الأربعاء، 29 مارس 2017

مقال شخصي جدا... هذا ما قالته لي أمي من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات

مقال شخصي جدًا... هذا ما قالته لي أمي

عماد أبو غازي



 في وسط الأجواء الكئيبة للانتخابات البرلمانية قررت تأجيل التعليق عليها حتى تكتمل الصورة ويخفت الضجيج، وكنت منشغلًا بأمر أخر فقد طُلب من أمي أن تكتب كلمة لكتالوج المعرض الفني لشقيقتها الفنانة التشكيلية الراحلة منحة حلمي والذي سيفتتح بقاعة أفق الملحقة بمتحف "محمد محمود خليل وحرمه" في العشرين من ديسمبر، وقالت أمي كلمتها ونسختها لها على الكومبيوتر، ورأيت أن الكلمة رغم أنها شخصية لكنها تعكس تفكير جيل أعطى كثير لهذا البلد، وبالنسبة لي فإن الكلمة تحمل معاني كثيرة فبتقديمها أتصور أنني أسد قليلًا من دين كبير لأمي، فقد أرتبط اسمي دائما بأبي كناقد تشكيلي ومثقف شارك في الحياة المصرية منذ مطلع الأربعينات، وارتبط أيضا بخال أبي مختار الذي أوصف دائما بأني حفيد له، دوما كان لدي أحساس بالذنب تجاه أمي التي أعتقد أنه أسهمت في تكويني بشكل كبير، ولا أعرف كيف أقدمها للحياة العامة التي ابتعدت عنها لسنوات طويلة، رغم أنها تستحق أن أُعرِّف بها مثلما أُعرّف بأبي، فأمي نحاته ومصورة متميزة، ليس في تقديري بل في رأي كل من شاهد أعمالها الفنية في منزل الأسرة أو في منزلنا، ابتعدت عن أضواء المعارض الفنية وركزت جهدها في عملها كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة السنية ثم كموجهة بعد ذلك، وكم أسعد عندما ألتقي في الحياة بتلميذاتها فيتحدثن معي عنها، وكانت أخرهن زميلتي في المجلس الأعلى للثقافة نجلاء الكاشف والتي فوجئت بعد سنوات من عملنا معًا أني ابن مدرستها التي أثرت فيها وأحبتها رعاية حلمي، لقد كنت منذ طفولتي أشعر بفخر داخلي وزهو بأن أمي إمرأة عاملة، وربما جاءت الفرصة لي لأعلن هذا الزهو على الملأ، فتركت مخربشاتي اليوم لكلمات أمي التي قالتها لي:
"جمعني بمنحة مصير واحد وعلاقة مركبة، لم تكن مجرد شقيقتي التي تصغرني مباشرة، فقد كنت أكبر منحة بعامين، كنا في الوسط بين تسعة أشقاء، ولدان وسبع بنات، كان تقارب السن بيني وبينها وسط أسرة كبيرة العدد دافعا إلى توطد علاقتنا، ثم كان تقارب الميول والاتجاه نحو دراسة الفنون نتيجة لتلك العلاقة الحميمة وسببا ـ في نفس الوقت ـ لمزيد من تعميق العلاقة، كان اختيارنا للفنون مجالا لدراستنا العليا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي نتاج نشأتنا في بيئة أسرية تحترم الفكر والثقافة، كان الأب حريصا على تعليمنا جميعا التعليم الذي نرغب فيه ويتوافق مع ميولنا، اهتم بتعليم البنات بنفس قدر اهتمامه بتعليم الأولاد، في فترة كان التحاق الفتيات بالتعليم الجامعي في مصر في بداياته الأولى، وكانت الأم تعمل دائما على توفير الأجواء الملائمة لنا لنحقق ذواتنا ونتقدم في حياتنا.
 كنا دائمًا ـ منحة وأنا ـ مع بعضنا متلاصقتان، ينادوننا دومًا: منحة ورعاية أو رعاية ومنحة، لم نكن نفترق أبدًا، معًا في اللهو في مرحلة الصبا، معًا في الدراسة وفي استلام شهادات التفوق الدراسي حتى المرحلة الثانوية، ثم في المعهد حيث اتجهت منحة لدراسة فن التصوير، واتجهت أنا لدراسة فن النحت، وبعد بعثتها إلى إنجلترا تخصصت في فن الحفر وتميزت فيه دون أن تترك أساسها الأول كمصورة بارعة، استمرت تبدع أعمالها الفنية حتى السنوات الأخيرة من حياتها عندما توقفت عن ممارسة فن الحفر بسبب الحساسية التي أصابتها من التعامل مع الأحماض والمواد الكيميائية التي يتطلبها الإبداع في هذا الفن، وإن واصلت عملها كأستاذة بكلية التربية الفنية تخرج أجيالًا وراء أجيال.
 وفي مرحلة الدراسة تعلمنا على يد مجموعة من الأساتذة المتميزين الذين ساهموا في تكوين فنانات جيلنا، كان ممن درسن لنا: مارجريت نخلة ومدام عياد ومدام راينر وكوكب سعد.
 على مر الأيام جمعت بيننا جولتنا المشتركة في المعارض والندوات الثقافية والفنية، التي كانت تذخر بها الحياة المصرية في الأربعينات، حتى عندما تزوجنا، كان اختيارنا لشخصين متشابهين في كثير من الصفات، اخترت أنا بدر الدين أبو غازي ناقدًا تشكيليًا شابًا دارسًا للقانون، واختارت هي عبد الغفار خلاف طبيبًا شابًا وهب حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كانا متشابهين في الطموح الشديد كل في تخصصه ومجاله الوظيفي، إلى جانب اهتمام بالثقافة والفن والأدب، ومشاركة فاعلة في العمل العام، وتميزا إنسانيًا باحترام شديد للحياة الأسرية وللزوجة ولعملها، وعرفنا معهما مساندة دائمة لنا.
 كانت حوارتنا حول المعارض التي نزورها وحول الفن وقضاياه، وبعد رحيلها أشعر في ابنتها الكبرى نهال امتدادًا لها وهي تتناقش معي حول الفنانين وأعمالهم التي تقتنيها وحول المعارض التي تزورها.
 تميزت منحة حلمي دائمًا بالاتزان والهدوء والاعتماد على النفس، كانت شخصية دءوبة في عملها متقنة له لا تعرف اليأس ولديها إصرار على إتمام العمل الذي تبدأه، حرصت حتى اليوم الأخير في حياتها على الاستمرار في عملها بكلية التربية الفنية، وغادرتنا فجأة وبهدوء كعادتها وطبعها الدائم في ألا ترهق أحدًا معها."
الدستور 7 ديسمبر 2005 

الأحد، 26 مارس 2017

محمد علي رجلا لا تنساه مصر/ من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
محمد علي رجلا لا تنساه مصر
عماد أبو غازي


 يوشك عام محمد علي في مصر على الانتهاء، العام الذي يصادف مرور مائتي عام على تولي محمد علي الكبير حكم مصر، ففي شهر مايو من سنة 1805 أعتلى ذلك القائد الألباني الفذ محمد علي باشاوية مصر في أعقاب ثورة شعبية فرضت على السلطان العثماني عزل نائبه خورشيد باشا وتعيين محمد علي بدلا منه، في حدث فريد من نوعه في التاريخ المصري المعروف لنا نجح فيه المصريون لأول مرة في اختيار حاكمهم.
 وجاء تولي محمد علي للحكم ليفصل بين مرحلتين في التاريخ المصري، فبتوليه انتهت تبعية مصر للدولة العثمانية فعليا، وإن ظلت تابعه لها من الناحية الرسمية شكليا، وبدأت بذلك مرحلة جديدة في حياة مصر شهدت تحولات شكلت مسار التاريخ المصري الحديث بل ربما مسار تاريخ المنطقة العربية كلها.
 وقد شهد العام الحالي أشكالا متعددة من الاحتفاء العلمي والفني والثقافي بهذه المناسبة، أخذ أشكالا عدة ما بين كتب جديدة تصدر وأخرى قديمة يعاد إصدارها، وندوات علمية تناقش عصر محمد علي بجوانبه المختلفة يشارك فيها عشرات من الباحثين من مختلف أنحاء العالم، ومعارض فنية وعرض مسرحي وفيلم تسجيلي يجري إعداده، وقبل هذا كله إعادة قصر محمد علي بشبرا إلى الحياة.
 هذا ويختلف المؤرخون في تقييم عصر محمد علي وفي دوره في تاريخ مصر، كما يختلفون حول البداية الحقيقية للتحديث في تاريخنا، لكنهم يتفقون حول أهمية العصر وأهمية دراسته، وبغض النظر عن تقيمنا اليوم لمشروع محمد علي ولفترة حكمه التي جاوزت الأربعين عاما، فمما لا شك فيه أنها كانت فترة مهمة، أسفرت عن تكوين أسرة حاكمة جديدة وعن مشروع للتحديث، ولكنه تحديث منقوص، لأن الحاكم انقض على الحركة الشعبية الصاعدة التي أتت به مجهضا إياها، كما أسفرت تلك الفترة عن عودة مصر مع محمد علي باشا لتلعب دورا أساسيا في الصراعات الدولية، ولتتقدم جيوشها فتطرق أبواب أوروبا، فتنبه الدول الكبرى إلى خطورة قيام كيان قوي في المنطقة، فأطاحت القوى الأوروبية المتحالفة بمشروع الباشا الطموح الذي لم يجد سندا شعبيا يدافع عنه لأنه كان قد أجهض حركة الشعب.
 وإذا كانت المعارض التي شاركت بها سفارة اليونان وسفارة كوسوفا في الاحتفال والتي انتقلت بين القاهرة والإسكندرية قد أضفت طابعا فنيا جميلا على الاحتفال، فإن الندوات التي نظمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة والمكتبة بالإسكندرية كانت فرصة للتدارس والحوار حول فترة حكم محمد علي، التي تعد فترة مفصلية في تاريخ مصر وفي علاقتها بمحيطها العربي وبالعالم، في محاولة جادة لفهم واستيعاب فترة مهمة من فترات تاريخ عالمنا العربي، تلك الفترة التي تحتاج إلى الكثير والكثير من الدراسة والتقويم خاصة في المرحلة الدقيقة التي يعيشها عالمنا الآن والتي تحفل بالجدل الثقافي والسياسي عن الماضي والحاضر والمستقبل، عن الأنا والآخر، عن العدالة والديمقراطية، عن التجديد والإصلاح، عن مصر والعالم، وهو جدل يختص مباشرة بالحاضر فيستدعي الماضي، استهدافا للمستقبل، الأمر الذي نجحت فيه باقتدار أيضا مسرحية رجل القلعة للكاتب الكبير محمد أبو العلا السلاموني التي أعاد المسرح القومي إنتاجها من إخراج ناصر عبد المنعم وبطولة توفيق عبد الحميد الذي جسد محمد علي ببراعة متوقعة منه، لقد طرحت المسرحية بأسلوب فني راقي الجدل التاريخي حول محمد علي، شخصيته وعصره.
 لكن اللافت للنظر في الاحتفالية كلها ذلك الحضور الجماهيري الكبير في القاهرة والإسكندرية، لقد كان المسرح الصغير بدار الأوبرا ممتلئ عن أخره في حفل الافتتاح الرسمي والوقف في الممرات ومن لم يتمكنوا من الدخول أكثر من الجلوس، نفس الاحتشاد شاهدته بعدها بأيام في قاعة المؤتمرات الرئيسة بمكتبة الإسكندرية في افتتاح ندوة "محمد علي والعالم"، وفي قاعة الغد بمسرح البالون حيث تعرض مسرحية "رجل القلعة"، لقد شاهدت العرض مرتين إلى الآن كانت قاعة المسرح كاملة العدد.
 كذلك الإقبال الشديد على كل ما يصدر من كتب عن محمد علي، لقد أصدر المشروع القومي للترجمة في مناسبة عام محمد علي أربعة كتب مترجمة اثنان عن الفرنسية واثنان عن الإنجليزية والكتاب الخامس في الطريق عن الإيطالية، نفد كتابان من الأربعة حيث صدرا في نهاية 2004 وبداية 2005 مع بدء الاحتفال، وأوشك الكتابان اللذان صدرا من عشرة أيام على النفاد!
زميلنا سيد المشرف على بوفيه الدور الأول بمبنى المجلس الأعلى للثقافة لأول مرة يعلق نسخة من بوستر ندوة من ندوات المجلس على باب البوفيه، كان بوستر ندوة عصر محمد علي الذي صممه الفنان محمد بغدادي ويحمل صورة كبيرة لمحمد علي وتحتها صور جماعية لطلاب البعثة المصرية.
 ما سر هذا الإقبال الجماهيري على كل ما يتعلق بمحمد علي وعصره، هل الأمر مجرد نوع من حنين إلى ماض؟ أم رد اعتبار إلى الرجل الذي ظلم وشوهت صورته في كتب التاريخ الرسمية بعد حركة الجيش؟ أم رغبة في التعرف على حقيقة قد يطرحها باحث هنا أو باحث هناك؟
الدستور 30 نوفمبر 2005


مصر وحضارة سبعة آلاف عام كوارث ( 2/2 ) من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصر وحضارة سبعة آلاف عام كوارث ( 2/2 )
عماد أبو غازي
 إذا تجولنا بسرعة عبر تاريخ مصر الطويل مع الكوارث لابد أن نقف عند بعض المحطات، أول هذه المحطات ما وصلنا مدونا من عصر قدماء المصريين في النص المعروف بنبوءة صانع الفخار التي تحكي عن سلسلة من الكوارث الطبيعية والكونية قلبت وجه الحياة في مصر، وخلفت حالة من الدمار انعكست على الأوضاع الاجتماعية وترتب عليها تغييرا كبيرا في تكوين المجتمع المصري وترتيب طبقاته.
  محطة أخرى نقف عندها هي زلزال الإسكندرية المدمر الذي قذف بجزء من المدينة إلى قاع البحر، وربما يكون هذا الزلزال هو المسئول عن اختفاء منارة الإسكندرية التي تعد واحدة من عجائب الدنيا السبع القديمة، وتشير الأدلة الأثرية التي لازلنا نكتشفها إلى اليوم في تحت سطح الماء إلى حجم الدمار الذي أصاب المدينة بسبب الزلزال الذي أعقبته موجات مد عالية مثل تسونامي.
 أما العصور الوسطى فهي حافلة بالمجاعات والأوبئة التي سجلها المؤرخون المعاصرون لها، إلا أنه من بين تلك الأحداث نتوقف عند الشدة المستنصرية، المجاعة العظمى التي حلت بالبلاد في زمن الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، ونقص فيها الفيضان ومخازن الدولة خالية من الغلال، فارتفعت الأسعار حتى مات الناس من الجوع، وقد استمرت الشدة سبع سنوات، ويروي المؤرخون أن الناس في هذه المجاعة أكلوا القطط والكلاب حتى بلغ ثمن الكلب خمسة دنانير، بل أن الناس أكلوا بعضهم البعض، فكانت طوائف من الناس تجلس بأعلى البيوت ومعهم خطاطيف فإذا شاهدوا شخص يسير بمفرده اصطادوه بالخطاف وذبحوه وأكلوه، ورغم المبالغة في هذه الروايات إلا أنه تكشف عن حجم المأساة التي عاشتها مصر.
 أما الفناء الكبير فيقابل الموت الأسود الذي انتشر في أوروبا في القرن 14 م، وهو موجة من موجات الطاعون اجتاحات العالم القديم كله، وسقط ضحيتها عشرات الألوف من البشر، وكان هذا الوباء فاتحة لانطلاق أوروبا نحو العصر الحديث، لكنه كان في الشرق وفي مصر كارثة بكل المعايير، لقد امتدت آثار الوباء وتفاعلت مع موجات القحط المتوالية فدمرت المجتمع المصري كله حتى سقط فريسة سهلة في يد الاحتلال العثماني، وإذا كانت أوروبا قد تعافت سريعا من آثار الطاعون، فإن الأزمة استمرت في مصر بسبب الفساد الإداري والسياسي الذي استشرى في دولة المماليك.
طوال العصور الوسطى كان أسلوب مواجهة الكوارث وإدارة الأزمات يتمثل في شكل من أشكال التكافل بين في تحمل المسئولية بين الدولة وأثرياء المجتمع، فالدولة تفتح مخازن الغلال ويتكفل الأمراء أيضا بفتح مخازنهم حتى تنفرج الأزمة، وفي حالة الأوبئة واسعة الانتشار كانت إجراءات الإسراع بدفن الموتى من خلال مؤسسات الوقف الخيري تساهم في محاصرة انتشار المرض، لكن الكارثة كانت تتفاقم إذا تقاعست الدولة عن القيام بواجبها، أو حاول الأغنياء استغلالها لصالحهم، وفي القرن التاسع عشر بدأت مصر تعرف النظم الحديثة لمواجهة الأزمات فبدأت مشروعات الري الكبرى مثل القناطر والخزانات لتلافي أخطار نقص الفيضان وزيادته، ونقلت مصر نظام الحجر الطبي عن أوروبا وطبقته لأول مرة في عصر محمد علي لمحاصرة الأوبئة.
 وإذا انتقلنا إلى تاريخنا القريب فإن وباء الكوليرا يشكل أكبر الكوارث الطبيعية التي عشناها، وهي بسيطة إلى جوانب كوارث الآخرين، ومن أشهر موجات الكوليرا التي ضربت مصر الوباء الذي ظهر في سبتمبر 1947، في زمن حكومة النقراشي باشا، ومات منه أكثر من عشرة آلاف.
 ويصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي مقاومة الوباء فيقول: " ظهرت طبقات الشعب في هذا الوباء متضامنة في مكافحته، واعية للوسائل التي تقي الناس والبلاد شره، ودل مسلك الشعب في هذه الفترة على مبلغ إدراكه وتقدمه في ميدان الحضارة والثقافة والوعي القومي. وكانت نهايته في أوائل ديسمبر من تلك السنة، وكان التغلب عليه في هذه المدة الوجيزة مظهرا من مظاهر التقدم في أداة الحكم وفي نفسية الشعب".
 هذا الوباء تعاملت معه السينما المصرية من خلال فيلمين: "صراع الأبطال" لتوفيق صالح و"اليوم السادس" ليوسف شاهين.
 بعدها ب23 سنة ضربت الكوليرا مصر مرة أخرى في صيف 1970، لكن التعامل كان مختلفا تماما، لقد رفضت الحكومة الاعتراف بوجود الوباء، واتبعت أسلوب تسمية الكوارث بغير مسمياتها أو إنكارها أصلا، فمثلما سموا الهزيمة في 67 نكسة، تمت تسمية الكوليرا منذ 1970 أمراض الصيف، ولم يسمح بالطبع للمواطنين بمواجهة الوباء لأنه أصلا الدولة لم تعترف بوجوده فكيف تسمح لنا بمواجهته، وبستر ربنا فقط تمت محاصرة الوباء، لكنه يظهر بين عام وآخر بصورة محدودة ونسميه برضه أمراض صيف، ويكشف الفارق بين التعامل مع الوباء في 1947 و1970 الفارق بين قيم العصر الليبرالي وقيم العصر الشمولي.
 وبالطبع لا ننسى في سجل كوارثنا الطبيعية زلزال 1992 الذي أحسسنا بشدته لكن خسائره كانت محدودة جدا قياسا على ما يقع من زلازل في بلدان أخرى.
 وإذا كان حظنا في الكوارث الطبيعية معقول، فإن كارثتنا في حوادث الإهمال وأبرزها في سنواتنا الأخيرة الحرائق التي يروح ضحيتها العشرات نتيجة لأخطاء البشر.
 وفي كل الأحوال فإن إدارة الأزمات هي الفارق بين النجاح في مواجهة كارثة والخروج منها بأقل الخسائر أو الخروج منها مدمرين، فهل سننجح في مواجهة أنفلونزا الطيور إذا دهمتنا.
الدستور 23 نوفمبر 2005

مصر وحضارة 7 آلاف سنة كوارث 1 من 2. من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصر وحضارة سبعة آلاف عام كوارث (1/2)
عماد أبو غازي
 كل يوم تتزايد مخاطر انتشار أنفلونزا الطيور على نطاق عالمي، وكل يوم يقترب الخطر من حدودنا، وكل يوم تتصاعد أصوات المسئولين عن الصحة والطب البيطري تطمئنا إلى أنه لا خطر علينا، كيف؟ لا أعرف!
 لقد شهد العالم خلال عام كامل سلسلة من الكوارث الطبيعية غطت الكرة الأرضية من أقصى شرقها إلى أقصى غربها، ستكون أنفلونزا الطيور أخطرها وأكبرها أثرا لو تحققت نبوءة منظمة الصحة العالمية بسقوط عشرات الملايين ضحية لهذا الوباء.
 تنوعت الكوارث هذا العام ما بين زلازل وموجات مد بحري وفيضانات وأعاصير وحرائق للغابات، فضلا عن الأوبئة الجديدة التي نسمع عنها كل يوم ولا نعرف إن كانت طبيعية أم من صنع البشر، وإذا كانت كوارث هذا العام لم تفرق بين دول العالم المتقدم والدول المتخلفة إنما ساوت بين الجميع، وتساوت ردود الفعل المرتبكة أيضا عند الجميع، فلم نجد فارقا كبيرا بين رد فعل الإدارة الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأقوى والأغنى والأكثر تقدما في العالم ورد فعل حكومات دول فقيرة ومتخلفة اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، إلا أنها اختلفت في حجم الاهتمام الإعلامي بها، فبينما احتلت أخبار كاترينا وريتا نشرات الأخبار وأعمدة الصحف، لم تحظ الأعاصير التي ضربت في نفس الوقت شرق آسيا وجنوب الكاريبي بنفس القدر من الاهتمام وردود الفعل، واختلطت فيها وفي ردود الفعل حولها آثار الكارثة الطبيعية بالصراعات السياسية والدينية والعرقية وتأثرت جهود الإغاثة كثيرا بهذه الصراعات، سقط في تلك الكوارث عشرات الآلاف من القتلى تحت الأمواج والأنقاض، وشعر الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها بأن ثورة الطبيعة خرجت عن السيطرة، وبدأت حرب التفسيرات والتفسيرات المضادة، البعض يتحدث عن الغضب الإلهي وانتقام السماء والبعض يتحدث عن غضب الطبيعة واحتجاجها على تدمير الإنسان للبيئة، البعض أظهر الشماتة والتشفي! وقد زاد على كوارث الطبيعة في هذا العام ارتفاع هائل في كوارث البشر الناتجة عن الإهمال مرات وعن الإرهاب مرات أخرى، وإذا كان ستر ربنا قد جنبنا النوع الأول من الكوارث، فقد كان لنا نصيبا وافرا من كوارث البشر هذا العام.
  تاريخ مصر طويل ممتد، والحضارة المصرية واحدة من أقدم حضارات الدنيا، وهي حضارة نشأت وتطورت في تحدي دائم ومستمر للكوارث الطبيعية، اكتسب الإنسان المصري عبر آلاف السنين خبرة في التعامل مع الكوارث ومواجهتها، وكما يقول المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي وتلميذه المصري النابغ شفيق غربال فإن مصر تكونت نتيجة استجابة عبقرية من سكان شمال وادي النيل لتحديات ثورة الطبيعة، فلو عدنا إلى الماضي البعيد إلى لحظة ميلاد حضارة مصر القديمة سنكتشف أن أجدادنا الأوائل واجهوا تغيرات حادة في البيئة مع انتهاء العصر المطير وسيادة الجفاف في المناطق التي كانوا يعيشون فيها، فاتجهوا إلى منطقة المستنقعات التي كانت تشغل منطقة وادي النيل الحالية، ونجحوا في ترويض النهر وتجفيف المستنقعات وتحويلها إلى أراضي زراعية من أكثر أراضي العالم خصوبة، وشيدوا في وادي النيل ودلتاه أسس حضارتهم، فكانت مواجهة كارثة الجفاف حافزا لبناء الحضارة.
 ولأن حضارة مصر حضارة زراعية نهرية، فقد ارتبط رخاء مصر وشقاؤها بفيضان نهر النيل الذي يأتي كل عام من هضبة الحبشة فيزرع المصريون أرضهم، وإذا غاب الفيضان أو نقص جاءت المجاعة والوباء، وعاشت مصر طوال تاريخها في دورة متوالية من المجاعات والأوبئة يعقبها التعافي والنهوض ليعود نقص الفيضان بكوارثه، ولم تكن مشكلة المصريين مع نقص الفيضان فقط لكنها كانت أيضا مع زيادته فإذا زاد الفيضان عن حده أغرق البلاد والعباد ودمر القرى والنجوع، ومن هنا ابتكر المصريون القدماء مقاييس للنيل عند حدودهم الجنوبية وعلى طول الوادي يتوقعون من خلالها مستوى الفيضان، كما شقوا القنوات المائية لتنظيم النهر وترويضه وشيدوا الجسور زمن الفيضان لحماية القرى، كما لجأ سكان بعض القرى لبنائها على تلال صناعية مرتفعة تعرف بالكيمان لحمايتها من الغرق، ومن هنا جاءت كلمة كوم في تسمية عديد من قرى مصر ومدنها.
 وإذا كان المصريون قد تعايشوا مع كوارث الطبيعة وأصبحت جزءا من حياتهم اليومية، استعدوا لمواحهتها ووضعوا الخطط للانتصار عليها، فقد كانت هناك في تاريخ مصر الطويل كوارث طبيعية فاقت ما اعتاده المصريون وظلت ذكراها محفورة في وجدانهم دائما، لأنها طالت في تأثيرها لسنوات أو زاد عدد ضحاياها عن المعتاد.

الدستور 16 نوفمبر 2005

السبت، 25 مارس 2017

عيد الجهاد الوطني. من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
عيد الجهاد الوطني
عماد أبو غازي

  قلت لابنتي مريم هذا الشهر تمر ذكرى عيد الجهاد الوطني، فقالت لي يعني إيه؟ انتبهت إلى أن هذه المناسبة المهمة في تاريخنا الوطني مجهولة للأجيال الجديدة، بل ربما غابت كذلك من ذاكرة الأجيال القديمة، بفضل جهود حركة يوليو 52 في تأميم التاريخ الوطني، ومحو نضال الشعب المصري قبل "الحركة المباركة"، فقررت أن أكتب مرة أخرى عن هذا اليوم المجيد من أيام الشعب المصري حتى لا تضيع الذاكرة الوطنية.


 ففي الأسبوع القادم ـ وعلى وجه التحديد في يوم 13 نوفمبر ـ تمر ذكرى مناسبة وطنية من أهم المناسبات في تاريخنا الحديث، إنها ذكرى عيد الجهاد الوطني، وهي المناسبة التي ظلت مصر كلها تحتفل بها منذ عام 1919 حتى قيام حركة الجيش في عام 1952، ولهذا اليوم قصة ودلالات في تاريخ مصر يجب أن تعرفها الأجيال وتعيها جيلا بعد جيل.
 أما القصة فترجع إلى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الأولى التي استمرت من سنة 1914 إلى سنة 1918، فرغم أن الحرب كانت بين القوى الاستعمارية الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت، إلا أن مصر اكتوت بنارها وكانت ساحة من ساحاتها العسكرية، فعلى أرض سيناء وجبهة قناة السويس اندلعت المعارك بين القوات البريطانية التي كانت تحتل مصر منذ عام 1882 والقوات التركية التي كانت تعتبر مصر جزاءً من الدولة العثمانية منذ أربعمائة سنة سابقة على هذا التاريخ، كذلك عانى المصريون من وطأة الأحكام العرفية التي فرضتها قوات الاحتلال على مصر عقب عزل الخديوي عباس حلمي وتعيين حسين كامل سلطانا على البلاد تحت الحماية البريطانية، كما عانوا كذلك من تسخيرهم وتسخير موارد البلاد وثرواتها لخدمة المجهود الحربي البريطاني، وهي الحالة التي عبرت عنها ببلاغة كلمات أغنية "يا عزيز عيني" التي لحنها وغناها سيد درويش، وقد تحمل المصريون هذه المعاناة تحت ضغط الجبروت العسكري لجيوش الاحتلال وكلهم أمل في أن تزول الغمة ويزول الاحتلال بنهاية الحرب، وفي صيف 1918 بدا واضحا أن كفة الحلفاء (إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ومعهم الولايات المتحدة) هي الراجحة، وأن النصر من نصيبهم، وبالفعل مع خريف ذلك العام استسلمت ألمانيا وأعلن انتصار الحلفاء وانتهاء الحرب، وعلى الفور تحركت مجموعة من رجال مصر كان على رأسهم سعد زغلول الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وذهبوا إلى دار المعتمد البريطاني (السفير)، وهو الحاكم الفعلي للبلاد، في خطوة مفاجئة ليطالبوا بإنهاء حالة الأحكام العرفية (الطوارئ بلغة اليوم) والسماح لوفد يمثل المصريين بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح الذي كان سيحدد خارطة العالم الجديد بعد الحرب، وكان رد المعتمد البريطاني السير وينجت الرفض القاطع على أساس أنهم لا يحملون أي صفة تتيح لهم تمثيل مصر أو الحديث باسم المصريين، وكانت هذه الواقعة في يوم 13 نوفمبر سنة 1918، وقد تصور وينجت أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لكن ما حدث بعد ذلك كان أمر مختلف، لم يتوقعه وينجت، ولا حكومة بريطانيا العظمى التي يمثلها، ولا سلطان البلاد الجديد السلطان أحمد فؤاد الذي عينه الإنجليز قبلها بشهور بعد وفاة رجلهم السلطان حسين كامل، وكان فؤاد طيعا في يد الانجليز، وقد استقبله الشاعر الكبير بيرم التونسي بقصيدة شهيرة جاء فيها:
ولما عدمنا في مصر الملوك
                            جابوك يا فؤاد لانجليز نصبوك
 المهم كان رد فعل الشعب المصري ردا عبقريا يكشف عن روح الثورة التي ظلت كامنة لسنوات في نفوس المصريين، لقد بدأتن حملة لجمع التوقيعات على توكيل من أفراد الشعب المصري فردا فردا لسعد زغلول ورفاقه ليكونوا وكلاء عن الأمة المصرية في حضور مؤتمر الصلح، وليشكلوا وفدا يمثل مصر وشعبها هناك ويسعى من أجل الحصول على الاستقلال لمصر وعلى اعتراف المجتمع الدولي بهذا الاستقلال، خلال أسابيع قليلة اتسعت حملة جمع التوقيعات وشملت جميع طوائف الأمة وطبقاتها، وظهرت وحدة المصريين حول هدف واحد، وأصبح اسم "الوفد المصري" تعبيرا عن طموح المصريين نحو استقلال بلادهم، وفشلت كل محاولات السراي والإنجليز وعملائهم في نظارة الداخلية في وقف حركة التوكيلات، وعندها كان القرار الذي فجر الثورة المصرية الكبرى ثورة 1919، قرار القبض على سعد زغلول وزملائه من رجال الوفد المصري ونفيهم إلى مالطة، في 8 مارس 1919، وفي اليوم التالي مباشرة انفجر بركان الغضب المكبوت ليطيح بنظام قديم وقيم قديمة ويرسي أسس عصر جديد من السعي نحو الاستقلال التام والديمقراطية، لتبدأ حلقة جديدة من حلقات نضال المصريين من أجل الحرية.
 لقد كانت البداية من ذلك الحدث الذي وقع يوم 13 نوفمبر 1918 لذلك أعتبر المصريون هذا اليوم عيدا للجهاد الوطني ظلوا يحتفلون به كل عام، وفي احتفالهم إرساء لقيم ومبادئ مهمة تشكل دلالات هذا اليوم، أولها أن الأمة هي مصدر السلطات وهي التي تفوض قادتها في تمثيلها وتحاسبهم على ما يفعلون، وثانيها أن مصر كيان مستقل قائم بذاته فلا هي مستعمرة بريطانية ولا هي ولاية عثمانية، وثالثها أن المصريون أمة واحدة لا فرق بينهم على أساس دين أو عقيدة أو جنس تربط بينهم الرابطة الوطنية قبل الرابطة الدينية، ورابعها أن استقلال مصر السياسي لا يتحقق بمعزل عن حرية المواطنين واحترام حقوقهم.

الدستور 9 نوفمبر 2005

الجمعة، 24 مارس 2017

من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الأزهر وحرية الفكر
عماد أبو غازي

   نشرت الأهرام في عدد الجمعة قبل الماضي 21 أكتوبر 2005 خبرًا في صفحتها الثامنة بعنوان: "الأزهر يرفض 15 ألف كتاب واردة من أمريكا"، وفي صدر الخبر بشرى بأن الأزهر "رفض هذه الكتب الواردة من الولايات المتحدة للتدريس بالجامعة الأمريكية لوجود بعض المغالطات بما لا يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، وتم حجزها بالجمارك، ولم يسمح بدخولها إلى مصر".
 والخبر الذي قدمه الأهرام باعتباره مدعاة للفخر، يكشف عن جانب من جوانب مأساة الوصاية التي نعيش في ظلها، والتي تفرضها على عقولنا المؤسسة الدينية ومفتشيها، إنها فضيحة جديدة من فضائح مصادرة حرية الفكر والحق في المعرفة في هذا البلد الذي كتب عليه أن يعيش تحت رحمة فكر العصور الوسطى الكهنوتي في وقت ينطلق العالم فيه بقوة ورسوخ إلى آفاق مجتمع المعرفة.
 نريد أن نعرف بأي حق وتحت أي سند قانوني يتدخل الأزهر في كتب تدرس للطلاب في الجامعة أو تقتنيها مكتباتها، ومن ذا الذي أحال كتب واردة من الخارج لسلطة الرقابة الدينية، منذ سنوات قليلة صدر قرار وزير العدل بمنح الضبطية القضائية لمجموعة من مشايخ الأزهر، يومها ثارت ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية، لكن وزير العدل حينذاك طمئن الناس بأن الأمر يتعلق بمراقبة طباعة المصحف الشريف، وهذا أمر معقول ومقبول، لكن ما يحدث يتجاوز القانون والدستور، فمن الذي أعطاهم حق الوصاية على عقول البشر ليحددوا لنا ما نقرأ وما لا نقرأ، وما الذي ندرسه وما الذي ينبغي ألا ندرسه.
 إن القضية ليست في مصادرة كتاب أو أكثر لكنها أبعد من ذلك بكثير، إنها قضية منطق وأسلوب يحكم حياتنا، فإلى متى تستمر الرقابة على المطبوعات الأجنبية، تلك الرقابة التي ورثنها عن الاحتلال ثم عن الحكم الشمولي، إنه منطق متخلف ينتمي إلى عصور تكاد تكون انتهت في العالم من حولنا، ولا يليق ببلد عريق مثل مصر أن يكون في ذيل قائمة الدول التي تقتحم مجتمع المعرفة، كما لا يليق بنا ولا نملك رفاهية أن نترك للقوى المحافظة أن تتحكم في مستقبلنا وتعيق انتقالنا إلى مستقبل جديد.
وإذا كان الخبر الذي نشره الأهرام لم يدلنا على عناوين الكتب المصادرة أو عن السبب في مصادرتها على وجه الدقة، ففي يوم الثلاثاء الماضي 25 أكتوبر عرفنا من خبر في صدر الصفحة الأولى من جريدة "المصري اليوم" المزيد من التفاصيل حول الموضوع كشفت سر المصادرة، كما عرفنا من الخبر أن ما تمت مصادرته ألف نسخة فقط من كتاب واحد وليس خمسة عشر ألف كتاب! حيث كشف مسئول بمشيخة الأزهر أن الكتاب المصادر كتاب عن الحركة الوهابية، بعنوان: "الإسلام الوهابي من الثورة والإصلاح إلى الجهاد العالمي"، من تأليف ناتانا ديلونج الأستاذة بجامعة جورج تاون الأمريكية، ويذهب الكتاب ـ عن حق ـ إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس المذهب الوهابي خلق بمذهبه البيئة الفكرية الصالحة لنشر الإرهاب، ويبدو أن هذا ما دفع الأزهر إلى مصادرة الكتاب، فالمبرر الذي قدمه فضيلة شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي لرفض دخول الكتاب مصر وفقا للخبر الذي نشرته "المصري اليوم"، يرجع إلى إساءة الكتاب للإسلام وللمذهب الوهابي في شبه الجزيرة العربية وللعائلة المالكة بالمملكة العربية السعودية.
 ومن حقنا أن نتساءل هل أصبح رفض المذهب الوهابي وانتقاده جريمة أو أمرا محرما! وهل تحول الأزهر إلى مؤسسة وهابية تدافع عن الفكر المتطرف الذي أسس للإرهاب المعاصر! وهل عندما يصدر كتاب يفضح حقيقة المذهب الوهابي المسئول الأول عن كثير من الكوارث التي نعيشها اليوم، ليحمي الشباب من الانزلاق في مستنقعه، نصادره أم الأولى بنا أن نترجمه إلى العربية ونؤلف فوقه عشرات الكتب التي تفضح أسس التطرف الديني والتعصب والتخلف الفكري، لقد لعبت مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر دورا تاريخيا في مواجهة الدعوة الوهابية والتصدي لها وهزيمتها في مرحلتها الأولى، لكن يبدو أن الحال انقلب الآن لنجد المؤسسة الدينية الرسمية في مصر التي عرف عنها تاريخيا الاعتدال والوسطية تدافع عن التطرف الفكري الذي مهد الطريق وهيأ البيئة الملائمة لظهور الحركات الإرهابية.
 ومهما كان ما يحويه الكتاب من آراء فليس من حق أحد أن يفرض وصايته علينا، وإذا كان هناك من يرى في الكتاب أفكارا غير صحيحة فليرد عليها ويدحضها، أما منطق المصادرة فمنطق العاجز الضعيف الذي لا يملك ما يرد به.
 إن قرار المصادرة أو المنع مضحك بقدر ما هو مبكي ففي مجتمع المعرفة وفي ظل ثورة الاتصالات والسماوات المفتوحة تستحيل مصادرة أي فكر أو إبداع، يا سادة صادروا كما تشاءوا، سنقرأ رغما عنكم وسنصل إلى مصادر المعرفة رغم قيودكم البالية.

الدستور 2 نوفمبر 2005

من أرشيف مقالاتي القديمة. الفتنة الطائفية

مخربشات
الفتنة الطائفية
    عماد أبو غازي

 تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة الاحتقان الطائفي في مصر بشكل لافت للنظر، فلا يكاد يمر شهر ـ بل ربما أسبوع ـ إلا ونسمع عن حادث طائفي هنا أو هناك، مرة يكون السبب فتاة مسلمة تحولت إلى المسيحية، ومرة أخرى بسبب فتاة مسيحية تحولت إلى الإسلام، مرة زوجة راهب تتركه وتختفي فيُتهم مسلمون من زملائها في العمل بإخفائها، ومرة تنطلق إشاعة كاذبة حول مصففة شعر مسيحية حولت ابنة خطيب مسجد إلى المسيحية، وتثار من مثل هذه الأمور الصغيرة مشكلات كبرى تهدد الوطن ووحدته، رغم بساطة هذه الأمور ومحدوديتها، فلا الإسلام سيتأثر لو تركه عشرة أو مئة أو حتى  ألف من معتنقيه، ولا المسيحية كذلك، فضلا عن أن حرية اختيار المعتقد الديني وتغييره حق أصيل من حقوق الإنسان لا ينبغي أن يخضع لقيد أو لابتزاز متطرفين دينين من هنا أو هناك، وإذا تغيرت القناعة الدينية لإنسان، فما جدوى عدم الاعتراف بهذا التغيير، وهل إذا فرضنا على شخص أن يظل على دين معين على الورق بخلاف معتقده سيكسب الدين شيء، وإذا كان المعتقد الديني أصلا علاقة بين الإنسان وربه، فمن نخدع إذا بموقفنا هذا ومن نرضي ؟ إننا لا نخدع إلا أنفسنا ولا نرضي إلا غرورنا.
 لقد ظل مسلسل الاحتقان والتوتر يتصاعد ويأخذ شكل الأزمات التي نتعامل معها ونديرها بشكل غير رشيد، والإدارة غير الرشيدة للأزمات الصغيرة تحولها إلى أزمات كبيرة وتقود في النهاية إلى الكارثة، وأخيرا وصل الحدث إلى قمته، بتفجر أزمة السي دي الذي يحوي تسجيلا لعرض مسرحي تم تقديمه داخل كنيسة بالإسكندرية منذ عامين، وقال البعض أنه يتضمن إهانة للإسلام، ووصل الأمر إلى ما وصل إليه يوم الجمعة الماضي، 21 أكتوبر، من مظاهرات دامية حول كنيسة ماري جرجس بمحرم بك، سار فيها آلاف غالبيتهم العظمى لم يشاهدوا المسرحية أو السي دي لكنهم سمعوا بالموضوع فقط، وسقط في المظاهرة قتيل على الأقل.
 من المسئول عن هذا الاحتقان؟ ومن المسئول عن غياب روح التسامح وتقبل الاختلاف في مجتمعنا؟ من المسئول عن هذا التحريض الطائفي البغيض؟ إنها مسئوليتنا جميعا المحرضين والصامتين إزاء هذا التحريض، الدولة وجماعات التطرف الديني إسلامية أو مسيحية والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني الذي يتعامل بسلبية مع الحدث.
 لقد عاش المجتمع المصري متماسكا منذ توحدت مصر في الألف الرابع قبل الميلاد، واستمر كيانه الموحد لآلاف السنين لقيامه على احترام مبدأ التعددية الدينية والمذهبية، وقبول كل طرف للآخر المختلف معه في الدين والعقيدة، كان هذا حالنا قبل دخول المسيحية مصر واستمر بعدها، وكان هذا حالنا أيضا قبل دخول الإسلام مصر واستمر بعده، لم تنجح أفكار وافدة أو تدخل أجنبي في تغيير القاعدة الذهبية للمجتمع المصري، قاعدة التعدد في إطار الوحدة، بالطبع كانت هناك دوما لحظات ضعف تصيب روح المجتمع أو لحظات تحول تخلخل القناعات الأساسية للمصريين، تنجح فيها قوى التطرف الديني أو قوى التدخل الأجنبي في إثارة نزعات الطائفية البغيضة، لكن حكمة العقلاء كانت تتغلب في النهاية، فما الذي أصابنا اليوم؟
 إن ما أصابنا من خلل يرجع إلى عدة عوامل مجتمعة، أولها سيادة روح التطرف الديني الغوغائي لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء، واختراق مؤسسات التعليم والإعلام بالفكر الديني المتطرف الذي يلغي الآخر وينفيه، في ظل تراخي الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية عن مواجهة هذا التوجه بل تواطأها أحيانا معه، والاكتفاء بموسمية التعامل مع الأحداث الطائفية بدلا من تأسيس منهج للمواجهة، وتقاعس المجتمع في التصدي لثقافة التعصب، وغياب دور القوى العلمانية في وقف مد التطرف الديني الغوغائي من الجانبين وفي حماية وحدة الوطن وكيانه، لقد تخلينا عن تقاليد الثورة المصرية العظيمة ثورة 19 التي حققت وحدة الأمة في أصعب الظروف تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وتركنا أنفسنا لقيم وتقاليد تعلي الانتماء الديني على الانتماء الوطني وتضعه في مواجهته.
 لقد أصبحت هناك ضرورة ملحة لمراجعة الخطاب الديني المتطرف لدى الجانبين ومواجهته بخطاب عقلاني علماني يعلي قيم التسامح وقبول الآخر التي هي تقاليد مصرية قديمة، ويعود بنا إلى أسلوب التعامل بمنطق المواطنة لا منطق الأغلبية والأقلية، وإلى التأكيد على أن الانتماء الوطني ينبغي أن يعلو فوق كل انتماء، فلا محل للمخاطرة بكيان الوطن من أجل أفكار التعصب الديني.
 وبفرض أن خطأ وقع هنا أو هناك من هذا أو من ذاك، هل نشعلها نارا تدمر أمامها كل شيء وتهدد سلامة الوطن ووحدة الأمة أم نتصرف بعقل ونتحلى بروح التسامح ونتعامل مع الخطاء في حدوده، ولنتذكر مقولة الإمام محمد عبده: "إن التحامل على شخص بعينه لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملة، فإن ذلك اعتداء على غير معتد، ... وليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيستعملوها بشيء من الطعن، أو ينسبوها إلى شائن العمل، تعللا بأن رجلا أو رجالا منها قد استهدفوا لذلك".
 وأخيرا، علينا ألا ننسى أن الاحتلال البريطاني لمصر بدأ بحادث طائفي صغير وقع في الإسكندرية كان مبررا لاحتلال دام أكثر من سبعين سنة.
الدستور 26 أكتوبر 2005

الخميس، 23 مارس 2017

محمد علي وحماية الحريات الأكاديمية!

مخربشات
محمد علي وحماية الحريات الأكاديمية!
عماد أبو غازي

 تقوم دار الكتب والوثائق القومية بمشروع علمي يشرف عليه المؤرخ الكبير الدكتور رءوف عباس لنشر "الأوامر والمكاتبات الصادرة من عزيز مصر محمد علي" بين عامي 1222 و 1264 هـ (1807 ـ 1848 م)، ويبدو من هذه الأوامر والمكاتبات أن محمد علي كان يشغل نفسه بكل كبيرة وصغيرة في البلد، فنجد فيها تسجيلًا للقضايا الكبرى كحروبه في الجزيرة العربية للقضاء على الدولة السعودية والتمرد الوهابي، ومساعيه لضم الشام إلى ولاية مصر، وحروبه التوسعية في السودان، وعلاقاته بالسلطان العثماني وبالدول الأوروبية، كما نتعرف منها على ما دفعه من رشاوى في استنبول لتحقيق أهدافه، ونعرف تفاصيل مؤامراته داخل مصر وخارجها بما في ذلك تقرير رفعه للسلطان عن ذبحه للمماليك في مذبحة القلعة.

محمد علي باشا
 كذلك تقدم هذه الأوامر والمكاتبات صورة دقيقة عن تطور الدولة وأجهزتها ونظمها المالية والإدارية في فترة حاسمة من تاريخ مصر تشكلت فيه صورة الدولة المصرية الحديثة، كما تكشف لنا عن اهتمامات الباشا، وطريقة تفكيره، وسيطرته المطلقة على أمور الحياة في ولايته مصر، من خلال توجيهاته المستمرة لمعاونيه وموظفيه كبارًا وصغارًا ولأبنائه وأفراد أسرته اللذين أشركهم معه في الحكم، لقد كان الباشا يتدخل في تفاصيل صغيرة مثل انتشار الجرب في بعض المدارس أو تنظيم الحجر الصحي عند ظهور وباء، أو كيفية سداد العاملات في بعض المصانع التي أنشأها لديونهن الخاصة.   
 ومع الحديث المتواصل عن إصلاح الجامعة وعن الحريات الأكاديمية، استوقفني في هذه الأوامر والمكاتبات أمران أصدرهما محمد علي في جماد آخر 1251 هـ (سبتمبر 1835 م)، والأمران يرتبطان بنظام التعليم الحديث الذي أدخله محمد علي في مصر ورد فعل القوى المحافظة في المجتمع تجاه المدارس الحديثة التي أنشأها.
 لقد كان التعليم ركن أساسي في مشروع محمد علي لتحديث مصر، فعندما تولى محمد علي حكم مصر سنة 1805 كان التعليم في مصر مرادفًا للتعليم الديني الذي يعتبر الأزهر مؤسسته الكبرى، وكان ما يسمى بدراسة علوم الدنيا قد تراجع وانزوى وما يقدم منه من خلال الأزهر لا علاقة له بما وصلت إليه العلوم الحديثة في الغرب، فترك محمد علي الأزهر بعبله وأتجه إلى إرسال طلاب مصريين لدراسة العلوم الحديثة في أوروبا، وإلى إنشاء مدارس حديثة في مصر مثل المهندسخانه ومدرسة الطب ومدرسة المولدات ومدرسة الألسن وغيرها من المدارس، واهتم محمد علي باستقدام الأساتذة الأوروبيين للتدريس في هذه المدارس.
 ولم يتقبل المجتمع التقليدي هذه المدارس الحديثة ببساطة، وتعرضت تلك المدارس للهجوم عليها، وكان الدين سلاحًا للهجوم، فماذا كان رد فعل محمد علي؟
 تكشف أوامر محمد علي ومكاتباته عن موقف حازم في مواجهة دعاوى قوى التخلف، والقصة التي تتحدث عنها الأوامر ترتبط بمدرسة الطب التي أنشأها محمد علي سنة 1827 بناء على اقتراح الطبيب الفرنسي كلوت بك رئيس أطباء الجيش المصري، وقد بدأت المدرسة نشاطها في المستشفى العسكري بأبي زعبل واستمرت هناك إلى عام 1837 ثم نقلت إلى قصر العيني.

كلوت بك
 وفي عام 1835 علم محمد علي من خلال مطالعته لمحاضر اجتماعات ديوان الجهادية الذي كانت تتبعه المدرسة أن أحد المشايخ الذين كانوا يعملون بالترجمة في مدرسة الطب واسمه الشيخ الهراوي اعترض على بعض ما يدرسه كلوت بك بالمدرسة من مناهج الطب الحديث بدعوى مخالفته للدين فأصدر محمد علي أمرًا جاء فيه:
 "إنه علم حصول معارضة من الشيخ الهراوي في بعض أمور لا تعنيه، وبالنسبة لعلمه وآدابه لم يقابل بشيء من شورى الأطباء، (أي أنه لا يفقه شيء قياسًا على الأطباء) ويشير بأن المذكور ليس ممن يجب احترامهم بل من الأشرار المحتاجين للإيقاظ، حتى أن تزويره معلوم من قبل، فيلزم استحضار المذكور والتنبيه عليه مؤكدًا بعدم تداخله في شيء خارج عن وظيفته، وبأنه ينفى ويطرد فيما لو حصل إقدام ثانيًا على ما يوجب التشكي منه".
 ثم عاد بعد خمسة أيام ليصدر أمرًا أشد لهجة لأنه لاحظ أن المسئولين في الديوان خضعوا لابتزاز الشيخ الهراوي لهم باسم الدين، جاء فيه: "إنه اطلع على المضبطة الصادرة بشأن التقرير المقدم من الشيخ هراوي في حق كلوت بك بخصوص تلامذة مكتب المارستان ـ يقصد مدرسة الطب ـ وعِلم الكيفية، وإن تقرير المذكور من قبيل التزويرات، وبناء عليه يشير بدعوة المذكور إلى ديوان خديوي والتنبيه عليه بعدم تداخله فيما هو خارج عن وظيفته المحولة عليه وهي الترجمة والتصحيح، وإنه إن لم يرتدع يضرب بالنبوت، واستحضار كلوت بك أيضًا والتنبيه عليه بمداومته على السعي والاجتهاد في تعليم أولئك التلامذة علم الطب كمرغوبه".
 هكذا كانت القوى المحافظة دائمًا ضد أي تقدم أو تحديث، وهكذا كان موقف محمد علي الشجاع، يا ترى أين كنا سنصبح الآن لو خضع محمد علي لخزعبلات الشيخ هراوي وأوقف جهود كلوت بك ومنع دراسة التشريح والعلوم الطبية الحديثة!
الدستور 19 أكتوبر 2005


الثلاثاء، 21 مارس 2017

إصلاح الجامعة والحريات الأكاديمية

مخربشات
إصلاح الجامعة والحريات الأكاديمية
عماد أبو غازي
  لا شك في أن حصانة الجامعة في مواجهة التدخل السياسي والأمني محور أساسي من محاور إصلاح الجامعة، لكن هل تكفي هذه الحصانة لتنصلح الأحوال؟


 في الحقيقة يحتاج الأمر فوق ذلك إلى صيانة الحريات الأكاديمية وحمايتها لتتمكن الجامعة من النهوض بدورها، فالغاية الأساسية من وراء استقلال الجامعة ضمان حرية البحث العلمي وحرية الفكر والتعبير وغيرها من الحريات الأكاديمية اللازمة لازدهار الجامعة وتطورها، وفي تاريخ الجامعة المصرية لم يأت التعدي على الحريات الأكاديمية من الدولة في أغلب الأحيان، بل أتى من المجتمع وأحيانًا من داخل الجامعة نفسها، لقد وقع الاعتداء الأبرز على الحريات الأكاديمية في تاريخ الجامعة المصرية بعد تحولها إلى جامعة حكومية في عام 1926، وكان من نصيب الدكتور طه حسين عندما نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، فكان ضحية للتعدي على الحريات الأكاديمية مثلما كان ضحية لتدخل الدولة سياسيًا في الجامعة واعتداءها على استقلالها عام 1932، وإذا كان الاستبداد السياسي للدولة الجاني في الحالة الثانية، فإن تخلف المجتمع كان الجاني في قضية كتاب "الشعر الجاهلي"، لقد أثار القضية نائب في البرلمان يتمتع بالجمود الفكري لا يذكر أحد اسمه الآن، وانتهى الأمر بطه حسين متهمًا أمام النيابة العامة، ولولا سعة أفق وكيل النيابة محمد نور الدين وسيادة الروح الليبرالية في المجتمع لانتهى الأمر بتكفير طه حسين وإبعاده عن الجامعة، ومع ذلك فقد اضطر طه حسين إلى إصدار طبعه معدله من الكتاب بعنوان: "في الأدب الجاهلي"، حذف منها بعض العبارات التي استفزت قوى التخلف في المجتمع، وانتهى الأمر إلى حل وسط فتمت تبرئة طه حسين ليس على أساس من أن حرية البحث العلمي مطلقة لا قيد عليه، بل على أساس أن الرجل لم يقصد ما ذهب إليه منتقدوه مع إقرار غير قاطع بحرية الباحث، وفي نفس الوقت كان التراجع الشكلي لطه حسين عن بعض ما كتبه نوعًا من الانحناء أمام عاصفة الفكر المحافظ، خاصة أنه لم يجد دعمًا واضحًا من حزب الأغلبية الشعبية "الوفد المصري" لأن عيون قادة الحزب كانت على صناديق الانتخاب، فلا مانع لديهم من بعض التضحية بمبادئ الليبرالية وبقليل من الحريات لضمان أصوات الجماهير، كانت قضية الشعر الجاهلي نموذجًا مبكرًا لضيق المجتمع بالحريات الأكاديمية، واستعداده للاندفاع خلف الغوغائية الفكرية لمصادرة حرية البحث العلمي في الجامعة، وعكس الحل الوسط الذي انتهت إليه القضية ظلاله على الحياة الأكاديمية في الجامعات المصرية إلى الآن، وحدد مسار الصراع بين أنصار الحرية الفكرية في الجامعة ودعاة الجمود في المجتمع.
 ومع تغول السلطة وتعديها على استقلال الجامعة بعد حركة يوليو 52 تضافرت تعديات الدولة مع اعتداءات قوى التخلف والجمود في المجتمع لتزيد من ضعف الجامعة وانهيار الحريات الأكاديمية فيها، وفي ظل التنافس الدائم بين سلطة يوليو وجماعات الإسلام السياسي على احتكار صفة "المتحدث الرسمي باسم الدين"، لم تجد الدولة غضاضة من التضحية بحرية البحث العلمي تملقًا لجماعات الإسلام السياسي أو أثباتًا لأنها أكثر حرصًا على الدين منهم.
 وبلغت المهزلة مداها مع تدخل أولياء الأمور فيما تدرسه الجامعات، فبين فترة وأخرى تصحو الجامعة على ضجة يثيرها ولي أمر اعتراضًا على نص يدرس في الجامعة، والأمثلة كثيرة يحضرني منها: الاعتراض على تدريس "ألف ليلة وليلة" في الثمانينيات، وعلى تدريس رواية "موسم الهجرة للشمال" للروائي السوداني الكبير الطيب صالح في التسعينيات، بدعوى خروجهما على الآداب العامة، والواقعتان من كلية الآداب بجامعة القاهرة، والضجة التي أثيرت بسبب تدريس رواية "الخبز الحافي" للأديب المغربي محمد شكري بالجامعة الأمريكية، وعلى وضع كتاب "محمد" للمفكر الفرنسي مكسيم رودنسون ضمن قائمة مراجع يطلع عليها الطلبة في نفس الجامعة، وتعكس هذه الظاهرة ضيق هامش الحرية داخل الجامعة يومًا بعد يوم، وقد كانت استجابة الجامعة متفاوتة من حالة إلى أخرى لكنها جميعًا أتت في إطار الحل الوسط الذي فرض منذ أزمة كتاب الشعر الجاهلي.
 وإذا كانت الاعتداءات قد وقعت في هذه الحالات من قوى متخلفة ضيقة الأفق في المجتمع خارج الجامعة، فقد شهدت السنوات الثلاثون الماضية تضخما في نفوذ التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي بين أعضاء هيئة التدريس داخل الجامعة، ولهذه التيارات والجماعات مواقفها المعلنة المعادية لحرية الفكر والتعبير، وإذا كان تأثير هذا الوجود الكثيف على الحريات الأكاديمية لا يبدو واضحًا في الكليات العلمية، فالأمر خلاف ذلك في الكليات النظرية، وكانت هذه التيارات قاسمًا مشتركًا أعظم في معظم الاعتداءات التي تعرضت لها الحريات الأكاديمية في الجامعات المصرية خلال العقدين الماضيين، خاصة مع وصول أساتذة منهم إلى عضوية لجان الترقيات في الجامعة، وتعتبر قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد في منتصف التسعينات من أشهر حالات التعدي على الحريات الأكاديمية من جانب تلك التيارات لكنها ليست الحالة الوحيدة.
 أصبحت الظاهرة الخطيرة في السنوات الأخيرة اختراق الجامعة بأساتذة ضد الحريات الأكاديمية، وإذا كان استقلال الجامعة عن الدولة أمر حيوي، فلا يقل عنه أهمية حماية حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي ورفض وصاية أية جهة داخل الجامعة أو خارجها على الحريات الأكاديمية، دون ذلك لن يتطور بحث علمي حقيقي في هذا المجتمع.
الدستور 12 أكتوبر 2005

الأحد، 19 مارس 2017

الجامعة ومجتمع المعرفة

مخربشات
الجامعة ومجتمع المعرفة
عماد أبو غازي

  لقد أصبح إصلاح الجامعات المصرية ضرورة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا كنا جميعًا ـ خاصة المشتغلين بالجامعات ـ مدركين لمدى التدهور الذي آلت إليه جامعاتنا، تدهور الخدمة التعليمية وتدهور البحث العلمي وتدهور الحريات الأكاديمية، وإذا كان هذا الوضع ليس وليد اليوم بل نتاج تراكم المشكلات عبر  سنوات طويلة، فإن أهمية الإصلاح الجامعي تعاظمت اليوم بسبب الدور الذي ينبغي أن تقوم بها الجامعات في الأخذ بيد مجتمعنا للدخول في عصر المعرفة، وعندما نخطط لإصلاح الجامعات لابد أن نضع أمام أعيننا جامعة تلائم "مجتمع المعرفة" الذي يعيشه العالم، ذلك المجتمع الذي جعلت فيه "ثورة المعرفة" من "ثروة المعرفة" القوة الفاعلة والمحركة لكل شيء.
  إن ما نحتاج إليه جامعات تمتلك القدرة والمقومات على أن تبني إنسانًا قادرًا على التعامل مع معطيات العصر الجديد، بدلًا من جامعاتنا التي أصبحت مدارس ثانوية كبيرة يأخذ الطلاب فيها دروسًا خصوصية ومجموعات تقوية، جامعات لا تضيف للطلاب معرفة جديدة بل تكتفي بتدريبهم على الإجابة عن الامتحان، جامعات يعلن رؤساؤها في بداية كل عام عن موعد صدور الكتب الدراسية المقررة بدلًا من الإعلان عن تدعيم المكتبات الجامعية بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية، جامعات تسهم في قمع شخصية طلابها وتمحو قدرتهم على الابتكار والمبادرة بدلًا من أن تنمي هذه القدرات فيهم وتدفعهم إلى امتلاك قدرات البحث العلمي السليم.
 لكن ماذا نحتاج من أجل إصلاح الجامعة؟ أعتقد أن أول ما نحتاج إليه هو أن نفتح حوارًا حول الإصلاح بين أعضاء هيئات التدريس يشارك فيه الطلاب، وفي هذا السياق أتصور أن هناك مجموعة من محاور الإصلاح الجامعي بعضها سياسي والبعض إداري والبعض الثالث أكاديمي.
الإصلاح السياسي للأوضاع في الجامعة لن يتم إلا بإنهاء تدخل الدولة سياسيًا وأمنيًا في الجامعة، لقد بدأ التدخل السياسي من الدولة في الجامعة مبكرًا، ففي ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده إسماعيل باشا صدقي في الفترة من 1930 إلى 1933 وقعت أول أزمة سياسية في الجامعة كان الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب حينذاك ضحيتها، فقد كانت للرجل مواقفه المؤيدة للديمقراطية والمعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدًا عن الجامعة ليعمل موظفًا بوزارة المعارف، لكن لأن قيم الليبرالية كانت راسخة جاء رد الفعل قويًا، لقد استقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد باشا من منصبه احتجاجًا على تجاوز الحكومة لحدودها وتعديها على استقلال الجامعة، وقرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدًا للأدب العربي ردًا على عزل الحكومة له من عمادة كلية الآداب، ولم تمض سنوات قليلة إلا وكانت الحركة الوطنية قد نجحت في إسقاط  حكومة صدقي ومن بعدها حكومة توفيق نسيم، وعاد دستور 23 الديمقراطي، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولًا على الأعناق.
 لقد مرت الأزمة السياسية الأولى في الجامعة المصرية بسلام، لكن الكارثة كانت مع وصول حركة الضباط الأحرار إلى السلطة وظهور مصطلح "التطهير" في حياتنا المصرية، وقد بلغت المأساة ذروتها فيما يعرف بأزمة  مارس 1954التي قرر فيها قادة حركة الضباط الأحرار عزل رئيس الحركة اللواء محمد نجيب والتراجع عن الديمقراطية، وأصابت الجامعة مع مؤسسات أخرى بلوة التطهير، وتم استبعاد مجموعة من خيرة الأساتذة بعيدًا عن الجامعة بسبب مواقفهم السياسية المعارضة للنظام الجديد، ومن يومها أصبح التطهير سيفًا مسلطًا على رقبة الجامعة، واختفت حرية الفكر والتعبير في مؤسسة عملها هو الفكر، فتراجع بالتبعية البحث العلمي، وتراجعت المشاركة في الإدارة واتخاذ القرار إلى أدنى الحدود، فبدأ انهيار الجامعة، ولم يكن ما حدث في 1954 أمرًا وانتهى بل أصبح منهجًا في تعامل نظام يوليو مع الجامعة، حتى عندما جاء الرئيس السادات بخطاب سياسي مغاير إلى حد ما في قضايا الديمقراطية والتعددية لم تسلم الجامعة من عدوان الدولة عليها وعلى حريتها، ففي أواخر السبعينيات ألغيت إتحادات الطلاب وحلت محلها لجان للنشاط يسيطر عليها أعضاء هيئة التدريس، وانتهى عصر السادات وهناك أكثر من مئة أستاذ جامعي من خيرة العقول الأكاديمية مبعدين عن الجامعات إلى وزارة الإسكان وهيئة التأمينات ووزارة الري وغيرها من المصالح الحكومية، هذا فضلا عن عشرات من الأساتذة استضافتهم السجون والمعتقلات في أحداث سبتمبر 1981، وكل ذلك بسبب المواقف السياسية والفكرية لهؤلاء الأساتذة، لقد كان تدخل السلطة الطاغي في النشاط السياسي والأكاديمي للطلاب والأساتذة سببًا أساسيًا من أسباب انهيار الجامعات المصرية، كما كان أيضًا سببًا في النمو السرطاني لتيارات الإسلام السياسي في أوساط الطلاب وأعضاء هيئات التدريس على السواء، هذا النمو الذي زاد من الانهيار بسبب معادة هذا التيار للحريات الأكاديمية، إن مصادرة السلطة للحريات السياسية ونمو التيارات "الفاشية" والمتخلفة متلازمان يغذي كل منهما الآخر.
الدستور 5 أكتوبر 2005

الجمعة، 17 مارس 2017

إصلاح التعليم الجامعي

مخربشات
 إصلاح التعليم الجامعي
عماد أبو غازي
 تلقيت مؤخرًا رسالة على بريدي الإلكتروني من مجموعة "9 مارس" التي تضم نخبة من خيرة أساتذة الجامعات الذين يسعون إلى إصلاح الجامعات المصرية والنهوض بها من كبوتها التي ألقتها خارج قائمة الجامعات الخمسمائة الأفضل في العالم ـ وبالمناسبة 9 مارس هو اليوم الذي استقال فيه أحمد لطفي السيد من رئاسة الجامعة سنة 1932 احتجاج على نقل طه حسين من الجامعة وحفاظًا لاستقلال الجامعة ـ من الغريب أن الجامعة المصرية التي هي من أقدم جامعات العالم الثالث، والتي كانت في يوم من الأيام تعد من الجامعات المهمة التي تحظى بمكانة واحترام دوليين باتت في الترتيب العالمي للجامعات تحتل مرتبة متأخرة، تسبقها أكثر من خمسمائة جامعة، الرسالة التي تلقيتها كانت تحمل مشروعًا لبيان يحمل عنوان "من أجل قانون يحقق الاستقلالية وديمقراطية الإدارة في الجامعات المصرية"، يعقب مصدرو البيان على تصريحات للأستاذ الدكتور عمرو سلامة وزير التعليم العالي أدلى بها الأسبوع الماضي، حول الانتهاء من إعداد مشروع قانون جديد للجامعات، ويقول مشروع البيان:
 "طالع الموقعون على هذا البيان تصريحات السيد وزير التعليم العالي عقب لقائه مع رئيس الوزراء يوم الأربعاء 14 سبتمبر الماضي حول إعداد مشروع جديد لقانون الجامعات وعرضه على رئيس مجلس الوزراء، ويخشون أن تتم صياغة القانون الجديد كما تم من قبل إلغاء انتخاب العمداء وإقرار نظام الفصلين الدراسيين بأسلوب فوقي لا يضع اعتبارًا لرأي أعضاء هيئة التدريس، لذلك يرون أن على المسئولين أن يعرضوا الأفكار الأساسية لهذا المشروع على مجالس الأقسام بجميع الجامعات قبل البدء في صياغة المشروع، ليأتي القانون الجديد معبرًا عن تطلعات أعضاء هيئة التدريس في تطوير الجامعات وإقرار نظام ديمقراطي لإدارة الجامعات وضمان الاستقلال الحقيقي لها، كما يؤكد الموقعون أن أي تعديل لقانون الجامعات لابد أن يرسي مبدأ انتخاب القيادات الجامعية، وتوسيع سلطة المجالس، وتوكيد الشفافية في جميع الجوانب المالية والإدارية بالجامعات."
 إن إصدار قانونًا جديدًا لتنظيم الجامعات المصرية أصبح الآن ضرورة ملحة؛ فالقانون الحالي عمره أكثر من ثلاثين عامًا تغير فيها العالم تغيرًا جوهريًا، خاصة فيما يتعلق بالعلم والمعرفة، ولم يعد من الممكن أن تدار الجامعات المصرية بقانون ينتمي إلى عصر انتهى تمامًا، لقد كان قانون تنظيم الجامعات المصرية الصادر سنة 1972 يحمل الكثير من العناصر الإيجابية بمعايير عصره، والغريب أن الجامعات المصرية كانت تعيش في ظل تغيرات دورية لتشريعات الجامعات، فمنذ ظهور أول جامعة حكومية في منتصف عشرينيات القرن الماضي لم يستمر قانون لتنظيم الجامعات كل هذه المدة التي استمرها القانون الحالي، فلو نظرنا إلى ما حدث في الخمسين سنة الماضية فسوف نجد أنه في عشرين سنة من 1954 إلى 1974 تغيرت اللوائح الجامعية ست مرات، أي بمعدل مرة كل ثلاث سنوات وثلث، وهو أمر لا يترك مجالًا لاختبار مدى ملائمة اللوائح الجامعية وموافقتها للمتطلبات الأكاديمية والمجتمعية، ومن الواضح أن التعديلات المتعاقبة في التشريعات الجامعية لم تكن تأت نتيجة لدراسة متأنية لأوضاع الجامعة بل كانت رد فعل للتحولات السياسية العامة التي تتعلق بالنظام في تلك المرحلة، فقد تواكب صدور قانون تنظيم الجامعات سنة 1954 مع الانقلاب على الديمقراطية وإقرار أسس الدولة الشمولية، وجاء قانون 1956 في أعقاب الاستفتاء الأول على رئاسة جمال عبد الناصر وبداية مرحلة جديدة في تاريخ النظام السياسي، وفي 1958 كانت الوحدة المصرية السورية مناسبة لتعديل قانون الجامعات ولوائح الكليات، ثم كان التفكير في التعديل الرابع في أعقاب الانفصال والقرارات "الاشتراكية"، وفي عام 1968 وكرد فعل مباشر للمظاهرات الطلابية في الجامعات المصرية تغيرت اللوائح الداخلية لبعض الكليات الجامعية في العام الدراسي 1968 / 1969، وبدء الإعداد لإصدار قانون جديد للجامعات المصرية، صدر بالفعل في عام 1972، وبناء عليه عدلت لوائح الكليات مرة أخرى بعدها بثلاثة أعوام، بينما تجمد قانون الجامعات بعدها لأكثر من ثلاثين عامًا في فترة سمتها الأساسية هي التغير السريع!
 وإذا كان تعديل قانون الجامعات ضروريًا فإن بيان مجموعة 9 مارس يلمس نقطة جوهرية في موضوع تطوير التشريعات المنظمة لعمل الجامعات المصرية، أعني ضرورة مشاركة المعنيين بالأمر في صياغة القانون كي يأتي موافقًا لطموحات أعضاء هيئات التدريس والطلاب معًا، ومن هنا فإن مطالبة البيان بعرض الأفكار الرئيسية لتطوير الجامعات على مجالس الأقسام قبل صياغة مشروع القانون مطالبة في محلها، وأعتقد أنه من الأوفق دعوة الطلاب للمساهمة في مناقشة تلك التصورات باعتبارهم المخرج النهائي للعملية التعليمية، ويمكن أن يسهم الطلاب بأرائهم من خلال المجالس العلمية للأقسام والكليات التي يمثل فيه الطلاب، كما ينبغي أن تشارك الاتحادات الطلابية المنتخبة في صياغة اللائحة الجديدة المنظمة لعمل تلك الاتحادات، فهذا هو السبيل لبناء جامعات مستقلة ديمقراطية تبني مستقبل مصر.
الدستور 28 سبتمبر 2005

الخميس، 16 مارس 2017

مخربشات
النيروز الذي نسيناه
عماد أبو غازي

 مر علينا في الأسبوع الماضي عيد النيروز أو رأس السنة المصرية، دون أن نتذكره ونحتفل به بما يليق بقدره وأهميته، ربما تاهت المناسبة في غمرة الانتخابات الرئاسية، وفي وسط مأساة حريق بني سويف.
 لقد وافق يوم الأحد 11 سبتمبر اليوم الأول من شهر توت أول شهور السنة المصرية، والذي نسميه عيد النيروز، كان هذا العيد عبر العصور من أهم الأعياد التي يحتفل بها جميع المصريين لارتباطه بالنيل مصدر الحياة في مصر، وقد بدأ المصريون القدماء تقويمهم سنة 4241 قبل الميلاد، أي أننا هذا العام نبدأ سنة 6247 مصرية، وأطلق المصريون على الشهور أسماء الآلهة، وشهر توت مأخوذ من تحوت إله الحكمة ورب القلم ومخترع الكتابة ومقسم الزمن عند المصريين، وقد تم تحوير الاسم في اللغة القبطية إلى توت.
 وتقترن بداية السنة المصرية القديمة بشروق النجم سوبديت الذي يسميه العرب الشعرى اليمانية في الأفق مع شروق الشمس، وقد لاحظ المصريون ارتباط هذه الظاهرة الفلكية بوصول الفيضان إلى مدينة منف، فاتخذوا من هذه المناسبة بداية لتقويمهم النجمي الذي تتكون فيه السنة من 365 يوما وربع، مثل التقويم الشمسي، وقد توصل المصريون القدماء إلى اكتشاف هذا النظام لتتابع الزمن في وقت مبكر للغاية، ومثل هذا التقويم النجمي الذي ترتبط فيه الشهور بفصول السنة الطبيعية ملائم تماما للزراعة، لذلك اعتمد الفلاح المصري في الزراعة على هذا التقويم منذ أكثر من ستة آلاف سنة وما زال.
 وقد كان التقويم المصري القديم مكونا من 12 شهرا كل منها 30 يوما، يعقبها شهر صغير من خمسة أيام اسمه شهر نسئ، ثم اكتشف الكهنة المصريون في عصور لاحقة أن السنة الفعلية 365 يوما وربع، فأضافوا إلى شهر نسئ يوما سادسًا مرة كل أربع سنوات، وكان المصريون يبدءون مع عصر كل حاكم جديد مسلسلًا جديدا للسنوات، إلى أن جاء عصر الاضطهاد الديني الذي تعرض له المصريون الذين اعتنقوا المسيحية على يد الإمبراطور دقلديانوس أواخر القرن الثالث الميلادي، والذي يعرف بعصر الشهداء، فاتخذت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من عام 284م الذي تولى فيه دقلديانوس الحكم بداية لتقويم الشهداء، وقد وصلنا فيه اليوم لسنة 1722.
 أما عن الاحتفال بهذه المناسبة عبر العصور فيقول عالم الآثار المصرية الأستاذ محرم كمال في كتابه الصغير والمهم عن آثار الحضارة المصرية القديمة في حياتنا اليومية، "كان هذا العيد أهم الأعياد التي يحتفل بها المصريون القدماء وكان يجري مهرجان بأكبر بهجة يتصورها العقل... كان يجتمع الرجال والنساء في جماعات كبيرة ويحشرون أنفسهم حشرا في السفن والقوارب دون مراعاة للسن، فإذا استقر بهم المقام بدأ النساء في دق الطبول وأخذ الرجال يوقعون الأنغام على المزمار ويساعدهم فريق آخر بالغناء والأهازيج وثالث بالتصفيق بالأيدي كما جرت العادة في الحفلات الموسيقية في مصر"، وتسجل المقابر المصرية القديمة من مظاهر الاحتفال برأس السنة المصرية كذلك تبادل الهدايا بين الناس.
ورغم توالي عهود الاحتلال الأجنبي على مصر فقد حافظ المصريون على الاحتفال بهذه المناسبة عبر العصور، ويذكر المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي مظاهر الاحتفال برأس السنة المصرية في العصور الوسطى، والذي كان واحدًا من الاحتفالات الكبرى التي يحتفل بها المصريون جميعا مسلمون ومسيحيون، كما كانت الدولة منذ العصر الفاطمي تحتفل على المستوى الرسمي بهذه المناسبة بتوزيع العطايا والخلع إلى جانب الاحتفالات الشعبية، والتي كانت تأخذ شكل كرنفالا شعبيا رائعا يخرج فيه الناس إلى المتنزهات العامة ويرشون بعضهم بالماء، ويختارون من بينهم شخصا ينصبونه أميرًا للنيروز يسير بموكبه في الشوارع والحارات ويفرض على الناس الرسوم ويحصلها منهم ومن يرفض يرشه بالماء، وكل هذا طبعا من باب الدعابة واللهو.
 وكان الاحتفال الشعبي يتوقف في الفترات الذي تتصاعد فيها موجات التطرف الديني في العصور الوسطى إلى أن توقف تمام في العصر العثماني، لكن الجانب الرسمي للمناسبة ظل قائما لارتباط المناسبة بالفيضان وجباية الضرائب، حتى أن السنة المالية في العصر العثماني والقرن التاسع عشر كانت تسمى السنة التوتية نسبة إلى شهر توت، وقد أعادت جمعية التوفيق القبطية الاحتفال بهذه المناسبة مرة أخرى اعتبارًا من عام 1893 لكن الاحتفال أخذ شكل إلقاء الكلمات وإصدار المطبوعات.
لقد حرصت منذ سنوات أن أهنأ أصدقائي بهذه المناسبة، وقد فوجئت بأن الكثيرين منا لا يعرفونها رغم أن الحياة الزراعية في مصر تقوم عليها، وزاد عجبي عندما اكتشفت أن بعض أصدقائي من المسيحيين لا يتذكرون هذا اليوم ويتعجبون عندما أقول لهم كل سنة وأنتم طيبين، فيردوا بمناسبة إيه؟
 إنها دعوة لإعادة الاحتفال شعبيا ورسميا برأس السنة المصرية، أقدم وأهم عيد مصري عبر العصور، ويوم أجازة زيادة مش هيخرب الدنيا، وكل توت وأنتم طيبين.

الدستور 21 سبتمبر 2005
 مخربشات
كود الإهمال المصري
عماد أبو غازي
  بدأت نهاري يوم الثلاثاء الماضي بخبر مأساة الحريق المروع بمسرح الثقافة الجماهيرية ببني سويف، وإذا كانت الواقعة قد هزتني مثلما هزت مصر كلها، إلا أن في الحادث فجيعة خاصة لي ولعديدين من الأصدقاء، أخذت أتبينها ساعة بعد ساعة، فبين شهداء الحادث خمسة من الأصدقاء والمعارف المباشرين، نزار سمك وحازم شحاتة وبهائي الميرغني وصالح سعد ومحسن مصيلحي، بعضهم امتدت صداقتنا لأكثر من ثلاثين عاما منذ سنوات الدراسة الجامعية واتصلت طوال هذه السنوات بحلوها ومرها مثل نزار، وبعضهم انقطعت الصلات وظلت الأسماء والمواقف باقية في الذاكرة، والبعض الثالث تعرفت عليهم في السنوات الأخيرة وتوطدت علاقة العمل وتحولت لصداقة، وبينهم من عرفتهم من خلال ما قرأته لهم من كتابات صحفية ونقدية مثل أحمد عبد الحميد ومدحت أبو بكر، ومن خلال صفحات النعي وسرادقات العزاء اكتشفت أبناء وأقرباء لمعارف آخرين، من هنا كانت الفجيعة فجيعتين، فجيعتي الخاصة قبل الفجيعة العامة وفوقها.
 عندما يفقد المسرح المصري في حادث واحد أكثر من ثلاثين من مبدعيه ونقاده وشبابه الواعد فنحن أمام كارثة للثقافة المصرية بكل المعايير، كارثة ترقى إلى مستوى كارثة الرياضة المصرية في أواخر الخمسينات عندما فقدنا فريق الشيش المصري بالكامل في حادث طائرة، وترقى إلى مستوى كارثة العسكرية المصرية باستشهاد المشير أحمد بدوي ورفاقه من قادة القوات المسلحة في أواخر السبعينيات في حادث طائرة آخر، لكن الكارثة هذه المرة مركبة لأنها نتيجة للإهمال الجسيم ولعدم الاهتمام بمعايير الأمان والجودة، كارثة كان من الممكن تلافيها تمامًا أو على الأقل التخفيف من حجمها.
 إننا أمام قاعة غير مجهزة للعرض المسرحي تنظم فيها مسابقة قومية للمسرح، قاعة بلا أبواب للطوارئ، وديكور يسد الباب ولا أحد يبالي، موظف يغلق الباب على المشاهدين بالمفتاح ويختفي ولا أحد يهتم، مبنى بلا معدات للإطفاء، وقوات مطافئ تصل متأخرة، وسيارات إسعاف أكثر تأخيرًا في الوصول، عدم توافر الإمكانيات الطبية اللازمة لمواجهة الحالة، وقبل هذا عرض ديكوراته قابلة للاشتعال وتشكل الشموع المضاءة مشهدًا أساسيًا فيه ولا من معترض.
 ولكن ما الغريب في هذا إذا كنا نعيش في مجتمع تسود فيه ثقافة "خليها على الله"، ثقافة تتهاون مع التدخين في المصاعد وفي محطات البنزين، وتتساهل مع البناء المخالف للمواصفات، وتغض البصر عن الارتفاع بالمباني فوق ما تحتمل فتنهار فوق رؤوس سكانها، وكل ما يهمنا كيف نتهرب من القواعد التي نضعها، وكيف نخرق القوانين أو نتحايل عليها، إننا نعيش للأسف في ظل مبدأ كل واحد يعمل اللي في دماغه.
 لذلك وقع حادث قطار الصعيد منذ عامين وراح المئات ضحية له، وحادث مصعد العمارة الذي فقدت فيه مصر واحدًا من أطبائها وعلمائها البارزين منذ شهرين، وحادث قرية الدبلوماسيين منذ أسبوعين الذي فقدت فيه شابة مصرية مغتربة وأم لطفلين صغيرين حياتها، وسوف تقع حوادث أخرى كثيرة ما لم نغير سلوكنا ونأخذ أمور حياتنا بجدية أكثر.
بمجرد أن سمعت بحادث قصر ثقافة بن سويف قفزت إلى ذاكرتي وقائع المشاركة العربية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، كان الجناح العربي يضم مسرحًا داخل خيمة منصوبة في الساحة الرئيسية لمبنى المعرض، وكانت تعليمات الأمن صارمة بضرورة الالتزام بأن تكون جميع مكونات الخيمة والمسرح من مواد غير قابلة للاشتعال أو معالجة بحيث لا تشتعل حتى لو تعرضت لنيران مباشرة، ولم يقتصر الأمر على التعليمات، بل حضرت رئيسة مطافئ مدينة فرانكفورت لتتأكد بنفسها من تنفيذ التعليمات بدقة، كانت تجري اختبارات إشعال النيران بولاعتها في الديكورات، ولم تصرح للزميل ناصر عبد المنعم المخرج المسرحي والمسئول عن خيمة المسرح بافتتاح الخيمة إلا بعد أن أطمئنت تمامًا إلى سلامة التنفيذ ودقة الالتزام بالقواعد والتعليمات الأمنية، ولم يشفع لنا كون العالم العربي ضيف الشرف في المعرض، فهناك للإنسان قيمته واحترامه، ولا مجال للمغامرة بأمنه وأمانه، ولا محل للإهمال وعدم الدقة في العمل، وهذا الفارق بينهم وبيننا، الفارق الذي جعلهم مجتمعات متقدمة وأبقانا في تخلفنا، لا نملك إلا التباهي بأمجاد الأجداد دونما صلة حقيقية بما أنجزوه، لقد شيد أبناء وادي النيل حضارتهم القديمة على قاعدة مراعاة معايير الجودة في كل شيء في حياتهم، على أسس من الدقة وإتقان العمل والإخلاص فيه، حتى أن الجنة الموعودة بعد البعث عند المصري القديم كانت عبارة عن حقول أوزير (أوزوريس) التي يباشر فيه الفلاح عمله بإتقان بعد رحلته إلى العالم الآخر، ليس من حقنا أن ننتسب لصناع تلك الحضارة العظيمة إلا إذا تخلينا عن كود الإهمال والتسيب والاستسهال، وعدنا متمسكين بكود الدقة والإتقان والأمانة في العمل.
إن الاعتذار الوحيد لشهداء الثقافة المصرية يأتي بمواجهة صارمة منا جميعًا لمظاهر الإهمال والفساد والاستسهال داخلنا وحولنا.

الدستور 14 سبتمبر 2005
  مخربشات
شايفنكو وكفاية
عماد أبو غازي

 لأول مرة في تاريخ مصر ينتخب المصريون رئيس الجمهورية، ورحلة مصر مع الانتخابات طويلة لم تبدأ بتعديل الدستور هذا العام، فقد عرفت مصر النظم الانتخابية منذ أكثر من قرنين من الزمان، فمع الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801) تعرفت النخبة في مصر على فكرة انتخاب ممثلين للمشاركة في إدارة أمور البلاد للمرة الأولى، فقد شكل بوناپرت ديوان لمساعدة سلطات الاحتلال في تسيير الأمور، وكان للمصريين ممثليهم المنتخبين في هذا الديوان، وكان الأمر جديدا على العقلية السائدة في المجتمع وقتها، لكن التجربة وقعت، ولم تمنع مشاركة ممثلي مشايخ الأزهر والتجار والحرفيين والطوائف الدينية المختلفة في ديوان الحملة المصريين من مقاومة الحملة والثورة عليها مرة وراء مرة، وبعد خروج الحملة بأربع سنوات كان المصريون يختارون حاكمهم بأنفسهم لأول مرة ويفرضون على السلطان العثماني تنصيب محمد علي باشا حاكما لولاية مصر العثمانية، في عصره خرجت البعثات الأولى إلى أوروبا، وعاد رفاعة ليبشر بالنظم السياسية الحديثة وبالمجالس النيابية والانتخابات، وفي عصر الخديوي إسماعيل بدأ النظام البرلماني الحديث في مصر، وتأسست الأحزاب السياسية وتوالت المجالس النيابية المنتخبة في الحياة السياسية المصرية، وبعد ثورة 1919 العظيمة صدر دستور 1923 الذي مكن المصريون من اختيار الحكومة التي تحكمهم عبر الانتخابات البرلمانية، حقا كان القصر الملكي يحل البرلمان أحيانا ويعطل الدستور أحيانا أخرى ويتواطأ لتزوير الانتخابات في مرات عديدة، لكن مع ذلك كان الشعب في النهاية ـ رغم انتشار الأمية وحداثة التجربة ـ ينجح في فرض إرادته واختيار ممثليه وحكامه، وجاءت حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 لتقطع الطريق على التطور الديمقراطي الطبيعي في مصر، لقد ألغت الملكية حقا لكنها استبدلت بها نظام استبدادي أمم الحياة السياسية مثلما أمم الاقتصاد، واستورد لنا نظام الاستفتاء من أكثر النظم استبدادية في العالم، وأعاد المجالس النيابية المنتخبة لكنه ضع القيود على الترشيح وتفنن في أساليب التزوير والتلاعب في الانتخابات ليستبعد خصومه ومعارضيه.
 واليوم وبعد أكثر من خمسين سنة على إلغاء الملكية يتحقق مطلب التيارات الديمقراطية في مصر بانتخاب رأس الدولة رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح، انتخابا مباشرا، وإذا كانت معظم الأحزاب والتيارات السياسية تتحفظ على التعديلات التي أدخلت على المادة 76 من الدستور وترى بها جوانب قصور وتعتبر أنها لا تلبي كل الطموحات في حياة ديمقراطية سليمة طال انتظارها طال اغتيالها، إلا أن ما حدث مع كل هذه التحفظات خطوة مهمة إلى الأمام على طريق تغيير الحياة المصرية تغييرا ديمقراطيا، ولن يتحقق التغيير المنشود دون أوسع مشاركة شعبية، ومن هنا فإن المقاطعة التي دعت إليها حركة كفاية وحزب التجمع، مقاطعة الاستفتاء ومن بعده مقاطعة انتخابات الرئاسة نتيجتها الأساسية مزيد من السلبية لشعب يعاني من السلبية منذ استولى الضباط الأحرار على الحكم، فمقاطعة الانتخابات موقف سلبي إذا كنا نؤمن بأن التغيير الوحيد المقبول هو التغيير الذي يأتي من خلال صندوق الانتخاب، إن من يريد التغيير عليه أن يدعو المواطنين أولا إلى ممارسة حقهم الانتخابي في الانتخابات الرئاسية والانتخابات البرلمانية وانتخابات المحليات والنقابات مهما كانت التحفظات على الشروط التي تجري فيها تلك الانتخابات، فأول خطوة في طريق التغيير هي دعوة الناخبين للحضور والتصويت التصويت لأي مرشح أو حتى إبطال الصوت لا الدعوة إلى المقاطعة، التي لو تحققت فلن تكون إلا نتاج لسلبية المواطنين وليس لدعوة المقاطعين، إن قوة تيار مثل الإخوان المسلمين تكمن في التزام أعضائه بالتصويت في الانتخابات لقد اكتسحوا النقابات المهنية ونوادي هيئات التدريس منذ منتصف الثمانينيات بسبب انخفاض نسبة الحضور في الانتخابات والتزام أنصارهم بالمشاركة، فهم دائما يشكلون ثلثي الحاضرين الذين لا يتجاوزون عادة 50% من أعضاء تلك النقابات والنوادي يلتزمون بالحضور ولا يلتزم الآخرون، وجاء موقفهم في الانتخابات الأخيرة أكثر منطقية من موقف المقاطعين لم دعوا أنصارهم للتصويت والمشاركة دون أن يعلنوا اسم المرشح الذي يؤيدونه، فسعى الجميع خلفهم، وأضافوا لرصيدهم نقطة جديدة. 
 دعوة متأخرة لدعاة المقاطعة في التجمع وكفاية ـ مع كل التقدير لدورهم وتاريخهم ومبادراتهم ـ فكروا تاني، ودعوة لكل حامل بطاقة انتخابية شارك وصوت لمن تريد أو حتى أبطل صوتك، لكن المشاركة بناء والمقاطعة سلبية، خليكم زي "شايفنكم" مش زي "كفاية".
الدستور 7 سبتمبر 2005