الأحد، 26 مارس 2017

مصر وحضارة 7 آلاف سنة كوارث 1 من 2. من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصر وحضارة سبعة آلاف عام كوارث (1/2)
عماد أبو غازي
 كل يوم تتزايد مخاطر انتشار أنفلونزا الطيور على نطاق عالمي، وكل يوم يقترب الخطر من حدودنا، وكل يوم تتصاعد أصوات المسئولين عن الصحة والطب البيطري تطمئنا إلى أنه لا خطر علينا، كيف؟ لا أعرف!
 لقد شهد العالم خلال عام كامل سلسلة من الكوارث الطبيعية غطت الكرة الأرضية من أقصى شرقها إلى أقصى غربها، ستكون أنفلونزا الطيور أخطرها وأكبرها أثرا لو تحققت نبوءة منظمة الصحة العالمية بسقوط عشرات الملايين ضحية لهذا الوباء.
 تنوعت الكوارث هذا العام ما بين زلازل وموجات مد بحري وفيضانات وأعاصير وحرائق للغابات، فضلا عن الأوبئة الجديدة التي نسمع عنها كل يوم ولا نعرف إن كانت طبيعية أم من صنع البشر، وإذا كانت كوارث هذا العام لم تفرق بين دول العالم المتقدم والدول المتخلفة إنما ساوت بين الجميع، وتساوت ردود الفعل المرتبكة أيضا عند الجميع، فلم نجد فارقا كبيرا بين رد فعل الإدارة الحكومية في الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأقوى والأغنى والأكثر تقدما في العالم ورد فعل حكومات دول فقيرة ومتخلفة اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا، إلا أنها اختلفت في حجم الاهتمام الإعلامي بها، فبينما احتلت أخبار كاترينا وريتا نشرات الأخبار وأعمدة الصحف، لم تحظ الأعاصير التي ضربت في نفس الوقت شرق آسيا وجنوب الكاريبي بنفس القدر من الاهتمام وردود الفعل، واختلطت فيها وفي ردود الفعل حولها آثار الكارثة الطبيعية بالصراعات السياسية والدينية والعرقية وتأثرت جهود الإغاثة كثيرا بهذه الصراعات، سقط في تلك الكوارث عشرات الآلاف من القتلى تحت الأمواج والأنقاض، وشعر الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها بأن ثورة الطبيعة خرجت عن السيطرة، وبدأت حرب التفسيرات والتفسيرات المضادة، البعض يتحدث عن الغضب الإلهي وانتقام السماء والبعض يتحدث عن غضب الطبيعة واحتجاجها على تدمير الإنسان للبيئة، البعض أظهر الشماتة والتشفي! وقد زاد على كوارث الطبيعة في هذا العام ارتفاع هائل في كوارث البشر الناتجة عن الإهمال مرات وعن الإرهاب مرات أخرى، وإذا كان ستر ربنا قد جنبنا النوع الأول من الكوارث، فقد كان لنا نصيبا وافرا من كوارث البشر هذا العام.
  تاريخ مصر طويل ممتد، والحضارة المصرية واحدة من أقدم حضارات الدنيا، وهي حضارة نشأت وتطورت في تحدي دائم ومستمر للكوارث الطبيعية، اكتسب الإنسان المصري عبر آلاف السنين خبرة في التعامل مع الكوارث ومواجهتها، وكما يقول المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي وتلميذه المصري النابغ شفيق غربال فإن مصر تكونت نتيجة استجابة عبقرية من سكان شمال وادي النيل لتحديات ثورة الطبيعة، فلو عدنا إلى الماضي البعيد إلى لحظة ميلاد حضارة مصر القديمة سنكتشف أن أجدادنا الأوائل واجهوا تغيرات حادة في البيئة مع انتهاء العصر المطير وسيادة الجفاف في المناطق التي كانوا يعيشون فيها، فاتجهوا إلى منطقة المستنقعات التي كانت تشغل منطقة وادي النيل الحالية، ونجحوا في ترويض النهر وتجفيف المستنقعات وتحويلها إلى أراضي زراعية من أكثر أراضي العالم خصوبة، وشيدوا في وادي النيل ودلتاه أسس حضارتهم، فكانت مواجهة كارثة الجفاف حافزا لبناء الحضارة.
 ولأن حضارة مصر حضارة زراعية نهرية، فقد ارتبط رخاء مصر وشقاؤها بفيضان نهر النيل الذي يأتي كل عام من هضبة الحبشة فيزرع المصريون أرضهم، وإذا غاب الفيضان أو نقص جاءت المجاعة والوباء، وعاشت مصر طوال تاريخها في دورة متوالية من المجاعات والأوبئة يعقبها التعافي والنهوض ليعود نقص الفيضان بكوارثه، ولم تكن مشكلة المصريين مع نقص الفيضان فقط لكنها كانت أيضا مع زيادته فإذا زاد الفيضان عن حده أغرق البلاد والعباد ودمر القرى والنجوع، ومن هنا ابتكر المصريون القدماء مقاييس للنيل عند حدودهم الجنوبية وعلى طول الوادي يتوقعون من خلالها مستوى الفيضان، كما شقوا القنوات المائية لتنظيم النهر وترويضه وشيدوا الجسور زمن الفيضان لحماية القرى، كما لجأ سكان بعض القرى لبنائها على تلال صناعية مرتفعة تعرف بالكيمان لحمايتها من الغرق، ومن هنا جاءت كلمة كوم في تسمية عديد من قرى مصر ومدنها.
 وإذا كان المصريون قد تعايشوا مع كوارث الطبيعة وأصبحت جزءا من حياتهم اليومية، استعدوا لمواحهتها ووضعوا الخطط للانتصار عليها، فقد كانت هناك في تاريخ مصر الطويل كوارث طبيعية فاقت ما اعتاده المصريون وظلت ذكراها محفورة في وجدانهم دائما، لأنها طالت في تأثيرها لسنوات أو زاد عدد ضحاياها عن المعتاد.

الدستور 16 نوفمبر 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق