الجمعة، 23 أغسطس 2019

رسالة من العالم الآخر... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
رسالة من العالم الآخر...
عماد أبو غازي
إحساس غريب أن تصلك رسالة من العالم الآخر، رسالة من صديق راحل، هذا ما واجهته اليوم عندما كنت أتصفح صندوق بريدي على الفيس بوك.
لدي حسابين على الفيس بوك، منهما واحد لا أستخدمه كثيرا، لي عدة شهور لم أتصفح صندوق بريدي فيه، حتى تجاوزت الرسائل غير المقروءة ثلاثة آلاف رسالة، اليوم قررت أن افتح الرسائل ربما يكون فيها شيء مهم يمكن تداركه أو لم يفت موعده بعد، كانت أغلب الرسائل إعلانات عن أنشطة أو رسائل من مجموعات من تلك التي أشترك فيها، مسحت أغلب الرسائل فهي تخص أنشطة فات موعدها، ومعظمها وصلتني على حسابي الأساسي الذي أتصفحه بانتظام.
 عندما وصلت إلى الرسائل الواردة في شهر أبريل، استقبلني وجهه بابتسامته البشوشة التي اعتدها منه دائما، رسالة من الصديق الراحل الأديب والمهندس محمد عبد السلام العمري، الذي توفي فجأة منذ أسابيع قليلة، فتحت الرسالة المؤرخة في 22 أبريل الماضي بسرعة، كان يقول فيها:
 "حمد الله على سلامتك ، والحمد لله الذي شفاك من رهاب الطائرات أدعوك للمشاركة في إلقاء شهادتي الروائية والثقافية التي سألقيها في دار الكتب والوثائق القومية مساء الأربعاء الموافق 28 أبريل الجاري، أعتقد أنه موضوع يهمك".


 شعور غريب أن تأتيك رسالة من العالم الآخر، خصوصا عندما تكون رسالة من صديق تحبه وتقدره، وتشعر أنه غاب فجأة بلا مقدمات.
 أقول لصديقي محمد عبد السلام العمري: لو كنت فتحت الرسالة يوم 22 أبريل كنت رديت عليك وقلتلك:
 "صديقي العزيز: الله يسلمك، بس أنا لسه راجع من السفر حالا، كأنك عارف ميعاد وصول الطيارة، الرسالة وصلت مع وصولي أرض الوطن، بعد ما قعدت عالق في لندن بسبب بركان أيسلندا لمدة أسبوع، وفعلا أنا با حمد ربنا إنه شفاني من رهاب ركوب الطائرات، بعد ما ضيعت خمسين سنة من عمري تقريبا من غير سفر، ما خرجتش فيهم من مصر غير مرة واحدة بس، دلوقتي باحاول أعوض كل اللي فاتني، ما فيش فرصة سفر بتجيللي وأضيعها، ورغم أني كنت حبيس البركان هناك في إنجلترا، لكن كنت مستمتع جدا، ومش ها رجع أخاف تاني من الطيران، المفروض إني كنت أرجع بطريق البر إلى جنوب أوروبا يوم السبت ومن هناك أركب الطائرة، لكن الأجواء اتفتحت ورجعت مباشرة، وبما أني رجعت لازم أحضر الشهادة بتاعتك هنتقابل في دار الكتب، كان عندي رحلة تانية الأسبوع الجاي لكن أكيد ها لغيها، صعب أسافر تاني بعد أسبوع الأجازة الإجبارية، أنا حريص أحضر الشهادة بتاعتك، لأنه أكيد يهمني موضوعها طبعا، يهمني لأني عارف إن لك آراء مهمة في حياتنا الثقافية وفي كتير من ظواهرها، ولأني باحب أسمع آرائك الجريئة والمختلفة مع السائد عادة.
سلام، وإلى اللقاء يوم الأربع اللي جاي".
 بس خسارة ما عرفتش وما حضرتش، والدعوة ما شفتهاش للأسف غير بعد الميعاد.
 كنت قد ألتقيت به قبلها بأسبوعين تقريبا لدقائق معدودة، مر عليّ ليترك لي كتابا من كتبه، لم يقل لي على الشهادة، وكانت المرة الأخيرة التي ألقاه فيها، بعدها بأسابيع قرأت نعيه، وذهبت للعزاء فيه.
 عرفت محمد عبد السلام العمري منذ ما يقرب من عشرين عاما، كان اللقاء الأول في منزل الروائي الكبير علاء الديب، تعرفت عليه مهندسا وروائيا، كان قد صدر له عمل جديد وقتها، أظنه "شمس بيضاء"، أهداني نسخة من العمل، من يومها تواصلت علاقتنا، نتقابل على فترات متباعدة، لكن دوما كانت تشدني إليه الرحابة التي تميزه والود الذي يغمر به المحيطين، لم يكن شخصا تقليديا تمر به مرورا بلا أثر، بل دائما ما يترك علامة بأفكاره وآرائه الجريئة، كانت له دوما آراء تدفعك للتفكير، آراء في القضايا الثقافية بشكل عام وفي العمارة التي هي تخصصه الأساسي قبل أن تصبح موهبته الأدبية هي المدخل لعلاقته بعالم الثقافة. ترك العمري قرابة خمس عشرة مجموعة قصصية وعملا روائيا، ما بين مجموعته الأولى إلحاح التي صدرت سنة 1987 ورحيله المفاجئ عن عمر يقارب الستة وستين عاما، ورغم اتجاه للإبداع الأدبي لم يترك الاهتمام بالعمارة تخصصه الأساسي، فكتب عن عمارة حسن فتحي كتابه "عمارة الفقراء أم عمارة الأغنياء"، الصادر سنة 1992، وكان "عمارة الأضرحة" أخر كتبه التي صدرت قبيل رحيله، وقد استعرض فيه عمارة مجموعة من أهم الأضرحة وأشهرها في العالم، ويا لها من مصادفة غريبة أن يكون آخر أعماله حول مساكن الموتى.
 وأنا أختم هذا المقال تلقيت اتصالا هاتفيا من ابنته رحاب تدعوني لحضور ندوة عنه باتحاد الكتاب بالقلعة!
الدستور 25 أغسطس 2010

فاطر رمضان... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
فاطر رمضان
عماد أبو غازي
 نشرت جريدة الأهرام يوم الأحد الماضي 15 أغسطس في صفحة الحوادث خبرًا عن الجولات التفقدية الرمضانية التي يقوم بها السيد اللواء إسماعيل الشاعر مساعد أول وزير الداخلية لقطاع أمن القاهرة، والخبر في عمومه عادي، فالرجل دائم التجوال في شوارع العاصمة من أجل تطبيق القانون وتحقيق الانضباط في الشارع المصري، وهذا جهد محمود ومشكور، ولأني من سكان وسط البلد ألاحظ يوميًا انقلاب حالة الشارع من الفوضى إلى الانضباط والنظام لمجرد المرور العادي المتوقع للواء إسماعيل الشاعر، فالرجل لا يتهاون في تطبيق القانون، ومن الطبيعي في الأيام الأولى لرمضان أن تزداد هذه الجولات التفقدية للواء إسماعيل الشاعر لمواجهة الاضطراب الذي يشهده الشارع في الشهر الفضيل، لكن اللافت للنظر في الخبر المنشور في جريدة الأهرام عنوان الخبر الذي يقول: "إحالة سائقين للنيابة بتهمة التدخين في نهار رمضان"، وفي متن الخبر: "وقد قام اللواء الشاعر بتطبيق القانون على المدخنين المفطرين في شهر رمضان، وإحالة سائقين إلى النيابة عندما لاحظ سير سيارتين ميكروباص متجاورتين بمنتصف الطريق ويقوم قائدهما بتبادل السجائر بالتناوب بينهما من شباك السيارة".


 لقد ارتكب السائقان مخالفة حقيقية أهم من تدخينهما السجائر، أو تبادلها، في نهار رمضان، وهي مخالفة تعطيل حركة المرور، إذا دخن السائقان في نهار رمضان فلن يضر هذا أحدًا غيرهما، دينيًا، وإذا دخنا في أي نهار فهما المضاران بالدرجة الأولى دنيويًا، إلا إذا كان في الميكروباص وهو وسيلة نقل عام ركابًا من غير المدخنين، فهم أيضًا مضارون من تدخين السائق، وكان من الممكن أن يحيل مدير أمن العاصمة السائقين إلى النيابة العامة بتهمة التدخين في وسيلة نقل عام، أو يحيلهما إلى النيابة بتهمة تعطيل حركة السير في الشارع بسيرهما متجاورين ببطء بمنتصف الطريق، مما يعيق حركة السير، وهي مخالفات صريحة يعاقب عليها القانون بوضوح، وهي مخالفات متكررة كل يوم في شوارعنا، فالتدخين في وسائل النقل العام يتكرر على مدار العام دون حساب، وتعطيل سير المرور لتبادل السجائر، أو لتبادل الحوار، أو للسؤال عن "الفكة"، يحدث كل يوم وكل ساعة، فهل إذا حدث هذا في شوال أو في ذي الحجة أو في رجب لن يحاسب السائقين المخطئين؟
 تعيد هذه الواقعة إلى الأذهان ما نشرته الصحف في رمضان من العام الماضي عن قيام عدد من ضباط الشرطة في بعض مدن محافظة أسوان من ملاحقة المفطرين في الشوارع وتحرير محاضر "جهر بالإفطار" لهم، ثم دفاع مصادر في وزارة الداخلية عنهم في مواجهة الانتقادات التي تعرضوا لها على اعتبار أنهم يطبقون نصوص القانون.
 كما تعيد للأذهان أيضًا ما تردد على بعض مواقع الإنترنت منذ عدة شهور حول قيام بعض الضباط في مدينة الغردقة بملاحقة الفتيات اللاتي رأى السادة الضباط أنهن يرتدين ملابس غير ملائمة من وجهة نظرهم، وتحرير محاضر لهن.
 وتعيد للأذهان أيضًا مصادرة الشرطة لبعض الأعمال الأدبية باعتبارها خارجة عن الآداب وإحالة مؤلفيها وناشريها للمحاكم.
 قد تكون نصوص القانون تحمل في طياتها مواد أضيفت في غفلة من الزمن، تحاسب المجاهر بالإفطار، لكنها نصوص تتعارض بشكل واضح مع الدستور ومع مواثيق حقوق الإنسان، التي تجعل من حرية العقيدة قيمة عليا، كما أنها نصوص قانونية تدخل في صميم ضمائر البشر وتحاسبهم على الأمور التي لا يحاسبهم عليها إلا الله سبحانه وتعالى، والصيام من بين العبادات والفرائض، عبادة وفريضة لا تعرف الرياء، فالصائم لا يصوم للناس، ولا يطلع على سريرته وحقيقة صيامه إلا الله، وملاحقة الشرطة للمفطرين فضلًا عن أنها تعدي على الحرية الشخصية، فإنها تشجيع على الرياء الاجتماعي، فلو أخفى المفطر حقيقة أمره خوفًا من الشرطة لا مخافة لله فهذه قمة الرياء.
 خلاصة الأمر إننا أمام ظاهرة خطيرة تتحول فيها مؤسسة مدنية من أهم مؤسسات الدولة، هي جهاز الشرطة، إلى ما يشبه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى هيئة تقوم بعمل المطوعين، في ملاحقة من تراهم خارجين عن الدين، الأمر الذي يخرج بالضرورة عن اختصاصها ويضرب في أسس الدولة المدنية في مصر.
 وإذا كانت أحداث العام الماضي في أسوان قد قام بها بعض الضباط، فإن ما حدث هذا العام جاء على يد مدير أمن العاصمة شخصيًا، بما لوظيفته التي يشغلها من وضع مهم في جهاز الشرطة، وبما له هو شخصيًا من مكانة لدي الكثيرين، الأمر الذي يضيف على الحدث أبعادًا جديدة.
الدستور 18 أغسطس 2010