الثلاثاء، 7 مارس 2017

مخربشات

ورحل صاحب صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد في صمت

عماد أبو غازي


 أغلبنا يأخذ معلوماته عن الحروب الصليبية من الأفلام، فقد ظلت الصورة التي قدمها يوسف شاهين في فيلمه "الناصر صلاح الدين" هي مصدر معرفتنا بأبرز "أبطال" الحروب الصليبية الناصر صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد، والآن يضاف إلى تلك الصورة ما قدمه ردلي سكوت في فيلم "مملكة الجنة"، لكن من يريد أن يعرف صورة أقرب إلى الحقيقة عن تلك الفترة وما فيها من أحداث عليه أن يعود إلى المصادر التاريخية القديمة المعاصرة للحروب الصليبية وللرجال الذين خاضوها، وبعض هذه المصادر كتبها مؤرخون عرب مثل كتاب سيرة صلاح الدين لابن شداد، وكتاب أسامة بن منقذ أحد مقاتلي الذي سجل فيه الأحداث التي عشها وشارك فيها من وجهة نظره كمقاتل عربي مسلم، وبعضها الآخر مصادر أوروبية كتبها أصحابها من المعاصرين للحروب الصليبية والمشاركين فيها من المؤرخين والمقاتلين الأوروبيين، وتلك المصادر تحمل وجهة نظر الجانب الأوروبي الكاثوليكي، وقد دون أصحاب تلك المؤلفات أعمالهم باللغة اللاتينية التي كانت سائدة في أوروبا، ولاتينية العصور الوسطى لغة لا يعرفها في زماننا هذا إلا قلة من المتخصصين، ومن حسن حظ القارئ المصري أن واحدا من هذه القلة هو المؤرخ المصري الكبير الدكتور حسن حبشي صاحب صلاح الدين وريتشارد، وهو صاحبهما لأنه قضى سنوات طويلة من عمره باحثا في تاريخ الحروب الصليبية ومحققا لأهم مصادرها التاريخية، ومترجما لعدد من هذه المصادر إلى اللغة العربية، وهو صاحب صلاح الدين وريتشارد أيضا لأنه ترجم كتابا من هذه المصادر الأوربية يحمل هذا الاسم "صلاح الدين وريتشارد"، وقد صدر من سنوات قليلة في سلسلة تاريخ المصريين في جزأين، بعد أن ترجم من قبل كتاب المؤرخ وليم الصوري عن الحروب الصليبية في أربعة أجزاء، لقد قدم حسن حبشي للمكتبة العربية ما يمكن أن نسميه موسوعة لهذه الحروب، ضمت إلى جانب الكتابين السابقين كتاب "تاريخ الفرنجة وحجاج بيت المقدس" و"حياة الملك لويس التاسع" و"فتح القسطنطينية" و"مذكرات جودفري فلهاردوان عن الحملة الصليبية الرابعة"، كما نشر مخطوطة "مضمار الحقائق وسر الخلائق" لتقي الدين الحموي ابن أخي صلاح الدين، هذه المكتبة الضخمة من المؤلفات التي تؤرخ للحروب الصليبية والتي أنفق حسن حبشي في إخراجها إلى النور أكثر من نصف عمره هي التي تقدم لنا المادة الخام التي نستخرج منها حقيقة الحروب الصليبية.
 تذكرت حكاية حسن حبشي مع الحروب الصليبية عندما بلغني خبر رحيله عن عالمنا يوم السبت 16 يوليو، وتذكرت معرفتي به، كان اللقاء الأول بالرجل منذ أكثر من ثلاثين عاما عندما التحقت بقسم التاريخ بجامعة القاهرة، لم يكن لقاء مباشرا بل لقاء من خلال الإطلاع على كتبه وأبحاثه والمصادر العربية والأوروبية التي حققها، ومنذ قرأت دراسته المتعددة حول التاريخ الاقتصادي لمصر في عصر المماليك وترجمته الرائعة لرحلة طافور في عالم القرن الخامس عشر كنت أتمنى أن أجلس أمامه مستمعا إليه محاضرا، وفي الزمن الذي كنا فيه طلابا في الجامعة كان من اليسير علينا أن نذهب وراء الأساتذة خارج أقسامنا وكلياتنا بل خارج جامعاتنا لنستمع إلى دروسهم ونستفيد منهم، لكنه كان في الغربة بعيدا عن الوطن مثل كثير من الأساتذة في جيله الذين حرمت منهم جامعاتنا، لقد غاب عن الوطن والجامعة لسنوات طويلة حرمت فيها أجيال من طلاب التاريخ وباحثيه في مصر من علمه وخبرته، إن حالته تجليا من تجليات أزمة الجامعات المصرية، وهي حالة مع غيرها من عشرات الحالات المماثلة تكشف لنا لماذا وصلت جامعاتنا إلى ما وصلت إليه، وأصبحت خارج الجامعات الخمسمائة الأولى على مستوى العالم، فجامعاتنا طاردة لخيرة أبنائها بسبب انهيار الرواتب أحيانا، وبسبب التضييق على حرية البحث العلمي أحيانا أخرى، وبسبب إهمال الكفاءات والمواهب أحيانا ثالثة، والجامعات الطاردة للكفاءات جامعات محرومة من تكوين مدارس متصلة في البحث العلمي محرومة من التطور والنمو.
 في مطلع الثمانينيات حضرت له مناقشة لرسالة دكتوراه في الوثائق، شارك في مناقشتها أثناء عودة قصيرة إلى الوطن، فزاد إعجابي به، بعلمه وهدوءه ورصانته، ثم تعرفت عليه عن قرب عن طريق صديق باحث من سورية كان يدرس تاريخ القانون في مصر واختار الإقطاع في عصر المماليك موضوعا لرسالته، فتوجه للدكتور حسن حبشي مستمدا العون والمساعدة، فكان خير معين ونعم مساعد، جلست جواره يوم مناقشة صديقي نزار وتعارفنا عن قرب واستمرت العلاقة، وكان اللقاء الأخير منذ شهور عندما جاء للمجلس الأعلى للثقافة يقدم البروفة الأخيرة من ترجمته لواحد من أهم مصادر العصر البيزنطي، كتاب "ألكسياد" للأميرة والمؤرخة البيزنطية آنا كومينينا، وهذا مثال آخر يقدمه حسن حبشي، البحث حتى اللحظة الأخيرة، لقد وصل إلى الأستاذية وقارب التسعين، لكنه لم يترك الكتاب والقلم، ظل يترجم ويحقق ويبحث، فرحل ولكن علمه ومؤلفاته ستظل باقية، وسيظل هو نفسه نموذجا يسعى كل باحث جاد لتمثله.
 الدستور 3 أغسطس 2005


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق