الأحد، 12 مارس 2017

ابن زنبل الرمال

مخربشات

ابن زنبل الرمال مؤرخ وقارئ بخت وأشياء أخرى

عماد أبو غازي

 في القرن الخامس عشر وصلت كتابة التاريخ في مصر القمة، في القيمة وفي العدد، فنستطيع أن نرصد عددا كبيرا من المؤلفات التاريخية المتميزة، كما يمكننا بسهولة أن نتعرف على أسماء عشرة مؤرخين كبار على الأقل عاشوا في ذلك القرن، ويبدو أن حالة الازدهار في التأليف التاريخي التي عاشتها مصر ما بين أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن السادس عشر خلقت مناخا من الثقافة التاريخية في المجتمع، وصنعت رواجا للمؤرخين مما دفع العديدين إلى الاتجاه لاحتراف التأليف في التاريخ، أو اتخاذه عملا ثانيا أو هواية على الأقل.
 ومن بين هؤلاء الذين اتجهوا لكتابة التاريخ رمال عاش في القرن السادس عشر، والرمال أو ضارب الرمل هو قارئ للطالع أو للبخت عن طريق قراءة الرمل، وهي طريق قديمة في التنبؤ بالمستقبل، مثلها مثل قراءة الفنجان ووشوشة الودع وفتح الكوتشينة، وكان اسم هذا الرمال أحمد بن علي المحلي، أي أن أصوله من المحلة، وقد اشتهر باسم ابن زنبل الرمال، وكانت مهنته الأساسية قراءة الطالع لأمراء المماليك، وفي تلك العصور كان الاعتماد على المنجمين كبيرا عند اتخاذ القرارات المصيرية وفي التخطيط للحروب، ومن سؤ حظ ابن زنبل هذا أنه كان رمالا في جيش المماليك في الأيام الأخيرة لدولتهم، فقد كان معاصرا لغزو سليم العثماني للشام ومصر واحتلاله لهما ولباقي بلدان المنطقة العربية، وكان شاهدا على هزيمة السلطان المملوكي قانصوة الغوري في موقعة مرج دابق بالقرب من مدينة حلب بشمال سوريا، ثم على هزيمة خلفه السلطان الأشرف طومان باي في موقعة الريدانية، بالقرب من الجبل الأحمر شرق القاهرة، ومقاومته للغزاة بعد ذلك لمدة ثلاثة شهور تقريبا، ثم إعدامه على باب زويلة، لقد عاش الرمال في زمن كانت بلده تخضع فيه للاحتلال الأجنبي، وشهد بعيني رأسه نهاية الدولة التي خدمها ليعيش في ظل دولة محتله تنزح خيرات بلده مصر إلى خارجها الأربعين سنة الأخيرة من عمره، فقد عاش على الأقل حتى سنة 960 هـ / 1553 م، وإذا كان هذا من سؤ حظه، فقد كان هذا من حسن حظنا، لقد دفعت الأحداث الجسام التي عاشها ابن زنبل الرمال به إلى التحول إلى مؤرخ لتلك الأحداث، فترك لنا حكاية تاريخية سجل فيها "واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني"، وهو الاسم الذي أطلقه ابن زنبل على كتابه، وإن كان قد اختار له عنوانا ثانيا "آخرة المماليك"، والكتاب هو العمل الوحيد الذي وصل إلينا منسوبا إلى أحمد بن زنبل الرمال.
 وإذا كان كتاب "آخرة المماليك" هو العمل الوحيد لصاحبه، إلا أنه ليس العمل الوحيد الذي سجل فيه مؤرخون معاصرون للغزو العثماني أحداث هذا الغزو، فهناك على الجانب المصري الشامي "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس المصري و"مفاكهة الخلان في حوادث الزمان" لابن طولون الدمشقي، وعلى الجانب العثماني عديد من المؤلفات التركية التي سجل أصحابها وقائع الغزو من وجهة النظر العثمانية، فضلا عن مؤلفات الرحالة الذين زاروا المنطقة في تلك الفترة ومنهم ليون الأفريقي أو الحسن الوزان، الذي ألف كتاب "وصف أفريقيا" مسجلا وقائع رحلته.
 إذا كان كتاب ابن زنبل الرمال ليس الكتاب الوحيد الذي يؤرخ للغزو العثماني للمنطقة، وإذا كان هناك مؤرخون محترفون مثل ابن إياس وابن طولون الدمشقي عاصروا الحدث وسجلوه، فما القيمة الخاصة الكامنة في "آخرة المماليك" والتي جعلتني أقول: إن من حسن الحظ أن ابن زنبل الرمال عاش في ذلك الزمان؟
 في الحقيقة أن قيمة الكتاب ربما ترجع إلى أن مؤلفه لم يكن مؤرخا محترفا، وربما كانت معاصرته للأحداث بل مشاركته فيه منجما للمماليك دافعه لخوض تجربة الكتابة التاريخية، فجاءت كتابته متميزة وفريدة، لم يكتب ابن زنبل الرمال نصا تاريخيا تقليديا، رغم أهمية ما يحمله من معلومات تاريخية انفرد بها بين معاصريه، بل قدم عملا أدبيا مميزا، يمكن أن يصنف قسمه الأكبر كرواية أدبية أكثر منه تأريخا للحوادث، خاصة في القسم الذي يتحدث فيه عن طومان باي نائبا لغيبة السلطان ثم سلطان ثم قائدا للمقاومة الشعبية بعد هزيمته في الريدانية في يناير 1517 إلى أن استشهد مشنوقا على باب زويلة، إننا أمام عمل يقوم على حدث مأساوي متصاعد سجله صاحبه بعد أن اكتملت أركانه، يعتمد في أجزاء طويلة منه على الحوار الثنائي والثلاثي بين أبطال الحدث، والتي صاغها في أسلوب فني راقي، وقد تحول كتاب آخرة المماليك إلى سيرة شعبية تروى في المقاهي في القاهرة العثمانية، كما كان الكتاب ملهما للأديب سعيد العريان في روايته "على باب زويلة"، لكن الأهم أن النص ظل شاهدا على أن العثمانيين جاءوا إلى مصر غزاة محتلين، وإنهم صادفوا مقاومة شعبية باسلة من المصريين لم تخمد إلا بعد أن دكوا المساجد بمدافعهم.

الدستور 31 أغسطس 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق