الخميس، 6 ديسمبر 2018

الثقافات الأفريقية وتحديات عصرنا... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثقافات الأفريقية وتحديات عصرنا
عماد أبو غازي
 إن قارتنا الأفريقية تواجه تحديات كبيرة، أغلبها ورثناه عن الحقبة الاستعمارية، وبعضها كامن في جذور تراثنا تراكم عبر الزمن وتفجر في لحظات الضعف.

في افتتاح الملتقى الأول للثقافات الأفريقية مايو 2010

لقد ترك لنا الاستعمار ميراثًا مثقلًا بالمشكلات في القارة، وقد نجحنا في تجاوز بعضه، لكن مشكلات جديدة ظهرت مع سنوات الاستقلال وتفاقمت، خرج الاستعمار وترك انقسامات عرقية وقبلية في كثير من بلدان القارة، وانقسامات دينية أحيانًا في بعض هذه البلدان، وقد أدت هذه الانقسامات إلى حروب أهلية سقط فيها مئات الألوف من الضحايا وشرد الملايين لاجئين عبر الحدود وأُهدرت الموارد وسقطت مؤسسات الدولة المدنية الحديثة، وتداخلت الحروب الأهلية بالحروب الأقليمية بين دول القارة بسبب تداخل الامتدادات العرقية والقبلية عبر الحدود التي ورثتها القارة عن الحقبة الاستعمارية، وأقرتها منظمة الوحدة الأفريقية باتفاق دولها عند تأسيسيها في محاولة لتلافي انفجار الصراعات بين دول القارة.
 وإذا نظرنا إلى حال قارتنا في هذا العام الذي يمر فيه نصف قرن على موجة الاستقلال الكبرى لدول القارة سنجد حال القارة لا يسر، أفريقيا الغنية بمواردها وثرواتها تعجز شعوبها عن الاستفادة بتلك الموارد الضائعة المهدرة بين الفساد والصراعات والحروب، الأمراض والأوبئة تفتك بشعوب القارة، وبدلًا من أن نصارعها نتصارع فيما بيننا.  
 وإذا كان الساسة قد عجزوا على مدى نصف قرن من الاستقلال عن تجاوز تلك المشكلات، بل ربما فاقموها، فإن المثقفين قد يكون لهم دور في انطلاق القارة انطلاقه جديدة، وربما كان هذا التصور وراء اتجاه الاتحاد الأفريقي الذي حل محل منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاهتمام بالعمل الثقافي بصورة واضحة.
 وأظن أنه يقع على مثقفي القارة ومبدعيها عبء التصدى لكثير من هذه المشكلات من مدخل الثقافة، عليهم أن يسعوا لامتلاك زمام المبادرة من أجل تجاوز العوائق التي تقف أمام مسيرة شعوبنا، خاصة أن ثقافتنا تشكل ميزتنا التنافسية الأساسية في عالم اليوم.  
 إن الثقافة قوة دافعة للمجتمعات تمكنا من التصدي لكثير من المشكلات التي تواجهنا، فالثقافة آداة لتحقيق المشاركة المجتمعية وتنمية شعور الانتماء وتفعيل قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، والثقافة آداة لنشر قيم التسامح وقبول الآخر المختلف عرقيًا وقبليًا ودينيًا، والثقافة مدخل للترويج لقضايا النوع الاجتماعي عبر تقديم رسالة ثقافية تعلى من قيمة المرأة ودورها فى بناء المجتمع وفى تحقيق التنمية الشاملة، وهي في الوقت ذاته وسيلة لتأهيل الشباب والأطفال والأجيال الجديدة عمومًا للمشاركة المجتمعية عبر الثقافة، من خلال إدماجهم في الأنشطة الثقافية المختلفة، ومن خلالها يمكن المساهمة في خلق فرص جديدة للعمل والاستثمار من خلال التدريب الحرفى وتنمية المهارات للشباب في مجال الصناعات التقليدية والتراثية، بما يضمن الحفاظ على هذه الصناعات وعدم اندثارها من ناحية، ومواجهة البطالة بإتاحة فرص الاستثمار فى المشروعات الصغيرة أمام الشباب من ناحية أخرى.
  وإذا كان عصر العولمة قد شكل تحديًا جديدًا يضاف إلى تحديات كثيرة واجهنها، فيجب أن نجعل من معطيات العولمة فرصة جديدة تتيح لمثقفينا التعامل مع مشكلات القارة، وتتيح لثقافاتنا في القارة الأفريقية المزيد من الحضور العالمي والإسهام في رقي الإنسانية، إن قارتنا التي شهدت عبر تاريخها الممتد حضارات أسهمت في التراث الإنساني العالمي إسهاما إيجابيًا فعالًا تملك من الرصيد الحضاري والثقافي ما يؤهلها لمواجهة تحديات العولمة من خلال انتاج ثقافي قوي يؤكد هويتها  ويعزز مقومات شخصيتها، وتدافع عن خصوصيتها في ثقافة العصر الجديد وقيمه، لقد أصبحت الثقافة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الجديدة رهانًا ينبغي كسبه، فثورة الاتصالات التي حولت العالم إلى قرية كونية صغيرة تفرض علينا أن نواجه التحدي الذي تفرضه والمتمثل في سيادة ثقافة الأقوى تقنيًا، خاصة بعد أن أصبحت الثقافة والمعرفة في الوقت الراهن قوة وسلطة وسلعة تفرض سيطرتها وتصدر عبر أنحاء العالم بواسطة الأقمار الصناعية من خلال الفضائيات والإنترنت، وأصبحت الصناعات الثقافية ذات مردود اقتصادي كبير يفوق أحيانًا عائد الصناعات التقليدية، إن المجتمعات النامية تواجه تحديات كبيرة تفرضها طبيعة الاقتصاد العالمي الجديد القائم على تقنية الاتصالات، وإذا لم نقم صناعاتنا الثقافية على أساس قوى فلن تقوم لنا قائمة، لكن هذا الأساس القوى لن يتحقق إلا بمزيد من الحرية الفكرية والشفافية، وبالتعاون بين الدول والمؤسسات الأهلية والمؤسسات الاقتصادية العاملة في مجال الصناعات الثقافية، وباحترام مبادرات المجتمع المدني، وبإشاعة ثقافة التسامح وتقبل الآخر، والاعتراف بالتنوع الثقافي الذي يعتبر من خصائص قارتنا، والتعددية التي نستطيع بجهودنا أن نجعل منها عنصر قوة وثراء، بدلًا من أن تكون عنصر ضعف وانقسام.
  لكل هذا تأتي أهمية عقد المؤتمرات والملتقيات الثقافية التي تجمع المثقفين من مختلف بلدان القارة، لتحقيق التفاعل فيما بينهم، وللناقش في قضايا واقع قارتنا الثقافي وطرح التصورات المختلفة من أجل مستقبل أفضل لأفريقيا من أجل مكانة تليق بهذه القارة.
الدستور 26 مايو 2010

الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

أيام أفريقية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
أيام أفريقية
عماد أبو غازي
 على مدى ستة أيام شهدت القاهرة لقاءات ثقافية أفريقية متواصلة، بدأت في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية بافتتاح مؤتمر "تفاعل الثقافات الأفريقية في عصر العولمة" الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة على مدار أربعة أيام، وشارك فيه أكثر من سبعين من مثقفي القارة الأفريقية ومبدعيها وباحثيها، من مصر والسودان وإرتيريا وأثيوبيا والصومال وكينيا وتنزانيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا وغانا والسنغال ونيجريا والنيجر ومالي وتشاد وموريتانيا والمغرب وتونس وليبيا.

كلمتي في افتتاح الملتقى الأول للثقافات الأفريقية
 وقد أعقب هذا المؤتمر، وعلى مدى يومين، اجتماع تشاوري تخطيطي للكوديسريا (مجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا) لدراسة دمج اللغة العربية في اللغات المستخدمة في المجلس، في محاولة لتحقيق مزيد من التفاعل بين الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية في شمال القارة وباقي زملائهم، وقد شارك في الإعداد مركز البحوث الأفريقية العربية بالقاهرة، الذي يرأس مجلس الأمناء به المفكر الكبيرسمير أمين، ويديره واحد من الأسماء البارزة في مجال الدراسات الأفريقية بمصر، حلمي شعراوي.
 كانت أفريقيا في بؤرة الاهتمام الثقافي في القاهرة على مدى الأسبوع الماضي، أفريقيا التي غابت كثيرًا عن اهتمامتنا عادت مرة أخرى لتحتل مكانتها ضمن أولوياتنا الثقافية.
 لقد كان مؤتمر تفاعل الثقافات الأفريقية مجرد بداية، فالمؤتمر لن يكون الأخير، بل سيعقد بشكل دوري مرة كل عامين، وإذا كانت الدورة الأولى للمؤتمر قد اتخذت لها موضوعًا شديد العمومية باعتبارها بداية أولى للتفاعل والتعارف، فسوف تخصص كل دورة من دورات المؤتمر لمجال معرفي أو إبداعي، أو لموضوع بيني محدد.


 والاهتمام بأفريقيا ينبع من أفريقية مصر جغرافيًا وحضاريًا، فإذا كانت أفريقيا منبع الحضارة الإنسانية، بل منبع الإنسانية نفسها، فمنها خرج الإنسان الأول، وعلى أرضها ظهرت أقدم الحضارات على كوكبنا، فإن الحضارة المصرية القديمة تعد أقدم حضارات قارتنا المعروفة، وإذا كانت الحضارة المصرية قد تفاعلت طوال التاريخ مع حضارات البحر المتوسط وغرب آسيا وأثرت فيها وتأثرت بها، فإن جذور الحضارة المصرية جذورا أفريقية، كما أن تأثيرتها امتدت إلى داخل القارة أيضًا.
 ولما كانت الحضارة ـ أية حضارة ـ هي نتاج إبداع العقل والفكر الإنساني عندما يمارسان نشاطهما في حرية وتسامح وفي إطار حوار حر خصب مع الآخرين، فإنها لا تستطيع أن تعيش منعزلة عن غيرها من الحضارات، وبقدر ما يحمل تاريخ قارتنا من مشاهد للصراع الحضاري بقدر ما يحمل أيضًا صورًا للحوار والتفاعل، لقد قدمت قارتنا للعالم في عصور مختلفة نماذج لهذا الحوار، ففي داخلنا يكمن نسيج حضاري متميز، تشكل على امتداد قرون طويلة من تفاعل حضارات وثقافات عديدة امتزجت كلها لتقدم للبشرية انجازات رائعة فى شتى مجالات العلوم والفنون، لم تزل بعض شواهدها قائمة إلى يومنا هذا، وما زالت القارة تحمل إمكانيات كبيرة كامنة تتيح لشعوبنا فرص التطور والانطلاق.
 وأظن أن الثقافة مدخلًا مهمًا كي نحقق أحلامنا وآمالنا في مستقبل أفضل لقارتنا، فكما أكد تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة، بحق، فإن: "الثقافة والقيم هما روح التنمية، فهما توفران زخمًا لها، وتيسران الوسائل اللازمة لتعزيزها، وتحددان تصور الناس لأغراضها وغايتها، إضافة لذلك فإنهما تساعدان على تشكيل آمال الناس ومخاوفهم، وطموحاتهم ومواقفهم، وأفعالهم اليومية، وتشكلان مُثل الناس، وتلهمان أحلامهم في حياة فاضلة لهم ولأجيالهم القادمة".
 هذا وتميل الرؤى الجديدة فى التنمية إلى أنه لتعزيز التنمية الإنسانية لابد من إيلاء اهتمام خاص بعدد من القيم التى تدفع بالتنمية إلى الأمام، مثل التسامح واحترام التنوع الثقافي، ومراعاة حقوق واحتياجات المرأة والشباب والأطفال، وحماية البيئة، ودعم شبكات الأمان الاجتماعي لحماية الضعفاء، وعدم التساهل مع قضايا البطالة المفرطة، وتقدير قيمة المعرفة والتعليم، والاهتمام بالمفاهيم التى تؤدى إلى تحقيق الكرامة والرفاه الإنسانى.
 كما أن مفهوم التنمية لم يعد قاصرًا الآن على محاولة اللحاق اقتصاديًا بالدول الأكثر تقدمًا بقدر ما يهتم بالكشف عن قدرات الشعوب وإمكان استغلالها، الأمر الذي يعنى ضرورة التعرف على ثقافات الشعوب ودراستها دراسة عميقة لفهمها والاسترشاد بها، من أجل صياغة سياسات ثقافية تسهم في رقي شعوبنا، وتضع التنمية الشاملة لمجتمعتنا نصب عينيها.
 إن الربط بين إستراتيچيات العمل الثقافي وأهداف المجتمع التنموية بات ضرورة لازمة لتحقيق التنمية في ظل معطيات مجتمع المعرفة، إذ أن السياسة الثقافية لن تؤتى ثمارها ما لم نشارك جميعًا ـ مثقفون وأجهزة ثقافية ـ في دفع عجلة التنمية الشاملة، خاصة وأن أي خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تظل قاعدتها هشة ما لم تستند إلى تنمية ثقافية جذرية، تعتمد ديمقراطية الثقافة باعتبارها هدفًا ووسيلة في آن واحد.
 وللحديث بقية.
الدستور 19 مايو 2010

الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

قضية الليالي... مواقف ومواقف.... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
قضية الليالي... مواقف ومواقف
عماد أبو غازي
 في مواجهة الهجمة التي تعرضت لها "ألف ليلة وليلة"، وردا على دعاوى مصادرتها وملاحقة من أصدروها، وقف غالبية المثقفين في مصر موقفا موحدا ضد دعاوى المصادرة، وضد فرض الوصاية على العقول، وتحديد جماعة من الناس لنا ما نقرأه وما لا نقرأه.
 تقاربت معظم آراء المثقفين والمبدعين في الحوارات الصحفية والبرامج التلفزيونية والإذاعية، واتحدوا في رفضهم لاستئصال أجزاء من التراث، ورفضهم للحجر على حقنا في أن نقرأ ما نريد.
 وبادر اتحاد كتاب مصر إلى عقد مؤتمر أعرب فيه الاتحاد عن رفضه لمصادرة ألف ليلة وليلة، كما نظمت الهيئة المصرية العامة للكتاب ندوة ناقشت فيها ألف ليلة وليلة ودعاوى المصادرة شارك فيها عدد من النقاد والمبدعين رفضوا فيها موجات الظلام التي تحاول اجتياح ثقافتنا.
 وفي نفس الوقت أصدر رؤساء تحرير السلاسل التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة في اجتماع عقدوه برئاسة الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة قرارا بإصدار طبعة ثانية من ألف ليلة وليلة، بعد نفاد الطبعة الأولى، وقد صدرت بالفعل الأسبوع الماضي مذيلة بالحكم القضائي الصادر سنة 1986، والذي قضى برفض مصادرة ألف ليلة وليلة عندما أثيرت ضجة مماثلة حولها حينذاك، وكان حكم المحكمة باتا وقاطعا في أن ألف ليلة وليلة تراث إنساني لا يجوز المساس به.
 ورغم أن مواقف غالبية المثقفين والمبدعين كانت واضحة في رفضها لمنطق المصادرة والوصاية، إلا أن هناك من كان لهم موقف آخر.
 فهناك من رأى مثل الأستاذ الدكتور أحمد درويش "أن كتب الأدب شأنها شأن كتب العلم ليست متاحة وسهلة لكل الناس، فلا يعطى الكلام العلمي لغير المتخصصين، خاصة إذا كان من المراهقين"، ورغم أن الدكتور درويش يعود فيؤكد رفضه لمنع هذه الكتب لكنها يرى تحديدها "في إطار الطبعة المتخصصة للقارئ المتخصص".
 وفي الحقيقة فإن العالم قد تجاوز فكرة احتكار العلم والمعرفة على فئة من المجتمع دون غيرها منذ زمن بعيد، لقد حرر اختراع يوحنا جوتنبرج للمطبعة الإنسانية من سيطرة حفنة قليلة من السدنة للمعارف والعلوم، وأصبح العلم والأدب متاحا للكافة.
 وعندما طبعت هيئة قصور الثقافة ألف ليلة وليلة، أو بالأحرى أعادة نشر طبعة بولاق الصادرة للمرة الأولى في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لم تطبعها للمراهقين أو للأطفال، إنما طبعتها طبعة عامة في آلاف قليلة من النسخ، ولا أعرف نموذجا سابقا في عصرنا هذا يحدد فيه سن من يمكن أن يطالعوا كتاب، أظن أن الأفلام السينمائية وحدها هي التي يتم تحديد سن لمشاهدتها بمعرفة أجهزة الرقابة، وحتى هذا القيد الرقابي يكاد يسقط مع انتشار التقنيات الحديثة في نسخ وتداول الأفلام، وتبقى مهمة الأجهزة الرقابية التنبيه ومهمة الأهل المتابعة، لكن الكتاب شيء آخر.
 وقد تعجبت من المقارنة بين الليالي والمخدرات في سياق التأكيد على أن الحرية ليست مطلقة، فمن المؤكد أن الحرية تحدها قيود عدم الإضرار بالغير أو بالنفس، لكني لا أظن أن الأدب مهما جاء فيه من عبارات يمكن أن يكون ضارا مثل المخدرات.
 أما عن تبسيط الأدب فهذا أمر آخر، وأظن أن ألف ليلة وليلة قد صدرت لها طبعات مهذبة وأخرى مبسطة، وثالثة للأطفال، لكن هذا لا ولن يلغي الاحتياج إلى وجود الطبعة الكاملة والتي تصدر في إطار سلسلة متخصصة في كتب التراث.
 أما القول: "إن هناك ألفاظا كانت مقبولة في وقت ما ـ ليس في الأدب وحده بل في الدين أيضا ـ وأصبحت الآن غير مقبولة"، فيدفع لطرح السؤال، مقبولة من من؟ وإذا كان هناك بضعة آلاف اشتروا ألف ليلة وليلة وقبلوها، وعشرات الآلاف غيرهم يشترون كتبا دينية ويقبلوها، فمن الذي يمكن أن يعطي لنفسه حق الوصاية على ذوق الناس.
 ومن حدد الذوق العام في الوقت الحالي؟ ومن يملك تحديد حساسيته من استخدام بعض الألفاظ الموجودة في ألف ليلة وليلة؟
 هل سيخدش حياء الذوق العام عبارات تأتي في سياق نص أدبي، وهذا الذوق العام يسمع ليل نهار أسوأ الألفاظ على قارعة الطريق!
 ثم يأتي كاتب في سياق تحفظه على موقف المثقفين المعترضين على مصادرة ألف ليلة وليلة ليتحدى "أن يقوم أحد المنتفضين ضد المصادرة بنشر مقاطع منها في مقال أو موضوع صحفي يقرأه العامة"، ويتساءل "إننا لم نسمع صوتا من اتحاد الكتاب أو غيره من مؤسساتنا الثقافية الرسمية حين جرت عملية ختان دامية لمناهج التعليم لحذف واستبعاد ما يعتبره من بيدهم الأمر ضد "ثقافة السلام"...لماذا نكون ضد المصادرة هنا ومع المصادرة هناك؟
 إنه نموذج لخلط الأمور ببعضها، من قال إن عبارة تأتي في سياق نص أدبي يمكن نشرها في مقال صحفي؟ ثم ما علاقة مناهج التعليم بالتراث الأدبي الذي ثار المثقفون دفاعا عنه؟ ومن قال إن مناهج التعليم لا تمس، إن طبيعة مناهج التعليم أن تتغير ويعاد النظر فيها بشكل مستمر، ومن الطبيعي أن يحذف منها ويضاف إليها، أما التراث الذي تركه لنا الأقدمون وإبداع المعاصرين، فلا يحق لأحد أن يمسه أو يفرض عليه وصايته.
الدستور 12 مايو 2010

الخميس، 4 أكتوبر 2018

الوصاية على عقل مصر


مخربشات
الوصاية على عقل مصر
عماد أبو غازي
 عدت من رحلتي اللندنية بعد رفع الحظر على الطيران لأواجه الحذر على العقول، فقد وجدت الصحافة تتحدث عن قضية جديدة من قضايا مصادرة حرية التعبير والإبداع.


 بلاغ تقدم به مجموعة من المحامين للنائب العام، يطالبون بحبس الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والكاتب الكبير جمال الغيطاني رئيس تحرير سلسلة الذخائر التي تصدرها الهيئة والتي تنشر روائع التراث العربي وتتيحها للقارئ بسعر زهيد.
 أما السبب ويا للعجب، أنهما أعادا نشر طبعة بولاق من "ألف ليلة وليلة"، تلك الطبعة التي صدرت للمرة الأولى سنة 1251 هجرية أي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وصدرت عن مطبعة بولاق التي أنشأها محمد علي باشا في إطار مشروعه لتحديث مصر.
 "ألف ليلة وليلة" نص من أهم نصوص الأدب العربي في العصر الوسيط، والنص مجهول المؤلف، أو بمعنى أدق ليس له مؤلف واحد، فما يذكره الدارسون عن ألف ليلة وليلة أنها لم تخرج بصورتها الحالية منذ البداية، وإنما أُلّفت على مراحل وأضيفت إليها على مر الزمن مجموعات من القصص بعضها له أصول هندية قديمة معروفة، وبعضها مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم، كما أن ألف ليلة وليلة ليس لها موطن واحد بل إن لقصصها مواطن متعددة، فقد ثبت أنها تمثل بيئات شتى خيالية وواقعية، وأكثر البيئات بروزا فيها هي العراق وسوريا ومصر؛ وربما نستطيع أن نقول إن القصص بشكلها الحالي يرجح أن تكون كتابتها قد اكتملت في القرن الرابع عشر الميلادي، أي في زمن المماليك.
 وقد أصبحت "ألف ليلة وليلة" نصًا أدبيًا عالميًا، وذاع صيتها وذلك منذ ترجمها المستشرق الفرنسي انطوان جالان إلى الفرنسية عام 1704م، وقد ترجمت بعد ذلك إلى لغات عديدة وعرفت باسم "الليالي العربية".
 وفي عالمنا العربي اهتم كثير من الباحثين بدراسة "ألف ليلة وليلة" باعتبارها نصًا أدبيًا من أهم نصوص التراث العربي، وربما كانت دراسة سهير القلماوي عن "ألف ليلة وليلة" من أوليات الدراسات الحديثة وأهمها عن هذا النص التراثي العظيم، كما كان من أبرز من درسوا "ألف ليلة وليلة" جمال الدين بن شيخ ومحسن مهدي، وقد رحل ثلاثتهم عن عالمنا قبل أن تصدمهم دعاوى مصادرة التراث التي نعيش في ظلالها الكئيبة الآن.


 وقد كتب د.محسن مهدي أستاذ الحضارة العربية بجامعة هارفارد والذي يعد من أهم من درسوا ألف ليلة وليلة من العرب عن هذا النص معرفًا برحلته فقال: "بعد أن انتقلت نسخة الكتاب الخطية بين مصر والشام مدة تزيد على أربعة قرون من الزمن، وترجم من نسخ خطية إلى اللغة التركية والفرنسية والإنجليزية، وظهرت منه مقتطفات مطبوعة في إنجلترا في نهاية القرن الثامن عشر من الميلاد، طبع الكتاب لأول مرة في كلكتا في الهند في جزئين، في المطبعة الهندوستانية وبرعاية كلية فورت وليم، الجزء الأول بعنوان "حكايات مائة ليلة من ألف ليلة وليلة" عام 1814 م، والجزء الثاني بعنوان "المجلد الثاني من كتاب ألف ليلة وليلة يشتمل على حكايات مائة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد" عام 1818 م، نشره الشيخ أحمد بن محمود شيرواني اليماني أحد أعضاء هيئة التدريس في قسم اللغة العربية في الكلية المذكورة؛ وقد أقتصر الناشر على وضع مقدمة موجزة باللغة الفارسية ذات الأسلوب الهندي في أول كل واحد من الجزئين".
 وبعدها بسنوات قليلة صدرت في مصر الطبعة الأولى عن مطبعة بولاق سنة 1251 هجرية، التي راجعها الشيخ الشرقاوي كبير المصححين بالمطبعة، وأعقبتها طبعات أخرى عن مطبعة بولاق كان من أشهرها طبعة الشيخ قطة العدوي التي صدرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعتبر طبعات مطبعة بولاق من أهم طبعات "ألف ليلة وليلة" وأكملها.
 ولم نجد في عصور مجد الحضارة العربية والإسلامية في الأدب والفن من يتبرأ من "ألف ليلة وليلة"، أو يتصدى للمطالبة بمنعها، كما لم نجد في القرن التاسع عشر عندما عرفت مصر المطبعة الحديثة من يدعو لمصادرتها أو لعزل محمد علي باشا الذي أمر بطبعها، أو حبس الشيخ الشرقاوي والشيخ العدوي اللذان أشرفا على طبعها وتصحيحها ونشرها، لكننا عشنا لنرى من يتصدرون لفرض الوصاية على عقولنا وتقرير ما ينبغي أن نقرأه وما لا ينبغي، مصادرين أبسط حقوقنا، حق المعرفة.


 لقد أصبحت "ألف ليلة وليلة" تراثًا للإنسانية جمعاء ومصدرًا من أهم مصادر الإلهام للمبدعين في مجالات الفنون والآداب المختلفة، والتراث الإنساني لا يملك أحد كائنًا من كان أن يصادره أو يهذبه أو يحذف منه وفقًا لهواه، لقد ترك لنا الأقدمون تراثًا علينا أن نحافظ عليه، ومن لا يعجبه هذا التراث فليبتعد عنه ولا يقرأه.
 لكننا مدينون لجمال الغيطاني وأحمد مجاهد أن أتاحا لنا "ألف ليلة وليلة" في متناول أيدينا مرة أخرى.
  والأوصياء يمتنعون.
الدستور 5 مايو 2010

الأربعاء، 23 مايو 2018

المرأة العربية المبدعة في لندن... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
المرأة العربية المبدعة في لندن
عماد أبو غازي
 اليوم الثاني من أيام الرحلة اللندنية، الخميس 15 أبريل، تبدأ أعمال المؤتمر، حوالي التاسعة صباحا إلتقينا في بهو فندق أنطونيت الذي نقيم فيه، بعض المشاركات والمشاركين يلتقون للمرة الأولى، حضرت الدكتورة نهى منظمة المؤتمر واصطحبتنا سيرا على الأقدام إلى جامعة كينجستون، الجامعة تبعد خطوات قليلة عن الفندق كما أبلغتنا نهى من قبل بالبريد الإلكتروني، اكتشفت بعد عودتي إلى الفندق أن شباك غرفتي يطل على المدخل الخلفي للجامعة.


 في قاعة المؤتمر بدأ التعارف بين المشاركين أثناء تناول الشاي والقهوة، ثم بدأت وقائع المؤتمر الذي استمر على مدى يومين، كان المؤتمر أقرب إلى حلقة بحثية تناقش إبداع المرأة العربية من زوايا مختلفة، الحاضرون في الجلسات العشر للمؤتمر هم المنظمون وصاحبات وأصحاب الأوراق البحثية وعدد من طالبات وطلاب الدكتورة نهى مولر بالإضافة إلى بعض المهتمين بالموضوع من الجامعة ومن خارجها، أظن أن الحضور كان في حدود مائة، وأظن أيضا أن هذا عدد ملائم لإنجاز عمل جاد ورصين، كانت قاعة المؤتمر مرتبة بشكل مريح.


 قبل أن تبدأ وقائع المؤتمر طلبت منا مساعدات الدكتورة نهى تعبئة استمارة تفيد موافقتنا على قيام الجامعة بتسجيل وقائع الجلسات بالصوت والصورة واستخدامها بعد ذلك، الكاميرات كانت أمامنا وليست كاميرات خفية، مع ذلك لم يبدأ التصوير إلا بعد أن وافقنا جميعا ووقعنا الاستمارات، هناك يحترمون حقوق الملكية الفكرية، فما سنقوله ملك لنا لا يجوز استخدامه إلا بموافقتنا، رغم أن الجامعة دعتنا وتحملت تذاكر سفرنا ونفقات إقامتنا، ذكرني ذلك بصديق عزيز في مصر، سينمائي مبدع يتحرك بجهاز تسجيله وكاميرته ويسجل بها في جلسات خاصة دون استئذان، حقا يخرج بتسجيلات صادقة وموثقة لشخصيات مهمة في حياتنا، لكنه يضحي بمبادئ احترام الخصوصية، بعدها بأيام كنا نسير في هايد بارك لفتت هالة جلال نظري إلى وجود لافتات تنبه زوار الحديقة إلى أن هناك كاميرات مراقبة بالحديقة، رغم أن الكاميرات واضحة تماما لكل من يدخل الحديقة، إنه احترام الخصوصية ومبادئ حقوق الإنسان، إنه فارق بين ثقافة مجتمع وثقافة مجتمع.
 جزء من جلسات المؤتمر كان شهادات لمبدعات في مجالات السينما والمسرح والإعلام والأدب ناقشن فيها تجاربهن الإبداعية من زوايا مختلفة ألقين من خلالها الضوء على موقف المجتمعات العربية من إبداع المرأة، وحاولن الإجابة على أسئلة كانت عناوين للجلسات في اليوم الأول، مثل: ماذا يعني الإبداع بالنسبة لي؟ إلى أي مدى يشكل إبداعي قيمة مهمة في مجتمعي؟ هل هناك ميزة لكوني إمرأة فيما يتعلق بإبداعي؟ والسؤال المقابل له، هل كوني إمرأة يشكل عائق في أمام إبداعي؟
 أما اليوم الثاني فبدأ بحوار أجرته نهى مع الروائية اللبنانية الكبيرة حنان الشيخ حول حياتها كقاصة.



 ثم ناقشت أبحاث المؤتمر في يومه الثاني قضايا التسويق العالمي للمنتج الإبداعي، ونظم المؤسسات التعليمية وتأثيرها على العملية الإبداعية سلبا وإيجابا، كما تضمن اليوم الثاني كذلك محاضرات عن تسويق العمل الثقافي والمبادرة الثقافية والاستجابات الثقافية السريعة لآليات الإعلام.
 شاركت في المؤتمر خمسة وعشرين من المبدعات والباحثات من لبنان والمغرب والعراق وسوريا والأردن ومصر وإنجلترا، وشارك ثلاثة باحثين من الدانمارك وإنجلترا وأنا من مصر.
 كانت الإنجليزية هي لغة المؤتمر، لكن بعد انتهاء المتحدثات في الجلسة الأولى من أبحاثهن ظهرت مشكلة، اللغة الأجنبية للمغربيات المشاركات الفرنسية وليست الإنجليزية، كان هناك ضرورة للترجمة إلى العربية أو الفرنسية، تحدث المغاربة والمصريون بالعربية التي يعرفها جل المشاركين في المؤتمر باستثناء أربعة أوروبيين تولى بعض مساعدي نهى وطلبتها الترجمة لهم، وتحدث باقي المشاركين بالإنجليزية، وقام المترجمون أيضا بالترجمة للمغاربة.
 في اليوم الأول قام المنظمون بدعوتنا على العشاء في مطعم في منطقة وسط ضاحية كينجستون يطل على نهر التيمز اسمه "ها.. ها"، كنا قد عرفنا بأخبار البركان لكن كان غالبيتنا يتصورن أن الموضوع لن يستغرق سوى ساعات ويعاد فتح المطارات.
 في اليوم الثاني، وبعد انتهاء أعمال المؤتمر عدنا إلى فندق أنطونيت وجلسنا في الحديقة لتناول المشروبات، ومعنا نهى وخلود الجمال الصحفية المصرية التي تعمل الآن في جامعة كينجستون وإحدى المشاركات في تنظيم المؤتمر، كانت الصورة قد باتت أوضح، البعض غادر الفندق إلى بيوت الأصدقاء في لندن حسب تخطيط سابق، والبعض ممن يعيشون في أوروبا يبحث عن وسائل نقل أخرى للعودة إلى البر الأوروبي، وبقينا في الفندق ستة من المشاركين بعد أن أدركنا أننا محتجزون في لندن لحين إشعار آخر.
الدستور 28 أبريل 2010

يوميات محجوز بعيدا عن الوطن... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
يوميات محجوز بعيدا عن الوطن
عماد أبو غازي
 الأسبوع الماضي كانت على موعد مع رحلتين خارجيتين متتابعتين، الرحلة الأولى إلى المملكة المتحدة بدعوة من جامعة كينجستون لحضور مؤتمر علمي حول المرأة العربية المبدعة، والدعوة الثانية إلى بيروت للمشاركة في المؤتمر الأول للسياسات الثقافية في الوطن العربي الذي تنظمه مؤسسة المورد الثقافي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، بين المؤتمرين كان ينبغي أن أمر بالقاهرة لساعات لبعض مواعيد العمل ولإلقاء محاضرتي لطلابي بجامعة القاهرة، ثم الانطلاق إلى المطار مرة أخرى في الطريق إلى بيروت، أنا استمتع بالسفر للخارج بعد سنوات من الحرمان بسبب رهاب ركوب الطائرات الذي شفيت منه وأنا في سن التاسعة والأربعين، لذلك أحاول ألا أضيع أي فرصة للسفر لتعويض ما فات فيما تبقى من العمر، المشكلة أنني أمام رحلتين قصيرتين مليئتين بالعمل بعد أسبوعين حافلين بالعمل شهدا ثلاثة مؤتمرات دولية متوالية في المجلس الأعلى للثقافة، منذ يوم 28 مارس حتى 9 إبريل، وأيام من العمل المتواصل من الثامنة صباحًا حتى منتصف الليل، مع ذلك قبلت المشاركة في المؤتمرين وأعددت أوراقي.
 يوم الأربعاء الماضي توجهت إلى المملكة المتحدة للمرة الأولى في حياتي، طائرة الخطوط الجوية البريطانية تغادر في السابعة والنصف صباحًا، علي إذًا أن أكون في المطار في الخامسة، ذهبت في الموعد وتناولت إفطاري بمطار القاهرة، ألتقيت في بوابة المغادرة بالمخرجة المصرية هالة جلال المدعوة للمؤتمر هي الأخرى.

 كانت الرحلة مريحة وصلنا إلى مطار هيثرو لم نجد سائق التاكسي في انتظارنا كما أخبرنا المنظمين للمؤتمر، اتصلت هالة بالدكتورة نهى مولر الأستاذة بجامعة كينجستون ومنظمة المؤتمر، وهي مصرية الأصل، أبلغتنا أن السيارة تلتقط زائرة أخرى من لبنان من صالة أخرى في المطار وستكون عندنا في خلال دقائق، وبالفعل قبل أن ننتهي من شرب قهوتنا، كان السيد توني سائق التاكسي يبحث عنا، نقلنا التاكسي ومعنا المخرجة اللبنانية الشابة كورين شاوي إلى فندق أنتونيت بكينجستون حيث نقيم، في الطريق مررنا بقصر أثري يرجع لهنري الثامن كما شرح لنا سائقنا، كما مررنا على نهر التيمز، إنه نهر كبير يشبه نهر النيل في حجمه، على ضفة النهر عشرات من العوامات المسكونة، تذكرني بعوامات القاهرة التي انقرضت تقريبا ولم يتبق منها إلا آحاد قليلة في منطقة الكيت كات، أذكر في طفولتي في الخمسينيات من القرن الماضي عشرات العوامات على شاطئ النيل من كوبري عباس إلى كوبري إمبابة، ظلت تنقرض وترحل إلى الشمال لتنحصر في هذا العدد القليل الذي تبقى منها، لماذا أزلناها؟ لا أعرف، هل لنحول شواطئ النيل إلى نوادي خاصة للنقابات والهيئات المختلفة؟ ربما! هذا ما فكرت فيه عندما شاهدت عوامات نهر التيمز.






 بعد وصولنا بساعة غادرنا ضاحية كينجستون الهادئة إلى لندن بالقطار، فالمؤتمر لن يبدأ إلا صباح الخميس، وقد لا تأتي فرصة أخرى لزيارة المدينة لأن المؤتمر سيتواصل على مدى يومي الخميس والجمعة، وسنغادر لندن بعد ظهر السبت، هذا ما كنا نتصوره وقتها!
 أخذنا خريطة لمنطقة كينجستون من موظفة الاستقبال في الفندق، وشرحت لنا الطريق إلى محطة ساربتون للقطارات، وهي الأقرب إلى الفندق وخطوطها الأسرع في الوصول إلى لندن.
 ذهبنا إلى المحطة، هالة وأنا، أول انطباع تطرق إلى ذهني عندما شاهدت محطة ساربتون، إنها المرة الأولى التي أدرك فيها أن مصر كانت مستعمرة بريطانية، وتأكد الشعور بقوة عندما وصلنا إلى لندن، ونزلنا في محطة وترلو، طراز محطة ساربتون من الخارج نفس طراز محطة سيدي جابر، ربما مبنى محطة سيدي جابر بلونه الحجري الأحمر أجمل من مبنى محطة ساربتون الأبيض، بطول الخط تشعر بتأثير قوي لتصميم محطات القطارات في إنجلترا على محطات القطارات القديمة في مصر كلها. تذكرنا محطة باب اللوق ومحطة مترو المعادي القديمة التي هدمت بلا مبرر مفهوم بعد تشغيل مترو الأنفاق بشهور قليلة لتحل محلها مباني قبيحة لا طابع لها.



 أخذنا نتجول في منطقة ويستمنيستر بمبانيها التاريخية وجسورها المتميزة وحدائقها التي تشغل التماثيل حيزًا واضحًا فيها، أدركت لأول مرة أيضًا معنى القوة الاستعمارية الكبرى التي كانتها بريطانيا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، زرنا الأكواريوم، متحف الأحياء المائية، وتحسرنا على ما آلت إليه أحوال حديقة الأسماك لدينا.



 عدنا في المساء إلى كينجستون، فقدت الطريق في حالة نادرة من حالات فقدان الاتجاه عندي، فإحساسي بجغرافيا المكان عالي، لكن الشوارع متشابها والعلامات التي وضعتها موظفة الاستقبال على الخريطة كانت بمظهر فسفوري أصفر اختفى تمامًا في الإضاءة الليلية للشوارع، لم نضل الطريق طويلًا ووصلنا بعد سؤال بعض المارة.
 عدنا لنستعد لليوم الأول من أيام المؤتمر.
الدستور 21 أبريل 2010

الثلاثاء، 22 مايو 2018

ثقافة المجتمع المصري وتولي المرأة المناصب القيادية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
ثقافة المجتمع المصري
وتولي المرأة المناصب القيادية
عماد أبو غازي

نظمت رابطة المرأة العربية يومي 11 و12 أبريل مؤتمرها الثالث حول المرأة العربية والقضاء في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، وبمشاركة ورعاية من أمانة الجامعة.
حمل المؤتمر عنواناً دالاً: «قصص نجاح المرأة العربية في كرسي القضاء». ويهدف المؤتمر ضمن ما يهدف إليه إلي دعم المرأة ومساندتها من أجل الحصول علي حقها الدستوري في تولي المناصب في جميع الهيئات القضائية دون تفرقة بين المرأة والرجل خاصة بعد أن أثبتت المرأة نجاحها في هذه المناصب من خلال تقارير التفتيش القضائي.
وكانت رابطة المرأة العربية التي تتولي رئاستها الدكتورة هدي بدران قد بدأت حملتها من أجل تولي المرأة المصرية منصب القضاء عام 1998 بعد أن وصلت المرأة في 11 بلدا عربيا إلي مناصب القضاء وظلت المرأة في مصر محرومة من حقها في ولاية القضاء.
وكانت البداية بمؤتمر الرابطة الأول: «المرأة العربية في الهيئات القضائية» الذي عقد بالتعاون مع نادي قضاة مصر.
وفي عام 2002 عقدت الرابطة مؤتمرها الثاني بعنوان: «المرأة العربية سنوات في كرسي القضاء بالتعاون مع المجلس الأعلي للثقافة».
عندما عقد المؤتمر الأول لم تكن هناك قاضيات في مصر ونتيجة لجهود الرابطة وجهود منظمات مصرية أخري ومساندة قطاعات في المجتمع والدولة لقضايا المرأة تبوأت المرأة مناصب القضاء.
لكن علي الرغم من أن السنوات الماضية شهدت تولي المرأة في مصر عديداً من المناصب القضائية، بداية من هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية مرورا بمحاكم الأسرة ومحاكم الاستئناف وانتهاء بالمحكمة الدستورية العليا، ورغم أن عدد القاضيات في مصر أصبح خلال أقل من عشر سنوات يعد بالعشرات، فإن المرأة ما زالت محرومة من تولي بعض المناصب القضائية.
ورغم عدم وجود موانع قانونية أو دستورية تحول بين المرأة وتولي القضاء، بل علي العكس من ذلك فإن نصوص الدستور تساوي بين الرجل والمرأة في جميع الأحوال، ورغم أن هناك 11 دولة عربية تشترك مع مصر في الموروث الثقافي قد عينت قاضيات منذ سنوات، تصل في بعض البلدان إلي ما يزيد علي أربعين سنة، ففي مصر ما زال تولي المرأة للقضاء مسارا للجدل في المجتمع.
ومشكلة تولي المرأة المناصب القيادية في مصر مشكلة ثقافية بالأساس وليست مشكلة قانونية أو دستورية.
فالتطور التشريعي الذي مرت به مصر خلال قرن ونصف القرن منذ صدور أول دستور وتحول مصر إلي النظم القانونية الحديثة حتي الآن شهد تحولاً إيجابيًا تدريجيًا في الوضع القانوني للمرأة تجاه تولي المناصب القيادية. فقد انتزعت المرأة حقوقها السياسية خطوة بخطوة إلي أن نالت في دستور 1956 حق الانتخاب والترشح في المجالس النيابية، وبالفعل دخلت المرأة المصرية إلي البرلمان لأول مرة في عام 1957 بعد أقل من مائة عام علي بدء الحياة البرلمانية في مصر، ولم تمض خمس سنوات إلا وكانت المرأة المصرية قد تقلدت منصب الوزارة.
ولم يعد هناك قيد دستوري أو قانوني من الناحية النظرية علي تولي المرأة لأي منصب قيادي لكن القضية الأساسية تظل في ثقافة المجتمع المصري التي تتحفظ أو ترفض في بعض الأحيان تولي المرأة المصرية لبعض المناصب خاصة منصب القضاء، والغريب أن يأتي هذا التحفظ في المجتمع المصري الذي كانت للمرأة فيه مكانة بارزة عبر التاريخ؛ فمنذ أقدم عصور الحضارة المصرية والمرأة تحتل مكانًا مهم».
والوقائع التاريخية تؤكد تولي المرأة الحكم منذ عصر الدولة القديمة وأسماء مثل خنتكاوس ونيتوكريس وأحمس نفرتاري وحتشبسوت، وغيرهن من الملكات المصريات تشهد علي مكانة المرأة في مصر القديمة، كذلك فإن صورة المرأة في الفن المصري القديم تؤكد مبدأ المساواة التامة بين الجنسين، وهناك أيضا العقيدة الأوزيرية المصرية التي تبرز الموقع الذي تحتله المرأة في الوجدان المصري، كل هذه مؤشرات لها دلالة في تبيان مكانة المرأة في الحضارة المصرية القديمة.
وإذا كانت الحضارة المصرية القديمة قد عرفت الملكات فإنها عرفت أيضا القاضيات، بل إن العدالة نفسها رمز إليها برمز نسوي ماعت.
وكان الوضع القانوني للمرأة في إطار النظم القانونية في مصر القديمة وضعا يقوم علي مبادئ المساواة الكاملة بينها وبين الرجل، وعندما خضعت مصر لفترات طويلة من الحكم الأجنبي كانت النظم القانونية للغزاة تتسم بالتمييز لصالح الرجل، وعندما حاول البطالمة الانتقاص من مكانة المرأة المصرية وفرض تشريعاتهم علي المصريين باءت محاولاتهم بالفشل، بل انتهي عصرهم بتولي امرأة حكم البلاد، فقد كانت كليوباترا آخر من تولي حكم مصر من ملوك البطالمة.
وفي العصر الإسلامي تقبل المصريون ببساطة تولي شجرة الدر للسلطنة، كما احتفظ لها الوجدان الشعبي بمكانة خاصة في سيرة الظاهر بيبرس.
إن ما نعيشه اليوم من مواقف في مواجهة حقوق المرأة أشبه بركام من الأتربة يغطي علي الجوهر النفيس للوجدان الثقافي المصري، ويحتاج الأمر منا إلي تضافر جهود أنصار الاستنارة لإزالته.
وكما قالت السفيرة ميرفت التلاوي في كلمتها الافتتاحية للمؤتمر «إننا نحتاج إلي حراس لحقوق المرأة». 
الدستور 14 أبريل 2010

الاثنين، 21 مايو 2018

الثقافة في عصر الوسائط الحديثة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثقافة في عصر الوسائط الحديثة
عماد أبو غازي
  في مطلع الشهر الماضي عقدت مجلة العربي الكويتية ندوتها السنوية، ومجلة العربي واحدة من أعرق المجلات الثقافية العربية، جاوز عمرها الخمسين عاما حافظت خلالها على مستواها بين المطبوعات الثقافية العربية الجادة، وقد اختارت المجلة موضوعا مهما لندوتها هذا العام، "الثقافة العربية والوسائط الحديثة"، وشارك في الندوة مثقفون وباحثون من ثماني دول عربية، قدموا مجموعة من الأوراق المهمة التي تناولت هذا الموضوع المهم من زوايا متعددة، ومثل هؤلاء المشاركون أجيالا مختلفة من مثقفي العالم العربي ومبدعيه، كما شكلوا أيضا تمثيلا لمجالات معرفية وإبداعية متنوعة، وقد عالج المشاركون في مداخلاتهم واقع الثقافة العربية في ظل التحولات في مجال وسائط الإنتاج الثقافي والثورة المعرفية والتقنية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وتأتي أهمية الموضوع من التأثير الضخم لهذه التحولات على المجال الثقافي، الأمر الذي يستدعي منا التوقف أمامه لتحسس مواقع أقدامنا في هذه المرحلة الفارقة في التاريخ الإنساني.
 لقد شهد العقد الأخير من القرن الماضي ـ خاصة في سنواته الأخيرة ـ تطورا هائلا في مجال المعرفة ووسائل اكتسابها بفضل إنجازات ثورة المعلومات المستندة إلى مـا تحقق من تقدم هائل في الاتصالات، وقد انعكس هذا التطور بدوره على عمليات الإنتاج الثقافي في أكثر من اتجـاه، بصورة تجعل الاحتمالات المستقبلية الـواردة فيما يخص الصناعـات الثقافية متعددة، فقد تدفع ثورتـا الاتصالات والمعلومات بالصناعات الثقافية إلى الأمام بقوة بما تقدمانه من إمكانيات كبيرة في إنتاج الثقافة ونشرها، وقد تؤدى إلى ظهور مفـاهيم جديدة للإنتاج الثقافي مغايرة تماما لتلك المفاهيم التي سادت منذ عصر الثورة الصناعية، فمن ناحية ترصد تقارير اليونسكو أن تداخل المنتج الثقافي والمعلوماتي والإعـلامي أصبح ظاهرة واضحة في المجتمعات الجديدة التي قطعت شوطا على طريق بناء أسس حضارة الموجة الثالثة، وإن التطور في تقنيات المعلومات والاتصالات يؤدى كل يـوم إلى مزيد من طمس الحدود بين المنتج المعلوماتي والمنتج الثقافي وإلى تداخلهمـا مع المنتج الترفيهي، فأساليب الإنتاج وهياكله وعمليات التوزيع وظروف استخدام المستهلك للسلعة في الحالات الثلاثة تكاد تكون متطابقة الآن، ومن ناحية أخرى ترصد هذه التقارير أيضا سيطرة أشكال الإنتاج عابرة القارات والتي تتخطى حدود الدول والكيانات القومية، وتتجـاوز الهويات الثقافية لتفرض أنماطـا "عالمية" مدعمة بتقنيات المعـلومات والاتصالات، ويرتبط بذلك هيمنة اللغـة الإنجليزية على التعامل في شبكات المعلومات، تلك الشبكات التي أصبحت تحتل يوما بعد يوم المكانة الأولي بين مصادر اكتساب المعرفة وباتت أهميتها في تداول الإنتاج الثقافي وتسويقه تتزايد بصورة واضحة، الأمر الذي يسهم في ترسيخ هيمنة ثقافة واحدة عالميا الأمر الذي تسعى اليونسكو جاهدة إلى الدعوة لتلافيه.
  وفي اتجاه مقابل تتيح ثورتا المعلومـات والاتصالات إمكانات جديدة في إنتاج الثقافة وتلقيها، ليس فقط على مستوى الدول والمجتمعات بل حتى على المستوى الفردي، فكثيرا ممـا كان يعد صناعـات ثقافية أصبح من الممكن إنتاجه بتكلفة محدودة وتوزيعه بشكل واسع النطـاق بالاستعانة بالتقنيات الحديثة للحاسبات الآلية في الاتصالات ونقل المعـلومات عبر الإنترنت، فقد بات متاحـا لنا أن نستخدم التقنيات الرقمية الحديثة في إنتاج الأفلام والكتب والمصنفات الموسيقية والغنائية وصور الأعمال التشكيلية بتكلفة زهيدة نسبيا وبإمكانيات محدودة تختلف من حالة إلى أخرى، فقد أصبح من الممكن على سبيل المثال أن ينتج المؤلف كتابه اليوم من الألف إلى الياء دون حاجة إلى ناشر ومطابع  وموزعين، حيث يكتبه على حاسبه الشخصي، ثم يوزعه إلكترونيا دون أن يكلف نفسه عناء طباعته ورقيا والبحث عن ناشر وموزع له، كما يحصل على العائد مباشرة كـذلك من خلال بطاقات الائتمان ووسائل الدفع الإلكتروني، وهذا يؤدى في المحصلة النهائية إلى منتج ثقـافي أقل سعرا وأكثر انتشارا، فضلا عن إمكانية التفاعـل المباشر بين المؤلف والمتلقي، كذلك تضيف التقنيات الرقمية الكثير من الإمكانيات في مجال التأليف الموسيقى من ناحية وتداول المؤلفات الموسيقية من ناحية أخرى، الأمر الذي ينطبق بشكل ما على صناعة السينما كذلك. إن هذا العصر بقدر مـا يطرح احتمالات الهيمنة الثقافية للدول الأقوى وفرض أنماطها الثقافية بصورة كونية، بقدر ما يفتح الباب أمام الدول الأقل تطورا لتلحق بركب العصر الجديد وتعوض ما فاتها، بقدر ما يطرح أيضا إمكانيات تحقيق فردية الإنسان.
 ومع التقدم السريـع في مجال البرمجيات والذي نعيشه كل يوم ويشعر بآثاره في حياتنا اليومية كل مستخدمو الحاسبات الشخصية، ومع تطور شبكات الاتصالات بالاعتماد المتزايد على الاتصال المباشر بالأقمـار الصناعية وباستخدام الألياف البـصرية، فسوف تشـهد السنوات القليلة القـادمة تعاظما هائلا على صعيد تطوير الإنتاج الثقافي اعتمادا على القـدرات والإمكانيات التي تتيحهـا ثورة المعلومات والاتصالات.
  لذلك فإن تأثير حضارة الموجة الثالثة ـ ودعامتيها ثورة المعلومات وثورة الاتصالات والعولمة كتجسيد لها ـ على الصناعات الثقافية على المستوى القومي من الممكن أن يكون تأثيرا إيجابيا بقدر ما إنه من الممكن أن يكون سلبيا، والأمر يتوقف في جميع الأحوال على تفاعلنا مع العصر الجديد ومعطياته الفكرية والتقنية على حد سواء.
 من هنا فنحن في حاجة إلي التعايش مع العولمة والبحث عن مكان داخلها والسعي إلى العمل على أنسنتها والتصدي لسلبياتها، أكثر مما نحن في حـاجة إلى الانعزال عن التطورات العالمية الجديدة والصدام مع معطيات العصر الجديد، كي لا نفقد موضع قدمنا فيه مثلما فقدناه في عصر الثورة الصناعية عندما عجزنا عن إنجاز عملية التحديث.
 ففي إطار التطور السريع لتقنيات الاتصال وما صاحبها من ثورة في تقنيات المعلومات، لا بد من تناول أبعاد هذه الثورة وتأثيراتها المختلفة في الثقافة الوطنية بالبحث لإعادة النظر في تنظيم المجتمع وكيفية استغلال موارده المتاحة لنتعايش مع عالم اليوم الذي أصبحت فيه المعرفة وتقنية الاتصال ومدى سرعتها في تداول المعلومات هي العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي بل والسيطرة السياسية على كافة المستويات، حيث المعرفة هي السلطة والقوة.
الدستور 7 أبريل 2010

الخميس، 17 مايو 2018

الثورة الصناعية والثورة الثقافية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثورة الصناعية والثورة الثقافية
عماد أبو غازي
  شهد القرن التاسع عشر تطورا فـارقا في مجال الصناعـات الثقافية على النطاق العالمي بفضل التطور التقني الذي تحقق بفضل منجزات الثورة الصناعية، والذي أثر بصورة واضحة على أدوات انتاج الثقافة، فبعد سنوات طويلة من اختراع جوتنبرج للمطبعة جاء عصر التطورات السريعة.
 فبينما استغرق الإنسان الأول عشرات الآلاف من السنين ليصل إلى ابتكار الكتابة، فامتلك بذلك ذاكرة خارجية قادرة على حفظ الخبرة ونقلها عبر الزمان والمكان، وبينما استغرق الأمر بضع آلاف من السنين ليصل الإنسان إلى اختراع الطباعة، لم يحتج الأمر سوى مئات قليلة من السنين ليحقق البشر إنجازا كبيرا ثانيا في مجال إنتاج الثقافة باختراع التصوير الفوتوغرافي، ثم شهدت فترة لا تجاوز نصف قرن ثلاثة اختراعات كبرى، ففي نهاية النصف الأول من القـرن التاسع عشر كان اختراع كاميرات التصوير الفوتوغرافي، ثم ظهـرت الأشكال الأولي لتقنيات التسجيلات الصوتية، وبعدها كان اختراع السينما مع أواخر القرن نفسه.
  وكان لكـل تلك الابتكارات الجديدة نتائج حاسمة في رسوخ الصناعـات الثقافية وتطورهـا، وعبر القرن العشرين تطورت هذه التقنيات ـ تقنيات الوسائط المسموعة والمرئية وتلك التي تجمع بين السمع والرؤية (السمعبـصريات) ـ وكذلك تقنيات الطباعة تطورا هائلا، وإن كان تطور الصناعات الثقافية وسيادتها على الإنتاج الثقافي لم يسر في خط صاعد باستمرار مثلما هو الحال في تاريخ التطور التقني الذي استمر في صعود متواصل، فلم تقض الصناعات الثقافية على الأشكال القديمة والتقليدية للإنتاج الثقافي.
  وقد دفع هذا التطور التقني بالإبداع الذي يأخذ شكل منتجات الصناعات الثقافية ليحتل مكانا متميزا في العمل الثقافي، ولم يعد الأمر قاصرا على انتشار المعرفة المكتوبة فقط بواسطة الطباعة، بل أصبح من الممكن نشر فنون الموسيقى والغناء عبر المكان والزمان بواسطة الاسطوانات، ثم شرائط التسجيل بأنواعها المختلفة، وأخيرا بواسطة الأقـراص المدمجة. كذلك مكن ظهور التصوير الإنسانية من أن تقـوم بتوثيق تراثها المادي والمعنوي وإعادة إنتاج نسـخ منه قابلة للتسويق، كما أتاح تحويل النصوص الأدبية إلى أشكال مرئية.
  ثم كان التطور في وسائل الاتصال عن بعد باختراع الراديو ثم التليفزيون عاملا أضاف قيمة جديدة للصناعـات الثقافية، وأضفى عليها قوة وتميزا، وحقق لهـا انتشارا جماهيريا أكبر بكثير مما تحقق مع التطور التقني في أدوات إنتاج الثقافة، بل أدى هذا التطور إلى ظهور صناعـات ثقافية جديدة، قامت على أنـواع أدبية وفنية لم تكن معروفة من قبل كالدراما الإذاعية والتلفزيونية.
  لقد كان اختراع الطباعة وسيلة لانتشار المعرفة وتراكمها، ووسيلة أيضا لاختراقها حدود الطبقات العليا للمجتمع، فكانت لهذا الاختراع آثاره الاجتماعية والسياسية فضلا عن أثره الثقافي، ثم جاءت الاختراعات الثلاثة الكبرى في مجال الصورة والصوت، آلات التصوير الفوتوغرافي ووسائل التسجيل الصوتي ثم آلة التصوير السينمائي لتحدث نقلات جديدة في مجال الإبداع.
 والأمر المؤكد أن الفضل في ظهور الصناعات الثقافية وتطورها يرجع لأمور تقع خارج نطاق محتوى الإنتاج الثقافي ومضمونه تمامـا، فالثورة التقنية المواكـبة للثورة الصناعية هي المسئولة عن هذا التطور بشكل أسـاسي، فباستثناء الطباعة ترجع كل الإنجازات التي قامت عليها الصناعات الثقافية بالكامل إلى عصر الثورة الصناعية، بل إن الطباعة التي ظهرت قبل ذلك العصر بعـدة قرون شهدت نقلة فارقة بفضل منجزات الثورة الصناعية، ومن هنا فلا غرابة في أن عصر الثورة الصناعية قد صبغ الصناعات الثقافية بصبغته وفرض عليها قيمه، بمـا في ذلك منطق الربح والخسارة، وأيضا المنافسة الضارية بين الصناعات القومية من أجل السيطرة على الأسواق وبسط الهيمنة عليها، وقد أخذت هذه المنافسة أبعادا أكثر عمقا وخطورة في حالة الصناعات الثقافية، حيث أن محتواها يمس بشكل مباشر منظومة القيم والأفكار السائدة في كل مجتمع من المجتمعات، فظهرت مفاهيم مثل الاستعمار الثقافي والتبعية الثقافية وثقافة التبعية.
 ولا شك في أن الصناعات الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحديث، فلقد ارتبط التحديث مفهوما ومصطلحا وسلوكا بعصر الثورة الصناعية وبما أنتجته من قيم أو بحضارة الموجة الثانية إذا استخدمنا مصطلحات ألفن توفلر.
 لقد ظهر مفهـوم الصناعات الثقافية عندما كانت قيم الثورة الصناعية هي السائدة باعتبار الصناعة القيمة العليا، لكن الآن ومع ثورة المعلومات والاتصالات وقيمها الجديدة وما يصاحبها من تطورات ما وضع الصناعات الثقافية؟ وهل استمرت أساليب الإنتاج الثقـافي نفسها، أم أنها تغيرت وتطورت؟ وهل مـازال لمصطلح الصناعات الثقافية استخدامه؟ وهل مازالت له دلالاته نفسها؟
الدستور 12 مارس 2010

الأربعاء، 16 مايو 2018

الصناعات الثقافية في مجتمع المعرفة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات

الصناعات الثقافية في مجتمع المعرفة

عماد أبو غازي

 مع دخول عالمنا إلى العصر الذي أصبح يسمى عصر مجتمع المعرفة ازدادت قيمة الانتاج الثقافي وأهميته، وأصبحت الصناعات الثقافية عنصرا أساسيا من عناصر حساب قوة الدول والشعوب، قوتها المعنوية والمادية أيضا.
 ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية ببعض الأنشطة الفكرية والإبداعية للإنسان أي بالمعنى الضيق للثقافـة، فللثقافـة معناهـا العام الذي يتفق عليه السسيولوجيون والأنثروبولوجيون باعتبارها استجابة الإنسان لإشباع حاجاته من خلال نماذج معيشية أو نماذج للفكر والعمل ابتدعها الإنسان في سبيل البحث عن إشباع هذه الحاجات المعيشية، وهى نماذج مكتسبة يصل إليها الإنسان إما بالتفكير والعقل كاستجابة للوسط الذي يعيش فيه، أو عن طريق النقل من المجتمعات الأخرى، كما تتميز الثقافة بأنها اختراع أو اكتشاف إنساني ينتقل من جيل إلى جيل مع القابلية للإضافة وللتعديل والتغير. أما الثقافة بمعناها الضيق فيقصد بها الأنشطة الفكرية الإبداعية والفنية التي يمارسها الإنسان، أي أن هذا المعنى ينصرف إلى الآداب والفنون بشكل أساسي ثم إلى بعض أشكال الإنتاج الفكري. ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية بهذا المعنى الأخير للثقافة.
  ومفهوم الصناعات الثقافية من المفاهيم لصيقة الصلة  بالتحديث وبعصر الثورة الصناعية، ويقصد به عادة الأعمال الثقافية الموجهـة إلى الجماهير الواسعة، والتي تنتج بأسلوب الإنتاج الكبير أو الإنتاج للجماهير، وتدخل في عملية إنتاجها رؤوس أموال كبيرة، وتمر بمراحـل متعددة حتى تخرج في صورتها النهائية، ويدخل في إنتاجها ممول أو منتج وعمالة كبيرة العدد نسبيا ليست بالضرورة هي المصنف للعمـل أو المبدع له، وتشبه العمـلية الإنتاجية فيها ما يتم في مجـال الصناعات الحديثة، مما جعل هذا النوع من المنتج الثقافي يوصف بأنه "صناعة ثقافية" حيث تتحول طرق إنتاج الأعمـال الإبداعية والفكرية من الطرق التقليدية التي يلعب فيهـا المبدع الفرد أو مجموعـة المبدعين الدور الأساسي في إخـراج المنتج الثقافي بصورته النهائية، لتتحول إلى عملية إنتاجية مركبة يشـارك فيهـا آخرون، ويستعاض عن الاتصال المباشر بين المبدع والمتلقي بآليات السوق لنقل العمل الإبداعي إلى قطاعات أوسع من الجمهور من خلال وسائط مختلفة.
  ومثلمـا كان التصنيع مسئولا عن النمو الهائل في قدرة المجتمعات الحديثة على توليد الثروة مقارنة بالمجتمعات التقليدية، فإن التصنيع الثقافي كان مسئولا كـذلك عن التطور الهائل في القدرة على توليد "الثروة" الفكرية والفنية والثقافية في تلك المجتمعات، وعلى تحقيق الاتصال الواسع بين المبدع والجمهور، ذلك الجمهور الذي أصبح جمهورا كبيرا من المتلقين، وعن تغيير نوعية المتلقين للمنتج الثقافي،  فبعد أن كانت الصفة الغـالبة للجمهور المتلقي للفنون والآداب "نخبوية"، أتاحت الصناعات الثقافية إمكانية وصول الإنتاج الثقافي إلى قطاعات واسعة من الجماهير التي تنتمي إلى مختلف الطبقات بغض النظر ـ حتى ـ عن معرفة المتلقين الجدد للقراءة، كذلك أدى ظهور الصناعات الثقافية وتطورها إلى تغير محتوي المنتج الثقافي، بل وتغير رسالته التي يحملها، وتعاظم تأثير الإنتاج الثقافي في المجتمع بصورة لافتة.
  ومن أبرز الأمثلة على الصناعات الثقافية السينما والدراما التليفزيونية ونشر الكتب والتسجيلات الموسيقية والغنائية المنتجة بهدف التسويق الواسع والبرامج التليفزيونية الثقافية.
 إذن فالصناعة الثقافية تقوم على: "مادة خام" هي الإنتاج الفكري أو العمـل الإبداعي، وعملية تحويلية تتم عبر التصنيع الـذي يعتمد على المقومات التقليدية للصناعة: التنظيم ورأس المال وقوة العمل ووسائل الإنتاج المتطورة، وينتج عن كل هذا عمل إبداعي في صورة جديدة، ثم تأتى في النهاية عملية التسويق.
 لقد كانت البداية الأولى لتحول العمل الثقافي إلى صناعة ـ بهذا المعنى ـ مع ابتكار يوحنا جوتنبرج للطباعة بالأحرف المتحركة، حقـا لقد ظهرت الطباعة في الصين وبعض بلدان الشرق الأقصى قبل ظهورها في أوروبا بعدة قـرون، لكنها لم تنتشر على النطاق العالمي انطلاقا من هناك، كمـا ظهرت أشكال من الطباعة كذلك في مصر مـا بين القرنين العاشر والرابع عشر للميلاد لكنها ظلت لا تشكل سوى ظاهرة هامشية في المجتمع المصري واختفت فجأة دون أن تترك أثرا قويا، أما ابتكار جوتنبرج فقد تحقق له الانتشار والتطور، وربما كان ذلك بسبب ارتباط ابتكاره بتحولات اجتماعية وفكرية وثقافية عميقة عاشتها المجتمعات الأوروبية في فترة التحولات التاريخية في القرن الخامس عشر الميلادي، التي انتقلت فيها تلك المجتمعات من العصور الوسيطـة إلى العصور الحديثة، وكانت الطباعة علامة من علامات التحول وآداة من أدواته في الوقت نفسه.
 وقـد حققت الطباعة لأول مرة في التاريخ الإنساني إمكانية الإنتـاج الكبير للكتاب، فأتاحت الفرصة لانتشار المعرفـة وإمكانية تداولهـا بين الجماهير، لقد دفعت الحاجة إلى المعرفة الإنسان للبحث عن وسيلة لنشرهـا على نطاق واسع، فكان التطور التقني في إنتاج الكتاب ـ وسيلة نقل المعـرفة في ذلك الحين ـ الذي تمثل في التحول من الكتاب المخطوط الذي يحصل عليه عشرات من أفـراد النخبة إلى الكتاب المطبوع الذي يتاح الحصول عليه لآلاف ممن يعـرفون القراءة، الأمر الذي أدى بدوره إلى سلسلة من التحولات الفكرية والثقافية والعلمية والاجتماعية واسعة النطاق، وكانت تلك هي اللبنة الأولي في صرح الصناعات الثقافية.
الدستور 5 مارس 2010