الثلاثاء، 21 مارس 2017

إصلاح الجامعة والحريات الأكاديمية

مخربشات
إصلاح الجامعة والحريات الأكاديمية
عماد أبو غازي
  لا شك في أن حصانة الجامعة في مواجهة التدخل السياسي والأمني محور أساسي من محاور إصلاح الجامعة، لكن هل تكفي هذه الحصانة لتنصلح الأحوال؟


 في الحقيقة يحتاج الأمر فوق ذلك إلى صيانة الحريات الأكاديمية وحمايتها لتتمكن الجامعة من النهوض بدورها، فالغاية الأساسية من وراء استقلال الجامعة ضمان حرية البحث العلمي وحرية الفكر والتعبير وغيرها من الحريات الأكاديمية اللازمة لازدهار الجامعة وتطورها، وفي تاريخ الجامعة المصرية لم يأت التعدي على الحريات الأكاديمية من الدولة في أغلب الأحيان، بل أتى من المجتمع وأحيانًا من داخل الجامعة نفسها، لقد وقع الاعتداء الأبرز على الحريات الأكاديمية في تاريخ الجامعة المصرية بعد تحولها إلى جامعة حكومية في عام 1926، وكان من نصيب الدكتور طه حسين عندما نشر كتابه "في الشعر الجاهلي"، فكان ضحية للتعدي على الحريات الأكاديمية مثلما كان ضحية لتدخل الدولة سياسيًا في الجامعة واعتداءها على استقلالها عام 1932، وإذا كان الاستبداد السياسي للدولة الجاني في الحالة الثانية، فإن تخلف المجتمع كان الجاني في قضية كتاب "الشعر الجاهلي"، لقد أثار القضية نائب في البرلمان يتمتع بالجمود الفكري لا يذكر أحد اسمه الآن، وانتهى الأمر بطه حسين متهمًا أمام النيابة العامة، ولولا سعة أفق وكيل النيابة محمد نور الدين وسيادة الروح الليبرالية في المجتمع لانتهى الأمر بتكفير طه حسين وإبعاده عن الجامعة، ومع ذلك فقد اضطر طه حسين إلى إصدار طبعه معدله من الكتاب بعنوان: "في الأدب الجاهلي"، حذف منها بعض العبارات التي استفزت قوى التخلف في المجتمع، وانتهى الأمر إلى حل وسط فتمت تبرئة طه حسين ليس على أساس من أن حرية البحث العلمي مطلقة لا قيد عليه، بل على أساس أن الرجل لم يقصد ما ذهب إليه منتقدوه مع إقرار غير قاطع بحرية الباحث، وفي نفس الوقت كان التراجع الشكلي لطه حسين عن بعض ما كتبه نوعًا من الانحناء أمام عاصفة الفكر المحافظ، خاصة أنه لم يجد دعمًا واضحًا من حزب الأغلبية الشعبية "الوفد المصري" لأن عيون قادة الحزب كانت على صناديق الانتخاب، فلا مانع لديهم من بعض التضحية بمبادئ الليبرالية وبقليل من الحريات لضمان أصوات الجماهير، كانت قضية الشعر الجاهلي نموذجًا مبكرًا لضيق المجتمع بالحريات الأكاديمية، واستعداده للاندفاع خلف الغوغائية الفكرية لمصادرة حرية البحث العلمي في الجامعة، وعكس الحل الوسط الذي انتهت إليه القضية ظلاله على الحياة الأكاديمية في الجامعات المصرية إلى الآن، وحدد مسار الصراع بين أنصار الحرية الفكرية في الجامعة ودعاة الجمود في المجتمع.
 ومع تغول السلطة وتعديها على استقلال الجامعة بعد حركة يوليو 52 تضافرت تعديات الدولة مع اعتداءات قوى التخلف والجمود في المجتمع لتزيد من ضعف الجامعة وانهيار الحريات الأكاديمية فيها، وفي ظل التنافس الدائم بين سلطة يوليو وجماعات الإسلام السياسي على احتكار صفة "المتحدث الرسمي باسم الدين"، لم تجد الدولة غضاضة من التضحية بحرية البحث العلمي تملقًا لجماعات الإسلام السياسي أو أثباتًا لأنها أكثر حرصًا على الدين منهم.
 وبلغت المهزلة مداها مع تدخل أولياء الأمور فيما تدرسه الجامعات، فبين فترة وأخرى تصحو الجامعة على ضجة يثيرها ولي أمر اعتراضًا على نص يدرس في الجامعة، والأمثلة كثيرة يحضرني منها: الاعتراض على تدريس "ألف ليلة وليلة" في الثمانينيات، وعلى تدريس رواية "موسم الهجرة للشمال" للروائي السوداني الكبير الطيب صالح في التسعينيات، بدعوى خروجهما على الآداب العامة، والواقعتان من كلية الآداب بجامعة القاهرة، والضجة التي أثيرت بسبب تدريس رواية "الخبز الحافي" للأديب المغربي محمد شكري بالجامعة الأمريكية، وعلى وضع كتاب "محمد" للمفكر الفرنسي مكسيم رودنسون ضمن قائمة مراجع يطلع عليها الطلبة في نفس الجامعة، وتعكس هذه الظاهرة ضيق هامش الحرية داخل الجامعة يومًا بعد يوم، وقد كانت استجابة الجامعة متفاوتة من حالة إلى أخرى لكنها جميعًا أتت في إطار الحل الوسط الذي فرض منذ أزمة كتاب الشعر الجاهلي.
 وإذا كانت الاعتداءات قد وقعت في هذه الحالات من قوى متخلفة ضيقة الأفق في المجتمع خارج الجامعة، فقد شهدت السنوات الثلاثون الماضية تضخما في نفوذ التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي بين أعضاء هيئة التدريس داخل الجامعة، ولهذه التيارات والجماعات مواقفها المعلنة المعادية لحرية الفكر والتعبير، وإذا كان تأثير هذا الوجود الكثيف على الحريات الأكاديمية لا يبدو واضحًا في الكليات العلمية، فالأمر خلاف ذلك في الكليات النظرية، وكانت هذه التيارات قاسمًا مشتركًا أعظم في معظم الاعتداءات التي تعرضت لها الحريات الأكاديمية في الجامعات المصرية خلال العقدين الماضيين، خاصة مع وصول أساتذة منهم إلى عضوية لجان الترقيات في الجامعة، وتعتبر قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد في منتصف التسعينات من أشهر حالات التعدي على الحريات الأكاديمية من جانب تلك التيارات لكنها ليست الحالة الوحيدة.
 أصبحت الظاهرة الخطيرة في السنوات الأخيرة اختراق الجامعة بأساتذة ضد الحريات الأكاديمية، وإذا كان استقلال الجامعة عن الدولة أمر حيوي، فلا يقل عنه أهمية حماية حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي ورفض وصاية أية جهة داخل الجامعة أو خارجها على الحريات الأكاديمية، دون ذلك لن يتطور بحث علمي حقيقي في هذا المجتمع.
الدستور 12 أكتوبر 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق