الخميس، 31 أغسطس 2017

وعادت الروح... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
وعادت الروح
عماد أبو غازي


"إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة. ولكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم. والقوة في نفسه ولا يعلم. هذا شعب قديم. جئ بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة من تجاريب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري.
 نعم هو يجهل ذلك. ولكن هناك لحظات حرجة تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته. هذا ما يفسر لنا تلك اللحظات من التاريخ التي نرى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت.. وتأتي بأعمال عجاب في طرفة عين."
 تحمل كلمات توفيق الحكيم في "عودة الروح" رؤيته لحال الشعب المصري، التي عبر عنها على لسان أحد شخوص روايته مسيو فوكيه عالم الآثار الفرنسي، في حواره مع مفتش الري الإنجليز مستر بلاك، وكلمات الحكيم تعبر بصدق عن حال الشعب المصري قبيل الثورة.

الحكيم
 فلم يكن الإنجليز يتصورون عندما منعوا سفر الوفد المصري لعرض قضية البلاد على مؤتمر الصلح، ولا عندما رفضوا سفر رئيس الحكومة رشدي باشا إلى لندن للتفاوض، لم يكونوا يتصورون أن الشعب يمكن أن يثور، كان مغروريين بقوتهم العسكرية وبأحكامهم العرفية التي توهموا أنها ستمنع الشعب من الحركة إذا أراد، لقد خدعهم موقف الشعب المصري أثناء الحرب العالمية الأولى، كان الإنجليز يخشون عندما أعلنوا حمايتهم على مصر وعزلوا عباس أن يثور المصريون، لكنهم لم يفعلوا، كان الإنجليز يخشون عندما دارت المعارك مع الأتراك على جبهة سيناء أن تنفجر مصر من الداخل وتهب لتساند تركيا، لكنها لم تفعل، اعتقد الإنجليز أن المصريين أضعف من أن يثوروا، وظنوا أن روح المقاومة قد ماتت فيهم، لم يدرك الإنجليز أن استبدال حسين كامل بعباس حلمي لا يشغل بال المصريين ولا يهتموا له، ولم يفطنوا إلى أن الدولة العثمانية لا تعني للمصريين شيئًا، وإنها لا تستحق أن يثوروا لأجلها، إن هذه الأمور لم تكن تشغل بال المصريين باستثناء قلة محدودة من النخبة السياسية والفكرية المصرية المعزولة عن الشعب المصري وهمومه الفعلية.
 أما ما حدث في مصر منذ يوم 13 نوفمبر سنة 1918 فكان أمر مختلف، لم يشعر الإنجليز ورجالهم في مصر وأعوانهم من المصريين بهذه الروح الجديدة، فتمادوا في غيهم، وزادوا في تعنتهم، وفي المقابل كانت روح المقاومة تسري بسرعة في النسيج المصري، وقيادة الوفد بزعامة سعد زغلول تزداد إصرارًا على المواجهة وتصعد من مواقفها طوال شهر فبراير سنة 1919، وحسين رشدي باشا رئيس الوزراء يقدم خطاب استقالة جديد للسلطان فؤاد في 10 فبراير سنة 1919 يكشف عن ما كان عليه ساسة ذلك الزمن من قوة موقف واعتداد وحفاظ على حقوق الوطن والأمة، قال رشدي باشا موجهًا خطابه للسلطان: "على أثر كتابي المرفوع إلى سدتكم العلية بتاريخ 30 ديسمبر سنة 1918 الذي ألححت فيه ذلك الإلحاح على عظمتطم بقبول استعفائي قد كنت رضيت من باب التوفيق بالاتفاق الآتي بيانه: وهو أن صاحب المقام الجليل المندوب السامي ينتهز فرصة سفره إلى لندرة فيشرح شفهيًا للحكومة البريطانية أنني بعد وصول الحالة إلى الحد الذي بلغته أصبحت لا أكتفي بما عرض عليّ وقتئذ من سفري أنا وزميلي عدلي باشا إلى لندره في النصف الأول من فبراير وإنني اشترط لسحب استعفائي شرطًا أساسيُا هو إباحة السفر إلى أوروبا لمن يطلب من المصريين، وكان من ضمن ذلك ورود جواب الحكومة البريطانية بالتلغراف في بحر مدة مناسبة من وصول المندوب السامي إلى إنجلترة... على أنه قد مضى عشرة أيام على الأقل بعد الوقت الذي لا بد أن يكون المندوب السامي وصل فيه إلى لندره، ومع ذلك فلم يصلني جواب ما، ويستحيل عليّ أن أقبل أي تأخير جديد، وإنني أُعتبر في حل من القيام ولو مؤقتًا بأي عمل، حتى ولو كان مستعجلًا... فأعود إلى التمسك بكتابي المشار... وألتمس من عظمتكم بكل إلحاح إنهاء حالة شاذة قد زاد طول العهد عليها".

رشدي باشا
 عقب الاستقالة قبلت الحكومة البريطانية دعوة رشدي وعدلي وحدهما إلى لندن، إلا أنهما رفضا السفر قبل السماح لأي مصري يرغب في السفر بممارسة حقه الطبيعي، فأضطر السلطان فؤاد إلى قبول استقالة الحكومة في أول مارس سنة 1919، وفي اليوم التالي وجه الوفد المصري خطابًا شديد اللهجة إلى السلطان فؤاد ينتهي بالعبارة التالية: "...دفعنا واجب خدمة بلادنا وإخلاصنا لمولانا أن نرفع لسدته شعور أمته التي هي الآن أشد ما تكون رجاءً في استقلالها وأخوف ما تكون من أن تلعب به أيدي حزب الاستعمار، والتي تطلب إليه بحقها عليه أن يغضب لغضبها، ويقف في صفها، فتنال بذلك غرضها، وإنه على ذلك قدير".


 وفي 4 مارس أرسل الوفد خطاب احتجاج إلى معتمدي الدول الأجنبية في مصر يفضحون فيه السياسة البريطانية في البلاد، وبعدها بيومين استدعى الميجر جنرال وطسن قائد القوات البريطانية في مصر بالنيابة رئيس الوفد وأعضاءه إلى فندق سافوي بميدان سليمان باشا، حيث مقر القيادة وتلا عليهم إنذارًا بريطانيًا رسميًا بتطبيق الأحكام العرفية عليهم في حال استمرارهم في معارضة السياسة البريطانية.
 كان رد الوفد واضحًا في اليوم نفسه بإرسال برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس وزراء بريطانيا، قبل أن تمضي 48 ساعة، وفي يوم 8 مارس سنة 1919، كانت السلطات البريطانية قد ألقت القبض على سعد زغلول ومحمد محمود باشا وإسماعيل صدقي باشا وحمد الباسل باشا وأودعتهم ثكنات قصر النيل، وفي اليوم التالي تم ترحيلهم إلى بورسعيد ومنها إلى مالطة منفيين بعيدًا عن الوطن، شاع الخبر بسرعة في العاصمة ومنها إلى الأقاليم، ما هي إلا ساعات قليلة وبدأت الثورة صباح الأحد 9 مارس سنة 1919، وكانت البداية من طلبة مدرسة الحقوق، واشتعلت نار الثورة في مصر من أقصاها إلى أقصاها.
 وصدقت كلمة الحكيم:
 "احترس... احترسوا من هذا الشعب فهو يخفي قوة نفسية هائلة".

الدستور 4 مارس 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق