الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

قضية الليالي... مواقف ومواقف.... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
قضية الليالي... مواقف ومواقف
عماد أبو غازي
 في مواجهة الهجمة التي تعرضت لها "ألف ليلة وليلة"، وردا على دعاوى مصادرتها وملاحقة من أصدروها، وقف غالبية المثقفين في مصر موقفا موحدا ضد دعاوى المصادرة، وضد فرض الوصاية على العقول، وتحديد جماعة من الناس لنا ما نقرأه وما لا نقرأه.
 تقاربت معظم آراء المثقفين والمبدعين في الحوارات الصحفية والبرامج التلفزيونية والإذاعية، واتحدوا في رفضهم لاستئصال أجزاء من التراث، ورفضهم للحجر على حقنا في أن نقرأ ما نريد.
 وبادر اتحاد كتاب مصر إلى عقد مؤتمر أعرب فيه الاتحاد عن رفضه لمصادرة ألف ليلة وليلة، كما نظمت الهيئة المصرية العامة للكتاب ندوة ناقشت فيها ألف ليلة وليلة ودعاوى المصادرة شارك فيها عدد من النقاد والمبدعين رفضوا فيها موجات الظلام التي تحاول اجتياح ثقافتنا.
 وفي نفس الوقت أصدر رؤساء تحرير السلاسل التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة في اجتماع عقدوه برئاسة الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة قرارا بإصدار طبعة ثانية من ألف ليلة وليلة، بعد نفاد الطبعة الأولى، وقد صدرت بالفعل الأسبوع الماضي مذيلة بالحكم القضائي الصادر سنة 1986، والذي قضى برفض مصادرة ألف ليلة وليلة عندما أثيرت ضجة مماثلة حولها حينذاك، وكان حكم المحكمة باتا وقاطعا في أن ألف ليلة وليلة تراث إنساني لا يجوز المساس به.
 ورغم أن مواقف غالبية المثقفين والمبدعين كانت واضحة في رفضها لمنطق المصادرة والوصاية، إلا أن هناك من كان لهم موقف آخر.
 فهناك من رأى مثل الأستاذ الدكتور أحمد درويش "أن كتب الأدب شأنها شأن كتب العلم ليست متاحة وسهلة لكل الناس، فلا يعطى الكلام العلمي لغير المتخصصين، خاصة إذا كان من المراهقين"، ورغم أن الدكتور درويش يعود فيؤكد رفضه لمنع هذه الكتب لكنها يرى تحديدها "في إطار الطبعة المتخصصة للقارئ المتخصص".
 وفي الحقيقة فإن العالم قد تجاوز فكرة احتكار العلم والمعرفة على فئة من المجتمع دون غيرها منذ زمن بعيد، لقد حرر اختراع يوحنا جوتنبرج للمطبعة الإنسانية من سيطرة حفنة قليلة من السدنة للمعارف والعلوم، وأصبح العلم والأدب متاحا للكافة.
 وعندما طبعت هيئة قصور الثقافة ألف ليلة وليلة، أو بالأحرى أعادة نشر طبعة بولاق الصادرة للمرة الأولى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لم تطبعها للمراهقين أو للأطفال، إنما طبعتها طبعة عامة في آلاف قليلة من النسخ، ولا أعرف نموذجا سابقا في عصرنا هذا يحدد فيه سن من يمكن أن يطالعوا كتاب، أظن أن الأفلام السينمائية وحدها هي التي يتم تحديد سن لمشاهدتها بمعرفة أجهزة الرقابة، وحتى هذا القيد الرقابي يكاد يسقط مع انتشار التقنيات الحديثة في نسخ وتداول الأفلام، وتبقى مهمة الأجهزة الرقابية التنبيه ومهمة الأهل المتابعة، لكن الكتاب شيء آخر.
 وقد تعجبت من المقارنة بين الليالي والمخدرات في سياق التأكيد على أن الحرية ليست مطلقة، فمن المؤكد أن الحرية تحدها قيود عدم الإضرار بالغير أو بالنفس، لكني لا أظن أن الأدب مهما جاء فيه من عبارات يمكن أن يكون ضارا مثل المخدرات.
 أما عن تبسيط الأدب فهذا أمر آخر، وأظن أن ألف ليلة وليلة قد صدرت لها طبعات مهذبة وأخرى مبسطة، وثالثة للأطفال، لكن هذا لا ولن يلغي الاحتياج إلى وجود الطبعة الكاملة والتي تصدر في إطار سلسلة متخصصة في كتب التراث.
 أما القول: "إن هناك ألفاظا كانت مقبولة في وقت ما ـ ليس في الأدب وحده بل في الدين أيضا ـ وأصبحت الآن غير مقبولة"، فيدفع لطرح السؤال، مقبولة من من؟ وإذا كان هناك بضعة آلاف اشتروا ألف ليلة وليلة وقبلوها، وعشرات الآلاف غيرهم يشترون كتبا دينية ويقبلوها، فمن الذي يمكن أن يعطي لنفسه حق الوصاية على ذوق الناس.
 ومن حدد الذوق العام في الوقت الحالي؟ ومن يملك تحديد حساسيته من استخدام بعض الألفاظ الموجودة في ألف ليلة وليلة؟
 هل سيخدش حياء الذوق العام عبارات تأتي في سياق نص أدبي، وهذا الذوق العام يسمع ليل نهار أسوأ الألفاظ على قارعة الطريق!
 ثم يأتي كاتب في سياق تحفظه على موقف المثقفين المعترضين على مصادرة ألف ليلة وليلة ليتحدى "أن يقوم أحد المنتفضين ضد المصادرة بنشر مقاطع منها في مقال أو موضوع صحفي يقرأه العامة"، ويتساءل "إننا لم نسمع صوتا من اتحاد الكتاب أو غيره من مؤسساتنا الثقافية الرسمية حين جرت عملية ختان دامية لمناهج التعليم لحذف واستبعاد ما يعتبره من بيدهم الأمر ضد "ثقافة السلام"...لماذا نكون ضد المصادرة هنا ومع المصادرة هناك؟
 إنه نموذج لخلط الأمور ببعضها، من قال إن عبارة تأتي في سياق نص أدبي يمكن نشرها في مقال صحفي؟ ثم ما علاقة مناهج التعليم بالتراث الأدبي الذي ثار المثقفون دفاعا عنه؟ ومن قال إن مناهج التعليم لا تمس، إن طبيعة مناهج التعليم أن تتغير ويعاد النظر فيها بشكل مستمر، ومن الطبيعي أن يحذف منها ويضاف إليها، أما التراث الذي تركه لنا الأقدمون وإبداع المعاصرين، فلا يحق لأحد أن يمسه أو يفرض عليه وصايته.
الدستور 12 مايو 2010