى "يحيا صاحب الوطن"، أي مالك الأرض والمال والناس ... باختصار مالك الملك من دون الله!
 ومثلما تحدى هذا الجيل الأعداء الغاصبين في ميدان القتال تحدى مالكي الملك من الحكام المستبدين في ميدان السياسة، فطالب بالديمقراطية بل فرض حريته في التعبير والحركة فرضا في المظاهرات الطلابية والعمالية في فبراير 1968 ثم نوفمبر 1968 ثم يناير 1972 ثم طوال العام الجامعي 72/1973 الذي مهدت انتفاضاته لحرب أكتوبر كقرار كان لابد من اتخاذه في ظل هذه الضغوط الهائلة لشباب الأمة.
 لقد كانت تجربة هذا الجيل مفعمة بالروح الوطنية، وبالروح القتالية من أجل تحرير التراب الوطني، وبالرابطة بين الوطنية المصرية والقومية العربية (خصوصا قضية فلسطين)، وبالتعاطف مع كل مناضلي التحرر الوطني في أرجاء العالم كافة، وحين تبنى نشطاء هذا الجيل أفكارًا وأيديولوجيات سياسية واجتماعية محددة بقيت الوطنية جوهر أفكارهم وانتماءاتهم".
 كانت هذه كلمات أحمد عبد الله وشهادته عن جيلنا ولجيلنا، وإذا كان الكثيرون منا قد رحلوا خلال السنوات الماضية، حتى اعتدنا الغياب بالموت، لكن رحيل أحمد عبد الله شيء آخر فقد كان رمز جيلنا وضميره.

الدستور 14 يونيو 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق