الخميس، 31 أغسطس 2017

كرة الثلج... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
كرة الثلج
عماد أبو غازي
 كان الإنجليز يتصورن أن نفي سعد سيمر مثلما مرت تدخلاتهم السابقة، لقد عزل إسماعيل ونفي، ونفي أحمد عرابي ورفاقه بعد محاكمة سياسية، واختار محمد فريد الابتعاد عن الوطن تحاشيًا للاعتقال والسجن، وعزل الخديوي عباس حلمي الثاني ومنع من العودة إلى مصر، وفي كل هذه الحالات لم تشهد مصر احتجاجًا أو اعتراضًا له قيمة أو تأثير، لكن الحال هذه المرة كان مختلفًا، فإسماعيل وعباس حاكمين لا يهتم الشعب كثيرًا بأمر عزلهما أو نفيهما، وعرابي نفي بعد معركة خرج منها الشعب المصري مهزومًا ومنكسرًا فاقدًا لطاقة المقاومة لسنوات، أما محمد فريد فرغم حركة البعث الوطني التي بدأت مع بدايات القرن العشرين بقيادة مصطفى كامل، إلا أن تلك الحركة كانت محصورة إلى حد كبير في إطار النخبة السياسية وطلاب المدارس العليا.


 لكن الأمر كان مختلفًا تلك المرة، ففضلًا عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها مصر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، كان الوفد المصري قد نجح في حشد الشعب كله حول قضية الاستقلال من خلال حملة جمع التوقيعات على التوكيلات، لذلك عندما صحت مصر يوم 9 مارس على خبر نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة هبت ثائرة، ويروي عبد الرحمن الرافعي الذي كان معاصرًا للأحداث القصة في كتابه عن الثورة "ثورة 1919"، فيقول:
 "بدأت الثورة بمظاهرات سلمية ألفها الطلبة يوم الأحد 9 مارس، إذ أضربوا عن تلقي الدروس، وخرجوا من مدارسهم، وساروا بادئ الأمر في نظام وسكينة، تتقدمهم أعلامهم وهم يهتفون بحياة مصر والوفد المصري وسعد، وسقوط الحماية الإنجليزية.
 كان طلبة مدرسة الحقوق أول المضربين، فقد امتنعوا عن تلقي الدروس منذ صبيحة هذا اليوم، واجتمعوا في فناء المدرسة بالجيزة، يعلنون إضرابهم، فنصحهم المستر والتون ناظر المدرسة بالعدول عن الإضراب، وكان يخاطبهم بلطف فلم يستمعوا لنصيحته، فاستدعى المستر موريس شلدون إيموس، نائب المستشار القضائي البريطاني لوزارة الحقانية، فجاء على عجل، وكرر عليهم النصح بالعودة إلى دروسهم، ودعلهم إلى ترك السياسة لأبائهم، فأجابوه إن آباءنا قد سجنوا، ولا ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون."

 خرج طلاب مدرسة الحقوق إلى الشارع متظاهرين وانضم إليهم طلاب المهندسخانة والزراعة، ثم عبروا النيل وتوجهوا إلى مدرسة الطب بقصر العيني، فانضموا لهم، وذهب الجميع إلى مدرسة التجارة العليا بالمبتديان (التي يشغل مكانها الآن معهد التعاون) واتجهت المظاهرة الضخمة إلى ميدان السيدة زينب، فانضم إليها أثناء سيرهم طلاب دار الغلوم والتجارة المتوسطة ومدرسة القضاء الشرعي، كما انخرط في المظاهرات بعض طلاب المدارس الثانوية.  واشتبك المتظاهرون مع قوات البوليس التي كان يقودها الحكمدار الإنجليزي رسل، وانتهى اليوم بإلقاء القبض على 300 متظاهر أودعوا في قسم السيدة زينب، ومنه تم ترحيلهم إلى باب الخلق، ثم إلى القلعة ليلًا. ولم يسقط في هذا اليوم شهداء.
 في اليوم التالي امتدت الإضرابات والمظاهرات إلى الأزهر وباقي المدارس العليا والثانوية، وانضمت جموع الشعب إلى المظاهرات، وشهد اليوم الثاني للثورة إطلاق النار من جانب القوات البريطانية على المتظاهرين في منطقة الدواوين، وقد اختلفت الروايات التاريخية حول اليوم الذي سقط فيه أول شهيد مصري، لكن المؤرخ المدقق عبد الرحمن الرافعي بحسه القانوني سعى إلى تحقيق الوقائع، فراجع دفتر الوفيات بقسم السيدة زينب، وتيقن من تسجيل استشهاد "مصري مجهول"، كما راجع دفاتر مستشفى قصر العيني فوجد مسجلًا بها وفاة "غلام مجهول" يوم 10 مارس أيضًا، ومسجل أمام كل منهما أنه أصيب في مظاهرة.
 وقد شهد اليوم الثاني بعض أعمال تحطيم عربات الترام وواجهات بعض المحلات التي يملكها الأجانب، فأصدر طلاب المدارس العليا نداء إلى الشعب المصري يناشدونه فيه التوقف عن تحطيم المرافق العامة وعدم الاعتداء على ممتلكات الأجانب.
 كما أصدروا بيانا موجهًا للأجانب المقيمين في مصر يعتذرون فيه عما حدث، جاء فيه:
 "إلى حضرات إخواننا ومواطنينا الأجانب، قد تأسفنا نحن معاشر الطلبة المصريين مما وقع من الغوغاء عند قيامنا بمظاهراتنا السلمية التي ما قصدنا بها، إلا إظهار عواطفنا وشعورنا مع محبتنا لمواطنينا الأجانب الأعزاء، وهكذا فلنكن أحباء كما عشنا مدى الأزمان".
 في اليوم الثالث اتسعت الثورة، وأضرب سائقو الترام وسائقو الأجرة، فشلت حركة المواصلات في القاهرة، وأقفل معظم التجار محلاتهم، كذلك أغلقت البنوك والبيوت المالية أبوابها خوفًا من تكرار حوادث التعدي على المحال الأجنبية واتساعها.
 أما القيادة البريطانية فبادرت إلى إصدار إنذار شديد اللهجة للمواطنيين تذكرهم فيه بأن الأحكام العرفية ما زالت مفروضة في البلاد، وأن المحاكمات العاجلة تنتظر المتظاهرين والمتجمهرين.
 لكن الثورة كانت قد بدأت تتحرك، وكانت ككرة الثلج التي تكبر كلما تحركت.
الدستور مارس 2009


وعادت الروح... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
وعادت الروح
عماد أبو غازي


"إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة. ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم. والقوة في نفسه ولا يعلم. هذا شعب قديم. جئ بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجاريب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري.
 نعم هو يجهل ذلك. ولكن هناك لحظات حرجة تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته. هذا ما يفسر لنا تلك اللحظات من التاريخ التي نرى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت.. وتأتي بأعمال عجاب في طرفة عين."
 تحمل كلمات توفيق الحكيم في "عودة الروح" رؤيته لحال الشعب المصري، التي عبر عنها على لسان أحد شخوص روايته مسيو فوكيه عالم الآثار الفرنسي، في حواره مع مفتش الري الإنجليز مستر بلاك، وكلمات الحكيم تعبر بصدق عن حال الشعب المصري قبيل الثورة.

الحكيم
 فلم يكن الإنجليز يتصورون عندما منعوا سفر الوفد المصري لعرض قضية البلاد على مؤتمر الصلح، ولا عندما رفضوا سفر رئيس الحكومة رشدي باشا إلى لندن للتفاوض، لم يكونوا يتصورون أن الشعب يمكن أن يثور، كان مغروريين بقوتهم العسكرية وبأحكامهم العرفية التي توهموا أنها ستمنع الشعب من الحركة إذا أراد، لقد خدعهم موقف الشعب المصري أثناء الحرب العالمية الأولى، كان الإنجليز يخشون عندما أعلنوا حمايتهم على مصر وعزلوا عباس أن يثور المصريون، لكنهم لم يفعلوا، كان الإنجليز يخشون عندما دارت المعارك مع الأتراك على جبهة سيناء أن تنفجر مصر من الداخل وتهب لتساند تركيا، لكنها لم تفعل، اعتقد الإنجليز أن المصريين أضعف من أن يثوروا، وظنوا أن روح المقاومة قد ماتت فيهم، لم يدرك الإنجليز أن استبدال حسين كامل بعباس حلمي لا يشغل بال المصريين ولا يهتموا له، ولم يفطنوا إلى أن الدولة العثمانية لا تعني للمصريين شيئًا، وإنها لا تستحق أن يثوروا لأجلها، إن هذه الأمور لم تكن تشغل بال المصريين باستثناء قلة محدودة من النخبة السياسية والفكرية المصرية المعزولة عن الشعب المصري وهمومه الفعلية.
 أما ما حدث في مصر منذ يوم 13 نوفمبر سنة 1918 فكان أمر مختلف، لم يشعر الإنجليز ورجالهم في مصر وأعوانهم من المصريين بهذه الروح الجديدة، فتمادوا في غيهم، وزادوا في تعنتهم، وفي المقابل كانت روح المقاومة تسري بسرعة في النسيج المصري، وقيادة الوفد بزعامة سعد زغلول تزداد إصرارًا على المواجهة وتصعد من مواقفها طوال شهر فبراير سنة 1919، وحسين رشدي باشا رئيس الوزراء يقدم خطاب استقالة جديد للسلطان فؤاد في 10 فبراير سنة 1919 يكشف عن ما كان عليه ساسة ذلك الزمن من قوة موقف واعتداد وحفاظ على حقوق الوطن والأمة، قال رشدي باشا موجهًا خطابه للسلطان: "على أثر كتابي المرفوع إلى سدتكم العلية بتاريخ 30 ديسمبر سنة 1918 الذي ألححت فيه ذلك الإلحاح على عظمتطم بقبول استعفائي قد كنت رضيت من باب التوفيق بالاتفاق الآتي بيانه: وهو أن صاحب المقام الجليل المندوب السامي ينتهز فرصة سفره إلى لندرة فيشرح شفهيًا للحكومة البريطانية أنني بعد وصول الحالة إلى الحد الذي بلغته أصبحت لا أكتفي بما عرض عليّ وقتئذ من سفري أنا وزميلي عدلي باشا إلى لندره في النصف الأول من فبراير وإنني اشترط لسحب استعفائي شرطًا أساسيُا هو إباحة السفر إلى أوروبا لمن يطلب من المصريين، وكان من ضمن ذلك ورود جواب الحكومة البريطانية بالتلغراف في بحر مدة مناسبة من وصول المندوب السامي إلى إنجلترة... على أنه قد مضى عشرة أيام على الأقل بعد الوقت الذي لا بد أن يكون المندوب السامي وصل فيه إلى لندره، ومع ذلك فلم يصلني جواب ما، ويستحيل عليّ أن أقبل أي تأخير جديد، وإنني أُعتبر في حل من القيام ولو مؤقتًا بأي عمل، حتى ولو كان مستعجلًا... فأعود إلى التمسك بكتابي المشار... وألتمس من عظمتكم بكل إلحاح إنهاء حالة شاذة قد زاد طول العهد عليها".

رشدي باشا
 عقب الاستقالة قبلت الحكومة البريطانية دعوة رشدي وعدلي وحدهما إلى لندن، إلا أنهما رفضا السفر قبل السماح لأي مصري يرغب في السفر بممارسة حقه الطبيعي، فأضطر السلطان فؤاد إلى قبول استقالة الحكومة في أول مارس سنة 1919، وفي اليوم التالي وجه الوفد المصري خطابًا شديد اللهجة إلى السلطان فؤاد ينتهي بالعبارة التالية: "...دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاءً في استقلالها وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها، ويقف في صفها، فتنال بذلك غرضها، وإنه على ذلك قدير".


 وفي 4 مارس أرسل الوفد خطاب احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية في مصر يفضحون فيه السياسة البريطانية في البلاد، وبعدها بيومين استدعى الميجر جنرال وطسن قائد القوات البريطانية في مصر بالنيابة رئيس الوفد وأعضاءه إلى فندق سافوي بميدان سليمان باشا، حيث مقر القيادة وتلا عليهم إنذارًا بريطانيًا رسميًا بتطبيق الأحكام العرفية عليهم في حال استمرارهم في معارضة السياسة البريطانية.
 كان رد الوفد واضحًا في اليوم نفسه بإرسال برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس وزراء بريطانيا، قبل أن تمضي 48 ساعة، وفي يوم 8 مارس سنة 1919، كانت السلطات البريطانية قد ألقت القبض على سعد زغلول ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا وأودعتهم ثكنات قصر النيل، وفي اليوم التالي تم ترحيلهم إلى بورسعيد ومنها إلى مالطة منفيين بعيدًا عن الوطن، شاع الخبر بسرعة في العاصمة ومنها إلى الأقاليم، ما هي إلا ساعات قليلة وبدأت الثورة صباح الأحد 9 مارس سنة 1919، وكانت البداية من طلبة مدرسة الحقوق، واشتعلت نار الثورة في مصر من أقصاها إلى أقصاها.
 وصدقت كلمة الحكيم:
 "احترس... احترسوا من هذا الشعب فهو يخفي قوة نفسية هائلة".

الدستور 4 مارس 2009

الأربعاء، 30 أغسطس 2017

ووقف أحد السامعين... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ووقف أحد السامعين...
عماد أبو غازي
 قرر الوفد وزعيمه سعد ألا يفوت فرصة لمهاجمة الاحتلال والدعاية لقضية الاستقلال إلا ويستغلها أفضل استغلال، خصوصًا بعد أن صادرت السلطات العسكرية البريطانية الوفد ورجالها في الاجتماع بمنازلهم.


 وجاءت الفرصة على طبق من ذهب بمناسبة مناقشة مشروع قانون العقوبات الجديد الذي كانت سلطات الحماية البريطانية في مصر تعد لإصداره ضمن سلسلة من التعديلات التشريعية التي ترسخ سلطة الاحتلال في مصر وتجعل من نظامها القانوني نظامًا تابعًا، بما في ذلك إصدار قانون أساسي (دستور) جديد. وهي التعديلات المعروفة بقوانين برونيت نسبة إلى السير وليم برونيت مستشار دار الحماية البريطانية في مصر، وكان المستشارون الإنجليز يروجون لهذه التعديلات التشريعية ويقومون بالدعاية لها في الأوساط القانونية والتشريعية المصرية. وفي هذا السياق دعت الجمعية السلطانية للاقتصاد السياسي والتشريع والأحصاء لاجتماع في مقرها يوم 7 فبراير سنة 1919 لسماع المحاضرة مستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، وكان بريسفال قد ألقى محاضرة في نفس الموضوع في يوم 17 يناير، وتلك كانت محاضرته الثانية في نفس الموضوع.
 ذهب سعد وعدد كبير من أعضاء الوفد المصري لحضور الاجتماع ضمن حشد ضخم من رجال السياسة والقانون من بينهم عبد الخالق باشا ثروت وزير الحقانية، وبعد أن انتهى بريسفال من محاضرته التي ألقها بالفرنسية، إعتلى سعد منصة الخطابة وأعلن أن لديه ملاحظات على المحاضرة وعلى مشروع القانون، وتحدث بالعربية موضحًا أن بريسفال يعرف العربية، لكن الحقيقة أن سعد لم يكن يقصد بريسفال بحديثه، إنما كان هدفه جمهور الحضور وعبرهم كل أبناء الشعب المصري، كما أن نقد مشروع القانون الجديد لم يكن هدف سعد الأساسي من الحضور والتعليق بل طرح قضية الاستقلال من خلال مناقشة هذا القانون، إنه أسلوب في النضال السياسي يتبعه المناضلون عندما تضييق عليهم السلطات سبل التعبير عن أرائهم، ابتدعه سعد وسار على خطاه أجيال وأجيال إلى يومنا هذا.
 استهل سعد كلمته قائلًا:
 "أيها السادة، إني أشكر المحاضر على ما قاله من أنه يريد أن يكون لمصر في المستقبل شرع خاص، ولكني أقول لحضرته إن هذا الشرع موجود فعلًا منذ أمد بعيد، إن أمتنا المصرية ليست من قبيل الأقوام الهمج الذين ليست لهم شرائع مقررة، إنما بلد كبلدنا تكون له حياة عريقة في القوانين والشرائع فإن من الخطر أن يعمد إلى تغيير كلي في شرعه بدون أن تدعو الضرورة لذلك أو تهدي إليه التجربة والاختبار، إن قانون العقوبات المصري المأخوذ عن القانون الفرنسي جرى عليه العمل منذ زمن طويل، فهو جزء من محصولنا القانوني تشربته أفئدة قضاتنا ومحامينا، وسرى في أخلاق الأمة سير الدم في الجسد..."
 وانطلق سعد بذكاء شديد من المناقشة القانونية إلى المناقشة السياسية، فانتقد استخدام الجمعية العلمية وسيلة للترويج لقبول الأمة بهذا التشريع وتمريره دون عرضه على الجمعية التشريعية، ثم انتقل إلى مهاجمة القانون لأنه يستند في مواده على حالة الحماية، وقال عن الحماية إنها: "حالة سياسية لا وجود لها الآن بمصر"... واستطرد قائلا: "إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة 1840، واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى، وعبثًا يحاولون الاعتماد على ما حصل من تغيير هذا النظام السياسي أثناء الحرب، إنكم أيها السادة تعلمون وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب أحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلًا".
 وأكد على أن الحماية التي أعلنتها بريطانيا من جانب واحد في سنة 1914 باطلة لا وجود لها قانونًا، وإنها كانت ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها...
 وقد قضت كلمة سعد على مشروع برونيت تمامًا.
 واستقبلت الكلمة استقبالًا حماسيًا من الحاضرين، وسرعان ما ذاع خبرها وانتشر نصها بين المصريين، وأصبحت حديث الأمة، رغم تجاهل الصحف لها بسبب الرقابة والأحكام العرفية، لدرجة أن جريدة وادي النيل التي كانت تصدر في الإسكندرية أشارت إلى الموضوع في خبر مقتضب بعنوان: "في جمعية الاقتصاد والتشريع" جاء فيه: "ألقى المستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية بعد ظهر الجمعة الماضية بقية محاضرته الخاصة بالتشريع المصري الجديد في جمعية الاقتصاد والتشريع، وبعد أن انتهى من إلقائه وقف أحد السامعين وبسط بعض ملاحظات ثم انفض الاجتماع".

الدستور 25 فبراير 2009

الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

طريق الثورة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
طريق الثورة...
عماد أبو غازي
 تطورت الأمور بسرعة خلال شهر يناير 1919 لتشق طريق الثورة، كان يوم 18 يناير الموعد المحدد لافتتاح مؤتمر الصلح في باريس يقترب، ولا توجد بشائر لحل أزمة سفر الوفد المصري إلى الخارج، سواء إلى لندن للتفاوض مع الحكومة البريطانية، أو إلى باريس لعرض القضية المصرية أمام المؤتمر الذي كان يفترض أن يرسم خريطة العالم ما بعد الحرب.

جورج لويد وكليمنصو وأورلاندو وويلسون
قادة الدول المنتصرة
 بات واضحًا أن رسائل الوفد لم تجد نفعًا، لا رسائله إلى المعتمد البريطاني في القاهرة، ولا تلك التي أرسلها سعد إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، كذلك لم يحرك سفراء الدول الأجنبية في القاهرة الذين خاطبهم الوفد ساكنًا، إذًا لا أمل في مساندة خارجية للقضية المصرية دون حركة الشعب، هذا ما أدركه سعد ورجال الوفد.
 بدأ الوفد أسلوبًا جديدًا في التحرك، الاتجاه إلى الداخل من أجل الضغط على الخارج، كان حشد الجماهير قد بدأ بالفعل منذ اليوم الأول لتشكيل الوفد من خلال حركة جمع التوكيلات التي قدمت نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، ومن ناحية أخرى كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدًا على كل محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت حركة جمع التوكيلات قد مهدت الأرض أمام دعوة الوفد، لكن عدم الترخيص للوفد بالسفر كان يحتم على قادته التحرك بشكل أوسع بين الشعب.
 ولما كانت الأحكام العرفية (حالة الطوارئ) مطبقة، ويحول تطبيقها بين الوفد وتنظيم اجتماعات جماهيرية، فقد اتبع قادة الوفد خطة بديلة تقوم على تنظيم لقاءات واسعة في منازلهم، وكانت البداية بدعوة من حمد باشا الباسل لاجتماع في منزله القريب من بيت الأمة يوم 13 يناير 1919، وحضر الاجتماع عدد كبير من الساسة والكتاب وأعضاء الهيئات النيابية والأعيان، وألقى سعد زغلول أول خطاب "جماهيري" له بعد تشكيل الوفد المصري، وقد صادف الاجتماع مرور شهرين على الزيارة التاريخية التي قام به سعد ورفيقيه لدار المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918، والتي كانت نقطة البداية لأكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر الحديث.


 وفي خطابه أكد سعد على أن المطالبة بالاستقلال ليست جديدة على المصريين، فقد بدأت عقب الاحتلال مباشرة، وروى قصة تشكيل الوفد ومنعه من السفر، وتحدث عن مؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الأمريكي ولسن، ثم شرح مطالب الوفد في الاستقلال التام، وأكد أن هذا الاستقلال يشمل السودان كما يشمل مصر باعتبارهما من وجهة نظر الوفد كيان واحد، وتحدث بإسهاب عن الأجانب في مصر في محاولة جديدة لطمأنتهم، وأشار إلى حاجة مصر لوجود الأجانب وإلى أهمية استمرار الامتيازات كمرحلة انتقالية، وأكد أن الامتيازات لا تتنافى مع الاستقلال، وختم خطابه باقتراح إرسال برقية إلى الرئيس الأمريكي باسم المجتمعين يحيونه فيها ويعلنون تأييدهم لمبادئه، ولم يكتف سعد بإلقاء خطابه في حشد واسع، بل قام الوفد بطبع الخطاب وتوزيعه على أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم.
 الطريف في الأمر أن الصحف الخاضعة للرقابة لم تشر إلى خطاب سعد، ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 أن ما أوردته صحيفة الأهرام في عدد 14 يناير كان "نبذة عابرة لا يفهم منها شيئ"، قالت الأهرام في خبرها الذي أنقله بنصه من كتاب الرافعي:
 "دعا أمس حمد الباسل باشا العضو في الجمعية التشريعية جماعة كبيرة من أعيان العاصمة والأقاليم إلى تناول الشاي في منزله بشارع الداخلية، فلبى دعوته نحو 159 ذاتًا ووجيهًا وأديبًا، وضرب في حديقة داره الواسعة سرادقًا جميلًا نسقت فيه الكراسي والمقاعد والأخونة على أجمل طراز، ثم قدمت الحلوى وأطايب المآكل للحاضرين مع الشاي والقهوة، فقضوا جميعًا من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة بأطيب الأحاديث، ثم انصرفوا رويدًا رويدًا وجماعات جماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه، وكان سعادته وشقيقه وآله يقابلون المدعوين بما فطروا عليه من اللطف والكرم العربي، ويمتعون أسماعهم مع أصدقائهم وصحبهم بما يشنفها، وتمنى الكل لو كثر مثل هذا الاجتماع الكبير".
 هذا بعض ما تفعله الرقابة بالصحف!
 استمرت الأمور في تصاعدها وقدم رشدي باشا رئيس الوزراء استقالته تضامنا مع الوفد واحتجاجًا على منع الوفد الرسمي والوفد الشعبي من السفر، لكن السلطان فؤاد رفضها، وقامت بريطانيا باستدعاء مندوبها السامي السير ونجت إلى لندن للتشاور معه في أحوال البلاد، فغادر مصر عن طريق بور سعيد يوم 21 يناير.
 فكر سعد في تكرار تجربة اجتماع دار الباسل باشا، فدعا إلى اجتماع في بيت الأمة يوم 31 يناير 1919، لكن السلطات البريطانية قررت منع الاجتماع، وبالفعل أرسل الميـﭼور ﭼنرال واطسن قائد القوات البريطانية خطابًا إلى سعد باشا قبل الاجتماع بأربعة أيام يطلب منه إلغاء الدعوة، وقد نشر الرافعي نص الخطاب الذي يقول فيه واطسن:
 "علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعًا في منزلكم بمصر في 31 الجاري يحضره نحو الستمائة أو السبعمائة شخص، وإني أرى إن مثل هذا الاجتماع قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء على هذا الأعلان الصادر تحت الأحكام العرفية المعلنة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1914، أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع".

 وأرسل سعد اعتذارًا إلى المدعوين يبلغهم فيه أن الاجتماع ألغي بأمر السلطة العسكرية، وفي نفس الوقت أرسل الوفد برقيتي احتجاج إلى رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، وأعقبهما ببرقية إلى ﭼورﭺ كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي كان رئيسًا لمؤتمر الصلح للمطالبة بضرورة عرض القضية المصرية على المؤتمر.
 وهكذا سدت السلطات العسكرية البريطانية منفذ الاجتماعات الحاشدة في المنازل فماذا فعل الوفد؟

 الدستور 11 فبراير 2009

الاثنين، 28 أغسطس 2017

الشعب أسير في بلده... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الشعب أسير في بلده...
عماد أبو غازي
"كان الشعب المصري أسيرًا داخل حدوده".
 هكذا وصفت مجلة أوروبا الجديدة حال الشعب المصري عقب الحرب العالمية الأولى، لقد انتهت الحرب لكن الأحكام العرفية ظلت قائمة في البلاد، لم يكن أحد من المصريين يستطيع السفر إلى خارج البلاد إلا بتصريح من السلطة العسكرية البريطانية، حتى لو كان المسافر الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية سعد زغلول، بل أن رئيس الوزراء المصري حسين باشا رشدي كان هو الآخر يحتاج لمثل هذا التصريح، وعندما تقدم هو وعضو حكومته عدلي يكن باشا بطلب للسفر لإنجلترا للتفاوض، ماطلتهما سلطات الاحتلال مثلما ماطلت سعد وصحبه.
 ويقول المؤرخ المصري المعاصر للثورة محمد صبري السوربوني في كتابه: "الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة" واصفًا حال البلاد:
 "إذا كانت إنجلترا قد استطاعت حبس شعب من أربعة عشر مليون نسمة، إلا أنها عجزت عن خنق صرخته التي كانت تعلو، لكنها نجحت في الوصول بإحباطه وآلامه إلى أعلى درجة. لقد أصبحت مصر بإرادة إنجليزية كالإناء المكتوم... أماني مرتعشة، وانفعالات تغلي، وغضب يعتمل.
 وكانت أوروبا تجهل كل هذا، ألم يكن وادي النيل بالنسبة لها غير مستعمرة إنجليزية؟
 كانت وزارة الخارجية البريطانية تعلم ذلك، ولكنها كانت تأمل معالجة المرض بإنكار وجوده. إنها سياسة تبسيطية ذات نتيجة مدمرة".
 وبالفعل كانت مدمرة... مدمرة لخطط بريطانيا في السيطرة على مصر...
 عقب رفض الإنجليز التصريح بسفر الوفد المصري إلى الخارج لعرض القضية المصرية، والمماطلة الواضحة في سفر رئيس الوزراء بدعوى إنشغال وزير الخارجية البريطاني بالاستعدد للسفر لمؤتمر الصلح أخذت الأمور في مصر تسير في مسارات أخرى.

السير وينجت
 بدء سعد زغلول حملة مضادة لمنعه من السفر، فأرسل خطابًا إلى السير ونجت المندوب السامي البريطاني يوم 3 ديسمبر 1918 يسجل فيه احتجاجه وأعضاء الوفد على منعهم من السفر، وأكد في رسالته بشكل واضح على أن الوفد يتحرك في ضوء الوكالة التي منحتها له الأمة مرسيًا مبدأ جديدًا في السياسة المصرية يلتزم فيه المفاوض المصري برأي الشعب الذي أوكل له المفاوضة باسمه، فقال: "...ليس في وسعي، ولا في وسع أي عضو من أعضاء الوفد، أن يعرض اقتراحات لا تكون مطابقة لإرادة الأمة المصرية المعبر عنها في التوكيلات التي أعطيت لنا"... ويرى الدكتور عبد العظيم رمضان في تحليله لخطاب سعد أن هذا الخطاب يؤكد على رفض الوفد المصري للتفاوض على أساس الحماية، ويعتبر الدكتور رمضان أن هذا الرفض "دليل على فساد الرأي القائل بأن الاستقلال الذي كان يطالب به الوفد هو الاستقلال الذي لا يتعارض مع الحماية".
 ولما كانت خطوات الوفد تتم كلها بالتنسيق مع رئيس الوزراء، فقد أرسل سعد رسالة إلى حسين رشدي باشا في اليوم التالي يبلغه فيه بتطورات الأمور ويطلب منه الضغط من أجل سفر الوفد، لكن حسين رشدي نفسه كان ممنوعًا من السفر.

ديفيد لويد جورج
 ولم يكتف سعد بمخاطبة رئيس الوزراء المصري الذي لم يكن يملك من أمر نفسه شيئا مثله مثل سعد، فأرسل في نفس اليوم برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، وقال في برقيته: "إن الأمة المصرية بأسرها، من أكبر وزير إلى أصغر فلاح محبوسون داخل حدود بلادهم، ولا يسمح لأحد منهم بالخروج من هذا الحصار الشديد"...
 ثم بدء الوفد اتجاهًا جديدًا بتدويل القضية وإخراجها من الجدل ثنائي الأطراف، الجدل المصري البريطاني، فأرسل الوفد نداء إلى معتمدي الدول الأجنبية لإعلانهم بتأليف الوفد وأهدافه، وبتعنت السلطات العسكرية البريطانية تجاهه، ويختلف المؤرخون حول تاريخ هذا النداء فيذكر عبد الرحمن الرافعي أنه كان في يوم 6 ديسمبر 1918 بينما يشير أحمد شفيق إلى أن النداء صدر يوم 10 يناير 1919، وقد حدد النداء بوضوح مطالب الوفد المصري التي هي في ذات الوقت مطالب الأمة التي وكلت الوفد في الحديث باسمها.
 وركز النداء على مطلبين رئيسيين أولهما الاستقلال التام الذي يعد حقًا طبيعيًا للأمم، وأكد النداء أن مصر لم تهمل قط أمر المطالبة بهذا الاستقلال بل سفكت في سبيله دم أبنائها في ميادين القتال، وقد حاول النداء أن يربط هذا الاستقلال عن بريطانيا بسعي المصريين لتحقيق استقلالهم عن تركيا منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مرسخًا بذلك للمنهج المصري في الحركة الوطنية الذي يخالف منهج الحزب الوطني الذي قام في البداية على مماحكة قانونية تعتمد على السيادة الرسمية للدولة العثمانية على مصر. أما المطلب الثاني فكان الحكومة الدستورية.
 وفي نفس الوقت أكد النداء على تعهد مصر المستقلة الدستورية باحترام امتيازات الأجانب، والتزامها بنظام للمراقبة المالية يتم الاتفاق عليه ويتولى الأشراف على تطبيقه صندوق الدين العام، كما أكد النداء على استعداد مصر لقبول الاحتياطات التي تراها الدول للحفاظ على حياد قناة السويس.
 وانتهى النداء إلى أن مصر "تعتبر نفسها حائزة لأكبر شرف بوضع استقلالها تحت ضمانة جمعية الأمم، تشترك بهذه المثابة بقدر ما لديها من الوسائل في تحقيق مبادئ العدل والحق على النمط الحديث".

الرئيس ويلسن
 وفي نفس الوقت أرسل سعد زغلول برقية إلى الرئيس الأمريكي ويلسن يطلب إليه تحقيق مسعى الوفد في السفر لحضور مؤتمر الصلح في باريس، ليعلن بذلك عن توجه جديد للحركة الوطنية المصرية.

الدستور 4 فبراير 2009

السبت، 26 أغسطس 2017

الوفد وكيل الأمة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الوفد وكيل الأمة
عماد أبو غازي
  انقطع بنا الحديث عن الثورة المصرية الكبرى، ثورة 1919، عند الحركة الواسعة التي عمت مصر كلها في نوفمبر سنة 1918، تلك الحركة التي بدأت بزيارة سعد ورفيقيه لدار المعتمد البريطاني للمطالبة بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لهم بالسفر إلى لندن للتفاوض في أمر مستقبل مصر، والتي أسفرت عن تشكيل الوفد المصري، ليعمل بالتنسيق مع حكومة حسين باشا رشدي، ثم كان انطلاق حركة جمع التوقيعات على التوكيلات للوفد من الأمة بداية للحشد الشعبي خلف الوفد، ويبدو أن سلطات الاحتلال البريطاني لم تدرك للوهلة الأولى خطورة الحركة، ولم تكن تتصور الاستجابة الشعبية الهائلة لسعي الوفد المصري من أجل تحقيق استقلال البلاد، لكن التوكيلات وصلت إلى 2 مليون توكيل في شعب كان تعدده 14 مليونًا، وفقًا لما ذكره المؤرخ المصري المعاصر لأحداث الثورة محمد صبري الشهير بالسوربوني، في الجزء الأول من كتابه "الثورة المصرية" الذي ألفه بالفرنسية أثناء الثورة، وصدر في فرنسا في إطار حملة الدعاية للثورة التي نظمتها الجمعية المصرية بباريس.


 لقد أثبت نجاح حركة التوكيلات إجماع الأمة على الالتفاف حول الوفد المصري ومؤازرة مطالبه بالسفر إلى إنجلترا وفرنسا للدفاع عن القضية المصرية وعرض مطالب الأمة.
 كانت السلطات البريطانية في مصر تكتفي بالمماطلة في الرد على طلب سعد وأعضاء الوفد المصري بالسفر، وتمنيهم بأن الأمر محل دراسة، نفس الشيئ فعلته مع رشدي باشا وعدلي يكن باشا، لكن اتساع حركة التوقيع على التوكيلات وانضمام ضباط الجيش والموظفيين العموميين لها، ومباركة الحكومة للحركة دفعت السلطات البريطانية لتغيير موقفها، فقد شعرت سلطات الاحتلال البريطاني بخطورة الحركة فقررت التصدي لها، فأصدر المستر هينز المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية أوامره إلى مديري المديريات باستخدام القوة لمنع حركة التوقيعات وبمصادرة التوكيلات.


 وجاء رد سعد زغلول في رسالة وجهها إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية يوم 23 نوفمبر 1923 أوردها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919، قال فيها:
 "حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية
 أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفى على دولتكم أنه على أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمى وشركاؤها لتحقيقها، ألفت مع جماعة من ثقات الأمة ونوابها وأصحاب الرأي فيها وفدًا لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقًا لتلك المبادئ السامية، لذلك شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص، فوق ما لكثير منا من النيابة العامة، فأقبل الناس على إمضاء هذا التوكيل إقبالًا عظيمًا مع السكينة والهدؤ، هذا أقل مظهر نعرفه من مظاهر الإعراب عن رأي الأمة في مصيرها، لكنه قد اتصل بنا أن وزارة الداخلية قد أمرت بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات، ونظرًا إلى أن هذا التصرف يمنع من ظهور الرأي العام في مصر على حقيقته، فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا العظمى وشركائها، وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل، ألتمس من دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع، وإذا كانت هناك ضرورة قصوى ألجأت الحكومة على هذا المنع، فإني أكون سعيدًا لو كتبتم لي بذلك حتى نكون على بصيرة من أمرنا، ونساعد الحكومة بما في وسعنا على الكف عن إمضاء تلك التوكيلات.
 وفي انتظار الرد تفضلوا يا دولة الرئيس بقبول شكري سلفًا على تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم العظيم.
 الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد المصري
سعد زغلول"
 وعندما بلغ قيادات الوفد قيام السلطات بمصادرة التوكيلات الموقعة، أرسل سعد خطابًا ثانيًا إلى رشدي يوم 24 نوفمبر 1918 يشكو فيه من "أن رجال الحكومة لم يقتصروا على منع التوقيع على التوكيلات بل تجاوزوه إلى مصادرة ما تم التوقيع عليه منها..."
 ووفقا لتفسير الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه "تطور الحركة الوطنية" فإن الهدف من الخطابين كان إثبات واقعة المصادرة أكثر مما كان الهدف منهما وقف إجراءات منع حركة التوكيلات.
 وفي اليوم التالي يوم 25 نوفمبر 1918 رد حسين باشا رشدي على سعد زغلول مؤكدًا أن المصادرة جاءت بأوامر من المستشار البريطاني استنادًا إلى استمرار الأحكام العرفية...
  واستمرت حركة التوكيلات فقد شعر رجال الإدارة أن الحكومة توافق عليها وتساندها فتراخوا في التصدي لها.
 وفي يوم 28 نوفمبر 1918 أرسل سعد إلى السلطات العسكرية البريطانية يستعجل التصريح له بالسفر، فجاءه الرد بعد يوم واحد بأنه "قد عرضت صعوبات تمنع من إجابته إلى طلبه في الوقت الحاضر، ومتى زالت تلك الصعوبات تبادر بإعطائه وصحبه الجوازات التي يطلبونها..."
 كشف الجواب نوايا السلطة العسكرية البريطانية تجاه قضية سفر الوفد المصري، ومدى استهانة سلطات الاحتلال بالشعب وبإرادته، فخاطب سعد المندوب السامي البريطاني في نفس اليوم مطالبا إياه بتذليل الصعوبات أمام سفر الوفد المصري ليتمكن من الوصول إلى لندن قبل موسم الأعياد في الأسبوع الأخير من ديسمبر، عندئذ أسفرت دار الحماية عن موقفها وأبلغت سعد بخطاب رسمي في 1 ديسمبر برفض سفره هو وزملاؤه، وإن عليهم أن يقدموا تصوراتهم كتابة إلى المندوب السامي البريطاني بمصر، على أن لا تخرج تلك المقترحات عن الخطة التي رسمتها الحكومة البريطانية لمستقبل مصر.

الدستور 28 يناير 2009

الخميس، 24 أغسطس 2017

... ولحق برفيقه... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
... ولحق برفيقه
عماد أبو غازي
 كان الأسبوع الماضي أسبوعًا لوادع الراحلين، جاءت البداية بخبر مفاجئ برحيل المفكر الاشتراكي محمود أمين العالم صباح السبت، والخبر كان مفاجأة لأن العالم كان قبلها بأيام قليلة يحضر صالون عبد الرحمن بدوي ويناقش بحيويته المعهودة، ولم يكد ينتصف الأسبوع وقبل أن نجتمع في عزاء راحلنا الكبير، حتى غاب عنا روائي وقاص مبدع ينتمي إلى جيلنا، جيل السبعينيات، يوسف أبو رية الذي ظل يصارع المرض لشهور، وما كاد الأمل في إمكان إجراء جراحة زرع الكبد له يقترب إلا وكان الموت قد غدره، فرحل تاركًا لنا سبع مجموعات قصصية وخمس روايات وأربعة كتب للأطفال وذكرى طيبة لإنسان جميل لا ينسى.


 في عزاء محمود أمين العالم يوم الثلاثاء كان السؤال الملح على الجميع عن رفيق دربه عبد العظيم أنيس، ولم ينته الأسبوع الذي بدأ برحيل العالم قبل أن يرحل أنيس لاحقًا بزميله ورفيق نضاله، غريب جدًا أمر هذه الحياة، جمعت بينهما مواقف عديدة في مشوارهما الذي جاوزا فيه الثمانيين، ولد العالم عام 1922 وولد عبد العظيم أنيس بعده بعام، جمع بينهما الأصل القاهري، في الاحتفاء بأنيس منذ بضع سنوات قال العالم عنه ضمن ما قال عن علاقتهما التاريخية: "...عبر السنوات الـ 50 لصداقتنا المشتركة شعرت أنها لم تكن علاقة معايشة فقط ولكنها حقيقة موضوعية، فقد ولدنا بحي الازهر وتعلمنا في مدرسة واحدة ثم فصلنا من المدرسة، وعندما فتح باب المجانية عدنا إلى المدرسة ثانية حتي التقينا في العام 1935 في معركة ضد النحاس باشا وضد الانجليز، تلك المظاهرة التي اعتقل فيها الدكتور أنيس لأول مرة وهو مازال صغيرًا، ثم ابعدتنا الحياة والتقينا في الأربعينيات حيث كان المناخ متوترًا محملًا بروح ثورة قادمة، ثم عينا بالجامعة وفصلنا منها أيضًا وسافر كل منا في طريق..."
 جمعت بينهما النشأة، وجمع بينهما الاهتمام بالأدب وكتابة الشعر، والعمل السياسي والفصل من الجامعة في حركة التطهير، وكان تدشينهما معا في الحياة الفكرية والثقافية المصرية والعربية من خلال كتابهما المشترك "في الثقافة المصرية" الذي صدر عام 1955، وخاضا فيه وبسببه معركة ثقافية مع أعلام عصرهما وفي مقدمتهم طه حسين والعقاد، كتابهما الذي قال عنه طه حسين بسخريته اللاذعة: "يوناني فلا يقرأ"، بينما قال العقاد بحدته المعروفة: "أنا لا أناقشهما وإنما أضبطهما. إنهما شيوعيان"، ورغم موقف طه حسين والعقاد من الكتاب فقد أسس الكتاب لاتجاه جديد في الثقافة المصرية وكان بداية لها ما بعدها.
 جمع بينهما الاعتقال في حملة نظام عبد الناصر الكبرى ضد الشيوعيين مطلع عام 1959، ثم جمع بينهما العمل بعد ذلك في حقلي الصحافة والثقافة، ثم الاستمرار في الإخلاص للقيم والمبادئ التي عاشا من أجلها حتى اللحظة الأخيرة، قيم الديمقراطية والاشتراكية والدفاع عن استقلال الوطن، ثم جمع بينهما الموت في النهاية.
 ورغم أن عبد العظيم أنيس كان عالمًا للرياضيات والإحصاء، لكنه لم يقف أبدًا عند حدود تخصصه الدقيق، فهو في ذات الوقت الناقد الأدبي الذي يتبنى الاتجاه الاجتماعي في تحليله للأدب، وهو الكاتب السياسي صاحب المواقف الجذرية، وهو المفكر الممتلك للرؤية المحددة في قضايا الوطن، والأستاذ الجامعي الذي يقدم اجتهاداته في إصلاح التعليم عبر كتاباته ورئاسته للجنة القومية لتطوير تعليم الرياضيات في مصر في سنوات السبعينيات.
 ولد أنيس بحي الأزهر بقلب القاهرة الفاطمية عام 1923، وتخرج في كلية العلوم بجامعة القاهرة عام 1944، وذهب في بعثة إلى بريطانيا عام 1950 ونال دكتوراه الفلسفة في الإحصاء الرياضي من جامعة لندن عام 1952، اعتقل في العصر الملكي وفي العصر الجمهوري، وفصل من الجامعة في حركة التطهير التي أسست لانهيار الجامعات في مصر، فترك مصر للعمل بالخارج، أستاذًا للرياضيات بجامعة لندن، وعندما صدر قرار تأميم  قناة السويس قدم استقالته وعاد للوطن ليشارك في المعركة، لكن النظام الاستبدادي الذي لم يكن ليقبل بشريك مستقل سرعان ما اعتقله مع عشرات من رفاقه ليقضوا سنوات عدة بين سجون النظام ومعتقلاته.
 كتب عبد العظيم أنيس في الصحافة قبل اعتقاله وبعده، وترك مجموعة من الكتب المؤلفة والمترجمة في مجالات الرياضيات والتاريخ والأدب والتعليم والسياسة، منها: "مقدمة فى علم الرياضيات،" و"العلم والحضارة" و"التعليم في زمن الانفتاح" و"رسائل في الحب والحزن والثورة" و"قراءة نقدية في كتابات ناصرية" و"ذكريات من حياتي"، هذا بخلاف كتابه الشهير المشترك مع محمود أمين العالم، "في الثقافة المصرية"، ومن أشهر مترجماته: "بنوك وباشوات" الذي يدرس تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده، فضلا عن مراجعته لعدد من الترجمات في مجال الرياضيات والإحصاء الرياضي والاقتصاد.
  رحل ليلحق برفيقه، ذلك الذي أحب الوطن وانحاز إلى كادحيه ودافع عن قضاياه، رحل وترك أعماله شاهده على دوره في الحياة المصرية لأكثر من نصف قرن، ترك ذكرى يحفظها كل من عرفه عن قرب وتعامل معه، ترك منى ووفاء وحنان حافظات لتراثه.

الدستور 21 يناير 2009

العالم...عطاء حتى اللحظة الأخيرة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
العالم...عطاء حتى اللحظة الأخيرة
عماد أبو غازي
  مشهد مهيب لم أره من قبل لجبل المقطم، قمة عالية مدببة تشبه أهرامات الأجداد، تعلو حنية تحتضن من يقفون في ظلالها بحنو، في موقع خاص بسفح الجبل في رحاب مقام العارف بالله عمر بن الفارض، هناك أودعنا جثمان الشيخ الجليل، أودعنا جسده الذي تحمل عذاب السنوان لأنه حمل في عقله وقلبه وروحه هموم الإنسان، أودعناه في أحضان جبل المقطم الذي يحيط بالقاهرة، القاهرة التي ولد في أحد أحيائها العريقة، حي الدرب الأحمر، وعشقها، كان في وداع الرجل أفراد أسرته الصغيرة وبعض من أسرته الكبيرة، مجموعة من رفاق دربه وتلاميذه ومحبيه.


 صباح العاشر من يناير رحل الكاتب والمفكر اليساري محمود أمين العالم وقد قارب السابعة والثمانيين، عمر أفناه في خدمة القيم التي آمن بها وعاش من أجلها وناضل ليحققها في الوقع، وفي المقدمة منها حرية الإنسان، حرية الإنسان من كل قيد يقف في طريق إرتقائه وتقدمه، حرية الإنسان التي لا تتحقق دون حرية الوطن، لا تتحقق دون تحرر الإنسان من الاستغلال، لا تتحقق دون ديمقراطية وعدالة اجتماعية، لا تتحقق دون تحرر الإنسان من الأفكار الظلامية التي تحد من انطلاق عقله ووجدانه.
 ولد محمود أمين العالم في أعقاب الثورة المصرية الكبرى، ثورة 1919، كانت سنوات طفولته سنوات المد والجذر في النضال من أجل الاستقلال والدستور، تفتح وعيه مثل أبناء جيله من مواليد السنوات الأولى من العشرينيات على ثورة الشباب التي أعادت دستور 1923.
 وفي شبابه في الأربعينيات من القرن الماضي حيث درس في جامعة فؤاد الأول، كانت حركة اليسار الماركسي تنمو في أوساط الطلاب والعمال، وسرعان ما أصبح محمود أمين العالم واحدا من القيادات البارزة في الحركة الشيوعية المصرية، لهذا السبب كان من ضحايا التطهير الذي قام به إنقلاب يوليو في الجامعات خلال الفترة من 1952 إلى 1954، أو لنقل بدقة أكثر كان واحدا من العقول المبدعة التي فقدتها الجامعة بسبب التطهير الذي طال مجموعة من أبرز أساتذة الجامعة من الماركسيين والوفديين وممن ينتمون إلى فكر حر لا يقبل أن تساق الأمة كالقطيع.
 فقدت الجامعة المعيد محمود أمين العالم الذي كان قد حصل على درجة الماجستير في الفلسفة من كلية الآداب في رسالة بعنوان: " فلسفة المصادفة الموضوعية في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية"، لكن مصر لم تفقد السياسي المدافع عن الجماهير الكادحة وعن حرية الوطن وحرية الإنسان، ولم تفقد المفكر والناقد الذي شق طريقا جديدا "في الثقافة المصرية" واشتبك هو وزميله ورفيق دربه عبد العظيم أنيس مع عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان يمثل جيلا سابقا ومدرسة مغايره في معارك فكرية ونقدية أثرت في الحياة الثقافية في منتصف الخمسينيات وأنبأت عن ميلاد جيل جديد في حياتنا الثقافية.
 مرة أخرى وبعد محنة الإبعاد عن الجامعة كانت محنة الاعتقال في واحدة من الحملات التي شنها نظام عبد الناصر ضد المختلفين معه في الرأي، كان محمود أمين العالم أحد من طالتهم الاعتقالات التي تعرض لها الشيوعيون المصريون في يناير 1959، قضى بعضا من أجمل سنوات العمر رحالا بين سجون النظام ومعتقلاته: قراميدان، الحضرة، القلعة، أبو زعبل، طرة، الواحات، مثل أمام المحاكم العسكرية، وتعرض لحملات التعذيب الهمجية التي سقط ضحية لها بعض رفاقه في مقدمتهم شهدي عطية الشافعي، بعد قرابة ست سنوات بين السجون والمعتقلات خرج مع من خرج في إطار المصالحة بين نظام عبد الناصر والشيوعيين المصريين سنة 1964 والتي توجت بقرار إنهاء الوجود التنظيمي المستقل للشيوعيين.
 خلال السنوات الأخيرة من الستينيات قدم محمود أمين العالم عطاء متنوعا من خلال مؤسسات صحفية وثقافية عمل فيها وتولى رئاسة بعضها، مؤسسة أخبار اليوم ومؤسسة التأليف والنشر ومؤسسة المسرح، وفي أعقاب أزمة مراكز القوى في مايو 1971 ترك العمل في مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية، وترك مصر كلها متوجها إلى أوروبا، حيث استقر في فرنسا ودرس في جامعاتها، وكان طوال سنوات مثالا للمثقف والمفكر المصري التي تفخر به ثقافة بلاده، بما يحمله من عمق فكري ووعي بقضايا وطنه وبعد إنساني يضفر قضايا الوطن بقضايا الإنسان في كل مكان.
 عاد في الثمنينيات وقد وصل الستين من عمره، لا ليستريح ولا ليستكين، بل ليواصل البناء في الثقافة المصرية والعربية، ليواصل النضال من أجل القضايا التي آمن بها ودافع عنه دون كلل، لم تثنه سنوات الاعتقال والسجن ولا سنوات الغربة، ولم تجعله يحد عن أفكاره، لقد طور هذه الأفكار في مرونة لكنه لم يتخل أبدا عن مبادئه.
 في السنوات الأخيرة أسس اثنتين من أهم المجلات الفكرية في مصر والعالم العربي، مجلة "قضايا فكرية" التي كانت مشروعه الخاص، قدم من خلاله أجيالا جديدة من الباحثين، وطرح مجموعة من الموضوعات المهمة والشائكة، ومجلة "الفلسفة والعصر" التي صدرت عن لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة عندما كان محمود العالم مقررا لها.
 استمر العالم في عطائه حتى اللحظة الأخيرة، عندما شعر بوطأة المرض والسن في العامين الأخيرين تخلى عن مهامه كمقرر للجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة وعن عضويته في بعض اللجان، لكنه أبدا لم يتخل عن دوره الفكري والثقافي والنضالي حتى آخر يوم في حياته، ظل متفاعلا مع العصر وقضاياه لم يتجمد عند لحظة من التطور كما يفعل الكثيرون، بل كان منفتحا على كل جديد متقبلا للاختلاف والتطور ساعيا من أجل الإنسان هدفه الأسمى طوال حياته.

الدستور 14 يناير 2009

بين قوسين... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
بين قوسين
عماد أبو غازي
 وأنا أكتب هذه السطور تكون تسعة أيام قد مضت على بدأ المجزرة الإسرائيلية في غزة، وتكون 24 ساعة قد انقضت على الغزو البري الإسرائيلي لغزة، شهداء جدد يسقطون كل يوم، وأعداد الجرحى في تصاعد... ما تفعله إسرائيل ليس جديدًا فالدولة الصهيونية دولة عنصرية ترتكب المذبحة تلو المذبحة ضد الشعب الفلسطيني طوال ستين عامًا، دولة قامت على نفي الآخر لتحل محله.
 الأربعاء الماضي دعا مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر إلى مؤتمر تضامني مع الشعب الفلسطيني في غزة، وإلى اعتصام لمدة ساعة بمقر الاتحاد ينتهي بوقفة احتجاجية رمزية ضد العدوان الإسرائيلي.

 ذهبت إلى مقر الاجتماع في الموعد المحدد، بدء المؤتمر في موعده في تمام الواحدة ظهرًا والقاعة نصف خالية نصف ممتلئة، قبل أن ينتهي المؤتمر كانت القاعة الرئيسية بمبنى الاتحاد قد امتلأت بكاملها، لكن الحضور ظل أقل بكثير مما كنت أتوقع، كان على رأس الحضور الكاتب الكبير محمد سلماوي رئيس الاتحاد وأعضاء مجلس الإدارة، كما حضر عدد من كبار كتاب مصر ونقادها من أعضاء الاتحاد وأعضاء الفرع المصري لنادي القلم على رأسهم بهاء طاهر وخيري شلبي ومحمد عفيفي مطر وإبراهيم عبد المجيد وإقبال بركة وفتحية العسال ومحمد إبراهيم أبو سنة والدكتور محمد عبد المطلب وغيرهم... لكن غاب الكثيرون.
 ما راعني ليس الغياب، لكن بعض كلمات الحضور التي تعكس حالنا، حال النخبة المثقفة في مجتمعنا، الحال الذي أظن أنه يقدم إجابة عن السؤال المر المهم الذي طرحه الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة في كلمته عندما قال بصدق: لماذا لا يتعاطف معنا العالم رغم فداحة ما نتعرض له، ويتعاطف مع أوضاع أقل مأساوية؟
 هذا الحال الذي يتجلى بوضوح في بعض الكلمات التي ألقيت في المؤتمر، والتي تعكس ما وصل إليه خطابنا السياسي من تشوش وفقدان للاتجاه، وأظنه ليس بجديد مثلما همجية إسرائيل وعنصريتها ليست بجديدة، لكن ربما المفاجأة في امتداد مثل هذا الخطاب إلى نخبة مثقفة.
 لقد كان الهدف من الكلمات التي ألقيت في المؤتمر تقديم مقترحات تسهم في صياغة البيان الذي يصدر عن الاتحاد، ويفترض أن يتم توجيهه إلى اتحادات الكتاب في العالم ـ أو هكذا فهمت ـ في محاولة لحشد تأييد كتاب العالم لوقف المذبحة الإسرائيلية في غزة.
 ماذا قال كتابنا ومبدعونا؟
 يتحدث كاتب مبدع عن أنه لا مجال لأي نقد لحركة حماس وإنه ينبغي أن نقف جميعا خلفها بغض النظر عن مواقفها الفكرية والسياسية، فعندما تكون هناك قضية وطنية تؤجل كل القضايا الأخرى! هل يمكن أن نقبل هذا؟ هل نحن نؤيد المقاومة كقيمة في حد ذاتها، أم أننا نحدد موقفنا من أي حركة مقاومة في ضوء مواقفها وأهدافها؟ وإذا كنا أمام حركة للمقاومة تدعو لدولة دينية تقوم على التمييز هي حماس في مواجهة دولة عنصرية همجية هي إسرائيل، فهل نؤيدها لمجرد أنها ضد إسرائيل؟ هل يمكن أن نؤيد مواجهة العنصرية بعنصرية مضادة؟ والتمييز بتمييز مضاد؟ هل يمكن أن نؤيد ـ نحن الكتاب ـ حركة تصادر حرية الفكر والإبداع بدعاوى دينية لمجرد أن هذه الحركة تقاوم؟ هذه الحركة التي خرجت منذ ميلادها لتشق وحدة الصف الفلسطيني، وتحول القضية من قضية استقلال وطني إلى حرب دينية، وتجعل من الحركة الوطنية الفلسطينية حركة تعصب ديني بعد أن كانت حركة تحرر وطني! وعندما نجحت حماس في الوصول إلى السلطة حققت أهم انجازاتها في التراجع بالقضية الفلسطينية من شعار دولتين لشعبين إلى دولتين لشعب واحد، وأعتقد أنه لا معنى للقول بأن حركة حماس وصلت إلى السلطة بصناديق الانتخاب، فبمثل هذه الصناديق وصل هتلر إلى الحكم فدمر شعبه وبلده.
 هل يمكن أن نؤجل كل القضايا لحين حل قضايانا الوطنية؟ هل يمكن أن نستمر في ترديد هذا المنطق المغلوط الذي قادنا طوال ستين سنة من هزيمة إلى هزيمة، وجعلنا ضحايا للاستبداد السياسي ولم يحقق لنا حل القضية بل زادها تعقيدًا؟ إن هذا المنطق يتناقض مع تراثنا في النضال الوطني الديمقراطي الذي لم يفصل أبدًا بين قضية الاستقلال وقضية الديمقراطية حتى سقط هذا المنطق تحت سطوة الأنظمة الاستبدادية التي تتابعت علينا منذ منتصف القرن الماضي.
 ويتحدث مبدع كبير آخر عن المؤامرة الكونية اليهودية مستحضرًا خطاب بروتكولات حكماء صهيون، قائلًا بخيال شعري إنه يفتش حتى في الكوارث الطبيعية التي تصيب العالم عن مصالح إسرائيل.
 مبدع كبير ثالث يعترض عن توجيه الانتقاد لخطاب حسن نصر الله المتعالي المستفز مؤكدًا أن 80 % من المصريين يعلقون صور نصر الله في منازلهم، ولأني من ال 20% أتسأل أليس من حقنا أن نرفض حديث نصر الله في شأننا الداخلي مثلما رفض هو من قبل حديث المسؤلين المصريين عن الوضع في لبنان أثناء العدوان الإسرائيلي في يوليو 2006؟
 كاتب كبير آخر يطالب بالنص في البيان على أن الجهاد السبيل الوحيد لحل القضية، وإن هذا ما كان منذ زمن الحروب الصليبية، بالله عليكم هل يمكن أن نخاطب كتاب العالم بمثل هذا الخطاب؟ ثم نعود فنغضب عندما لا يتضامنون معنا! ثم يطالب الإعلام المصري بعدم التركيز على قضية مقتل الضابط المصري على الحدود على أيدي عناصر حماس، إن حجة كاتبنا الكبير إن كل يوم يشهد سقوط قتيل مصري على يد مصري آخر، وإن إسرائيل قتلت من قبل جنودًا مصريين على الحدود، هل يمكن أن نقبل هذا أو نقوله في بيان يصدر باسم كتاب مصر؟ هل نقبل أن تقتل حماس ضابطًا مصريًا داخل حدودنا لمجرد أن القاتل من حماس وأن إسرائيل قتلت جنودًا مصريين من قبل؟
 يتحدث رئيس الاتحاد عن إعداد سجل مصور لجرائم إسرائيل عبر تاريخها باللغات الأجنبية لإرساله لاتحادات كتاب العالم، فتطالب كاتبة كبيرة بإضافة أسماء المطبعين مع إسرائيل للسجل؟ ما شأن كتاب العالم بالمطبعيين المصريين؟
ما راعني مرة أخرى أن كل من تحدثوا كتابًا كبارًا ومبدعين حقيقيين أثروا ومازالوا يؤثرون بإبداعهم في وجداننا، نكن لهم جميعًا حبًا واحترامًا في قلوبنا.
هل يمكن بعد هذا أن نجد إجابة على سؤال شاعرنا الكبير؟

الدستور 7 يناير 2009

مصر في حركة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصر في حركة
عماد أبو غازي
 كانت الخطوة الأساسية على طريق حشد الشعب المصري وتنظيمه في اتجاه الثورة حركة جمع التوقيعات على توكيل الوفد المصري في السعي من أجل استقلال البلاد، لقد أتى رفض سلطات الاحتلال الاعتراف بسعد وزملائه كوفد يمثل الأمة بعواقب وخيمة على الاحتلال، فكانت الفكرة البسيطة والعبقرية في ذات الوقت هي أن يحصل الوفد على تفويض أو توكيل من الأمة بتمثيلها في التفاوض من أجل استعادة حرية البلاد، وكان جمع التوقيعات من المصريين فردًا فردًا سبيل الوفد إلى توحيد الشارع المصري خلف السعي نحو الاستقلال، وكان بداية الطريق إلى ترسيخ قيادة الوفد للأمة، وإبراز سعد زغلول كزعيم للحركة الوطنية المصرية.

سعد
 فبعد أن أقر الوفد صيغة التوكيل النهائي في أعقاب الحوار الذي دار بين سعد وأعضاء من الحزب الوطني في بيت سعد الذي أصبح بيتًا للأمة، انطلقت حركة جمع التوقيع على التوكيلات بطول البلاد وعرضها، ومعها انطلقت روح جديدة في الأمة، كانت البداية لحركة التوقيعات على التوكيلات بعد طبع الصيغة الأخيرة، ووزعت التوكيلات أولًا على أعضاء الهيئات النيابية، ثم امتد توزيعها بين مختلف الجماعات والتجمعات، وسرعان ما انتشرت حركة جمع التوقيعات على التوكيل من القاهرة إلى المدن والقرى في شمال البلاد وجنوبها، وشاعت الحركة بين مختلف طبقات الأمة.


حسين باشا رشدي
 ويجمع المؤرخون الذين درسوا ثورة 1919 وأرخوا لها على أن الموقف الوطني لحكومة حسين باشا رشدي ساعد على انتشار الحركة واتساعها، فقد كانت حركة الوفد المصري تتم بالتنسيق الكامل بين سعد وزملائه من ناحية ورئيس الوزراء حسين رشدي وعدلي يكن أهم أركان وزاراته من ناحية أخرى، وكان هناك دعم واضح من الحكومة لحركة التوكيلات، كان الجميع يوقن أن هناك هدفًا مشتركًا يتمثل في الوصول إلى استقلال البلاد، وإن التكاتف والتعاون والوحدة سبيلًا وحيدًا لتحقيق هذا الهدف.
 لقد أصدر رئيس الحكومة ووزير الداخلية حسين باشا رشدي تعليمات صريحة إلى مديري الأقاليم بعدم التعرض لحركة التوقيع على توكيل الوفد، ولا شك في أن هذا الموقف دعم الحركة وطمأن الناس ودفعهم للتوقيع على التوكيل بسهولة ويسر.
 وفي نفس الوقت الذي بدأت فيه حركة جمع التوقيعات في النصف الثاني من شهر نوفمبر سنة 1918، وفي 20 نوفمبر 1918 على وجه التحديد، تقدم سعد زغلول بطلب لقيادة الجيش البريطاني في مصر بالتصريح له بالسفر إلى إنجلترا هو وزملاؤه لعرض القضية المصرية، لقد كانت البلاد خاضعة للأحكام العرفية ولا يصرح لمصري بالسفر للخارج إلا بإذن السلطة العسكرية.
 في نفس اليوم 20 نوفمبر سنة 1918 كتب أمين بك الرافعي العضو القيادي البارز في الحزب الوطني والشقيق الأكبر للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي مذكرة عن المسألة المصرية، عرض فيها قضية البلاد بشكل وافي من النواحي السياسية والقانونية، جمع فيها بين خبرة السياسي وحنكة المحامي وبلاغة الكاتب الصحفي، وقد ترجمها إلى الفرنسية وقدمها لمعتمدي الدول الأجنبية في مصر، لإبلاغها إلى الرئيس الأمريكي ويلسن وإلى بقية رؤساء الحكومات المشتركة في مؤتمر الصلح، وفي نفس الوقت نشر أصلها بالعربية بين الساسة المصريين وفي صفوف الشباب المهتمين بالقضية الوطنية، وقد نشر عبد الرحمن الرافعي نص المذكرة في كتابه "ثورة 1919" وشغلت المذكرة 20 صفحة من صفحات الكتاب.
 كان رجال الحزب الوطني في مصر يعملون من جانبهم على الدعاية بشكل مواز ومستقل للقضية المصرية؛ حقًا لقد انضم منتمون للحزب الوطني ومتعاطفون مع خطه للوفد المصري بعد أن قام سعد بزيادة أعضاء الوفد، لكن هذا لم يسن رجال الحزب عن الحركة المستقلة في الدعاية للقضية المصرية بمنطقهم الجذري، ولم تكن مذكرة الرافعي هي الجهد الوحيد للحزب الوطني في الدعاية للقضية المصرية، كان الزعيم محمد فريد يجوب المحافل الدولية ويسعى من خلالها لطرح القضية داعيًا إلى استقلال البلاد استقلالًا تامًا، ولما عقد مؤتمر الصلح في باريس أرسل محمد فريد وزملاؤه من أعضاء اللجنة الإدارية للحزب الوطني الذين كانوا في سويسرا تقريرًا في 5 ديسمبر 1918 إلى الرئيس ويلسن عقب وصوله إلى باريس وأعقبوه بتقريرين آخرين في أواخر ديسمبر 1918 وأوائل يناير 1919، وقد رد سكرتير الرئيس ويلسن على فريد في  21 يناير بخطاب يؤكد فيه تسلم الرئيس للمذكرة الموقعة من فريد وأعضاء اللجنة الإدارية للحزب الوطني في سويسرا، ويعده بأن تلقى المسألة المصرية عناية الرئيس الخاصة، وكان لتحركات فريد ورجال الحزب الوطني في الخارج أصداؤها في الداخل، مثلما كانت لكتابات رجاله ونشاطهم في الداخل أصداؤها أيضًا.
 لقد كانت مصر كلها تتحرك، فماذا كان رد فعل سلطات الاحتلال؟

الدستور 24 ديسمبر 2008