الخميس، 9 مارس 2017

مخربشات
شيخ مؤرخي مصر
عماد أبو غازي
 يكاد المتخصصون في تاريخ العصور الوسطى العربية يجمعون على أنه شيخ مؤرخي مصر وكبيرهم، وإن أعماله تمثل قمة النضج لمدرسة التأريخ عند العرب، إنه تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي"، وهو مصري من أب من أصل لبناني"، بلغة اليوم، وأم قاهرية، ولد في حارة برجوان ـ بقسم الجمالية الآن ـ في القاهرة القديمة والتي تنسب إلى أحد رجال الدولة الفاطمية في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، وكان مولد المقريزي في سنة 766هـ (1364 / 1365م) وفي هذه الحارة نشأ وتربى وتعلم، وبها توفي سنة 845هـ (1442م)، وكان يعتز بانتسابه إليها فيقول في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار": "وما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة"، ولا أعرف شخصيا سبب هذه المفاخرة، ورغم حب المقريزي لمصر التي قال عنها: "كانت مصر هي مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشيرتي وحاميتي وموطن خاصتي وعامتي وجوي الذي ربي جناحي في وكره وعش مأربي"، ورغم المناصب التي تقلدها في مصر فقد عاش قسما من حياته متنقلا بين القاهرة ودمشق ومكة هربا من الاضطراب السياسي أحيانا وجريا وراء سبل العيش أو جمع المعارف أحيانا أخرى.
 وترجع أصول المقريزي وأسرته إلى مدينة بعلبك اللبنانية وتنسب أسرته إلى حارة المقارزة بها، وقد استقرت أسرته في مصر قبل مولده بسنوات قليلة، وبعد أن درس المقريزي علوم الدين أصبح شافعي المذهب، بينما كان جده لأبيه حنبليا وجده لأمه حنفيا وتتلمذ هو على يدي أبرز فقهاء المالكية في عصره عبد الرحمن ابن خلدون، لكنه في النهاية اختار الشافعية مذهبا له وتفقه فيه باعتبارها المذهب السائد بين أهل مصر، وقد تولى الرجل مناصب التدريس والحسبة والقضاء والخطابة وكتابة الوثائق الرسمية للدولة، لكن دوره كمؤرخ كان الأهم والسبب وراء شهرته التي عبرت الزمان والمكان.
 والمقريزي أبرز تلاميذ مدرسة ابن خلدون المؤرخ ومؤسس علم العمران ـ علم الاجتماع بلغتنا المعاصرة، وكان المقريزي التلميذ الذي فاق أستاذه وتفوق عليه، لقد عاش الرجل في عصر وصلت فيه الكتابة التاريخية العربية في مصر والشام إلى قمتها، واتجه إلى الاشتغال بالكتابة التاريخية فئات متنوعة من المصريين، فنجد المؤرخين العساكر مثل الأمير بيبرس الدوادار، وهم مقاتلين من المماليك اتجهوا إلى تدوين التواريخ، ونجد المؤرخين "أولاد الناس" وهو المصطلح الذي كان يطلق على أبناء الأمراء المماليك، ومن أشهرهم ابن تغري بردي تلميذ المقريزي وابن إياس المصري الذي عاصر وقائع الاحتلال العثماني لمصر، وهناك كذلك المؤرخين الموظفين من رجال الإدارة الذين اتجهوا إلى التأليف التاريخي، ثم المؤرخين المشايخ أو الفقهاء وهم الأكثر غلبة وظهورا في الكتابة التاريخية العربية منذ الطبري في العصر العباسي الثاني حتى الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية وعصر محمد علي، وأخيرا المؤرخين الشعبيين ومثلهم الحاضر في ذهني ابن زنبل الرمال قارئ الطالع في الرمل الذي أرخ في نص أدبي بديع لاحتلال سليم لمصر ومقاومة طومان باي آخر سلاطين المماليك له.
 وتزيد مؤلفات المقريزي ـ الذي ينتمي إلى المؤرخين المشايخ ـ على مئة عمل، منها عشرات المؤلفات التي أخذت شكل الرسائل الصغيرة، تناول فيها أمورا متعددة ما بين تاريخ واقتصاد ودراسة لأحوال المجتمع وموضوعات علمية وفنية، حتى النحل والعسل الأبيض كتب عنه مؤلفا صغيرا بعنوان "نحل عبر النحل"، ومن أهم الرسائل الصغيرة التي ألفها المقريزي "إغاثة الأمة بكشف الغمة" التي يحاول فيها أن يقدم تشخيصا سياسيا اقتصاديا لأسباب الأزمة الطاحنة التي عاشتها مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي، والتي أرجعها بالدرجة الأولى إلى أستشراء الفساد السياسي ووصوله إلى السلطان رأس الدولة والقضاء، وإلى توحش الاستغلال الاقتصادي من قبل الفئات المسيطرة في المجتمع وعلى حساب المنتجين من فلاحين وحرفيين صغار، وقد سبق المقريزي في هذه الرسالة الصغيرة الاقتصاديين الأوروبيين في طرح نظرية دورية الأزمات الاقتصادية، ونظرية النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول، ولم يقف في هذه الرسالة الصغيرة عند التأريخ للأزمات الاقتصادية والمجاعات في مصر، ومحاولة الوصول إلى تشخيص أسبابها، بل انتقل خطوة أخرى إلى الأمام فقدم برنامجا سياسيا اقتصاديا اجتماعيا إصلاحيا للخروج بالبلاد من الأزمة.
 البعض الآخر من مؤلفات المقريزي كبير يبلغ الواحد منها عدة مجلدات، مثل كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"، الذي أرخ فيه المقريزي لمصر منذ قيام الدولة الأيوبية حتى عصره، أي منتصف عصر دولة المماليك الچراكسة، وأكمل به سلسلة من المؤلفات تؤرخ لمصر منذ دخلها العرب، وقد صدر الكتاب محققا في أثنتي عشر مجلدا، حقق الستة الأولى منها المؤرخ الرائد محمد مصطفى زيادة تحقيقا رائعا، كان فيه نموذجا للمحقق الباحث يقدم النص الأصلي بدقة وأمانة ويضيف إليه من التعليقات العلمية والشروح ما يتيح للقارئ المعاصر فهم العصر الذي يقرأ عنه، وقد أكمل هذا العمل بعد وفاة الدكتور زيادة تلميذه الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، العمل الآخر المهم من أعمال المقريزي الكبيرة هو كتاب الخطط، ولهذا الكتاب حديث آخر.
الدستور 17 أغسطس 2005


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق