الأربعاء، 8 مارس 2017


مخربشات
المحارب الأفريقي ... صانع السلام

عماد أبو غازي


 مشهد مهيب تكرر مرتين في أقل من شهر، مئات الآلاف من السودانيين وهم يتجمعون حول چون جارنج، ورغم أن الرجل واحد والشعب واحد لكن الفارق كبير بين المناسبتين، في المرة الأولى كانت علامات الفرح بادية على الجميع عندما خرج السودانيون في مظاهرة مليونية يستقبلون جارنج عند عودته للخرطوم أوائل يوليو الماضي بعد أكثر من عشرين عاما من الغياب كان يقود خلالها الجيش الشعبي لتحرير السودان في أطول الحروب الأهلية في أفريقيا، وجاءت عودته بعد مرور ستة أشهر على توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية، كانت هتافات المتظاهرين في الشوارع تحمل آمالا واسعة في اتفاقية تفتح آفاقا أمام سودان جديد ديمقراطي... في المرة الثانية كان المشهد مختلفا، تجمع مليوني آخر حول جارنج تلفه هذه المرة دموع الألم وصرخات الحزن، كان الموعد في مدينة جوبا عاصمة الجنوب، جوبا التي ظل جارنج يتمنى أن يدخلها فاتحا، لكنه دخلها فاتحا لقلوب الناس، دخلها جثمانا مسجى ليدفن فيها في ضريح بدأ مئات المتطوعين من أهالي الجنوب رجالا ونساء وأطفالا في اليوم السابق على جنازته يشيدونه من الطوب والاسمنت على أرض كانت مخصصة للتدريب العسكري، لقد تعامل معه السودانيون باعتباره بطلا وطنيا وقديسا، فقرروا أن يشيدوا له ضريحا يليق به ليخلدوا ذكره.
 لقد ولد جارنج عام 1945 لأسرة مسيحية ميسورة في أرض قبائل الدينكا الجنوبية التي تشكل الغالبية هناك والمعروفة بعبادة السماء وعزف الموسيقى باستخدام قرون الكباش، وكان چون من الأطفال القلائل في جنوب السودان الذين تمكنوا من الذهاب إلى مدرسة ابتدائية في عهد الإدارة البريطانية، ثم أكمل دراسته الثانوية في تنزانيا، وتابع دراسته الجامعية في الولايات المتحدة، وفي عام 1981 حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة أيوا وكان موضوع رسالته عن قناة جونجلي في جنوب السودان، وفي السنة نفسها عاد إلى الخرطوم حيث شغل عدة مناصب من بينها نائب مدير مركز أبحاث الجيش وأستاذ الاقتصاد الزراعي في الجامعة.
 لكن حياته انقلبت في 1983، عندما أرسل في مهمة لاحتواء تمرد عسكري في الجنوب بصفته عقيدا في الجيش السوداني، وبدلا من أن ينهي التمرد تحول إلى قائد تاريخي له، وأنشأ الجيش الشعبي لتحرير السودان، ورغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يتمرد فيها على الحكومة المركزية في الخرطوم إلا إنها كانت المرة الأطول والأكثر تأثيرا والتي دفعت به إلى بؤرة الضوء في السودان وفي المنطقة كواحد من الزعماء التاريخيين لحركات التحرر، وخلال ثلاثة أعوام نجح في جمع عشرة آلاف مقاتل، وبعد عشرة أعوام أصبحوا خمسين ألفا.
 لقد كان جارانج دوما شخصية تثير الاختلاف ورغم كل ما يقال عنه إلا أنه قدم درسا في التسامح والسعي إلى السلام والإصرار على وحدة السودان بشرط التخلي عن التعصب والتمييز على أساس الدين أو العرق، وكما كانت حياته كلها من أجل السودان فإن موته في لحظة تاريخية من تاريخ وطنه يمكن أن يصبح نقطة انطلاق نحو استقرار هذا البلد الذي ظل يعانى لسنوات من الحروب الأهلية، ولعل مبادرة القيادات الجنوبية لبث روح التسامح وكلمات قادة السودان شمالا وجنوبا في جنازة جارنج تحمل إشارات مهمة لمستقبل "سودان جديد، سودان الديمقراطية، والحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان والرخاء لكافة السودانيين"، وهذا ما تمناه جارنج لوطنه في كلمته التي وجهها للحركة الشعبية مايو 2003، في الذكرى التاسعة عشرة لتأسيسها، وهي نفس المعاني السامية التي أكدت عليها أرملته ربيكا في كلمتها أمام نعشه داعية لاحترام وحدة السودان حرا ديمقراطيا يحمي حرية العبادة وحقوق المرأة، منهية كلمتها بأنها لم تفقد زوجها طالما حافظ السودانيون على اتفاق السلام.
 إن الدروس المستفادة من تجربة السودان منذ استقلاله قبل خمسين عاما إن الحكم العسكري والتشدد الديني قادا السودان إلى حرب أهلية راح ضحيتها ملايين، بسبب تجاهل الواقع بحقائقه، لاشك أن الاستعمار لعب دورا في إذكاء الصراع العرقي، لكن الحقائق تقول إن الأفارقة يشكلون 49% من السكان، بينما يشكل العرب 39% فقط والنوبيون 8% والبجه 3% ، وإنه إذا كانت العربية اللغة الرسمية فهناك خمس لغات أفريقية يتكلم بها السودانيون، أما الدين الأساسي الإسلام فيدين به 70%  ويدين بالمسيحية 15% وبالمعتقدات والديانات الأفريقية القديمة باقي السكان. وكان خطأ النظم العسكرية خاصة تلك التي تحالفت مع التيارات الإسلامية محاولة فرض سيطرة دين واحد وعرق واحد ولغة واحدة، بينما مجتمع بهذا التنوع العرقي والديني واللغوي لابد لكي يعيش موحدا أن يبني قواعده على أساس قبول التنوع والاختلاف والتعدد، على أسس الديمقراطية والعلمانية.
لقد عاش جارنج ستين عاما قضى نصفها محاربا ضد الحكومة المركزية في الخرطوم لكنه أنهى حياته صانعا للسلام وبطلا له.
الدستور 10 أغسطس 2005


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق