الاثنين، 26 سبتمبر 2016

مخربشات

مولد مصري وعروسة صيني

عماد أبو غازي



 نشرت صحيفة الوفد الجمعة الماضية في صفحتها الأولى عنوانًا عريضًا "عروسة المولد ... صيني"، وفي الداخل تحقيقًا صحفيًا صغيرًا حول عرائس المولد الصيني التي بدأت تملأ السوق المصري وتنافس العرائس المصرية، وفي التحقيق إشارات إلى الحال الذي أدى لتراجع العروسة المصرية.
 ومن زمن طويل والمولد في مصر يرتبط بحلاوة المولد بأنواعها المختلفة وأهمها العروسة الحلاوة كشكل من أشكال الاحتفال بهذه المناسبة الدينية العظيمة، لكن في السنوات الأخيرة ومع الوعي بخطورة الألوان الصناعية المضافة إلى الأغذية بدأت حملة ضد العروسة الحلاوة بسبب ألوان "الذواق" المستخدمة في صنعها، وبدلًا من الرقابة على صناعة العروسة الحلاوة وعرضها في الأسواق، ابتعدنا عنها وبدأنا نصنع بدلًا منها عرايس بلاستيك، وكان طبيعي أن تتفوق علينا الصين فيها، وتغزو عرايسهم أسواقنا!
 وقصة عروسة المولد قديمة، ففي مصر تتنوع أشكال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ومستوياته، ما بين الاحتفال الرسمي الذي تقيمه مؤسسات الدولة المختلفة، والاحتفالات الأهلية التي تنظمها الطرق الصوفية، وقد ابتكر الشعب المصري أشكاله الخاصة للاحتفال والتي تعبر عن روحه وحضارته، وتتميز وتختلف عن أشكال الاحتفال في بلدان العالم الإسلامي الأخرى.
 وربما كانت حلوى المولد وعرائسه هي أشهر طقوس الاحتفالات الشعبية بالمولد النبوي الشريف في مصر، والعروسة الحلاوة تقليد مصري صرف، يرتبط عادة بمناسبة سعيدة هي المولد النبوي الشريف، وتكاد تكون هناك درجة عالية من الإجماع بين المؤرخين على أن الاحتفال المنتظم بالمولد النبوي الشريف قد بدأ في مصر، وإن ذلك كان في زمن الفاطميين، وقد وضع الأستاذ حسن السندوبي الذي كان أمينًا لمكتبة وزارة الأوقاف بقبة الغوري في الأربعينيات، كتابًا مهمًا عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي صدرت طبعته الأولى عام 1948، وقد تتبع فيه هذا الكتاب الاحتفال منذ بداياته الأولى في القرن العاشر إلى وقت تأليفه الكتاب، وقد تميزت الدولة الفاطمية في مرحلتها المصرية بإدراك عال لروح الشعب المصري المحبة للبهجة والمرح، فحاول رجال هذه الدولة أن يجعلوا حياة المصريين احتفالات في احتفالات، فكانت الدولة تنظم العديد من الاحتفالات الدينية وفي مقدمتها المولد النبوي الشريف وموالد آل البيت ورأس السنة الهجرية، إلى جانب الاحتفال الرسمي بالأعياد الدينية المسيحية كعيد الميلاد المجيد والغطاس، فضلًا عن رأس السنة المصرية المعروفة بالنيروز، وبعض الاحتفالات المصرية الأخرى وأهمها عيد وفاء النيل، وقد اهتمت المصادر التاريخية بوصف الاحتفالات الرسمية التي كانت تقيمها الدولة الفاطمية في مصر بالتفصيل بما فيها احتفال المولد النبوي الشريف.
 ولما كان الاحتفال بالمولد النبوي قد بدأ في مصر منذ زمن الفاطميين فقد ربط الناس دائما بين العروسة الحلاوة والعصر الفاطمي، وتتردد بين الناس أساطير حول ظهور هذا الطقس الاحتفالي في المولد، حيث يردد البعض أن الحاكم بأمر الله الفاطمي قد فرض على المصريين ضمن تشريعاته الغريبة الشاذة منع احتفالات الزفاف في جميع أيام السنة عدا ليلة المولد النبوي الشريف، ومن هنا كان الناس يعدون كل شئ استعدادًا للاحتفال بأفراحهم في ليلة المولد، فيعقدون قران الراغبين في الزواج، ويعدون جهاز العرائس، ثم في الأيام القليلة السابقة على ليلة المولد يعدون الحلوى، ومن بين أشكال الحلوى عرائس السكر المزينة الملونة ابتهاجًا بحفلات الزفاف، وبعد وفاة الحاكم بأمر الله ذهب معه قراره واستمرت العروسة الحلاوة كطقس من طقوس المولد، والأسطورة لا تخلو من طرافة، إلا أنها بعيدة عن الحقيقة، فعرائس الحلاوة، أو التماثيل المصنوعة من السكر عمومًا، هي من الطقوس الاحتفالية المصرية الأصيلة والتي لم يقتصر استخدامها في العصر الفاطمي على المولد النبوي فقط؛ فالمصادر القديمة تحكي لنا عن صنع تماثيل السكر على أشكال العرائس والطيور والحيوانات في احتفالات وفاء النيل في ذلك العصر، ولازالت العروسة الحلاوة طقسًا احتفاليًا في عديد من المناسبات غير المولد النبوي في بعض مناطق الريف المصري.
 وبالمناسبة فلمن يريد الاستزادة حول عروسة المولد فعليه بكتاب الفنان عبد الغني الشال عن عروسة المولد والذي طبع في الستينيات وأعيد طبعه مؤخرًا في المجلس الأعلى للثقافة.
 وفكرة العروسة ورسومها كشكل احتفالي موجودة من زمن قدماء المصريين، وقد استمرت في العصر البطلمي والروماني ثم القبطي وانتقلت بعد ذلك إلى مصر الإسلامية، مع عديد من العادات والتقاليد التي ما زالت تحيى بيننا منذ آلاف السنيين، ومن الطقوس المرتبطة بعروسة المولد في الأحياء الشعبية في المدن وفي قرى ريف مصر إلى الآن قيام العريس الجديد بإهداء عروسة حلاوة كبيرة إلى عروسه في أول مولد نبوي يمر عليهما بعد الخطبة وتسمى عروسة النفقة، وأتذكر أني في أول مولد نبوي بعد كتب كتابي قدمت لعروسي شمعدان خزف على شكل عروسة مولد ما زلت أحتفظ بها إلى الآن.

 حقيقي ما كانتش عروسة حلاوة لكن ما كانتشي صيني.
*أبريل 2005.

الأحد، 25 سبتمبر 2016

مخربشات
يوميات عودة الإرهاب
عماد أبو غازي 
مساء الخميس... في نهاية أسبوع حافل بالنشاط الثقافي والعلمي بين المجلس الأعلى للثقافة والجمعية التاريخية في احتفالية ثمانينية أندريه ريمون، ودار الوثائق القومية حيث الاحتفال بيوبيلها الذهبي، نشاط شارك فيه باحثون مصريون وعرب وأجانب، استمعت إلى الخبر الكئيب حول حادث التفجير الإرهابي في خان الخليلي، قلت لنفسي عملوها مرة تانية أولاد ال..... الذين يستحلون القتل وسفك الدماء باسم الدين وتحت شعاراته، أو باسم الوطنية وهي بريئة منهم.
 صباح الجمعة كان علي أن أذهب إلى المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في المنيرة لأصطحب المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون وزوجته إلى المطار بعد زيارة قصيرة للقاهرة للاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، وأنا في انتظارهما على باب المعهد أتصفح جرائد الصباح، اقترب مني عم محمد الغفير، وهو صعيدي أسمر من الأقصر في العقد السادس من العمر، وعلق على الصور المنشورة في الصفحة الأولى من الجريدة مستهجنا بحسه الإنساني الجريمة ومتخوفًا من آثارها، ومستفهمًا عن الدافع الذي يجعل إنسانًا يرتكب مثل هذا العمل.
صباح السبت .. فكرت في أن سؤال عم محمد، السؤال الذي يستحق البحث عن إجابة له، فبغض النظر عما ستنتهي إليه نتائج التحقيق في الحادث الإجرامي الذي وقع في خان الخليلي يوم الخميس الماضي، وعما إذا كان العمل فرديًا أم من تخطيط مجموعة إرهابية ... صغيرة أو كبيرة؟ وهل فجر الإرهابي نفسه أم انفجرت العبوة فيه بطريق الخطأ، فإن الأمر يستدعي منا وقفة تأمل في المناخ العام الذي يدفع بهذا الإرهابي وبأمثاله إلى ارتكاب جرائمهم.
 المناخ الذي نقرأ ونسمع فيه عشرات من الكتاب والإعلاميين والساسة الذين يشيعون ليل نهار روح الكراهية والعداء ضد كل ما هو أجنبي، ويعيدون ويزيدون في قصص حول مؤامرات الغرب التي تستهدفنا، رغم أن الأمور كلها واضحة الغرب له مصالح يخطط لتحقيقها، ونحن لنا مصالح علينا أن نسعى لتحقيقها، ومن المؤكد أنه ليس من مصلحتنا الانكفاء على أنفسنا ومعادة الغرب عمال على بطال.
 المناخ الذي يروج لأعمال الإرهاب في العراق، التي تتم باسم المقاومة، ويعتبرها أعمالًا بطولية، رغم ما فيها من إجرام، فلم نسمع من قبل عن مقاومة قتلت من شعبها ثلث ما قتله المحتلون، ولم نسمع عن مقاومة تخطف الصحفيين والمهندسين والعمال البسطاء من الأجانب، تقتل بعضهم ذبحًا أو رميًا بالرصاص، وتفرج عن بعضهم مقابل فدية مالية، وتترك المحظوظ منهم ليعود إلى أهله ووطنه بعد ترويعه لأيام أو أسابيع حسب الأحوال والأهواء، ثم نجد من يشيدون بهذه المقاومة ويدافعون عنها، هذه الأفكار التي تمجد الأعمال الإرهابية وتقدم مرتكبيها باعتبارهم أبطالًا هي التي تشجع أشخاصًا مثل مرتكب جريمة خان الخليلي على ارتكاب جرائمهم.
 صباح الأحد... قرأت في "الأهرام" تحقيقًا صغيرًا حول الحادث الإرهابي تحدثت فيه الأستاذة الدكتورة عزة كريم، أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاحتماعية والجنائية عن الفارق بين الشهيد والمجرم، وقالت: "إن الأول ـ الشهيد يفجر نفسه من أجل قضية مثلما يحدث في فلسطين، والثاني ـ المجرم ـ يفجر نفسه داخل بلده دون أن تكون تحت سيطرة استعمار أجنبي، ودون أن تكون له قضية".
 وتنبهت إلى خطورة هذا المنطق، فالعمليات الانتحارية ـ في تقديري ـ أيا كانت دوافعها جريمة ضد الإنسانية، بالدرجة الأولى ضد إنسانية من ينفذها ويفجر نفسه، لقد دخل هذا النوع من العمليات إلى منطقتنا بقوة منذ الثمانينيات من القرن العشرين، وبدأ يذيع صيته مع عملية سناء محيدلي عضوة الحزب القومي السوري، والتي نفذتها في جنوب لبنان، ثم انتشر هذا الأسلوب بين التنظيمات الإسلامية التي كانت ترى فيه في البداية انتحارًا مجرّمًا من الناحية الدينية، ثم قبلته و"تفوقت" فيه على نفسها وعلى غيرها، وأسلوب العمليات الانتحارية ملائم تمامًا للتنظيمات العقائدية التي تلغي عقل الإنسان وإرادته، والتي يضلل فيها القادة الكبار فتية وفتيات شبانًا وشابات في مقتبل العمر، ويدفعونهم إلى تحويل أنفسهم إلى قنابل بشرية تفجر نفسها وتنفجر في الآخرين لقاء دخول الجنة، وتصل لا إنسانية هذه التنظيمات إلى حد تسجيل شرائط فيديو يودع فيها الانتحاري الدنيا ويبث رسالته ليسير على دربه غيره من رفاقه، وعبر السنوات الماضية لم نسمع أبدًا عن قيادي في أي من هذه التنظيمات ذهب ليفجر نفسه، دائمًا يبقى القادة سالمين ـ إلا من صواريخ العدو ورصاصه ـ لأنهم قادة يفكرون ويخططون وينبغي أن يحافظوا على أنفسهم!! ويدفعوا دائمًا بالشباب الصغار الأقل أهمية قربانًا لخططهم، يا لها من فاشية!!
 إن حركات التحرر الحقيقية يقف القادة فيها في الصفوف الأولى دائما، هكذا كان سعد زغلول ومصطفى النحاس في مصر، وغاندي ونهرو في الهند، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وهوشي منه في فيتنام.
 إن تأييد مثل هذه العمليات لابد أن يدفع بأمثال إرهابي خان الخليلي للقيام بفعلته، ولن يجدي تمييز الدكتورة عزة بين من يفجر نفسه في المستعمر ومن يفجر نفسه في أبناء بلده، فهذا الأخير يتصور أنه صاحب قضية هو الآخر، ومهما كان إدراكنا لزيف قضيته وخوائها فهو لا يدرك ذلك.

 لقد شبّعنا عقول الناس تأييدًا لتلك العمليات الانتحارية، فلماذا لا يقوم هذا أو غيره بعملية انتحارية ليدخل الجنة! إن ما يجب علينا هو أن نميز بين أعمال المقاومة الشعبية الحقيقية سواء كانت سلمية أو مسلحة، التي يمكن أن يضحي فيها الإنسان من أجل وطنه لكنه دائمًا يخرج مقاومًا ولديه أمل ولو واحد في المليون في الحياة، وبين الاغتيالات والأعمال الإرهابية  والعمليات التي يغرر فيها بالشباب ليقتلوا أنفسهم ويبقى الآخرين. 
# أبريل 2005.

السبت، 24 سبتمبر 2016

مخربشات

..... الأمة وثوابتها

عماد أبو غازي



 يوم 27 مارس يصادف ذكرى وفاة نحات مصر الكبير محمود مختار، وفي احتفال صغير سلمت تمثالًا مجهولًا من تماثيل مختار ليودع في متحفه بعد ثمانين عامًا على نحته له، وهو تمثال كاريكاتوري يسخر فيه الفنان من زعيم الأمة سعد زغلول، والتمثال يُعرض للمرة الأولى، وإن كنت قد عرضت صورا له في ندوة أقيمت بالمتحف أثناء الاحتفال بالمئوية الأولى لميلاد مختار عام 1991، ونشرت بعض هذه الصور في مقال بمجلة الهلال وآخر بجريدة الدستور.
 في أعقاب إزاحة الستار عن التمثال الصغير بدأت تعليقات الحضور، أكثر ما لفت انتباهي فيها تعليق الأستاذ محمود مرسي مدرس التربية الفنية، الذي اعترض على عرض التمثال بالمتحف، وقال: إنه لا يستطيع أن يأتي مع تلاميذه إلى المتحف ويريهم هذا التمثال، لما يراه فيه من إساءة لمختار ولسعد، لأنه عمل ضد التقاليد والقيم والأخلاق القويمة!!
 تذكرت على الفور الضجة التي أثيرت منذ أسابيع بسبب فيديو كليب للمنلوجست سعد الصغير، و لم أكن قد رأيته حتى ذلك الحين، ووصلت الأمور إلى حد اتهامه بالإساءة لتاريخنا الوطني، والسخرية من رموزنا القومية والتطاول على ثوابت الأمة، وكل ذلك لأن فكرة الكليب تعتمد على الخلط بين شخصية الزعيم سعد زغلول والمنلوجست سعد الصغير اعتمادًا على اشتراكهما في الاسم الأول سعد، وحاولت مشاهدة الكليب على أي من القنوات التليفزيونية لأعرف مقدار الجرم الذي ارتكبه الصغير، ولكني لم أصادفه أبدا، إلى أن شاهدته ذات مرة على شاشة عرض بمحطة من محطات مترو الأنفاق، ولم أجد فيه ما يستدعي حملة التجريم التي شنها بعض الكتاب على تلك الأغنية الخفيفة، قد يعجب بها البعض منا وقد لا يستسيغها ولا يتذوقها البعض الأخر، لكن الأمر لا يمكن أن يصل إلى هذا الحد من الضيق بالفكاهة والنكتة.
  وفي لحظات تداعت على ذهني خواطر متوالية حول هالات التقديس التي أصبحنا نضفيها على شخصيات لعبت دورًا في تاريخنا السياسي أو الثقافي أو الفني، أو على أحداث أو حتى أماكن، فأصبح الاقتراب من هذه المناطق أحد المحرمات في حياتنا.
 منذ أسابيع قليلة عندما أثارت الدكتورة رتيبة الحفني موضوع زواج مصطفى أمين من أم كلثوم، تعرضت للهجوم كأنها اتهمتهما ـ لا سمح الله ـ بارتكاب عمل مشين وليس زواجًا على سنة الله ورسوله، وبغض النظر عن صحة الواقعة أو عدم صحتها، فالأمر لا يستدعي تلك الحالة الهيستيرية من الهجوم على الدكتورة، وقبلها قامت الدنيا ولم تقعد لأن الممثل محمد سعد غنى أغنية من أغنيات أم كلثوم بأداء كوميدي، وهاجمه الكتاب في الصحف وضيوف البرامج التلفزيونية باعتباره يدمر تراثنا الفني ويسيء إليه، لماذا هذه الضجة؟ قبل محمد سعد بأربعين سنة قدم كوميديانات كبار مثل إسماعيل يس وفؤاد المهندس مشاهد في أفلامهم ومسرحياتهم استخدموا فيها مقاطع من أغاني لأم كلثوم ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ قاموا بأدائها بصورة ساخرة، لم نسمع أن أم كلثوم اعترضت، ولم يؤد ذلك إلى تدمير تراثها الغنائي الذي عاش وسيعيش دون هذا الدفاع المتشنج عنه والذي يحوله إلى مقدس ديني يعلو فوق النقد وفوق أي تعامل إنساني معه، تذكرت عشرات من الحالات المماثلة في السنوات الأخيرة كلها تعكس حالة ضيق الصدر بالسخرية وبالنقد اللاذع التي أصبح يعيشها مجتمعنا، والتي هي نتاج لضيق أفق شديد، اتسعت بسببه "ثوابت الأمة" وامتدت من ثوابت الدين إلى السياسة لتصل اليوم الغناء.
 قطعت شريط أفكاري فقد كان علي أن أرد على الأستاذ محمود مرسي، وقلت له: إن سعد زغلول الذي سخر منه مختار هذه السخرية في تمثاله، وأكثر منها في رسومه الكاريكاتورية التي أطلق عليها اسم "الزغلوليات"، لم يتهم مختار بالخيانة، ولم يصدر أمرًا باعتقاله وهو على رأس السلطة، ولم يقاضيه أو يتهمه بالسب والقذف، بل بمجرد أن التقيا مصادفة تصافحا، وزار سعد مختار في موقع العمل بتمثال نهضة مصر قبل إزاحة الستار عنه، وهكذا يكون سلوك الكبار وسلوك الزعماء، فمادام سعد قد تصدى للعمل العام فعليه أن يقبل النقد والسخرية من شخصه العام، مهما كانت هذه السخرية لاذعة وقاسية.
  إن سعد وأم كلثوم وغيرهما من صناع تاريخنا وحضارتنا ومن رموز ثقافتنا قدموا إسهامات مهمة لهذا البلد، ولكنهم بشر يجوز لنا أن ننتقدهم في حياتهم وبعد موتهم، كما يحق لنا وللأجيال من بعدنا أن نعيد استخدام بعض من تراثهم في شكل ساخر، فالشعوب القادرة على السخرية من نفسها ومن موروثها هي الشعوب القابلة للحياة السليمة وللتطور، وليس من حق كائن من كان أن ينصب نفسه حارسا للقيم أو قيما على الناس باسم الدفاع عن ثوابت الأمة وحمايتها، فالناس قادرون على تمييز الغث من الثمين، والثوابت ـ لو كانت ثوابت بالفعل ـ لن تهتز من مونولوج أو فيلم سينمائي أو مقال أو كتاب.
 يا ناس شوية تسامح، وشوية قبول للآخر المختلف، وشوية تقبل للنقد والسخرية، فنحن أبناء حضارة اخترعت السخرية منذ آلاف السنيين، وظلت تمارسها عبر تاريخها، ولم تؤد هذه السخرية مهما كانت لاذعة إلى تقويض حضارتنا أو تدمير قيمنا أو تشويه ثقافتنا بل على العكس زادتها قوة.

  وأقول لأخوانا بتوع "الثوابت" أن السخرية اللاذعة هي ثابت الثوابت في تاريخ مصر!!!
الدستور... مارس 2005...

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

مخربشات

علماني ... لا يشرب الكوكاكولا !!!

عماد أبو غازي


   نظم مركز البحوث والدراسات التاريخية في كلية الآداب بجامعة القاهرة ندوة عن فكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، والرجل مفكر مصري أسهم بدور مهم في الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في مصر منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وهو إنسان متعدد المواهب والاهتمامات، فرغم أنه أستاذ جامعي متخصص في الأدب الإنجليزي، وكاتب لأدب الأطفال حاصل على جوائز عن إبداعه فيه، إلا أن إسهامه الأكبر جاء في مجال دراسة الصهيونية واليهودية وإسرائيل، ومنذ سنوات أصبح ينتمي فكريا إلى اتجاه إسلامي مستنير، وفي هذا السياق قدم دراسة معمقة عن العلمانية، صدر منها مجلدان بعنوان "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وهما يشكلان حسب مقدمة الدكتور المسيري القسم الأوسط من ثلاثية تضم دراسة أوسع عن العلمانية، قسمها الأول يتناول الحلولية ووحدة الوجود باعتبارها مقدمات العلمانية، وقسمها الثالث يتناول ما بعد الحداثة باعتبارها ثمرة العلمانية الشاملة ـ وفقا لنظرية المسيري ـ وتقوم الدراسة على نقد ونقض مفهوم العلمانية، وتسعى إلى مناقشة التعريف الشائع للعلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، الذي يرى فيه الدكتور المسيري معنى العلمانية الجزئية، وتقديم تعريف جديد للعلمانية الشاملة،  التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص.
  وينقسم كتاب "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، إلى مجلدين في كل منهما بابين، الباب الأول في المجلد الأول: "العلمانية الشاملة ـ محاولة للتعريف" والباب الثاني: "بعض تبديات النموذج العلماني"، أما الباب الأول في المجلد الثاني فبعنوان: "عمليات العلمنة الشاملة"، والباب الثاني بعنوان: "العلمانية الشاملة واليهود واليهودية والصهيونية".
 ويؤكد الدكتور المسيري أن دراساته تتسم بروح استكشافية، ولا تنتهي إلى يقين... وبالمناسبة فإنه يعود بذلك علمانيًا.
 ويربط المسيري بين العلمانية وكل شرور المجتمع الرأسمالي، بل يحملها وزر هذه الشرور، ويعتبر أن فصل الدين عن الدولة أدى إلى ما آلت إليه المجتمعات الرأسمالية الآن من فقدان الإنسان لإنسانيته وتحوله إلى سلعة، كما تسبب في انهيار القيم والأخلاق وعدم الاكتراث بأي مبدأ أخلاقي، وسيادة الابتذال في كل مناحي الحياة، وهذه ما يسميها بالعلمانية الشاملة، فهل هذا حق؟
  إن في هذا تحميل للعلمانية بأوزار ليست مسئولة عنها، إن العلمانية بمعناها "الجزئي" ـ أي فصل الدين عن الدولة ـ كما يوّصفها الدكتور عبد الوهاب المسيري، كانت وما تزال احتياجًا سياسيًا واجتماعيًا، ارتبط بتطور المجتمع الإنساني وظهور الدولة القومية في بداية العصر الحديث، تلك الدولة التي تقوم على أساس رابطة المواطنة وعلى قاعدة المساواة بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الدين والعقيدة أو اللون أو الجنس، والعلمانية بهذا المعنى تحاول تجاوز الصراعات الدينية داخل المجتمع، والابتعاد عن نموذج الدولة القائمة على أساس التمييز بين البشر تبعًا للعقيدة الدينية، وهو النمط من الدول الذي ساد في العصور القديمة والوسطى.
  وقد ترتب على الصراع الديني أو الصراع الذي يتخذ الدين ستارًا له، مآسي ومذابح راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر عبر التاريخ باسم الدين وتحت شعاراته، ونذكر هنا ـ على سبيل المثال فقط ـ عشرات الآلاف الذين راحوا ضحايا أثناء الحروب الصليبية بين أوروبا الكاثوليكية والشرق المسلم والأرثوذكسي، وأولئك الذين سقطوا قتلى منذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا، في الصراعات بين البروتستانت والكاثوليك في الغرب، وبين السنة والشيعة في المشرق العربي والعالم الإسلامي، وبين الهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية.
  وهذا لا يعني بالطبع أن الرأسمالية وصراعاتها ـ بعد علمنة كثير من دولها ـ لم تؤد هي الأخرى إلى حروب ومجازر راح ضحيتها الملايين تفوق من سقطوا في حروب العصور الوسطى عددًا، مثلما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها حروب المصالح الرأسمالية، وليست حروب العلمانية أو بسبب العلمانية، ومواجهة حروب المصالح والتصدي لها أيسر من مواجهة حروب العقائد، ولا ترجع ضخامة أعداد الضحايا في الحربين العالميتين قياسًا إلى أعدادهم في حروب العصور الوسطى إلى رأفة قلوب المقاتلين الذين خرجوا للحرب تحت شعار الدين، لكن للتقدم التقني الهائل في صناعة أسلحة الدمار الجزئي والشامل خلال القرنين الماضيين، وهي أسلحة لا تتورع القوى التي تحارب باسم الدين عن استخدامها إلا لأنها لا تملكها، وهي تسعى سعيا حسيسًا لامتلاكها، لتمارس طقوسها "المقدسة" في إبادة المختلفين، وأعتقد أن المجتمعات الحديثة التي تقوم على الديمقراطية والعلمانية تمتلك من أدوات الردع الأخلاقية لدعاة الحروب فيها أكثر مما تمتلك المجتمعات التي تقوم على أساس الدين، والتي تعتبر إبادة الآخر المختلف دينيًا جهادًا مقدسًا، فالمجتمعات العلمانية هي التي أفرزت وما زالت تفرز حركات مناهضة الحرب، مناهضة العنصرية، وجماعات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومجموعات حماية البيئة، كما أن مقاومة الاتجاهات اللا إنسانية في الرأسمالية في مرحلة العولمة "المتوحشة" بدأت أيضا من المجتمعات الرأسمالية العلمانية، وفي المجتمعات العلمانية نظام قيمي لا يرتبط بالضرورة بالدين، لكن هناك نظام للقيم، فالأخلاق مرتبطة بالفكر الإنساني بنفس قدر ارتباطها بالدين، كما أن الدين بما قدمه من نموذج أخلاقي لم يمنع البشر من خوض حروب الإبادة، بل اتخذه بعض أصحاب المصالح مبررًا وغطاء لعمليات إبادة واسعة عبر العصور.
  وفي كل الأحوال فإن العلمانية لا تحارب الدين ولا تعاديه ولا تجعل من الاصطدام به هما لها، لكنها فقط تسعى لبناء الدولة على أساس يفصل بين الشأن العام الذي ينبغي أن يكون مدنيًا يجمع المواطنين ولا يفرقهم، والمعتقد الخاص الذي يشمل الدين والعقيدة، وهو يرتبط بالحرية الشخصية للأفراد والجماعات، فكل يمارس طقوسه كما يشاء ما دام لا يتعدى على حقوق الآخرين.
 ويجب أن لا ننسى أن الغرب الاستعماري الإمبريالي صنع أهم الدول التي تقوم على أساس الدين في عالمنا المعاصر: السعودية ـ  باكستان ـ إسرائيل، كما صنع ودعم أهم حركات التطرف الديني في العالم الثالث، والتي انقلبت عليه فيما بعد، كل ذلك لدعم مصالحه، وفي المقابل كانت العلمانية دومًا سلاحنا في مواجهة الاستعمار الذي كان يسعى إلى التفرقة بيننا على أساس الدين.

 تبقى نقطة أخيرة تؤكد إصرار الدكتور المسيري على الربط بين العلمانية وقيم الاستغلال الرأسمالي وتنميط الأفراد داخل المجتمع، لقد اعتبر أن هناك مجموعة من الرموز للعلمانية الشاملة تتمثل في: التي شيرت الذي يحمل دعاية للسلع الرأسمالية واختار نموذج تي شيرت اشرب كوكاكولا، والوجبات السريعة واختار الهامبورجر، والسكن في المنازل سابقة التجهيز، وأفلام كارتون توم وجيري، وأفلام الويسترن الأمريكية، ورغم إنني علماني "أب عن جد"، فأنا وبكل فخر أمثل الجيل الثالث من العلمانيين في عائلتي، إلا إنني لم أجد في ملابسي تي شيرت واحد يحمل شعار شركة كوكاكولا، ولم أرتد مثله في حياتي، ربما ارتديت تي شيرتات تحمل رسائل عكسية، مثل شعارات التضامن مع القضية الفلسطينية أو قضايا السلام وحقوق الإنسان، كما أنني لا أشرب الكوكاكولا أصلا منذ عادت إلى مصر بعد إنهاء المقاطعة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كما لا أكل الهامبورجر، فأنا نباتي، بينما كثيرون من المتدينين المعادين للعلمانية يأكلون الهامبورجر ويشربون الكوكاكولا، ولا ولم أسكن في مبنى سابق التجهيز، وأكره كارتون توم وجيري لأني ابن حضارة زراعية تحب القطط وتكره الفئران، وأخيرا فقدت أي رغبة في مشاهدة أفلام الويسترن من أكثر من خمس وثلاثين سنة ولم أعد أستمتع بها.

الخميس، 22 سبتمبر 2016

مخربشات
عاشق القاهرة
عماد أبو غازي



 فرنسي في الثمانين هذا العام (2005)، ولد في 2 أغسطس 1925، أمضى أكثر من نصف قرن من عمره دارسًا لتاريخ الشرق، ووجه جزءًا كبيرًا من حياته العلمية إلى البحث في تاريخ القاهرة، حتى أصبحت عشقًا دائمًا له، إنه المؤرخ الفرنسي الكبير أندريه ريمون الذي يزور القاهرة في هذه الأيام لحضور احتفالات مصر بعامه الثمانين، من خلال ندوة علمية كبيرة، تنظمها الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة، وتدور حول المجتمع المصري في العصرين المملوكي والعثماني، الموضوع الأثير لدى أندريه ريمون، تستمر الندوة من 2 إلى 4أبريل، ويشارك فيه مجموعة من الباحثين والباحثات من مصر وبعض البلدان العربية، يدرسون فيها أعمال هذا الشيخ الجليل الذي قدم لدراسات التاريخ العثماني الكثير، وأسهم في إلقاء الضوء على المجتمع المصري في ذلك العصر، الذي ظل عصرًا مجهولًا لدارسي التاريخ لعقود طويلة حتى جاءت دراسات ريمون لتعرفنا بهذا العصر، وتفتح الباب أمام أجيال من الباحثين للغوص في أعماق تاريخ مصر العثماني منقبين في المخطوطات والوثائق خلف خطى هذا الرائد العظيم، وبالنسبة لأبناء جيلي من دارسي التاريخ الذين التحقوا طلابًا بالجامعة في مطلع السبعينيات كان لاسم أندريه ريمون وقع السحر، وقد عرفه جيلي من خلال ترجمة الأديب والكاتب والمترجم الراحل زهير الشايب لبعض أبحاثه ودراساته في كتاب صدر عن مؤسسة روزاليوسف في عام 1974، وقد صدر بعنوان "فصول من تاريخ القاهرة في العصر العثماني"، وأظن ـ إن لم تكن قد خانتني الذاكرة ـ أن زهير الشايب كان قد نشر بعضًا من هذه الفصول قبل صدورها في الكتاب على حلقات متوالية في مجلة الثقافة التي كان يصدرها يوسف السباعي، والشايب هو صاحب أول وأهم ترجمة عربية لكتاب "صف مصر" الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، كما ترجم أعمالًا عدة في التاريخ عن الفرنسية.
 ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث التي ترجمها الشايب وضمنها كتابه صدرت بعد عامين فقط من حصول ريمون على درجة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون "باريس 1" عام 1972، وهو بالمناسبة العام الذي التحقت فيه بكلية الآداب جامعة القاهرة، أما الرسالة التي قدمها ريمون للحصول على دكتوراه الدولة ودشنته زعيمًا للمتخصصين في تاريخ مصر في العصر العثماني ورائدًا لهم فكان موضوعها "الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر"، وقد ترجم اثنان من الباحثين الشبان ـ هما الدكتور ناصر إبراهيم وباتسي جمال الدين ـ هذا العمل المهم إلى العربية ليصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في سلسلة المشروع القومي للترجمة، بمقدمة للمؤرخ المصري الدكتور رؤوف عباس، ولا شك في أن نقل هذا العمل العمدة إلى العربية بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إنجازه، سيسهم في مزيد من التعرف على فكر ريمون.
 هذا ولم تكن دراسة ريمون عن الحرفيين والتجار في القاهرة هي بداية علاقته بتاريخ المنطقة العربية كما لم تكن كذلك رسالته الأولى للدكتوراه، فقد حصل ريمون على درجة دكتوراه الفلسفة من جامعة أكسفورد عام 1954 برسالة موضوعها "السياسة البريطانية تجاه تونس 1830 ـ 1881"، بعد تخرجه من جامعة السوربون بعشر سنوات، وقد أمضى أندريه ريمون النصف الثاني من الخمسينيات دارسًا ومدرسًا بين دمشق والقاهرة وتونس، ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق في منتصف الستينيات ليمضي عشر سنوات بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية هناك، وطوال خمسين عامًا قدم ريمون دراسات عديدة أهمها: "أسواق القاهرة" بالاشتراك مع العالم الفرنسي الكبير جاستون فييت الذي يعد أستاذًا له، و"المدن العربية الكبرى في العصر العثماني"، و"القاهرة"، و"ابن أبي ضياف: حوليات ملوك تونس"، و"قاهرة الإنكشارية"، و"مصريون وفرنسيون في القاهرة (1798 ـ 1801)، و"حلب في العصر العثماني"، فضلًا عن ما يربو على مئة بحث ومقال نشرت في الدوريات الفرنسية والإنجليزية ترجم العديد منها إلى العربية ونشر بمجلات مختلفة بالقاهرة ودمشق وبيروت.
 ولم تقتصر جهود ريمون في خدمة الدراسات العربية على مؤلفاته المتعددة في التاريخ، بل أسهم في تعريف الغرب بالثقافة العربية من خلال تأسيسه لمعهد بحوث ودراسات العالم العربي والإسلامي في جامعة إكس أن بروفانس الفرنسية، ومن خلال إسهامته في نشاط معهد العالم العربي بباريس الذي كان نائبًا لرئيسه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

 أما آخر أعماله فكان نشر وتحقيق "ديوان القاهرة 1800 ـ 1801"، الذي صدر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة عام 2003، ومثلما شاركه أستاذه جاستون فييت في عمل علمي من أوائل أعماله، شارك هو تلميذه محمد عفيفي في تحقيق وقائع ديوان القاهرة، والدكتور محمد عفيفي أستاذ للتاريخ الحديث بجامعة القاهرة وأحد أبرز المتخصصين المصريين في العصر العثماني، ووقائع ديوان القاهرة هذه جمعها الشيخ إسماعيل الخشاب أحد معاصري الجبرتي وصديقه المقرب إليه، وكان الخشاب يعمل بالديوان الذي أسسه بونابرت عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، وضم هذا العمل محاضر جلسات الديوان ووقائعه، وهي نصوص ممتعة وطريفة تكشف عن جوانب من الحياة اليومية للمصريين والفرنسيين في زمن الحملة الفرنسية على مصر، وربما تكون لنا عودة إلى الديوان ووقائعه في مقال آخر.

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016


مخربشات

ثومه ومختار
عماد أبو غازي




   
منذ أسابيع قليلة أثير موضوع زوج أم كلثوم والصحفي الكبير مصطفى أمين، يومها تذكرت واقعة مرت بي منذ عام تقريبا، عندما دخل عليّ في مكتبي صديقي الشاعر حسن خضر مبتسما كعادته، وقدم لي صفحة مصورة من مجلة قديمة عنوانها: "أم كلثوم تتزوج سبع مرات"، والمقال بتوقيع "حسن"، وأخبرني أن محرر المقال هو الأستاذ حسن رمزي، وقد وقع على المقال باسمه الأول، والمقال في عدد قديم من مجلة "الأستوديو"، التي كانت تصدر في الأربعينيات من القرن الماضي، والمقال كان منشورا في العدد 53 الصادر يوم الأربعاء 4 أغسطس 1948، وعندما لاحظ حسن خضر نظرات عيني تتساءل: "وما لي أنا ومال أم كلثوم اتجوزت سبع مرات والا سبعين مرة؟" أسرع موضحا: الجواز الثالث يخصك. فسألت متعجبا: "يخصني أنا! ليه؟"، فقال لي: "أقرا وأنت تشوف". فقرأت:
"أما الزواج الثالث فكان للإشاعات نصيب كبير فيه، فقد لاحظ أصدقاء (ثومه) أن المثال المشهور المرحوم محمود مختار كان يكثر من التردد عليها والانفراد بها ساعات .. مما جعلهم يفسرون ذلك بأن مختار متزوج من أم كلثوم سرا، وقد راجت هذه الإشاعة فعلا، وكان الناس يصدقونها لولا أن أعلنت الحقيقة، وهي أن مختار كان يصنع لها تمثالا.. وقد انقطع عن الزيارة عندما انتهى من صنعه".
  فهمت قصد الحسنان، حسن خضر الذي اعتبر الموضوع يخصني لأنه كانت هناك إشاعة زواج بين جدي وأم كلثوم، وحسن رمزي كاتب المقال حيث يشير إلى تمثال من الشمع صنعه مختار لأم كلثوم في مطلع العشرينيات ليوضع في متحف جريفان للتماثيل الشمعية بباريس، وكان مختار يعمل في ذلك الوقت مديرا فنيا للمتحف، وطلب منه أن يصنع تمثالا لشخصية تمثل الإبداع الفني في مصر، فاختار مختار أم كلثوم، وصنع لها تمثالا شمعيا وضع في إحدى قاعات المتحف إلى جانب تمثال راقصة البالية الروسية الشهيرة آنا بافلوفا، وهذه التماثيل دمرت للأسف أثناء الحرب العالمية الثانية، فعندما كنا نحتفل بالمئوية الأولى لميلاد مختار سنة 1991 أرسلنا للمتحف نطلب منهم معلومات عن مختار وتماثيله لديهم، فجاءنا الرد أن المتحف دمر بما فيه من أعمال وسجلات أثناء الحرب العالمية الثانية، فأرسلنا نحن لهم صورا لما لدينا من تماثيل وأوراق تخص فترة عمل مختار بمتحفهم.
  ورغم أن مختار صنع تمثالا آخر لأم كلثوم، هو تمثال نصفي صغير لم يتبق منه سوى صورته، إلا أنني أعتقد أن القصة التي أشار إليها حسن رمزي في مقاله تتعلق بالتمثال الأول، تمثال متحف جريفان، فالتمثال الثاني مجهول المصير، ولا يعرف أحد إن كان مختار قد أكمله أم لا؟ والمصدر الوحيد لمعرفتنا بالتمثال الأخير هو صورة منشورة له وهو بعد منحوتا في الطين لم يصب، والصورة منشورة  في كتاب بدر الدين أبو غازي عن مختار، وأذكر جيدا أن بدر الدين أبو غازي سأل السيدة أم كلثوم ذات مرة في منتصف الستينيات عن مصير هذا التمثال، فأبدت استغرابها التام وأخبرته أنها لا تعرف شيء على الإطلاق عن هذا التمثال! وإذا كانت أم كلثوم قد جلست أمام مختار ليصنع لها ذلك التمثال فلا شك في أنها كانت ستتذكره، وأعتقد أن مختار قد نحت التمثال من صورة فوتوغرافية لأم كلثوم، وهي صورة موجودة بالفعل في أوراقه الخاصة ترتدي فيها أم كلثوم عصبة رأس تماثل تمام تلك التي نحتها مختار في تمثاله لها.
  دارت كل هذه الخواطر في ذهني ورويتها لحسن، وعندما عدت إلى المنزل في المساء أخذت أقلب في أوراق مختار الخاصة وكانت المفاجأة خطاب غير مؤرخ مرسل لمختار من صديقه الدكتور حافظ عفيفي (حافظ باشا عفيفي رئيس الديوان الملكي لاحقا)، الجزء الأكبر من الخطاب يدور حول أم كلثوم وعلاقتها بمختار وغضبه منها، يقول حافظ عفيفي في خطابه:
 "عزيزي مختار
سرني ما قرأت من أخبارك في خطابك الأخير، وسرني أكثر من هذا أملك وأمل أساتذتك في نجاحك في المعرض القادم، وإني  وجميع أصدقائك هنا نعتقد أنك جدير بالنجاح، فعليك بالعمل وسيكون هذا النجاح حليفك.
 أخبرتني ثومه اليوم أنه لم يصلك منها خطابات وقد دهشت لهذا الخبر، أولا لأني كتبت لها بنفسي عنوانا لخطاب أرسلته لك، ولكني زالت دهشتي بعد ذلك إذ تذكرت أني أخطأت العنوان فقد كتبت على الظرف شارع بدلا من طريق، وقد وقعنا في هذا الخطأ في السياسة التي أرسلت لك في يوم سفرك بهذا العنوان حتى أرسلت لي خطابا تندهش من عدم وصول السياسة إليك فحققت المسألة بنفسي فاتضح لي هذا الخطأ، وعلى ذلك فلا لوم على سومه في هذا الموضوع، ولكن اللوم عليّ أنا، فإن كان لابد من الغضب بعد هذا البيان فاغضب مني لا من سومه، وكيف يمكن سومه أن تقصر في واجب الرد عليك وقد عملت لها ما عملت وتعترف بأفضالك في كل فرصة مع أنك تعرف إنها بخيله بتقديم التشكرات، حتى إنك كنت دائما تقول لها: هو المفروض بنقول إيه؟ إذا وجدت أنها قصرت في هذا الموضوع، وأني أؤكد لك أني لم أشعر بضرورة أن أقول لها ذلك فيما يختص بما تعمله أنت لها، فإنها دائما شاكرة مسرورة، والآن وقد صححت لها العنوان فلابد أن يصلك منها من الخطابات ما يعوض المدة الماضية..."
  أما السطور القليلة الباقية من الخطاب فتدور حول موضوع خاص بعزيز المصري... وقد حاولت أن أعثر بين أوراق مختار الخاصة على الخطابات التى "تعوض المدة الماضية" أو أي خطابات من أم كلثوم فلم أجد للأسف! فهل توقفت أم كلثوم عن مراسلة مختار؟ أم تخلص مختار من تلك الخطابات لسبب أو لأخر؟ أم فقدت بين ما فقد من أوراقه؟ لا أملك إجابة إلى الآن...

بقيت نقطة أخيرة، وهي أن حسن رمزي قبل أن يختتم الحديث في موضوع زيجات أم كلثوم يذكر أن "في الأوساط السياسية إشاعة مؤداها أن هناك مشروع زواج بين أم كلثوم وبين صحفي كبير تربطه بها صلة صداقة وثيقة ويقول مطلقو هذه الإشاعة أن الزواج سيعلن عقب عودتها من الخارج وإبلالها من مرض عينيها. ونقول نحن أن هذه الإشاعة لا أساس لها من الصحة، وإن المسألة لا تخرج عن كونها صداقة متينة وإعجابا متبادلا.."

* مقالي الأسبوعي الأول في الإصدار الثاني للدستور، مارس 2005.
مخربشات 

مدونة لنشر مقالاتي في جريدة الدستور في إصداريها الأول (صفحة تراث الأمة) والثاني عمودي الأسبوعي (مخربشات)...