الخميس، 6 ديسمبر 2018

الثقافات الأفريقية وتحديات عصرنا... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثقافات الأفريقية وتحديات عصرنا
عماد أبو غازي
 إن قارتنا الأفريقية تواجه تحديات كبيرة، أغلبها ورثناه عن الحقبة الاستعمارية، وبعضها كامن في جذور تراثنا تراكم عبر الزمن وتفجر في لحظات الضعف.

في افتتاح الملتقى الأول للثقافات الأفريقية مايو 2010

لقد ترك لنا الاستعمار ميراثًا مثقلًا بالمشكلات في القارة، وقد نجحنا في تجاوز بعضه، لكن مشكلات جديدة ظهرت مع سنوات الاستقلال وتفاقمت، خرج الاستعمار وترك انقسامات عرقية وقبلية في كثير من بلدان القارة، وانقسامات دينية أحيانًا في بعض هذه البلدان، وقد أدت هذه الانقسامات إلى حروب أهلية سقط فيها مئات الألوف من الضحايا وشرد الملايين لاجئين عبر الحدود وأُهدرت الموارد وسقطت مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، وتداخلت الحروب الأهلية بالحروب الأقليمية بين دول القارة بسبب تداخل الامتدادات العرقية والقبلية عبر الحدود التي ورثتها القارة عن الحقبة الاستعمارية، وأقرتها منظمة الوحدة الأفريقية باتفاق دولها عند تأسيسيها في محاولة لتلافي انفجار الصراعات بين دول القارة.
 وإذا نظرنا إلى حال قارتنا في هذا العام الذي يمر فيه نصف قرن على موجة الاستقلال الكبرى لدول القارة سنجد حال القارة لا يسر، أفريقيا الغنية بمواردها وثرواتها تعجز شعوبها عن الاستفادة بتلك الموارد الضائعة المهدرة بين الفساد والصراعات والحروب، الأمراض والأوبئة تفتك بشعوب القارة، وبدلًا من أن نصارعها نتصارع فيما بيننا.  
 وإذا كان الساسة قد عجزوا على مدى نصف قرن من الاستقلال عن تجاوز تلك المشكلات، بل ربما فاقموها، فإن المثقفين قد يكون لهم دور في انطلاق القارة انطلاقه جديدة، وربما كان هذا التصور وراء اتجاه الاتحاد الأفريقي الذي حل محل منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاهتمام بالعمل الثقافي بصورة واضحة.
 وأظن أنه يقع على مثقفي القارة ومبدعيها عبء التصدى لكثير من هذه المشكلات من مدخل الثقافة، عليهم أن يسعوا لامتلاك زمام المبادرة من أجل تجاوز العوائق التي تقف أمام مسيرة شعوبنا، خاصة أن ثقافتنا تشكل ميزتنا التنافسية الأساسية في عالم اليوم.  
 إن الثقافة قوة دافعة للمجتمعات تمكنا من التصدي لكثير من المشكلات التي تواجهنا، فالثقافة آداة لتحقيق المشاركة المجتمعية وتنمية شعور الانتماء وتفعيل قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، والثقافة آداة لنشر قيم التسامح وقبول الآخر المختلف عرقيًا وقبليًا ودينيًا، والثقافة مدخل للترويج لقضايا النوع الاجتماعي عبر تقديم رسالة ثقافية تعلى من قيمة المرأة ودورها فى بناء المجتمع وفى تحقيق التنمية الشاملة، وهي في الوقت ذاته وسيلة لتأهيل الشباب والأطفال والأجيال الجديدة عمومًا للمشاركة المجتمعية عبر الثقافة، من خلال إدماجهم في الأنشطة الثقافية المختلفة، ومن خلالها يمكن المساهمة في خلق فرص جديدة للعمل والاستثمار من خلال التدريب الحرفى وتنمية المهارات للشباب في مجال الصناعات التقليدية والتراثية، بما يضمن الحفاظ على هذه الصناعات وعدم اندثارها من ناحية، ومواجهة البطالة بإتاحة فرص الاستثمار فى المشروعات الصغيرة أمام الشباب من ناحية أخرى.
  وإذا كان عصر العولمة قد شكل تحديًا جديدًا يضاف إلى تحديات كثيرة واجهنها، فيجب أن نجعل من معطيات العولمة فرصة جديدة تتيح لمثقفينا التعامل مع مشكلات القارة، وتتيح لثقافاتنا في القارة الأفريقية المزيد من الحضور العالمي والإسهام في رقي الإنسانية، إن قارتنا التي شهدت عبر تاريخها الممتد حضارات أسهمت في التراث الإنساني العالمي إسهاما إيجابيًا فعالًا تملك من الرصيد الحضاري والثقافي ما يؤهلها لمواجهة تحديات العولمة من خلال انتاج ثقافي قوي يؤكد هويتها  ويعزز مقومات شخصيتها، وتدافع عن خصوصيتها في ثقافة العصر الجديد وقيمه، لقد أصبحت الثقافة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الجديدة رهانًا ينبغي كسبه، فثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى قرية كونية صغيرة تفرض علينا أن نواجه التحدي الذي تفرضه والمتمثل في سيادة ثقافة الأقوى تقنيًا، خاصة بعد أن أصبحت الثقافة والمعرفة في الوقت الراهن قوة وسلطة وسلعة تفرض سيطرتها وتصدر عبر أنحاء العالم بواسطة الأقمار الصناعية من خلال الفضائيات والإنترنت، وأصبحت الصناعات الثقافية ذات مردود اقتصادي كبير يفوق أحيانًا عائد الصناعات التقليدية، إن المجتمعات النامية تواجه تحديات كبيرة تفرضها طبيعة الاقتصاد العالمي الجديد القائم على تقنية الاتصالات، وإذا لم نقم صناعاتنا الثقافية على أساس قوى فلن تقوم لنا قائمة، لكن هذا الأساس القوى لن يتحقق إلا بمزيد من الحرية الفكرية والشفافية، وبالتعاون بين الدول والمؤسسات الأهلية والمؤسسات الاقتصادية العاملة في مجال الصناعات الثقافية، وباحترام مبادرات المجتمع المدني، وبإشاعة ثقافة التسامح وتقبل الآخر، والاعتراف بالتنوع الثقافي الذي يعتبر من خصائص قارتنا، والتعددية التي نستطيع بجهودنا أن نجعل منها عنصر قوة وثراء، بدلًا من أن تكون عنصر ضعف وانقسام.
  لكل هذا تأتي أهمية عقد المؤتمرات والملتقيات الثقافية التي تجمع المثقفين من مختلف بلدان القارة، لتحقيق التفاعل فيما بينهم، وللناقش في قضايا واقع قارتنا الثقافي وطرح التصورات المختلفة من أجل مستقبل أفضل لأفريقيا من أجل مكانة تليق بهذه القارة.
الدستور 26 مايو 2010

الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

أيام أفريقية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
أيام أفريقية
عماد أبو غازي
 على مدى ستة أيام شهدت القاهرة لقاءات ثقافية أفريقية متواصلة، بدأت في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية بافتتاح مؤتمر "تفاعل الثقافات الأفريقية في عصر العولمة" الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة على مدار أربعة أيام، وشارك فيه أكثر من سبعين من مثقفي القارة الأفريقية ومبدعيها وباحثيها، من مصر والسودان وإرتيريا وأثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا وغانا والسنغال ونيجريا والنيجر ومالي وتشاد وموريتانيا والمغرب وتونس وليبيا.

كلمتي في افتتاح الملتقى الأول للثقافات الأفريقية
 وقد أعقب هذا المؤتمر، وعلى مدى يومين، اجتماع تشاوري تخطيطي للكوديسريا (مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا) لدراسة دمج اللغة العربية في اللغات المستخدمة في المجلس، في محاولة لتحقيق مزيد من التفاعل بين الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية في شمال القارة وباقي زملائهم، وقد شارك في الإعداد مركز البحوث الأفريقية العربية بالقاهرة، الذي يرأس مجلس الأمناء به المفكر الكبيرسمير أمين، ويديره واحد من الأسماء البارزة في مجال الدراسات الأفريقية بمصر، حلمي شعراوي.
 كانت أفريقيا في بؤرة الاهتمام الثقافي في القاهرة على مدى الأسبوع الماضي، أفريقيا التي غابت كثيرًا عن اهتمامتنا عادت مرة أخرى لتحتل مكانتها ضمن أولوياتنا الثقافية.
 لقد كان مؤتمر تفاعل الثقافات الأفريقية مجرد بداية، فالمؤتمر لن يكون الأخير، بل سيعقد بشكل دوري مرة كل عامين، وإذا كانت الدورة الأولى للمؤتمر قد اتخذت لها موضوعًا شديد العمومية باعتبارها بداية أولى للتفاعل والتعارف، فسوف تخصص كل دورة من دورات المؤتمر لمجال معرفي أو إبداعي، أو لموضوع بيني محدد.


 والاهتمام بأفريقيا ينبع من أفريقية مصر جغرافيًا وحضاريًا، فإذا كانت أفريقيا منبع الحضارة الإنسانية، بل منبع الإنسانية نفسها، فمنها خرج الإنسان الأول، وعلى أرضها ظهرت أقدم الحضارات على كوكبنا، فإن الحضارة المصرية القديمة تعد أقدم حضارات قارتنا المعروفة، وإذا كانت الحضارة المصرية قد تفاعلت طوال التاريخ مع حضارات البحر المتوسط وغرب آسيا وأثرت فيها وتأثرت بها، فإن جذور الحضارة المصرية جذورا أفريقية، كما أن تأثيرتها امتدت إلى داخل القارة أيضًا.
 ولما كانت الحضارة ـ أية حضارة ـ هي نتاج إبداع العقل والفكر الإنساني عندما يمارسان نشاطهما في حرية وتسامح وفي إطار حوار حر خصب مع الآخرين، فإنها لا تستطيع أن تعيش منعزلة عن غيرها من الحضارات، وبقدر ما يحمل تاريخ قارتنا من مشاهد للصراع الحضاري بقدر ما يحمل أيضًا صورًا للحوار والتفاعل، لقد قدمت قارتنا للعالم في عصور مختلفة نماذج لهذا الحوار، ففي داخلنا يكمن نسيج حضاري متميز، تشكل على امتداد قرون طويلة من تفاعل حضارات وثقافات عديدة امتزجت كلها لتقدم للبشرية انجازات رائعة فى شتى مجالات العلوم والفنون، لم تزل بعض شواهدها قائمة إلى يومنا هذا، وما زالت القارة تحمل إمكانيات كبيرة كامنة تتيح لشعوبنا فرص التطور والانطلاق.
 وأظن أن الثقافة مدخلًا مهمًا كي نحقق أحلامنا وآمالنا في مستقبل أفضل لقارتنا، فكما أكد تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، بحق، فإن: "الثقافة والقيم هما روح التنمية، فهما توفران زخمًا لها، وتيسران الوسائل اللازمة لتعزيزها، وتحددان تصور الناس لأغراضها وغايتها، إضافة لذلك فإنهما تساعدان على تشكيل آمال الناس ومخاوفهم، وطموحاتهم ومواقفهم، وأفعالهم اليومية، وتشكلان مُثل الناس، وتلهمان أحلامهم في حياة فاضلة لهم ولأجيالهم القادمة".
 هذا وتميل الرؤى الجديدة فى التنمية إلى أنه لتعزيز التنمية الإنسانية لابد من إيلاء اهتمام خاص بعدد من القيم التى تدفع بالتنمية إلى الأمام، مثل التسامح واحترام التنوع الثقافي، ومراعاة حقوق واحتياجات المرأة والشباب والأطفال، وحماية البيئة، ودعم شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الضعفاء، وعدم التساهل مع قضايا البطالة المفرطة، وتقدير قيمة المعرفة والتعليم، والاهتمام بالمفاهيم التى تؤدى إلى تحقيق الكرامة والرفاه الإنسانى.
 كما أن مفهوم التنمية لم يعد قاصرًا الآن على محاولة اللحاق اقتصاديًا بالدول الأكثر تقدمًا بقدر ما يهتم بالكشف عن قدرات الشعوب وإمكان استغلالها، الأمر الذي يعنى ضرورة التعرف على ثقافات الشعوب ودراستها دراسة عميقة لفهمها والاسترشاد بها، من أجل صياغة سياسات ثقافية تسهم في رقي شعوبنا، وتضع التنمية الشاملة لمجتمعتنا نصب عينيها.
 إن الربط بين إستراتيچيات العمل الثقافي وأهداف المجتمع التنموية بات ضرورة لازمة لتحقيق التنمية في ظل معطيات مجتمع المعرفة، إذ أن السياسة الثقافية لن تؤتى ثمارها ما لم نشارك جميعًا ـ مثقفون وأجهزة ثقافية ـ في دفع عجلة التنمية الشاملة، خاصة وأن أي خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تظل قاعدتها هشة ما لم تستند إلى تنمية ثقافية جذرية، تعتمد ديمقراطية الثقافة باعتبارها هدفًا ووسيلة في آن واحد.
 وللحديث بقية.
الدستور 19 مايو 2010