الأحد، 19 مارس 2017

الجامعة ومجتمع المعرفة

مخربشات
الجامعة ومجتمع المعرفة
عماد أبو غازي

  لقد أصبح إصلاح الجامعات المصرية ضرورة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، فإذا كنا جميعًا ـ خاصة المشتغلين بالجامعات ـ مدركين لمدى التدهور الذي آلت إليه جامعاتنا، تدهور الخدمة التعليمية وتدهور البحث العلمي وتدهور الحريات الأكاديمية، وإذا كان هذا الوضع ليس وليد اليوم بل نتاج تراكم المشكلات عبر  سنوات طويلة، فإن أهمية الإصلاح الجامعي تعاظمت اليوم بسبب الدور الذي ينبغي أن تقوم بها الجامعات في الأخذ بيد مجتمعنا للدخول في عصر المعرفة، وعندما نخطط لإصلاح الجامعات لابد أن نضع أمام أعيننا جامعة تلائم "مجتمع المعرفة" الذي يعيشه العالم، ذلك المجتمع الذي جعلت فيه "ثورة المعرفة" من "ثروة المعرفة" القوة الفاعلة والمحركة لكل شيء.
  إن ما نحتاج إليه جامعات تمتلك القدرة والمقومات على أن تبني إنسانًا قادرًا على التعامل مع معطيات العصر الجديد، بدلًا من جامعاتنا التي أصبحت مدارس ثانوية كبيرة يأخذ الطلاب فيها دروسًا خصوصية ومجموعات تقوية، جامعات لا تضيف للطلاب معرفة جديدة بل تكتفي بتدريبهم على الإجابة عن الامتحان، جامعات يعلن رؤساؤها في بداية كل عام عن موعد صدور الكتب الدراسية المقررة بدلًا من الإعلان عن تدعيم المكتبات الجامعية بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية، جامعات تسهم في قمع شخصية طلابها وتمحو قدرتهم على الابتكار والمبادرة بدلًا من أن تنمي هذه القدرات فيهم وتدفعهم إلى امتلاك قدرات البحث العلمي السليم.
 لكن ماذا نحتاج من أجل إصلاح الجامعة؟ أعتقد أن أول ما نحتاج إليه هو أن نفتح حوارًا حول الإصلاح بين أعضاء هيئات التدريس يشارك فيه الطلاب، وفي هذا السياق أتصور أن هناك مجموعة من محاور الإصلاح الجامعي بعضها سياسي والبعض إداري والبعض الثالث أكاديمي.
الإصلاح السياسي للأوضاع في الجامعة لن يتم إلا بإنهاء تدخل الدولة سياسيًا وأمنيًا في الجامعة، لقد بدأ التدخل السياسي من الدولة في الجامعة مبكرًا، ففي ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده إسماعيل باشا صدقي في الفترة من 1930 إلى 1933 وقعت أول أزمة سياسية في الجامعة كان الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب حينذاك ضحيتها، فقد كانت للرجل مواقفه المؤيدة للديمقراطية والمعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدًا عن الجامعة ليعمل موظفًا بوزارة المعارف، لكن لأن قيم الليبرالية كانت راسخة جاء رد الفعل قويًا، لقد استقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد باشا من منصبه احتجاجًا على تجاوز الحكومة لحدودها وتعديها على استقلال الجامعة، وقرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدًا للأدب العربي ردًا على عزل الحكومة له من عمادة كلية الآداب، ولم تمض سنوات قليلة إلا وكانت الحركة الوطنية قد نجحت في إسقاط  حكومة صدقي ومن بعدها حكومة توفيق نسيم، وعاد دستور 23 الديمقراطي، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولًا على الأعناق.
 لقد مرت الأزمة السياسية الأولى في الجامعة المصرية بسلام، لكن الكارثة كانت مع وصول حركة الضباط الأحرار إلى السلطة وظهور مصطلح "التطهير" في حياتنا المصرية، وقد بلغت المأساة ذروتها فيما يعرف بأزمة  مارس 1954التي قرر فيها قادة حركة الضباط الأحرار عزل رئيس الحركة اللواء محمد نجيب والتراجع عن الديمقراطية، وأصابت الجامعة مع مؤسسات أخرى بلوة التطهير، وتم استبعاد مجموعة من خيرة الأساتذة بعيدًا عن الجامعة بسبب مواقفهم السياسية المعارضة للنظام الجديد، ومن يومها أصبح التطهير سيفًا مسلطًا على رقبة الجامعة، واختفت حرية الفكر والتعبير في مؤسسة عملها هو الفكر، فتراجع بالتبعية البحث العلمي، وتراجعت المشاركة في الإدارة واتخاذ القرار إلى أدنى الحدود، فبدأ انهيار الجامعة، ولم يكن ما حدث في 1954 أمرًا وانتهى بل أصبح منهجًا في تعامل نظام يوليو مع الجامعة، حتى عندما جاء الرئيس السادات بخطاب سياسي مغاير إلى حد ما في قضايا الديمقراطية والتعددية لم تسلم الجامعة من عدوان الدولة عليها وعلى حريتها، ففي أواخر السبعينيات ألغيت إتحادات الطلاب وحلت محلها لجان للنشاط يسيطر عليها أعضاء هيئة التدريس، وانتهى عصر السادات وهناك أكثر من مئة أستاذ جامعي من خيرة العقول الأكاديمية مبعدين عن الجامعات إلى وزارة الإسكان وهيئة التأمينات ووزارة الري وغيرها من المصالح الحكومية، هذا فضلا عن عشرات من الأساتذة استضافتهم السجون والمعتقلات في أحداث سبتمبر 1981، وكل ذلك بسبب المواقف السياسية والفكرية لهؤلاء الأساتذة، لقد كان تدخل السلطة الطاغي في النشاط السياسي والأكاديمي للطلاب والأساتذة سببًا أساسيًا من أسباب انهيار الجامعات المصرية، كما كان أيضًا سببًا في النمو السرطاني لتيارات الإسلام السياسي في أوساط الطلاب وأعضاء هيئات التدريس على السواء، هذا النمو الذي زاد من الانهيار بسبب معادة هذا التيار للحريات الأكاديمية، إن مصادرة السلطة للحريات السياسية ونمو التيارات "الفاشية" والمتخلفة متلازمان يغذي كل منهما الآخر.
الدستور 5 أكتوبر 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق