السبت، 30 سبتمبر 2017

لماذا تقدمت اليابان؟... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
لماذا تقدمت اليابان؟
عماد أبو غازي
 منذ انتصرت اليابان على روسيا القيصرية في الحرب التي قامت بينهما سنة 1905 والمسألة اليابانية تشغل الفكر المصري، يومها كتب مصطفى كامل زعيم الحركة الوطنية المصرية كتابه عن بلاد الشمس المشرقة، تلك الجزر التي تقع في أقصى الأرض والتي بدأت نهضتها الحديثة، أو بمعنى أدق بدأت انتقالها إلى عصر الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت بعد بداية التجربة المصرية بأكثر من نصف قرن، ومع ذلك نجحت في أن تهزم دولة أوروبية طالما أذاقت الدولة العلية العثمانية مرارة الهزيمة، لقد نجح اليابانيون حديثو العهد بمعطيات عصر الثورة الصناعية في هزيمة روسيا القيصرية الأوروبية، في الوقت الذي سقطت فيه مصر في قبضة الاحتلال البريطاني.


 كان هذا السؤال الذي أرق مصطفى كامل، وما زال يطرح بين الحين والحين على مفكرينا وساستنا في العالم العربي كلما أفقنا على وقع هزيمة جديدة، أو على انتكاسه لمشروع نهضوي.
 وقد ولّد السؤال أسئلة وأسئلة بعد هزيمة اليابان المروعة في الحرب العالمية الثانية، وبعد الجريمة التي أرتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونجازاكي يومي 6 و8 أغسطس سنة 1945، لقد كانت اليابان البلد الوحيد في العالم الذي ضرب بالقنابل الذرية، واحتلت الولايات المتحدة اليابان لسنوات، لكن اليابان نهضت مرة أخرى، وتجاوزت هزيمتها، وتجاوزت سنوات الاحتلال، وأصبحت قوة من القوة الاقتصادية العظمى في العالم.
 استفادت اليابان من درس الحرب العالمية الثانية، من المأساة التي قادها إليها نظام دكتاتوري عسكري فاشي، ارتكب جرائم ضد شعوب شرق آسيا كلها، لكنه بالدرجة الأولى ارتكب جريمة ضد شعبه وضد إنسانية شعبه، استوعب الشعب الياباني الدرس جيدا ولفظ الديكتاتورية والنزعة العسكرية العدوانية، وشيد نهضته الجديدة على أسس من احترام مبادئ السلم العالمي، ورغم المخاطر المحيطة باليابان ووجود دول نووية جارة لها ما زالت اليابان محافظة على موقفها الرافض لامتلاك السلاح النووي، ومازال خروج قوات يابانية عسكرية في أي مهمة دولية حتى ولو كانت مهمة لحفظ السلام أمرا مثيرا للجدل في المجتمع الياباني، لم تؤدي الهزيمة القاسية وسنوات الاحتلال الأمريكي إلى نمو نزعة انتقامية لدى اليابانيين، بل حفزت فيهم روح التحدي لبناء مجتمع ناهض جديد يعتمد على تنمية طاقات الإبداع لدى اليابانيين.
 كيف نجحت اليابان التي أرسلت في عصر الخديوي إسماعيل بعثة إلى مصر للتعلم من تجربتنا في النهضة في حين تعثرنا نحن؟
 قد يكمن جزء أساسي من الإجابة في اختلاف معطيات الموقع بين مصر واليابان، فبقدر ما نعتبر موقع مصر في القلب من العالم القديم ميزة كبيرة لها، بقدر ما كان هذا الموقع بمثابة العبء عليها، وبقدر ما كان موقع اليابان المتطرف في أقصى الشرق من مركز العالم القديم سببا في عزلتها لقرون طويلة وفي ضعف اتصالها بتطورات وأحداث العالم بقدر ما كان هذا الموقع ميزة لها في لحظة نهضتها الحديثة.
 لقد ظلت مصر طوال عشرات القرون من تاريخها الطويل تستفيد من ميزة الموقع، في البداية وفرت لها الصحراوات والبحار التي تحدها من كل جانب حماية طبيعية مكنتها من بناء أسس حضارتها القديمة، ومع نمو مصر ونمو مجتمعات العالم القديم المحيطة بها استفادت مصر مرة أخرى من ميزة الموقع الذي يتوسط طرق التجارة بين القارات الثلاثة، شيدت إمبراطوريات وخضعت لإمبراطوريات، وتفاعلت مع ثقافات وحضارات العالم القديم كله، تأثرت وأثرت، لكن عندم مفرق طرق الزمن مع بدايات عصر النهضة الأوروبية، مرحلة انتقال العالم إلى ما اصطلحنا على تسميته العصر الحديث، كانت الانتكاسة مع الاحتلال العثماني لمصر، ثلاثة قرون من بدايات القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر انقلب فيها حال العالم القديم وبقيت مصر على حالها، وعندما أفقنا مع صدمة الحملة الفرنسية وبدأت تجربة التحديث في عصر محمد علي، كان الغرب الأوروبي قد وصل إلى مرحلة من التطور تمكنه بالقوة العسكرية من ضرب أي محاولة للنهوض تهدد مصالحة في الاستعمارية، وفي تلك الفترة كانت مصر بسبب موقعها في قلب بؤرة الصراع بين القوى الاستعمارية المتصارعة، كانت بسبب موقعها مرة أخرى مجالا للتنافس الاستعماري، وإذا كان هذا التنافس قد وقاها من السقوط في قبضة قوة من القوتين الاستعماريتين القديمتين إنجلترا وفرنسا لمدة ثمانين سنة، إلا إنه لم يسمح لها باستكمال أسس نهضتها، لا في عصر محمد علي ولا في عصر إسماعيل، وانتهت التجربة الثانية بسقوط مصر في قبضة الاحتلال البريطاني الذي استمر لأكثر من سبعين سنة.
 أما اليابان فاقتصر احتكاكها في العصور القديمة على الاحتكاك بحضارات الشرق الأقصى المحيطة بها، الصين وكوريا، ومن جبال الهمالايا بالهند عبر الصين انتقلت البوذية إلى اليابان، لقرون طويلة عاشت اليابان فيما يشبه العزلة، شيد الشعب الياباني حضارته، وبنى أسس ثقافته في إطار الاحتكاك بعالم صغير محدود نسبيا، وحافظت تلك الحضارة على خصائصها لقرون طويلة، وتطورت تطورا ذاتيا بطيئا، تحدى اليابانيون القدماء ظروف البيئة الصعبة، الجزر الصخرية التي يحيطها الماء من كل جانب، الأرض التي تضربها الزلازل بمعدلات عالية لا مثيل لها في منطقة مأهولة في العالم، الموارد الطبيعية المحدودة، نجح اليابانيون رغم كل الصعاب في بناء حضارتهم والحفاظ عليها في جزرهم "البعيدة".
 وعندما جاء الغرب بقوته وحضارته الصناعية ومشروعاته الاستعمارية إلى اليابان في منتصف القرن التاسع عشر بدأت اليابان تفتح أبوابها، أو أرغمت على أن تفتح أبوابها، وسعى اليابانيون إلى استيعاب معطيات العصر بسرعة، وبسبب موقع اليابان النائي والبعيد عن مناطق الصراع الاستعماري الرئيسية، بسبب كل عيوب الموقع والبيئة لم تكن اليابان في بؤرة اهتمام القوى الاستعمارية التي انشغلت بالتنافس على مناطق أكثر أهمية من وجهة النظر الاستعمارية، مثل المشرق العربي وشمال أفريقيا، بسبب الموقع وإمكانيات السوق وظروف المناخ الملائم، أو أفريقيا جنوب الصحراء بسبب الموارد الطبيعية، لقد مكن انشغال القوى الاستعمارية بعيدا عن اليابان لفترة من الزمن اليابانيون من اجتياز الخط الأحمر وامتلاك مقدرات العصر الحديث، وعندها لم يعد في مقدور القوى الاستعمارية الأوروبية أن توقف تطور اليابان حتى لو أرادت.

الدستور 29 يوليو 2009

الجمعة، 29 سبتمبر 2017

مصريون في اليابان... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصريون في اليابان
عماد أبو غازي

 شاركت مصر كضيف للشرف في معرض طوكيو الدولي السادس عشر للكتاب، وقد قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بتنظيم المشاركة المصرية بالتنسيق مع السفارة المصرية في طوكيو، التي تنظم طوال عام 2009، عامًا للترويج السياحي لمصر في اليابان، وكان الإعداد لمعرض طوكيو قد بدأ منذ نوفمبر الماضي، وتضمن الإعداد للمعرض برنامجًا للنشاط الثقافي المصاحب، وقد تضمن البرنامج الثقافي ثمان ندوات على مدى يومين، ناقشت مجموعة من القضايا المرتبطة بالعلاقات المصرية اليابانية، وسعت لتقديم الإبداع الفني والفكري المصري قديمه وحديثه، كان النشاط يدور حول ثلاثة محاور: الأول محاضرات وعروض مصورة عن آثار مصر عبر العصور، تلك الآثار التي يعرف اليابانيون ما يخص منها حضارتنا المصرية القديمة، والثاني تقديم الثقافة والإبداع المعاصر في مصر من خلال الرواية والسينما والفن التشكيلي، والثالث يدور حول مصر واليابان.


 فقد كان المعرض فرصة لتقديم الثقافة المصرية، وفي نفس الوقت لفتح حوار حول العلاقة بين مصر واليابان، تلك العلاقة التي تمتد لقرابة 150 سنة، عندما زارات مصر بعثة من الساموراي للوقوف على تجربة التحديث والتعامل مع الغرب عندنا، بهدف الاستفادة منها في اليابان. من هنا كانت البداية بمناقشة الموضوع في ندوة بعنوان: "مصر واليابان وقضية النهضة"، وقد تحدث فيها الدكتور وليد عبد الناصر السفير المصري في اليابان، والدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث ورئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة، وانطلقت الندوة من حقيقة أن كل من اليابان ومصر قد بدأت تجربتها في النهضة الحديثة خلال القرن التاسع عشر، ارتبطت التجربتان بالاحتكاك بين مجتمعينا الشرقيين والغرب الأوروبي، وكان الاحتكاك يحمل جانب من القهر والإرغام من الطرف الأوروبي في مرحلة التوسع الاستعماري والتنافس الأوروبي على فتح أسواق العالم والاستيلاء على موارده الطبيعية، بعد الثورة الصناعية في أوروبا.
  كان لكل من اليابان ومصر تراث حضاري قديم، وتقاليد ثقافية تختلف عن قيم الثقافة الأوروبية الحديثة في عصر الثورة الصناعية، وكان لكل منهما تجربتها في التعامل مع الحضارة الصناعية الحديثة، وقد ناقشت الندوة هذه القضية في محاولة لإلقاء الضوء على المختلف والمتشابه في كل من التجربتين.


 وقد استكملت تلك الندوة بثانية حملت عنوان: "اليابان في الفكر المصري ومصر في في الفكر الياباني"، وحاولت هذه الندوة أن تلقي الضوء على صورة اليابان في الفكر المصري المعاصر، وصورة مصر في الفكر الياباني المعاصر، وقد شارك فيها كل من الدكتور وليد عبد الناصر، والدكتور عصام حمزة رئيس قسم اللغة اليابانية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وأحد خريجي الدفعة الأولى من هذا القسم، التي أنهت دراستها عام 1978، والسفير وهيب المنياوي سفير مصر السابق في اليابان، الذي ترك اليابان منذ خمسة عشر سنة لكن ما أسسه من روابط لمصلحة العلاقة بين بلدينا مازال قائمًا، ومشاركته في الأنشطة شبه الرسمية والشعبية لتدعيم الجسور بين اليابان والعالم العربي ما زالت مستمرة، انطلقت الندوة مما يجمع بين مصر واليابان من سمات مشتركة، فكلاهما بلد له حضارة قديمة وتقاليد راسخة، وكلاهما اصطدم بالغرب في القرن التاسع عشر بدأت كل من مصر واليابان تنظر إلى الأخرى، وإلى تجربتها في النهضة، كان انتباه اليابان إلى التجربة المصرية مبكرًا، في عصر الخديوي إسماعيل، بينما كان انتباه مصر لليابان مع بداية القرن العشرين، مع انتصار اليابان على روسيا سنة 1905، ذلك الانتصار الذي رأى فيه الوطنيون المصريون وقتها بادرة أمل، وإشارة إلى إمكانية أن يتفوق الشرق على الغرب، فكتب حافظ إبراهيم قصيدته غادة اليابان، وكتب مصطفى كامل كتابه الشمس المشرقة، ومن يومها عششت التجربة اليابانية في العقل المصري والعربي، وكان لنجاح اليابان الفذ في الخروج من مأساة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية بسرعة، وانطلاقها لتصبح ضمن الثمانية الكبار في العالم، أثرًا إضافيًا في رسوخ صورة اليابان في الوجدان المصري، كحضارة شرقية قادرة على التحدي وإثبات الذات، واليوم تسعى كل من البلدين لبناء آفاق لتعاون مستقبلي في الثقافة والتعليم والبحث العلمي والاقتصاد والسياسة.


 أما الندوة الثالثة في هذا المحور فكانت عن "الترجمة والتفاعل الثقافي بين مصر واليابان" تحدث في هذه الندوة اثنان من أساتذة اللغة اليابانية في جامعة القاهرة، الدكتور أحمد فتحي والدكتور عصام حمزة، منطلقين من الدور الذي لعبته الترجمة عبر العصور في تحقيق التفاعل الثقافي بين شعوب العالم وثقافاته المختلفة، والذي ازدادت أهميته في العصر الحديث، من أجل تحقيق التعارف والتعاون والسلم العالمي. وقد أكدا أن القرن الماضي قد شهد محاولات متعددة للتواصل الثقافي بين الثقافة اليابانية والثقافة العربية، وكان للترجمة دورًا مهمًا في هذا المضمار، فقد ترجم اليابانيون أعمالًا مهمة من الثقافة العربية قديمها وحديثها، كما ترجم المصريون والعرب نصوصًا يابانية عديدة، لكننا ما زلنا في حاجة إلى جهود أكبر في هذا المجال.
وقد زار المعرض الذي استمر من يوم 9 يوليو إلى يوم 12 يوليو ما يقارب 100 ألف زائر حسب توقعات إدارة المعرض، وزار الجناح المصري عدد من المتخصصين اليابانيين في الدراسات العربية لمتابعة الأنشطة الثقافية المصاحبة وللتعرف على أحدث الإصدارات المصرية، كما حضر كذلك عدد من طلاب جامعة طوكيو الذين يدرسون اللغة العربية وتاريخ المنطقة العربية، كذلك بعض الدارسين المصريين في طوكيو، وعدد من أفراد الجالية المصرية.



 لكن النشاط الأكثر جذبًا للجمهور كان نشاط الخط العربي، لقد ألتف العشرات حول الفنان الخطاط أوس الأنصاري وهو يكتب لهم أسمائهم بالخط العربي، وكان الإقبال عليه يمتد من العاشرة صباح حيث يفتح المعرض أبوابه إلى موعد إغلاقه في السادسة مساء.

الدستور 22 يوليو 2009

الخميس، 28 سبتمبر 2017

مساء الخير من طوكيو... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مساء الخير من طوكيو
عماد أبو غازي
 مساء الخير من طوكيو، صباح الخير في القاهرة، أكتب لكم بعد أن انتهت فعاليات معرض طوكيو الدولي السادس عشر للكتاب، والذي استضاف مصر كضيف للشرف، الساعة هنا تجاوزت الخامسة والنصف بينما لم ينتصف نهار القاهرة بعد، فارق التوقيت الكبير يعطي إحساس غريب، يكون نهارك قد انتصف وأوشكت أن تنهي أعمالك، بينما الناس في بلدك مازالوا نيامًا.


 إنها الزيارة الثانية لي لليابان، كانت المرة الأولى في خريف عام  2007 عندما ذهبت إلى جامعة طوكيو، بدعوة من الدكتور أوتوشي المتخصص في تاريخ مصر في عصر المماليك، ذهبت لإلقاء بعض المحاضرات في جامعة طوكيو، وفي فرع مكتبة البرلمان بمدينة نارا العاصمة القديمة لليابان، كانت رحلة مبهرة بالنسبة لي، زرت خلالها طوكيو وكيوتو ونارا، واصطحبني صديقي وزميلي أوتوشي في جولات لزيارة المتاحف الفنية والأثرية، وزيارة المعالم التاريخية في المدن الثلاثة، أمضيت وقتها قرابة أسبوعين من أجمل أيام حياتي، وتعرفت عن قرب على ثقافة مختلفة ومتميزة، وعلى شعب يدفعك أن تنحني له احترامًا، لقد كانت النهضة اليابانية موضوعًا لأول رسالة أكاديمية حصلت عليها قبل قرابة ثلاثين عامًا، عندما وجهني أستاذي الراحل الدكتور محمد أنيس إلى إعداد دراسة مقارنة بين النهضة اليابانية والنهضة المصرية منطلقًا من بحث صغير قدمه هو في مؤتمر علمي باليابان، وللنهضة اليابانية قصة في وجدان المصريين منذ كتب الزعيم مصطفى كامل كتابه عن بلاد الشمس المشرقة، في سنة 1905 عندما انتصرت اليابان على روسيا في الحرب، من يومها انتبه المصريون إلى أن اليابان قد بدأت تجربتها النهضوية بعدهم ومع ذلك حققت ما لم يحققوه، من يومها والمسألة اليابانية سؤال مطروح بإلحاح، ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله، يحضر السؤال كلما حضر سؤال النهضة، لقد حصلت على درجة الدبلوم في الدراسات العربية بهذه الرسالة عام 1980، ومن يومها وأنا أتحدث عن اليابان وتجربتها دون أن أراها أو أعايشها عن قرب.


 عندما زرت اليابان بعد ثلاثين عامًا من دراستي لتجربتها في النهضة، أحببت اليابان، وأحببت ناسها، لذلك كنت متحمسًا للرحلة أعد الأيام في لهفة للقاء اليابان مرة أخرى، لكن هذه المرة لن تتاح لي الفرصة للخروج خارج طوكيو، ولا لزيارة نارا أو كيوتو، المدينتان اللتان عشقتهما، واعتبرتهما قطعة من الجنة، لن أتمكن من أن أشاهد ـ للأسف ـ معابد كيوتو الرائعة ولا الأشجار العملاقة على الجبال التي تحيط بها ولا الجداول التي تتخللها، ولن أشاهد غزلان مدينة نارا التي تسير أمنة في الشوارع بين الناس، لكن عموما يكفيني أنني سأرى الأصدقاء في طوكيو وستتاح لي مرة ثانية فرصة التجول في شوارعها وزيارة جامعتها، التي تكبر جامعتنا بثلاثين عامًا.
 بداية الرحلة كانت في مبنى الركاب الجديد (3) المبنى رائع مستوى الخدمة داخله لا يقل عن أي مطار عالمي كبير، إنه إنجاز مشرف يستحق أن نفخر به، ولكن ـ وأه من لكن ـ بعد أن دخل الركاب جميعا إلى البوابة، والطائرة تقف أمامنا في انتظار التعليمات لنتحرك إلى داخلها، اقترب موعد الإقلاع ولم يتم النداء، ثم تجاوزنا الموعد بربع ساعة دون نداء أو اعتذار، وارد جدًا في أي مكان في الدنيا أن تتأخر الطائرة عن موعدها، لكن غير الوارد أن لا يتم إعلام الركاب والاعتذار لهم، خصوصًا أن الركاب جميعًا من اليابان باستثناء أربعة مصريين وثلاثة أفارقة، وفي اليابان عندما تقف على محطة المترو فإن اللوحات الإرشادية والإذاعة الداخلية تخبرك بدقة متناهية بموعد المترو القادم والذي يليه، ولو تأخر المترو لثواني أو لم يقف في مكانه على الرصيف بدقة متناهية، فهذه كارثة تستوجب الحساب والمسألة، وقبل ذلك الاعتذار للجمهور، اختفى المسؤلين في مصر للطيران تمامًا، وعندما نجحنا بمساعدة رجال الشرطة في الوصول إلى أحدهم لمطالبته باعتذار وتوضيح للركاب المنتظرين، تعلل بأن الطائرة غير صالحة ولا يعرف متى ستقوم، بعد ساعة وربع، تم تقديم المشروبات المثلجة للركاب المنتظرين، وبعد ساعة ونصف تم النداء ودخلنا للطائرة، كانت الرحلة رغم طولها، 11 ساعة تقريبًا، مريحة وسهلة.
 في مطار ناريتا الدولي قابلت الدكتور أحمد السلماوي مستشارنا الثقافي الذي كان في استقبال وفد معماري مصري برئاسة الدكتور محمد عوض جاء لمتابعة مسابقة إنشاء الجامعة اليابانية ببرج العرب، وكان في انتظاري مندوب من السفارة اصطحبني إلى الفندق، بمنطقة أريكا وهي ضاحية على أطراف طوكيو تطل على المحيط الهادي، أو على وجه الدقة على خليج طوكيو، هذه الضاحية تم تشيدها بردم جزء من الخليج باستخدام المخلفات بدلًا من إحراقها، وأقيمت فوق هذه المخلفات ضاحية عملاقة تتميز بأبراجها ومبانيها الشاهقة.

 في المساء ألتقينا بالسفير المصري الدكتور وليد عبد الناصر، نموذج للدبلوماسي والباحث الذي يشرف مصر بحضوره ونشاطه، لولا جهوده التي استمرت قرابة عام وموالاته هو ومعاونيه للوفد المصري في طوكيو لما كان لنجاح هذا النشاط الثقافي أن يتحقق.


 صباح الخميس 9 يوليو كان الافتتاح الرسمي للمعرض بحضور الأمير أكيشينو شقيق ولي العهد وزوجته، شارك في قص شريط الافتتاح خمسين شخصية في مراسم رمزية تختلف عن الأسلوب التقليدي لقص الشرائط، شارك من مصر في قص الشريط الدكتور وليد عبد الناصر سفيرنا في طوكيو والأستاذ أحمد صلاح زكي رئيس الجناح المصري في المعرض، عندما زار الأمير جناح مصر في بداية جولته توقف طويلًا عند الخطاط الفنان أوس الأنصاري، الذي جاء ليكتب لليابانيين أسمائهم بالخط العربي، كتب للأمير ولزوجته أسميهما وهما يتابعانه بإعجاب شديد، لدرجة اضطرت المنظمين للمعرض إلى دعوتهما لمغادرة الجناح المصري حتى لا تتأخر باقي مراسم الافتتاح.









 أسبوع من العمل أمضيناه في طوكيو لتخرج المشاركة المصرية في المعرض بشكل لائق يقدم الثقافة المصرية قديمها ومعاصرها، اليابانيون كما قال السفير المصري في اليابان الدكتور وليد عبد الناصر في ندوة شارك فيها في المعرض لديهم معرفة واسعة بالحضارة المصرية القديمة، وولع بها لا يضاهيه إلا ولع الفرنسيين بمصر، أما علاقتهم بالثقافة المصرية المعاصرة فمحدودة، باستثناء المتخصصين في دراسة مصر والمنطقة العربية، وهم بالمناسبة ليسوا قليلين.

الدستور 15 يوليو 2009

الأربعاء، 27 سبتمبر 2017

رد على رد... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
رد على رد
عماد أبو غازي
 تلقيت رسالة من الدكتور خالد القعيد بقسم التاريخ بجامعة الأزهر يناقش فيها رسالة الأستاذة ديدي الهنداوي وردي عليها، وهي الرسالة الثانية التي أتلقها منه، وكان في الرسالة الأولى قد فند الإدعاء بأن النقاب فريضة إسلامية.
 يقول الكتور خالد في رسالته:
 "تابعت ـ كعادتي ـ مشكلة النقاب! وأحسب أن الأستاذة ديدي الهنداوي قد أدانت نفسها برغم هدؤ أسلوبها الراشد المهذب.
 والاستدلال برأي المنفلوطي أو طلعت حرب في رده على قاسم أمين ليس دليلا شرعيا على أصولية النقاب أو على شرعيته، لكن كان دليلا على رؤية اجتماعية.
 وأعجبني ردكم على ذلك بأن النقاب لبس الطبقة الأرستقراطية في تركيا وفارس، ولكن أتصور أن النقاب أيضا عادة بدوية، وأتذكر وأنا في العريش في زيارة لجامعة قناة السويس، كانت سيدة عريشية تبيع بعض المناديل ونحوها في الأرض وقد غطت وجهها وأخرجت صدرها لترضع وليدها!!
 ولأن السعوديين من أصول بدوية وصلتهم بالحضر تأخرت فإنهم يرجعون بالنقاب لأصول دينية! وهي عادتهم الأولى...
 لكن أحب لفت نظركم لأمر استوقفني، في كتاب وصف مصر، أتصور في الجزء الأول أو الثاني على ما أذكر وصف لأحوال القبط في مصر إبان فترة الحملة الفرنسية، وفيه يقول المؤلف عن القساوسة والرهبان: إن القبط يبجلونهم ويحترمونهم، وله الحق في مجالسة جميع أفراد الأسرة رجالا ونساء وسماع الاعترافات من كل واحد منهم منفردا... ويستطرد الكاتب ليصف المرأة القبطية في جلسة كاهن الاعترافات وهي تحرص على غطاء الوجه!!
 فلعل هذا هو الزي الرسمي أو الاجتماعي... الأمر يستلزم بحثا أو بٌحيثا صغيرا من الوجهة التاريخية.
 لكن الذي يشغلني ضعف أدلته الشرعية...."
 وهنا أنتقل إلى الرسالة الأولى التي وصلتني قبل أسبوع من الدكتور خالد القعيد والتي يقدم فيها أدلته، واقتبس منها بعض ما يقول:
 "الحقيقة إن موضوع النقاب هذا من أكثر الأمور التي تشغلني، وتثير حفيظتي لأني قريب منه وأكاد أموت غيظا منه...
 أولا: لقد عملت مديرا لمكتب الأستاذ محمد الغزالي رحمة الله، وكان أكثر ما يثار من أسئلة تأتي من هنا أو هناك أسئلة النقاب...... ولقد كتب الأستاذ الغزالي كتابه الأشهر "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" بين فيه حكم النقاب وأقام أكثر من عشرة أدلة على عدم وجوده.
 ...............
 وأنا أحاضر في إسلام أباد في باكستان، وجدت الفتيات المسلمات منتشر بينهن النقاب بصورة لافتة، بل إن قاعة المحاضرات ـ 60 طالبة ـ كلهن ترتدين النقاب! وعندما زلف لساني وتكلمت في عدم شرعيته ـ كزي إسلامي ـ كدن يفتكن بي بعد تقديم شكوى ضدي، واتهموني بالعلمانية ورفض الحجاب... وبما أن الحجاب معلوم من الدين كركن منه وفرض.. فأنا أحارب أحد فرائض الإسلام!!... إلخ.
 وسألت نفسي.. حتى الباكستانيات!! فعلمت أن جرائم فقهاء البدو السعوديين ورؤية إبي الأعلى المودودي للحجاب من وراء هذا... لكن لا تظن أني أهاجم سعيرة دينية، بل أدافع عن الإسلام الذي ظلم بانضمام هؤلاء ومن على شاكلتهم إليه بنقل عادات قبلية ظنوها عبادات دينية!
 وهنا نصحني بعض الزملاء من باكستان ومصر أن ابتعد عن هذا الحوار لأن طباع التدين هنا ـ قبلي ـ وهم يعتبرون النقاب هو الحجاب لآن الآيات القرأنية تخدم معتقدهم... فقلت لكن كل نصوص القرآن لا تخدم فكرة النقاب نهائيا حتى الأحاديث النبوية الصحيحة.. قالوا: يا سيدي... دعهم وشأنهم!!
 وهكذا لمست فقها جامدا بدأ يهيمن على دول شرق آسيا، والاتجاه السلفي يسري كالنار في الهشيم ويغلق العقول وينذر بالشر المستطير.
 الكارثة الحقيقية.. ما وجدته في كليات الطب والصيدلة والعلوم في مصر..فإن من المفترض أنها كليات علمية عملية، إلا أن عقولهن تبددت ولم يعد فيها أمل يرجى.. وأثناء إحدى المحاضرات علمت أن معيدة في طب الأزهر (بنات) تركت العمل بكليتها لأنها تأتي من المنوفية ـ سفر ـ بدون محرم، والسفر حرام للمرأة، كانت الفاجعة...
 أجدني كاظم الغيظ من كارثة النقاب ويعلم ربي أنني لا أحارب الاحتشام أو الالتزام، لكني أبغض التشدد والتزمت بلا دليل، ولست أول من تقيده الأصول، لكن هناك فرق بين تيسير وتشديد.
 .... إن قضية التدين هذه اعتمدت الشكل لا المضمون، فمع طول اللحى وارتدأ الأنقبة فإن هناك سؤ أخلاق وانحدار في الذوق... إلخ. الأمر الذي يدل على أننا نستورد تدينا شكليا يسقط معه فقه الأولويات، وتقديم الأصول على الفروع، ويسقط الراجح ويقدم المرجوح، ويعطل النص السليم ويٌفعّل الضعيف، هي كارثة.
 والآن الموضوع يحتاج لفهم أعمق من الدولة التي تفسح المجال لهؤلاء الذين يحاربون به تيارا آخر، ولا يدرون أن أفكار القاعدة تنبع من العقول المتحجرة.
 وربما في خلوتك مع نفسك قد تلومها إذا شعرت أنك تهاجمهن بنقابهن هذا، ولكن القرآن نفسه لا يخدمهن: "وقل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم"، عن أي شيئ أغض بصري إن كان النقاب مفروضا؟
 وفي الحديث النبوي: "انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، وفي حديث آخر: "لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وعليك الثانية". وفي رواية أخرى: "النظرة الأولى لك والثانية عليك".
 وفي السنة أيضا: ".... قالت إمرأة عسفاء الخدين يا رسول الله: ما نقصان ديننا وعقلنا...." فكيف عرف الرواة أنها عسفاء الخدين؟
 النصوص كثيرة والقضية كبيرة...."
 والحديث يتواصل.
الدستور 8 يوليو 2008

المدافعات عن النقاب... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
المدافعات عن النقاب
عماد أبو غازي
 عندما كتبت عن "القيادة خلف النقاب" مؤيدًا لدعوة على الفيس بوك لمنع المنقبات من قيادة السيارات، كنت أتوقع أن أتلقى ردودًا مضادة للمقال مدافعة عن حق النقاب، وقد تلقيت على بريدي الإلكتروني ردين على المقال، كما دعت لي زميلتي المنقبة الأستاذة سامية ضاحكة بأن أقتنع بالنقاب.
 الردان يدافعان عن حق المرأة في النقاب، والردان من الأستاذة ديدي الهنداوي والأستاذة فاطمة شعيب، وأنشر الردين كما هما من الرسالتين تباعًا.
 تقول الأستاذة ديدي الهنداوي في تعليقها:
سيدي الفاضل
قرأت مقالتك في صحيفة الدستور الأسبوعي العدد الماضي وتعجبت كثيرًا من محتواها، لماذا لم أسمع مثلًا إنكم تجمعون أصواتًا لمنع الشباب المتهور والمسطول من تأجير السيارات وقيادتها بسرعه جنونيه والأمركه بها في وسط الشوارع؟
 لماذا لم تكتب سيادتك في الدستور إنك انضممت لحمله تدين وتتخذ إجراءات ضد المتسببين في الحوادث اليوميه على الطرق وفي القطارات والمواصلات العامة؟
 ثم لماذا هذا العداء الشديد وتلك النظرة الدونية للمنتقبات؟
ألم يكن هناك وقت من الأوقات في ماضي هذا البلد كان البرقع فيه هو الزي الرسمي للمرأة؟ لماذا لم نسمع ممن عاشوا في هذا الزمان إنهم متضايقون وخائفون ومرعوبون من مشي هؤلاء النساء في الشوارع هل قرأت سيادتك مقالة الحجاب للكاتب المرموق مصطفى المنفلوطي؟
لماذا لم يعتبر البرقع مصيبة وأفة من أفات المجتمع كما تعتبرونه أنتم؟
على حد علمي لم يكن المنفلوطي أصوليًا ولا متطرفًا ولا حتى (إخوان مسلمين)!!!!
 ولكنه كان ذكيًا فهم أنه طالما الإنسان محفوظة كرامته، يجد طعام يومه، ومهنة يعيش منها، فماذا سيدفعه إلى أن يتخفى تحت النقاب ليفجر نفسه تحت الكوبري، أو في خان الخليلي، أو غيره، لذلك لم يهاجم النقاب، بل اعتبر أن الحجاب دواء ناجح لمجتمع عفيف وراقي، وليس كمجتمعات البهائم الغربيه.
 
يا دكتور الطبيب الذكي هو الذي يبحث عن جذور المرض لكي يستأصله لا أن يهتم فقط بالأعراض ويداويها بالمسكنات، لأنه إن فعل ذلك فسيهلك مرضاه.
 في البداية أشكر الأستاذة ديدي الهنداوي على أسلوبها الهادئ في الحوار، وأود أن أطمئنها أنني مشترك في ما يقرب من 300 مجموعة و40 قضية على الفيس بوك، ومن بينها بالفعل مجموعة تدعو لضبط الفوضى على الطرق لمواجهة الحوادث التي جعلت من مصر دولة متصدرة في عدد ضحايا حوادث الطرق في العالم.
 وأنا بالتأكيد ضد قيادة السكارى والمساطيل للسيارات، وضد التهور في القيادة والسرعة الجنونية في وسط الشوارع أو على الطرق السفر الرئيسية والفرعية، وأنزعج بشدة من أمركة الشباب بالسيارات في الشوارع، لكن هناك فارق أساسي وجوهري، إن جميع تلك الظواهر السلبية في قيادة السيارات مجرمة قانونًا، وبعضها يؤدي بمرتكبه إلى السجن وفقًا لقانون المرور الجديد، وبالتالي فالدعوة هنا تكون للحزم في تطبيق القانون، لكن لا يوجد نص تشريعي واضح يجرم القيادة خلف النقاب أو بمعنى أدق قيادة النساء المنقبات للسيارات، فأظن أنه لن يسمح لرجل بأن يخفي ملامحه وهو يقود سيارته.
 ورغم أن المفترض ضمنًا في قانون المرور أن يكون قائد السيارة مكشوف الوجه، لكن المنقبات يستثنين من ذلك، ولم نسمع عن ضابط مرور جرؤ على إيقاف منقبة وهي تقود سيارتها ليمنعها من القيادة بهذه الصورة الشاذة، التي أصر على أنها تشكل خطرًا على سلامة الناس، وهذا لا يتنافى بالطبع مع خطر القيادة المسرعة والمستهترة أو تحت تأثير المخدرات والمسكرات، لكن قائد السيارة المخمور أو المسطول أو المتهور مكشوف الوجه، يمكن أثبات الجرم عليه بسهولة أكثر من تلك التي تقود مختفية عن الناس.
 ثم إذا كانت المرأة مقتنعة بأنها عورة وأن عليها أن تخفي وجهها، فلماذا لا تكمل جميلها وتقر في بيتها، وإذا أخذت النقاب من الوهابية المتزمتة فلماذا لا تأخذ من تزمت الوهابيين منع النساء من القيادة؟
 أما "لماذا هذا العداء الشديد وتلك النظرة الدونية للمنقبات؟"
 فأنا أضيق بالنقاب لكني لا أعادي المنقبات، وأخشى من الظاهرة التي تعود بنا سنوات إلى الوراء، والتي أرى فيها تهديدًا لأمن الناس وأمانهم، لا أتصور أنه من حق شخص أيًا كان رجل أو أمرأة أن يسير ملثمًا، ففي هذا تعدي على الآخرين.
 ولا أظن أنني أنظر إلى المنقبات نظرة دونية، بل من تتنقب هي التي تنظر لنفسها نظرة دونية، ولا ترى في نفسها سوى عورة وموضع لإغراء الرجال.
 أما المنفلوطي فقد كان بالطبع محافظًا أصولي الميول، لكن بمفهوم زمنه لا بمفهوم زماننا، وما كتبه كان ردًا على دعاة تحرر المرأة من الحجاب، ومصطلح الحجاب وقتها كان يقصد به النقاب لا غطاء الشعر، كان يرد على قاسم أمين ومن قبله الطهطاوي، وغيرهم، وكانت دعوة هؤلاء تعكس ضيق المجتمع بالمنقبات.
 أما القول بأن البرقع أو النقاب كان الزي الرسمي للمصريات فقول غير صحيح، فغالبية المصريات حتى القرن الماضي كن الفلاحات، والفلاحة لم تعرف النقاب في تاريخها، الفلاحة تخرج إلى الغيط مع زوجها تفلح الأرض وتزرعها مثلها مثله، وهي سافرة كاشفة عن ساعديها.
 والمرأة الشعبية في المدينة كانت مختلطة بالرجال كاشفة عن وجهها، كان البرقع زيًا "رسميًا" للأرستقراطية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ورثته عن تقاليد الحريم التركي العثماني، ومن قبله الحريم الفارسي، أما الفلاحة المصرية صانعة الحضارة فلم تعرف هذا البرقع أبدًا.
 أخيرا أنا معك في أن العلاج يأتي بستأصل الداء من جذوره، العلاج بالتأكيد في مواجهة أفكار التطرف الديني والمناخ الذي يساعد على استشرائها.
 وللحديث بقية.
 الدستور 1 يوليو 2009

القيادة خلف النقاب... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
القيادة خلف النقاب
عماد أبو غازي
 تلقيت دعوة على حسابي في موقع "فيس بوك" للانضمام لقضية "منع المنقبات من قيادة السيارات حماية لأطفالنا وتقليلا للحوادث"، القضية دعا إليها على الفيس بوك علاء المسلماني، ومنطلقه في الدعوة لقضيته: إن "منع المنقبات من قيادة السيارات هو حماية للمشاة في الشوارع وذلك لعدم قدرة المنقبة على إستخدام نظرها مثل غير المنقبة، كما أن النقاب يعوق الرؤية الجانبية وقد يهدد مسار الرؤية، كذلك فإن النقاب وسيلة سهلة لأي إرهابي أن يقود أي سيارة دون أن يلاحظه أحد."
 كنت قبلها بقليل أتابع الأخبار التي تشير إلى النقاش الدائر في فرنسا حول ظاهرة النقاب بين المسلمات هناك، وإمكانية إصدار تشريع يمنع دخول الأماكن العامة بالنقاب.
 القضية تشغلني منذ شاعت ظاهرة النقاب في المجتمع، ليس فقط قضية قيادة السيارة خلف النقاب لكن تحرك الأنسان وهو يخفي ملامحه في الشوارع وفي قاعات الدراسة وفي الأماكن العامة، وأين تقف الحدود بين الحرية الشخصية وحق الأمان لأفراد المجتمع، بين الحق في اختيار الزي الذي يعتقد الإنسان أنه يناسب معتقده الديني، وحق أفراد المجتمع في حماية أنفسهم من إمكانية التعرض لجرائم من خلف النقاب، بل أبسط من ذلك حقي كأنسان أن أعرف من يسير إلى جانبي في الطريق، ومن يتعامل معي في الحياة.
 كيف يمكن لي وأنا إمارس عملي كمدرس أن أتعامل مع طالبات منقبات لا أرى وجههن، ولا أستطيع أن أتبين ردود أفعلهن على ما أقول، ولا أكاد أسمع أصواتهن أو أفهم كلامهن عندما تتحدثن من وراء أنقبتهن؟
 كيف يُسمح لمدرسة في التعليم العام أن تعلم الأطفال من خلف نقاب؟ وكيف يمكنها التواصل معهم أو إيصال المعلومات إليهم وهم لا يرون وجهها؟ أو لأستاذة جامعية أن تدخل قاعات المحاضرات ومدرجات الجامعة وهي منقبة؟
 كيف تباشر الطبيبة أو الممرضة مهنتها وهي منقبة؟ وكيف يشعر المريض بالأمان والراحة النفسية وهو لا يرى وجه معالجته أو ممرضته؟
  وكيف تترك المنقبات تتحركن في الأماكن العامة تدخلن وتخرجن دون التعرف من شخصيتهن؟ وكيف نضمن أمان المواطنين في تلك الأماكن؟
 سيرد البعض إنه بإمكاننا الاستعانة بسيدات أمن للتحقق من شخصيات المنقبات عند دخولهن إلى الأماكن العامة، لكن ما الذي يضمن لن أن يتخفى أي شخص بعد دخوله إلى الأماكن العامة في زي منقبة ويرتكب ما يشاء من أفعال وجرائم تحت النقاب، ما دام مبدأ السماح للمنقبة أن تتجول بنقابها بيننا بحرية وتدخل وتخرج في كل مكان.
وهل يجوز أن يثير الرجال في الشوارع ملثمين تحت دعوى الحرية الشخصية؟
 ومن أعطى المنقبة الحق في أن ترى من تتعامل معهم وتسير بينهم دون أن يكون لنا نفس الحق في أن نعرف من نتعامل معها ونرى وجهها.  من ترى في نفسها عورة فلتترك عملها ودراستها وتجلس في بيت أبوها أو زوجها وتبتعد عن شوارعنا حماية لنفسها وحماية لنا.
 القيادة خلف النقاب أخطر، كنت قد بدأت ألحظ كل يوم منقبات تقدن سيارتهن في الشوارع، منطلقات وهن متخفيات، دائما كنت أتسأل بيني وبين نفسي، ماذا لو ارتكبت واحدة منهن حادثة وهي تقود سيارتها وهربت؟ كيف يمكن إثبات شخصيتها؟ ماذا لو تخفى أي مجرم في زي منقبة وارتكب جريمة بسيارة مسروقة وهرب؟ كيف تتعرف لجان المرور المنتشرة في كل مكان على شخصية السائقة دون أن تطالع وجهها؟ هل تتحاشى اللجان سؤال المنقبات عن رخصهن من باب الابتعاد عن وجع الدماغ؟ أم أن المنقبات تخلعن البراقع أمام اللجان لأثبات شخصيتهن؟ ولماذا تسحب رخصة سيارة لأن صاحبها ركب على زجاجها ورق "فيميه" لأنه يعوق الرؤية ويجعل السائق مختفي عن الأعين وتترك المنقبات مختفيات تماما دون ضابط أو رابط؟
 لكل ذلك اسرعت بالانضمام إلى قضية علاء المسلماني، عندما دخلت موقع القضية وجدته يوجه رسالة إلى المتعاطفين مع القضية يدعوهم لمساندتها بنشرها والدعوة لها، يشرح فيه أكثر أسس موقفه يقول: "نرجوا منكم التبرع بقليل من وقتكم لنشر قضيتنا بين أصدقائكم وإعمال المنطق والعقل فيما يخص المشاه والمرور في هذا البلد التعيس، أنا غير معترض على النقاب ديناً أو شكلاً أو مضموناً فهذا أمر يخص من ترتديه وهو حريتها الشخصية التي لا أجروء أن أنقدها، ولكن حريتك تنتهي حيث حرية الآخرين ولا ضرر ولا ضرار. برجاء التعاون معي على نشر ودعوة أصدقائكم حتى يمكن تفعيل هذا القانون."
 تحمست للدعوة وانضممت إلى القضية، كان عدد الأعضاء مساء أمس عند انضمامي 558 عضوا وعضوة، القضية تسعى للوصول إلى الرقم 750، حسب ما الموضح على موقع القضية فإن مناصريها وصلوا يوم 13 يونيو الماضي إلى 500 عضو، وجدت عددا من أصدقائي ومعارفي منضمين للقضية، أمضيت ساعة أوجه الدعوات إلى الأصدقاء على الفيس بوك للانضمام للقضية، دعوت 150 من بين أصدقائي، صباح اليوم دخلت إلى الموقع، وصل عدد الأعضاء إلى 562 عضوا، أنضم أحد أصدقائي إلى القضية.
 أدعوكم للانضمام إلى القضية ليس في الواقع الافتراضي على الفيس بوك لكن على أرض الحقيقة لنوقف فوضى التخفي في الحياة المصرية.

الدستور 24 يونيو 2009

الجمعة، 22 سبتمبر 2017

كوكبنا يستغيث بنا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
كوكبنا يستغيث بنا
عماد أبو غازي
 "كوكبنا يستغيث بنا" شعار اليوم العالمي للبيئة هذا العام، إنه شعار يعبر عن واقع حالنا اليوم على كوكب الأرض، بالفعل الأرض تستغيث بنا من أفعالنا.
 فهل هناك ما يمكن أن نفعله نحن لنلبي إستغاثة الأرض بعد أن دمرنا بيئتنا ووصلنا بأرضنا إلى حافة الهاوية؟


 نعم هناك الكثير الذي يمكن أن نفعله، هناك ما يمكن أن نقوم به بشكل جماعي في السعي من أجل الحفاظ على البيئة وسلامتها، وما يمكن أن نقوم به أفرادا من تغيير لسلوكياتنا الضارة بالبيئة.
 لقد تنبه بعض العلماء في الغرب للمخاطر التي تتعرض لها الأرض وأخذوا يدقوان أجراس الخطر، منذ قرابة أربعين سنة، وقتها كان الناس يتعاملون مع هؤلاء العلماء باعتبار أنهم يهولون الأمور ولا يصدقونهم، كانوا مثل أنبياء لا يصدقهم أحد، كان الناس يتعاملون معهم مثلما يتعاملون مع أشخاص مشوشون مصابون بلوثة عقلية، كانت الشركات الصناعية الكبرى الملوث الأول للبيئة في العالم تحاربهم، وتستأجر علماء وباحثين يطرحون نظريات زائفة مضادة تهون من الأمر وتبعد الاتهام عن قطاع الصناعة، أو تنفي من الأساس أن هناك خطرا داهما يحيق بالأرض، لكن إصرار أنصار البيئة على عرض قضيتهم ودأبهم في الدفاع عنهم جعلهم يكتسبون الأنصار، بدأ الناس يدركون الآثار المدمرة للتلوث البيئ على مستقبل كوكبنا، بدأت الجماعات المدافعة عن البيئة تتشكل حول العالم، وبدأت أحزاب الخضر في أوروبا تتحول إلى رمانة الميزان في كل انتخابات برلمانية أوروبية، انتبهت الأمم المتحدة للخطر وعقدت المؤتمرات الدولية من أجل مواجهته.

د. مصطفى كمال طلبة
 وفي مصر كان هناك من بين علمائنا من تنبهوا لتلك المخاطر مبكرا ونبهوا إليها، ولعب بعضهم من أمثال الدكتور مصطفى كمال طلبة والدكتور محمد عبد الفتاح القصاص أدورًا على المستوى الدولي أهلتهم لمكانة بارزة بين المدافعين عن البيئة في العالم. لكن الوعي البيئ في مصر ظل يتحرك ببطء ويتطور على استحياء منذ بدأت بعض منظمات المجتمع المدني تتجه للعمل في مجال الحفاظ على البيئة في ثمنينيات القرن الماضي، وهي نفس الحقبة التي شهدت اهتمامًا من الدولة بالقضية من خلال إنشاء جهاز البيئة ثم حقيبة وزارية لشئون البيئة، وبعض البرامج الإذاعية التي تلقي الضوء وتنبه للخطر.
 لقد ظل النشاط الأهلي والنشاط الحكومي يسيران جنبا إلى جنب، وظهرت جمعيات أهلية تعنى بقضايا البيئة، وتشكلت الجمعية المركزية للحفاظ على البيئة التي ترأسها الدكتورة ليلى تكلا وتسعى لنشر الوعي البيئ في مجتمعنا، لكن هل أثمرت جهود السنوات الماضية في تحقيق تقدم ملموس في قضايا البيئة، للأسف لا، لكن هذا لا يدعونا إلى أن نفقد الأمل، لقد استغرق العالم سنوات حتى يصدق دعاة البيئة ويسير ورائهم وعلينا أن نبذل جهدا أكبر في إقناع الناس بتبني سلوكيات صديقة للبيئة، وجهد أكبر لضغط من أجل أن تتبنى الدولة سياسة بيئية سليمة، وأن تفعل سلطات جهاز البيئة ووزير الدولة لشئون البيئة لتمتد ولايتهما في تطبيق القوانين البيئية على الجميع دون استثناء.

د. القصاص
 لقد كان شعار الاحتفال باليوم العالمي للبيئة في العام الماضي، عام 2008، "فلنكسر العادة"، وإذا نجحنا في كسر العادة سنحسن أحوالنا البيئية كثيرًا، إننا جميعا شركاء في تدمير البيئة، والأغنياء أكثر تدميرًا للبيئة من الفقراء على المستوى الوطني مثلما أن الدول الغنية أكثر تدميرا للبيئة من الدول الفقيرة، فعليهم تقع المسئولية الأكبر في تغيير سلوكهم من أجل اقتصاد أقل اعتمادًا على الكربون.
 لكن كيف سيغير الأغنياء سلوكهم؟
 لن يغيروه إلا من خلال جماعات ضغط تسعى لإصدار تشريعات ملزمة للحفاظ على البيئة وآليات واضحة لتنفيذ هذه التشريعات.
 جماعات ضغط من أجل تخفيض استهلاك الطاقة، استهلاك أقل للطاقة الكهربائية في البيوت والمصالح الحكومية.
 جماعات ضغط من أجل استهلاك أقل للوقود، أي استهلاك أقل للسيارات الخاصة، مع توفير وسائل نقل عام آدمية ومتدفقة تشجع الناس على الإقلال من الاعتماد على السيارات الخاصة.
 جماعات ضغط من أجل استخدام رشيد للمياه، مياه من أجل زراعة القمح، مياه من أجل الشرب، لا مياه من أجل ملاعب الجولف.
 جماعات ضغط من أجل الحفاظ على نهر النيل نظيفًا غير ملوث، بمنع المصانع من إلقاء مخلفاتها في النهر الذي ماتت أجزاء كاملة منه بفعل أيدينا، والتوقف عن الصرف الصحي في النيل والبحر.
 ونحن كأفراد نستطيع أن نعدل من سلوكياتنا في أمور كثيرة صغيرة في حياتنا لنقلل من التلوث حولنا، ولنقلل من مسببات الاحتباس الحراري في الأرض الذي أصبحت مصر من أكثر دول العالم تعرضا لمخاطره.
 لنجرب ألا نترك أضواءً مضاءة بدون داعي في بيوتنا أو مكاتبنا، أن نقلل من استخدام أجهزة التكييف، ألا نترك شاشات الكومبيوتر أو التلفزيون مفتوحة بلا داعي، أن نمتلك الجراءة لركوب العجل بدلًا من السيارات أو وسائل النقل العام، أن نزرع شجرة صغيرة أمام بيوتنا أو قصرية زرع في شبابيكنا أو شرفات منازلنا أو مكاتبنا، أن نقتصد في استخدام المياه، إنها أشياء صغيرة لكن اعتيادنا عليها وانتشرها بيننا يمكن أن يغير الكثير.

 الدستور 17 يونيو 2009 

الخميس، 21 سبتمبر 2017

5 يونيو... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
5 يونيو
عماد أبو غازي
 يصادف يوم 5 يونيو من كل عام اليوم العالمي للبيئة، اليوم الذي تحتفل به دول العالم منذ عام 1972 عندما انطلقت أول صيحة تحذير دولية تنبه للمخاطر التي يتعرض لها كوكبنا بسبب التلوث الذي نتج عن الثورة الصناعية. ففي عام 1972، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 5 يونيو يوماً عالمياً للبيئة وذلك في ذكرى افتتاح مؤتمر استكهولم حول البيئة الإنسانية، كما صدقت الجمعية العامة في اليوم ذاته على قرار تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة.


 لقد أنجز الغرب الثورة الصناعية واكتملت ملامحها في القرن التاسع عشر، وانتقلت البشرية معها إلى مرحلة جديدة من تاريخها، وشهدت بفضل ما تحقق في ظلها من تقدم علمي زيادة سكانية هائلة بسبب ارتفاع متوسطات الأعمار للبشر، صاحبها معدلات في الاستهلاك لم يعرفها الإنسان منذ ظهوره على كوكب الأرض، وأصبحت فكرة مجتمع الرفاهية هدفا تسعى إليه كل شعوب الأرض وتعمل من أجله، فشهد القرنين الأخيرين استنزافا غير مسبوق للموارد الطبيعية، كما أحرق سكان كوكبنا كميات من الوقود في مائتي سنة تفوق مئات المرات ما أحرقوه منذ اكتشف الإنسان الأول النار. وقد جاء في "تقرير الأرض" الذي أعدته ثلاث من المنظمات التي تعنى بالحفاظ على البيئة، هي صندوق الطبيعة العالمي وجمعية دراسة الحيوان بلندن والشبكة العالمية لآثار التلوث، ونشره موقع بي بي سي في نوفمبر الماضي: "إن البشرية تحتاج لكوكبين بحلول عام 2030، وإن كوكب الأرض مهدد بانهيار بيئي شبيه بأزمة القروض المنعدمة التي يشهدها العالم".
 ويرى التقرير أن الاستنزاف الذي تتعرض له موارد الأرض الطبيعية، قد تجاوز إمكانياتها بما يقارب الثلث، ويقول التقرير: "إن أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم يقطنون في بلدان يتجاوز فيها الاستهلاك قدرات التجدد والتعويض الطبيعية. وهذا ما يعني أنهم "مدينون بيئيون"، وأنهم يقترضون ويتجاوزون الرصيد المسموح به، فيما يتعلق بالأراضي الصالحة للزراعة والغابات والبحار والموارد الطبيعية الأخرى". ويخلص التقرير إلى أن الاستهلاك المستهتر "للرأسمال الطبيعي"، يهدد مصير العالم ورخاءه، بما يجر ذلك من آثار اقتصادية من بينها ارتفاع أسعار المواد الغذائية والماء والطاقة.
 ويقول المدير العام لصندوق الطبيعة العالمي جيمس ليب: "إذا ما استمر استنزافنا للكوكب على هذه الوتيرة، فإننا سنحتاج إلى ما يعادل كوكبين بحجم كوكبنا، لمواصلة العيش بالطريقة التي نعيش عليها الآن". وتتربع الولايات المتحدة والصين على رأس البلدان الأكثر استنزافا لموارد الأرض إذ تقدر نسبة أثارهما البيئية بـ 40 في المائة. ويّظهر التقرير أن الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة توجدان على رأس قائمة الدول الأكثر تلويثا من حيث الأشخاص، بينما تقع مالاوي وأفغانستان في ذيل القائمة. ويعادل نصيب بلد واحد متقدم مثل بريطانيا التي تحتل المرتبة الخامسة عشرة من بين البلدان الأكثر تأثيرا بالسلب على البيئة في العالم نصيب 33 بلدا إفريقيا مجتمعة.
 وقالت الأمم المتحدة في تقرير صدر مؤخرا: "إن خطر الكوارث في أنحاء العالم يتزايد بسبب تضافز الاحتباس الحراري وتدهور البيئة وسوء تخطيط المناطق الحضرية". وخلص التقرير إلى أن حياة ملايين الناس أصبحت في خطر بسبب قلة تقييم المخاطر التي تتهدد الناس في أماكن مختلفة من العالم. وركز التقرير على الفروق بين السياسات المتبعة في البلدان الغنية والبلدان الغنية. وفي هذا الصدد، قال التقرير إن رغم أن اليابان والفلبين قد يتعرضان لأعاصير مدارية على نفس الدرجة من الحدة، فإن الحصيلة المتوقعة مختلفة إذ مقابل كل شخص يموت في اليابان سيقتل 17 شخصا في الفليبين. ولاحظ التقرير أن السكان الفقراء في البلدان النامية معرضون أكثر من غيرهم للكوارث بسبب نقص التغطية الصحية. واتهم التقرير المسؤولين المحليين في بلدان العالم النامي بغض الطرف عن المنازل والمدارس والمباني المفتقرة إلى مقومات السلامة. ويرى في هذا الصدد أن الحكومات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية تتجاهل الأحياء العشوائية التي تُقام في المناطق المنخضفة أو المناطق المعرضة لانهيارات طينية. ويرى التقرير أن الاحتباس الحراري يزيد من عدد المرات التي تحدث فيها الكوارث الطبيعية، ملاحظا أن الأضرار الناجمة عن التقلبات الجوية تضاعفت مرتين منذ عام 1980. ويذكر أيضا أن عدد الخسائر الناجمة عن الفيضانات والأمطار الغزيرة تتزايد بشكل أسرع من المخاطر الأخرى، حيث تضاعفت الخسائر خمس مرات منذ عام 1990. ويرى أن من الوارد أن يساهم الاحتباس الحراري في زيادة الخسائر الناجمة عن التقلبات الجوية في العالم.
  هذا وقد أقرت الصين مؤخرا بمشاركتها في المسؤلية عن التلوث العالمي وفي أول تقرير عن سياستها حول التغير المناخي، أقرت بكين للمرة الأولى أن الغازات التي تنبعث منها مساوية لتلك التي تنبعث من الولايات المتحدة، إلا أنها أكدت في ذات الوقت أن التحكم في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري على أراضيها "أمر صعب"، وحذرت من أن الااحتمالات ضعيفة لحدوث تحسن مبكر في هذا الشأن.
 أما البلد الأكثر تأثيرا في الاحتباس الحراري في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلنت وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون في تحول واضح في الموقف الأمريكي مع تولي الإدارة الجديدة في خطاب ألقته في أبريل الماضي أمام منتدى الإقتصادات الكبرى حول الطاقة والمناخ: "إن التغيير المناخي قضية تمس الصحة والأمن والطاقة، لإن أزمة التغيير المناخي قائمة وتتقاطع مع الدبلوماسية والأمن القومي والتنمية. وهي قضية بيئية وقضية صحية وقضية إقتصادية وقضية متصلة بالطاقة وقضية أمنية. وهي تمثل تهديدا عالمي النطاق لكنه تهديد محلي وقومي في أثره... إن ذلك يمكن أن يستولد الصراع والتململ والهجرة القسرية. لهذا فإنه لا توجد مسألة نواجهها اليوم لها تداعيات أبعد مدى أو إمكانات أكبر لتغيير العالم لأجيال المستقبل."
  لقد بدأت القوى المدمرة للبيئة تدرك أخيرا فداحة الوضع الذي قادتنا له سياسات عصر الثورة الصناعية، وفي هذا العام يحتفل العالم باليوم العالمي البيئة تحت شعار "كوكبنا يستغيث بنا، فلنكن أمما متحدة في مكافحة تغير المناخ"، وقد جرت الاحتفالات الدولية الرئيسية بيوم البيئة العالمي 2009 في المكسيك، المكسيك التي تحتل المرتبة الخامسة في العالم من حيث التنوع البيئ والمرتبة الخامسة أيضا من حيث تدمير الغابات، والتي تقوم حكومتها بجهد جبار في زراعة غابات جديدة محل الغابات التي تدمرها يد البشر.
 فهل هناك ما يمكن أن نفعله نحن؟
الدستور 10 يونيو 2009

الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

العودة من تورينو... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
العودة من تورينو
عماد أبو غازي


 في طريق العودة إلى القاهرة من إيطاليا بعد أن انتهى معرض تورينو للكتاب وأيام الثقافة المصرية بالمدينة، وعندما بدأ طاقم الضيافة في طائرة مصر للطيران في توزيع الصحف على الركاب، كانت المرة الأولى التي أطالع فيه جريدة مصرية منذ أكثر من عشرة أيام، ما زالت الصفحات الأولى للصحف القومية والحزبية والمستقلة تتسابق في نقل أخبار وصور المعالجة الحكومية لمواجهة مخاطر انتشار الأنفلونزا الجديدة، كنت قد غادرت القاهرة ومذبحة الخنازير على أشدها، ونحن في مطار القاهرة في الطريق إلى إيطاليا شاهدت آثار "المواجهة" في مطار القاهرة، عدد من العاملين بالمطار كانوا يرتدون الكمامات الواقية، لم أفهم المبرر، فنحن في صالة المغادرة، ويفترض أن مصر لم تظهر بها حالات للأنفلونزا، والعاملين في صالة السفر يتعاملون مع المغادرين للبلاد، كنت أتابع قبل السفر أخبار انتشار المرض على مستوى العالم من خلال تقارير الصحة العالمية، وكنت أعرف أن هناك عدة حالات لإصابة المؤكدة في إيطاليا إلى جانب حالات أخرى مشتبه فيها، توقعت أن أجد مطار ملبينزا بميلانو في حالة طوارئ بسبب الوباء، لكننا خرجنا من المطار في دقائق ولم نلحظ أي إجراءات استثنائية.
 طوال عشرة أيام أمضيتها في تورينو كنت قد نسيت مذبحة الخنازير وحالة العشوائية والجنون الجماعي التي أصابتنا وانعكست على الآداء المصري في مواجهة الأنفلونزا المسماة بأنفلونزا الخنازير، والصور الكئيبة البائسة التي تتصدر الصفحات الأولى لصحفنا لمجزرة الخنازير، والتصريحات الأكثر كأبة وبؤسا للمسؤلين. كانت استراحة قصيرة بعيدا عن العشوائية، وها قد عدنا للعشوائية مرة أخرى.
 أثناء الرحلة في الطائرة أخذ الشابان الجالسان إلى جواري يناقشاني في موضوع الأنفلونزا والخنازير، والفارق في التعامل الرسمي بين حالاتي أنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير، إنهما عائدان إلى مصر في زيارة بعد سنوات من العمل في إيطاليا، يتصوران، لا أعرف لماذا، إن الدولة منحازة لصالح الخنازير ضد الطيور، رغم أن مذبحة الخنازير فاقت في السرعة والاتساع مذبحة الطيور.
 هبطت الطائرة في أرض مطار القاهرة، وأقلنا الأتوبيس إلى صالة الوصول، بمجرد نزولنا فوجئت بازدحام شديد غير معتاد عند مدخل الصلاة، عندما وصلنا إلى المدخل تبينت الأمر، حواجز معدنية تمنع القادمين من الدخول إلى شبابيك الجوازات، وأطقم طبية من الأطباء والممرضات يرتدون جميعا الأقنعة الطبية الواقية، طلبوا منا تعبئة استمارة ببياناتنا الشخصية ومحال إقامتنا وأرقام تليفوناتنا، وأخذوها منا على بعضها دون فرز وقبل أن يتم فحصنا، ما الهدف من تعبئتها؟ لا أعرف.
 تم حشرنا، عشرات من القادمين، في مربع مساحته أربعة متر في أربعة متر، لو فرضنا أن أحد القادمين مريض وعطس لانتقلت العدوى إلى معظمنا في ثواني.
 وقفنا في صف وتقدمنا واحد واحد، وطلبوا ممن يرتدي نظارة طبية أن يخلعها، وتم توجيه شعاع إلى رؤسنا من جهاز الأشعة تحت الحمراء، الذي بدأ استخدامه في مطار القاهرة بمناسبة تفشي الأنفلونزا، يفترض أنه جهاز لقياس درجة الحرارة عن بعد، اللي ما عندوش حرارة يعدي لاستكمال إجراءات الدخول.
 تشعر أن هناك مبالغة شديدة في الإجراءات، لقد زرت خلال أقل من شهر، وبعد ظهور الأنفلونزا الجديدة دولتين أوروبيتين هما سويسرا وإيطاليا، لم أشهد مثل هذا الهلع في المطارات أو في الصحف ووسائل الإعلام، وبالطبع لم يحدث في أي منهما ولا في أي بلد من بلاد العالم المتقدم أو المتخلف ما حدث مع الخنازير عندنا، ولا ما حدث مع الطيور من قبل ومازال يحدث إلى الآن.
 إن رد الفعل الشعبي والرسمي تجاه الأنفلونزا الجديدة والمعروفة إعلاميا بأنفلونزا الخنازيروإزاء انتشارها السريع في العالم، ومن قبلها تجاه أنفلونزا الطيور، يعكس غياب العقل والعلم في تصرفاتنا والسير وراء الغوغائية في معالجة مشاكلنا، كان الحل الأسهل والأسرع دون دراسة قتل الخنازير، مثلما دمرنا من قبل الثروة الداجنة، ومع ذلك استوطنت أنفلونزا الطيور في مصر وحققنا تفوقا على بلدان العالم في الإصابات التي تم رصدها، لم يمنع إعدام الفراخ المرض، كذلك لن يكون إعدام الخنازير الوسيلة الناجحة لمنع ظهور المرض في مصر، فالعدوى تنتقل من البشر إلى البشر، فهل نعدم البشر؟
 عندما وصلت إلى المنزل وفتحت بريدي الإلكتروني، وجدت رسالة تدعوني إلى المشاركة في تحرك عالمي عاجل من أجل وقف المهزلة التي تحدث في مصر تجاه الخنازير، بإرسال رسالة إلكترونية إلى رئيس الوزراء المصري تحتج على ما يحدث، الرسالة من "الجمعية الدولية لحماية الحيوانات" وهي منظمة دولية مقرها في لندن تهتم بحماية الكائنات الحية الأخرى، شركائنا في الكوكب من جنون البشر وعدوانهم الهمجي، أتلقى منها رسائل دورية باعتباري من المهتمين بأحوال الحيوانات، سبق أن تلقيت منهم رسالة سابقة بخصوص أورنجتان يتيم فقد عائلته بسبب تعدي البشر على الغابات في شرق آسيا، وأخرى عن نشاطهم في إنقاذ الحيوانات من ضحايا الحروب، لم أبعث برسالة الاحتجاج إلى رئيس الوزراء فالمذبحة كانت قد تمت.
الدستور 3 يونيو 2009