الخميس، 22 سبتمبر 2016

مخربشات
عاشق القاهرة
عماد أبو غازي



 فرنسي في الثمانين هذا العام (2005)، ولد في 2 أغسطس 1925، أمضى أكثر من نصف قرن من عمره دارسًا لتاريخ الشرق، ووجه جزءًا كبيرًا من حياته العلمية إلى البحث في تاريخ القاهرة، حتى أصبحت عشقًا دائمًا له، إنه المؤرخ الفرنسي الكبير أندريه ريمون الذي يزور القاهرة في هذه الأيام لحضور احتفالات مصر بعامه الثمانين، من خلال ندوة علمية كبيرة، تنظمها الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة، وتدور حول المجتمع المصري في العصرين المملوكي والعثماني، الموضوع الأثير لدى أندريه ريمون، تستمر الندوة من 2 إلى 4أبريل، ويشارك فيه مجموعة من الباحثين والباحثات من مصر وبعض البلدان العربية، يدرسون فيها أعمال هذا الشيخ الجليل الذي قدم لدراسات التاريخ العثماني الكثير، وأسهم في إلقاء الضوء على المجتمع المصري في ذلك العصر، الذي ظل عصرًا مجهولًا لدارسي التاريخ لعقود طويلة حتى جاءت دراسات ريمون لتعرفنا بهذا العصر، وتفتح الباب أمام أجيال من الباحثين للغوص في أعماق تاريخ مصر العثماني منقبين في المخطوطات والوثائق خلف خطى هذا الرائد العظيم، وبالنسبة لأبناء جيلي من دارسي التاريخ الذين التحقوا طلابًا بالجامعة في مطلع السبعينيات كان لاسم أندريه ريمون وقع السحر، وقد عرفه جيلي من خلال ترجمة الأديب والكاتب والمترجم الراحل زهير الشايب لبعض أبحاثه ودراساته في كتاب صدر عن مؤسسة روزاليوسف في عام 1974، وقد صدر بعنوان "فصول من تاريخ القاهرة في العصر العثماني"، وأظن ـ إن لم تكن قد خانتني الذاكرة ـ أن زهير الشايب كان قد نشر بعضًا من هذه الفصول قبل صدورها في الكتاب على حلقات متوالية في مجلة الثقافة التي كان يصدرها يوسف السباعي، والشايب هو صاحب أول وأهم ترجمة عربية لكتاب "صف مصر" الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، كما ترجم أعمالًا عدة في التاريخ عن الفرنسية.
 ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث التي ترجمها الشايب وضمنها كتابه صدرت بعد عامين فقط من حصول ريمون على درجة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون "باريس 1" عام 1972، وهو بالمناسبة العام الذي التحقت فيه بكلية الآداب جامعة القاهرة، أما الرسالة التي قدمها ريمون للحصول على دكتوراه الدولة ودشنته زعيمًا للمتخصصين في تاريخ مصر في العصر العثماني ورائدًا لهم فكان موضوعها "الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر"، وقد ترجم اثنان من الباحثين الشبان ـ هما الدكتور ناصر إبراهيم وباتسي جمال الدين ـ هذا العمل المهم إلى العربية ليصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في سلسلة المشروع القومي للترجمة، بمقدمة للمؤرخ المصري الدكتور رؤوف عباس، ولا شك في أن نقل هذا العمل العمدة إلى العربية بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إنجازه، سيسهم في مزيد من التعرف على فكر ريمون.
 هذا ولم تكن دراسة ريمون عن الحرفيين والتجار في القاهرة هي بداية علاقته بتاريخ المنطقة العربية كما لم تكن كذلك رسالته الأولى للدكتوراه، فقد حصل ريمون على درجة دكتوراه الفلسفة من جامعة أكسفورد عام 1954 برسالة موضوعها "السياسة البريطانية تجاه تونس 1830 ـ 1881"، بعد تخرجه من جامعة السوربون بعشر سنوات، وقد أمضى أندريه ريمون النصف الثاني من الخمسينيات دارسًا ومدرسًا بين دمشق والقاهرة وتونس، ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق في منتصف الستينيات ليمضي عشر سنوات بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية هناك، وطوال خمسين عامًا قدم ريمون دراسات عديدة أهمها: "أسواق القاهرة" بالاشتراك مع العالم الفرنسي الكبير جاستون فييت الذي يعد أستاذًا له، و"المدن العربية الكبرى في العصر العثماني"، و"القاهرة"، و"ابن أبي ضياف: حوليات ملوك تونس"، و"قاهرة الإنكشارية"، و"مصريون وفرنسيون في القاهرة (1798 ـ 1801)، و"حلب في العصر العثماني"، فضلًا عن ما يربو على مئة بحث ومقال نشرت في الدوريات الفرنسية والإنجليزية ترجم العديد منها إلى العربية ونشر بمجلات مختلفة بالقاهرة ودمشق وبيروت.
 ولم تقتصر جهود ريمون في خدمة الدراسات العربية على مؤلفاته المتعددة في التاريخ، بل أسهم في تعريف الغرب بالثقافة العربية من خلال تأسيسه لمعهد بحوث ودراسات العالم العربي والإسلامي في جامعة إكس أن بروفانس الفرنسية، ومن خلال إسهامته في نشاط معهد العالم العربي بباريس الذي كان نائبًا لرئيسه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

 أما آخر أعماله فكان نشر وتحقيق "ديوان القاهرة 1800 ـ 1801"، الذي صدر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة عام 2003، ومثلما شاركه أستاذه جاستون فييت في عمل علمي من أوائل أعماله، شارك هو تلميذه محمد عفيفي في تحقيق وقائع ديوان القاهرة، والدكتور محمد عفيفي أستاذ للتاريخ الحديث بجامعة القاهرة وأحد أبرز المتخصصين المصريين في العصر العثماني، ووقائع ديوان القاهرة هذه جمعها الشيخ إسماعيل الخشاب أحد معاصري الجبرتي وصديقه المقرب إليه، وكان الخشاب يعمل بالديوان الذي أسسه بونابرت عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، وضم هذا العمل محاضر جلسات الديوان ووقائعه، وهي نصوص ممتعة وطريفة تكشف عن جوانب من الحياة اليومية للمصريين والفرنسيين في زمن الحملة الفرنسية على مصر، وربما تكون لنا عودة إلى الديوان ووقائعه في مقال آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق