السبت، 15 أكتوبر 2016

مخربشات

ليه قلت آه ...؟

عماد أبو غازي

 يوم الأربعاء الماضي كان موعد الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور، ولأول مرة أجد نفسي حائرًا ومترددًا في قراري فيما سأفعل، هل أشارك أم أقاطع؟ وإذا شاركت ماذا سأقول لا أم نعم أم سأبطل صوتي؟

 فمنذ استخرجت بطاقتي الانتخابية عام 1973 عندما أكملت عامي الثامن عشر لم أتغيب عن استفتاء أو انتخاب إلا مضطرًا، لغياب جبري مرتين، أو لعجز عن الوصول إلى أبواب اللجنة الانتخابية مثلما حدث في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2000 بسبب المعارك بين أنصار المرشحين والحصار الأمني الذي لم يسمح إلا بدخول من يعرفه مندوبو واحد من المرشحين، لذلك فبطاقتي الانتخابية مسجل عليها مشاركتي في 19 انتخاب واستفتاء منذ مايو 1974، ورغم عدم ثقتي في كثير من الانتخابات التي شاركت بالتصويت فيها، إلا أنه كانت لدي قناعة دائمة أن واجبنا أن نشارك ونقول ما نريد أو نختار من نريد أيًا كانت النتيجة، فالمشاركة أول خطوات التغيير، وهي السبيل لسد الطريق أمام من قد يتلاعبون في أصواتنا، في كل مرة كنت أذهب بقرار واضح مُحددًا لمن سأعطي صوتي في الانتخابات حتى ولو كنت متأكدًا من عدم فوز من أرشحه، وفي كل استفتاء كنت أتجه إلى الصندوق بقرار واضح لأقول لا في مرات ونعم في مرات أخرى وأبطل صوتي في مرات ثالثة.

 أما هذه المرة فالأمر اختلف، لم يعد الموضوع بهذه السهولة والوضوح، فالاستفتاء حول تعديل للدستور طالبت به القوى الديمقراطية في مصر لسنوات طويلة، لكن الصيغة التي أقرها مجلس الشعب للتعديل وضعت ضوابط مبالغ فيه للترشيح لمنصب الرئاسة تصل إلى حد التعجيز، وجاءت هذه الضوابط في صلب مواد الدستور بدلًا من موضعها الطبيعي، أي القانون المنظم لانتخابات منصب رئيس الجمهورية، والهدف بالطبع عدم تمكين المعترضين على هذه الضوابط من الطعن عليها بعدم الدستورية، وتواكب مع هذا تصعيد للمواجهة الأمنية ضد المظاهرات السلمية للمعارضين، وحصار لمحاولاتهم إيصال رأيهم للمواطنين بصورة لا تبشر بأمل في تغيير حقيقي، وجاءت دعوة المعارضة لمقاطعة الاستفتاء والتزام البيوت يوم 25 مايو لتزيد التردد، فكرت بالفعل في المقاطعة وأعجبتني للوهلة الأولى فكرة البقاء في البيت، لكني تساءلت: إذا كنا نعاني من المقاطعة السلبية للمواطنين وإحجامهم عن المشاركة السياسية، فهل واجبنا في مواجهتها دعوة الناس للمشاركة أم دفعهم إلى مزيد من السلبية؟ وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنسبة مشاركة منخفضة فهل هذا نتاج دعوة المعارضة للمقاطعة وقناعة الناس بها أم نتاج السلبية والإحجام عن المشاركة السائدين في مجتمعنا؟ ثم هل شعار التزام البيوت كشكل من أشكال العصيان السياسي شعار صائب من أحزاب المعارضة الرئيسية؟ أتصور أنه شعار خاطئ فلا ينبغي أن ترفع المعارضة شعارًا لا تستطيع تحقيقه فهذا إضعاف لموقفها.
 ساعدتني على حسم موقفي ابنتي، فطول الأسبوع السابق على الاستفتاء كانت مريم (14 سنة ونصف) تسألني يوميًا هل سأذهب للاستفتاء أم لا؟ وإذا ذهبت ماذا سأقول؟ قالت لي إن المقاطعة سلبية، وعندما قلت لها عندك حق، لكن التعديل لا يفي بالغرض منه، وأنا متردد هل أذهب وأقول لا؟ وهل لا هنا ستكون لا للصورة التي تم بها تعديل المادة أم لمبدأ التعديل نفسه؟ قالت لي ممكن تروح ومتقولش نعم أو لا تبطل صوتك، سر اهتمام مريم بالاستفتاء لأنها تدرس بالمدرسة الفرنسية، وتتعلم في مقررات المواد الاجتماعية وفقًا للمناهج الفرنسية حقوق المواطن وواجباته، وفي مقدمتها حقوقه السياسية، بعد مناقشة طويلة مع مريم وبعد طول تفكير حزمت أمري وقررت أن أذهب إلى لجنتي الانتخابية وأدلي بصوتي، إذًا لن أقاطع سأذهب، لكن ماذا أقول في الاستفتاء؟

 يوم الاستفتاء قررت بعد تفكير وذهبت وقلت نعم، رغم عدم موافقتي على صيغة التعديل، لكني أتصور أن التعديل مهما كانت عيوبه وجوانب القصور فيه خطوة مهمة إلى الأمام، وهو خطوة أولى وليس نهاية الطريق، لقد كان تغيير أسلوب اختيار رئيس الجمهورية مطلبًا للقوى الديمقراطية منذ وعينا على العمل السياسي، فإذا تحقق هذا المطلب اليوم منقوصًا سنأخذه ونطالب بالمزيد، وإذا كان اختيار الشعب لرئيس الجمهورية من بين عدد من المرشحين في انتخاب سري مباشر قد احتاج إلى 50 سنة من النضال والعمل الدؤوب قبل أن يتحقق، فإنه من المؤكد أن تعديل شروط الترشيح لن تحتاج إلى خمسين سنة أخرى، فالزمن غير الزمن، وقد دارت عجلة التغيير ولن يوقفها أحد.

* الدستور، أول يونيو 2005.

الخميس، 13 أكتوبر 2016

مخربشات

غصب عني أنا باصطاد في الميه العكره !!

عماد أبو غازي

  بما إني كتبت من أسبوعين عن التاريخ الدموي للإخوان، في سياق التعليق على مشروعهم لإعادة كتابة تاريخ مصر، فقد اعتبرت نفسي ممن وجه لهم الزميل خالد البلشي في مقاله المنشور في دستور 11مايو الاتهام بأنهم "يصطادون في الماء العكر"، ومن الذين تسببوا في "الخوف الذي تملكه"، مع أني كتبت مقالي قبل مظاهرات الأخوان، وبالطبع قبل حملة الاعتقالات التي طالتهم في الأسبوعين الأخيرين، ولم أقصد به ـ لا سمح الله ـ تبرير هذه الحملة أو تأييدها، لكن لما قرأت مقال خالد المعنون "عندما جاءوا لاعتقال الإخوان كان لابد أن نعترض"، أخافني بشدة ليس لأنه قد يعتبرني صيادًا في الماء العكر، وأنا أكره الصيد أساسًا، لكن لأنه نبهني إلى مدى الارتباك الذي تعيشه القوى الديمقراطية في مصر في موقفها تجاه جماعات الإسلام السياسي.
 بداية أخافتني وجهة نظره التي طرحها في قوله إنه "لا وقت الآن إلا للتضامن مع الإخوان، ولا وقت إلا لمساندتهم في محنتهم"، رغم الاختلافات الحادة بينه وبينهم، وإن وقت السؤال عن سبب خروجهم الآن بالذات قد مضى، فهل فعلًا لا وقت الآن إلا للتضامن مع الإخوان؟ عموما ربنا يفك سجن كل مظلوم، وهل سؤال الساعة هو سؤال لماذا تطاردهم الحكومة بعنف؟
 أتصور أن الوقت الآن أكثر من أي وقت، هو وقت السؤال عما ستفعل القوى الديمقراطية في مواجهة خروج الإخوان إلى الساحة بهذا الوضوح الآن، أما عن السبب، فالسبب واضح، مثلما هو واضح تمامًا سبب مطاردة الحكومة لهم.
 ومرة أخرى أخافني مقولته حول حق الإخوان في المنافسة على الحكم والوصول إليه طالما كانت تلك هي إرادة المواطنين، فأنا أتصور أن هذه مثالية حالمة مفرطة يتبناها كثير من الديمقراطيين الحقيقيين، وهي مثالية تفضي إلى الموت ليس موت أصحابها وحدهم بل موت الوطن كله، وهي مثالية لا محل لها في عالم السياسة.
 وأذكرك يا عزيزي، وأنت تذكر بالتأكيد، أن النازية وصلت للحكم من خلال صناديق الانتخاب، لأن أسلاف زميلنا خالد البلشي من أكثر من سبعين سنة قالوا إن من حق الحزب النازي المشاركة في الحياة السياسية ما دام يعلن التزامه بقواعدها، فكانت النتيجة انقلابًا سريعًا على هذه القواعد، ثم كارثة عانت منها ألمانيا لسنوات راح ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الشعب الألماني في معتقلات النازي، وراح ضحيتها ملايين من البشر على مستوى العالم في الحرب التي أشعلها، فهل نكرر التجربة؟
 والمرجعية الدينية في السياسة مرجعية معادية للديمقراطية، لا تقبل الأخر المختلف، فالمختلف مع أصحاب هذه المرجعيات ليس مختلفًا مع البشر وأفكارهم، لكنه من وجهة نظرهم يقف في مواجهة ما أمر به الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله، ومهما ادعى الأخوان المسلمون أنهم ديمقراطيين ويقبلون الاختلاف في وجهات النظر، فلن نصدقهم حتى يكفوا عن أن يكونوا حزبًا دينيًا، إنهم حتى لا يقبلون الاختلاف داخلهم، وواقعة حزب الوسط ليست ببعيدة.
 أنا معك أن التشكيك يطال الجميع كل الأحزاب لها مشاكلها مع التناقض بين الأفكار المعلنة والممارسات، لكن فارق كبير بين رئيس الحزب الليبرالي الذي يكبس على نفس حزبه مدى الحياة، والحزب الذي يدعي المطالبة بالعدالة الاجتماعية وينتهك حقوق العاملين في جريدته، وبين تنظيم ديني يدعي الإيمان بالديمقراطية بينما مرجعيته تأتي من السماء، من الدين كما يفسره هو، وأنا لا أحاسب على النيات لكن على مواقف نواب هذا التنظيم وممارساتهم المعادية لحرية الفكر والإبداع، على سلوكهم في كثير من النقابات التي سيطروا عليها، ولا يتركوا فيها مساحة للمختلفين إلا مضطرين.
 ترى هل نصدق الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في مظاهرة الأربعاء عندما أمر متظاهريه بإنزال المصاحف ورفع شعارات تبدو سياسية؟ أم نصدق جموع أعضاء الجماعة الذين رفعوا المصحف واكتفوا بإخفاء السيف مؤقتا؟
 بل إن حتى هذه الشعارات التي رفعها الدكتور أبو الفتوح مثل "سنطالب بحرية هذا الشعب بمسيحيه ومسلميه" و"نقول نريد الشريعة الإسلامية التي تكفل المساواة والعدالة لإخواننا المسيحيين ولن نبخس حقوقهم"، تحمل بشكل واضح بذور الطائفية البغيضة التي تقسم المواطنين وفقا لهويتهم الدينية.
 ولا أعتقد أننا نملك رفاهية أن نجربهم ونشوف وإحنا وحظنا، فإذا جاءوا بصناديق الانتخاب فسوف يحطمونها في اليوم التالي، وفي مجتمع حرم من الممارسة الديمقراطية لسنوات سيكون من الصعب مقاومة الفاشية الدينية وإزاحتها إذا تمكنت وتحكمت، وأمامنا النموذج الإيراني.
 ولا يمكن أن نصدق المقارنة الواهمة بينهم وبين نظرائهم في تركيا، فالإخوان ليسوا حزب العدالة، ومصر ليست تركيا، فهناك نظام علماني راسخ تحميه المؤسسة العسكرية من ناحية ورغبة تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى ولدينا مجتمع مؤسساته مخترقة بالفكر السلفي.
 عزيزي خالد إذا كنت تفكر بقلق في مستقبل ابنك فعلًا كما قلت، فعليك أن تقف في مواجهة أفكارهم اليوم وغدًا وفي كل وقت، فالتغيير ليس هدفًا وفقط، بل الهدف هو التغيير للأفضل، وهذا الأفضل بالطبع سنختلف حوله، لكن ليس فرضًا علينا أن نؤيد أي تغيير حتى لو جاء من الإخوان.
 أخيرًا لا أعرف لماذا ذكرتني مقالتك هذه بقصة وقعت منذ قرابة ربع قرن عندما كانت المعتقلات عامرة بمعتقلي حملة سبتمبر 1981، ثم أضيف إليهم من الذين قبض عليهم عقب جريمة اغتيال الرئيس أنور السادات، وقتها تعرض المعتقلون من التيارات الإسلامية للتعذيب، وأضرب عن الطعام عدد من السياسيين من مختلف التيارات للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية في المعتقلات، وللمطالبة بوقف التعذيب للإسلاميين، الذين لم يشترك أي منهم في الإضراب، لكنهم استفادوا من نتائجه الإيجابية، وعندما سألهم الذين أضربوا عن الطعام عن موقفهم، قالوا: "ربنا سخركم لنا لتجوعوا ونستفيد نحن"!

 يا ترى أنت تعرف ليه أنا افتكرت هذه القصة؟

* الدستور، مايو 2005.

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

مخربشات

عندما اختار المصريون حاكمهم
 لأول وآخر مرة...

عماد أبو غازي


يوم 13 مايو الحالي تمر الذكرى المئوية الثانية لواحد من أهم الأحداث في تاريخ مصر الحديث، ففي مثل هذا اليوم من عام 1805، نجح المصريون للمرة الأولى في تاريخهم المعروف لنا في اختيار من يحكمهم.
 فقد عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر لحظات تحول شكلت مسار التاريخ المصري الحديث، فمنذ رحلت الحملة الفرنسية عن مصر في سبتمبر من سنة 1801 لم يعد الاستقرار إلى البلاد مرة أخرى، ولم يتمكن العثمانيون من استعادة سطوتهم الكاملة على مصر، لقد أصبحت مصر مسرحًا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها على البلاد والانفراد بحكمها...
 الأتراك العثمانيون الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعي في حكم مصر منذ احتلها سليم الأول سنة 1517، وأمراء المماليك الجراكسة الذين اقتسموا خيرات البلاد مع العثمانيين وأصبحوا معاونين لهم منذ سقطت دولتهم، وإنجلترا التي انتبهت إلى أهمية موقع مصر وخطورته الاستراتجية عندما احتل الفرنسيون البلاد فشاركت في الحرب ضد الفرنسيين.
 وعندما خرجت الحملة الفرنسية من مصر بقى في البلاد جيش إنجليزي يتكون من ألف جندي، وأخذت إنجلترا تماطل شهرًا وراء شهر لتؤجل جلاء قواتها عن مصر، وخلال ذلك كانت توطد علاقتها ببعض أمراء المماليك وجعلت منهم حلفاء لها.
 لكن غاب عن هذه القوى المتصارعة جميعا أن هناك عنصرًا جديدًا ظهر على الساحة مجددًا هو الشعب المصري، بدأت قوته في الظهور من جديد في السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات ثورة يوليو 1795 التي قادها مشايخ الأزهر، ونجحت في إرغام إبراهيم بك ومراد بك، وهما قائدا المماليك على توقيع وثيقة التزاما فيها بعدم فرض ضرائب جديدة على الناس، وخلال سنوات الاحتلال الفرنسي لمصر والتي امتدت من 1798 إلى 1801 انخرط المصريون في النضال من أجل تحرير بلادهم، فثارت القاهرة ثورتين كبيرتين، وحمل المصريون في الدلتا والصعيد السلاح في وجه قوات الحملة الفرنسية، واستمرت مقاومتهم لها إلى أن رحلت.
 وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف بمصر والذي كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين، وكان له دور بارز في حشدهم للتصدي للحملة الفرنسية في العاصمة وضواحيها، ولكنه فضل الهجرة إلى الشام عندما احتلت الحملة القاهرة، هذا وقد شعر المصريون أن أمر بلادهم لابد أن يعود إلى أيديهم، فقد أثبتوا قدرتهم على الدفاع عن بلادهم وحمايتها، وسقطت بذلك الحجة التي استند إليها الغزاة والحكام الأجانب منذ عصر البطالمة، والتي أبعدوا بسببها المصريين عن المشاركة في إدارة أمور بلادهم.
 تجاهل الأتراك والمماليك والإنجليز تلك القوة الجديدة الصاعدة ـ أعني الحركة الشعبية المصرية ـ ولم يضعوها في حساباتهم، لكن رجلًا واحدًا فقط هو الذي أدرك ببصيرة نافذة أن الجواد الرابح في هذا الصراع هو الشعب المصري، كان ذلك الرجل هو محمد علي الضابط الألباني الذي جاء إلى مصر على رأس فرقة من فرق الجيش العثماني التي اشتركت في القتال ضد الفرنسيين، فأخذ يوطد صلته بقادة الحركة الشعبية.
 خلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة الفرنسية من مصر أخذت أحوال البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم المماليك والأتراك وتدخل القوى الأوروبية في شئون البلاد، فارتفعت الأسعار واختفت السلع من الأسواق وزادت الضرائب وغاب الأمن ففاض الكيل بالمصريين، خصوصًا بعد أن اعتمد الباشا العثماني الذي كان يحكم مصر باسم السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم في قمع حركات التمرد والاحتجاج بدلًا من أن يسعى لحل مشاكل الناس.
  وفي يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 بدأت الأحداث تتصاعد عندما اعتدى هؤلاء الدلاة على أهالي مصر القديمة التي كانت معقلًا من معاقل التمرد على الباشا العثماني، وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه شرارة الثورة التي أطاحت بالباشا العثماني، وفرضت إرادة المصريين على السلطان، فخرج سكان القاهرة وضواحيها إلى الشوارع في تحد واضح للجيش العثماني، مطالبين بإخلاء المدينة من الجند الدلاة ومحاسبة قادتهم على ما ارتكبوه من مذابح، وأعطى زعماء الشعب مهلة للباشا العثماني تنتهي يوم السبت 11 مايو لتنفيذ مطالبهم، لكنه لم يصدق أن الإنذار حقيقي واغتر بقوته العسكرية ولم يستجب لهم.
 وفي اليوم التالي لانتهاء المهلة ركب المشايخ  إلى بيت القاضي، واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال، حتى امتلأ المكان بالناس، وتعالت الهتافات "يا رب يا متجلي اهلك العثملي"، وطلب المجتمعون من القاضي أن يستدعي رجال الدولة لتقديم عرضحال لهم بطلبات الشعب لتقديمه للباشا، فأخذوه ووعدوهم بالرد في اليوم التالي.
 وحاول الباشا العثماني المماطلة فأرسل إلى القاضي والعلماء يطلب حضورهم للقلعة للتشاور معهم في أحوال البلاد، وأحس زعماء الشعب بسوء النية، وبدلًا عن الصعود للقلعة يوم الاثنين، اتخذوا خطوة غير مسبوقة في تاريخ مصر، فتوجهوا وحولهم جموع المتظاهرين إلى محمد على، وعرضوا عليه حكم مصر بشروطهم، فتمنع في البداية لكنه قبل في آخر الأمر، فنصبه السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي حاكمًا لمصر ضاربين عرض الحائط بالسلطان العثماني وبنائبه في القلعة وبقوته التي كانت تحتل مصر، وكان ذلك عصر يوم الاثنين 13 مايو 1805، وأعلن الخبر في القاهرة وفي أنحاء البلاد في الليلة نفسها.

 إن ما حدث كان تحولًا مهمًا في التاريخ المصري، تحولًا توج مرحلة من النضال الشعبي امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم، ففي ذلك اليوم نجح المصريون لأول مرة في اختيار الحاكم الذي يتولى شئونهم، وفي وضع الشروط التي يولونه الحكم على أساسها، وقد رأى المصريون في ذلك الحين أن محمد علي هو الشخصية التي تصلح لتولي الأمر، بعد أن ظل طوال أربع سنوات يتقرب منهم ويتودد إليهم، لكن الأمور سارت في مسار آخر، فتخلص محمد علي من قادة الشعب الذين نصبوه حاكمًا بالقتل أو النفي أو شراء الذمة، وأسس نمطًا من الاستبداد جعل من ثورة مايو 1805 المرة الأخيرة التي اختار فيها المصريون حاكمهم.
* جريدة الدستور مايو 2005.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

مخربشات

بورسعيد بدون اللمبي

عماد أبو غازي




 أخيرًا نجح محافظ بورسعيد في وأد احتفال من أبرز الاحتفالات التي ارتبطت بمدينة بورسعيد في شم النسيم مدمرًا بذلك جزءًا من تراث المدينة الذي ارتبط بها لسنوات طويلة ربما تعود لنشأتها في القرن التاسع عشر، لقد مر شم النسيم على بورسعيد هذا العام بدون اللمبي كما بشرتنا الصحف، قد تظن أن اللمبي الذي منعه المحافظ هو محمد سعد أو أحد أفلامه، خاصة مع سابقة منع فيلم أبو العربي في بورسعيد بقرار من المحافظ والمجلس المحلي، لكن اللمبي الذي منعه السيد المحافظ احتفال شعبي جميل ظل أهالي بورسعيد يمارسونه لسنوات وسنوات، ويقوم الاحتفال الذي يبدأ الإعداد له قبل شم النسيم بفترة، على فكرة حرق رمز للشر يختاره الناس كل عام ويسمونه اللمبي، أحيانًا يكون هذا الرمز شخصية حقيقية سياسية أو رياضية أو فنية، أساءت لبورسعيد أو للوطن أو للإنسانية، ففي سنة كان إيدن وفي سنة جولدا مائير وفي سنة ثالثة أحد حكام كرة القدم وهكذا، أحيانًا أخرى يكون اللمبي عادة سيئة مثل الإدمان أو التسول، ويتفنن أهالي بورسعيد في صنع عرائس ضخمة من القماش المحشو بالقش على شكل الشخص المقصود إذا كان شخصية حقيقية، أو يبتكرون عرائس ترمز إلى العادة القبيحة، وتتنافس الأحياء والشوارع والحواري في صنع عرائسها وعرضها في الفترة السابقة على شم النسيم، وإذا جاءت ليلة الأحد الاثنين يتبارى الجميع في إشعال الحرائق في العرائس بعد أن يزفوها في الشوارع بأغاني من التراث الشعبي البورسعيدي، وتستمر الزفة إلى موعد الولعة، ويسعى كل حي إلى أن تكون حريقته هي الأكبر.
  وعادة حرق رمز الشر عادة قديمة عند معظم شعوب العالم، وما عروسة الرقية التي كانت جداتنا ترقينا بها ونحن أطفال عندما نمرض لإبعاد الحسد إلا شكل آخر من أشكال إبعاد الشر، كذلك تنتشر في بعض قرى الدلتا عادة حرق الكراكيب القديمة في شم النسيم، في دلالة إلى التخلص من القديم مع بداية ربيع جديد، وربما أيضا لإبعاد الحشرات.
  وقد حافظ أهالي بورسعيد على تقاليدهم لأجيال طويلة وسنوات ممتدة، حتى في سنوات التهجير، بين هزيمة يونيو 67 ونصر أكتوبر 73 ثم إعادة فتح القناة في 75، لم يتخل البورسعيدية عن طقوسهم الشعبية ونقلوها معهم إلى عديد من مدن الدلتا وقرها التي هجروا إليها، إلى أن أصبح اللمبي علامة مميزة للمدينة، إذا ذكر قفزت إلى أذهاننا على الفور مدينة بور سعيد.
 هذه حكاية اللمبي لمن لايعرفها وأنا شخصيًا كنت أسمع عنها من زملاء الدراسة في الجامعة من أبناء بورسعيد في مطلع السبعينيات، ولم أعرفها حق المعرفة إلا عندما قدمت بثينة كامل حلقة من برنامجها الإذاعي "مصر التي لا نعرفها" عن احتفالات شم النسيم أواخر الثمانينيات، ثم من خلال توثيقها للحدث تلفزيونيًا في فقرة من فقرات صباح الخير يا مصر، فشاهدت بعينيي رأسي نموذجًا من نماذج الثراء والتنوع في الثقافة المصرية.
 أما لماذا سمى البورسعيدية هذه العروسة اللمبي؟ فربما يرجع ذلك إلى أن اللورد اللنبي (بالنون) القائد البريطاني الشهير عين معتمدًا بريطانيا في مصر في أبريل 1919، ليقوم بقمع الثورة الشعبية الكبرى التي اندلعت في 9مارس من نفس العام عقب نفي الزعيم سعد زغلول ورفاقه، وقد وصل اللورد إلى مصر عبر ميناء بورسعيد في فترة الاحتفال بشم النسيم، وأعتقد أن هذا هو السبب في تسمية العروسة الشريرة باسم اللنبي التي قلبها الناس في لغتهم إلى اللمبي (بالميم).
 هذا عن قصة الناس مع اللمبي أما حكاية المحافظين والأمن معه فحكاية أخرى، فمنذ سنوات أصبح هناك صداع سنوي في بورسعيد أسمه اللمبي المحافظة تريد إلغاء الاحتفال والأهالي يصرون على إقامته، وتبدأ المطاردات بين الأمن ومشعلوا الحرائق، مرات بحجة الخطورة المفترضة للحرائق وما يمكن أن تسببه، فبدلًا من تأمين أماكن الاحتفال وتحديدها نلغيه ونريح دمغنا، ومرة بحجة اتقاء شر الجماعات الإرهابية والسلفية التي تحرم هذا الاحتفال وغيره من الاحتفالات مثلما تحرم علينا عيشتنا، فنشتري دمغنا ونلغي الاحتفال، وهي ظاهرة تكررت مرارًا في السنوات الأخيرة في أماكن متعددة واحتفالات مختلفة منذ بدأ نفوذ هذه الجماعات الوهابية في الصعود في السبعينيات، حدث في موالد عديدة بالقاهرة والصعيد ووجه بحري، وفي احتفال المحمل في منفلوط، مثلما حدث في احتفالات فنية وعروض سينمائية في الجامعات المصرية، وهو أسلوب فيه كثير من الاستسهال في التعامل مع التطرف الفكري في أحسن الأحوال، وفي أسوأها فيه مؤشرات على اختراق الفكر المتطرف لمؤسسات الدولة، إن إلغاء الاحتفالات الشعبية ومنها حرق اللمبي في بورسعيد قتل لروح الشعب، وتشجيع للتطرف الديني، فضلًا عن أنه تعدي على التراث الشعبي الذي تحميه القوانين المصرية والاتفاقيات الدولية.
 عبر التاريخ كان أعداء البهجة والفرح المتشددون الدينيون وحلفاؤهم أو مداهنوهم من العسكر، وظهر إلى جانبهم اليوم المتثقفون المتحفلطون الذين يتعالون على الشعب واحتفالاته، لكن روح الشعب المرحة المحبة للبهجة كانت دائمًا تنتصر، وأثق في أنها سوف تنتصر غدًا مثلما انتصرت دائمًا، وأتمنى أن يأتي علينا شم النسيم القادم وقد عادت إلى بورسعيد فرحتها وبهجتها باحتفال حرق اللمبي، الذي يمكن أن نحوله ـ كما يحدث قي كل بلاد الدنيا ـ إلى مناسبة للجذب السياحي ومصدر إضافي لدخل المدينة.

 أتساءل في الختام لماذا لم نسمع عن غيرة البورسعيدية على تراثهم المحلي مثلما فعلوا مع دعابات ونكت تضمنها فيلم أبو العربي؟

* الدستور، مايو 2005.

الأحد، 2 أكتوبر 2016

مخربشات
عندما يكتب الإرهابيون التاريخ
عماد أبو غازي

  نشرت جريدة "المصري اليوم" في عددها الصادر يوم الخميس 14/4/2005 في صفحتها الثالثة تقريرًا صحفيًا تحت عنوان: "الإخوان المسلمين يكتبون تاريخ مصر"، ورغم أن أحمد الخطيب ـ كاتب الموضوع ـ قد افتتحه بعبارة: "في واقعة غير مسبوقة تنذر بجدل واسع..." إشارة إلى مشروع جماعة الأخوان المسلمين بكتابة تاريخ مصر المعاصر، انتظرت هذا الجدل الواسع يومًا بعد يوم وأسبوعًا بعد أسبوع دون جدوى، فلم يثر جدل واسع ولا حتى ضيق حول الموضوع، ولما كنت اعتقد أن قرار جماعة سياسية دينية بكتابة التاريخ أمر يستحق التوقف عنده بالفعل، فقد قررت أن أبدأ الجدل عله يتسع.
  يشير التقرير الصحفي إلى أن الجماعة كشفت عن قيام لجنة تضم عددًا من العلماء من مختلف التخصصات بكتابة تاريخ مصر المعاصر، وإن ذلك جاء بناء على تكليف من مكتب الإرشاد، وإن هذه اللجنة بدأت عملها بالفعل ووصلت فيه إلى سنة 1949.
  ولا أعرف في الحقيقية ما هي "مختلف التخصصات" المطلوبة لكتابة التاريخ المعاصر لمصر، والتي ينتمي إليها هؤلاء العلماء أعضاء اللجنة الذين صدر إليهم تكليف مكتب إرشاد الإخوان المسلمين ليعيدوا كتابة تاريخنا، على هوى الجماعة وهوى مرشدها العام ومكتبه!! فهل تضم اللجنة مثلًا علماء في الطبيعة النووية وأطباء ومهندسين زراعيين وكيميائيين؟
 ما نعرفه أن كتابة التاريخ منذ سنوات طويلة أصبحت علمًا له قواعده المنهجية، والمختصون فيه هم المؤرخون الدارسون للتاريخ دراسة أكاديمية، وقد رفض نائب المرشد العام الدكتور محمد حبيب الإفصاح عن أسماء أعضاء اللجنة حماية لهم من الضغوط حسب قوله، إذًا فنحن أمام لجنة سرية تكتب تاريخ مصر المعاصر من وجهة نظر جماعة عاشت معظم تاريخها سرية، فلا شك أن من يقبلون تكليف مكتب الإرشاد هم أعضاء الجماعة وأتباعها، كذلك لم يفصح الدكتور حبيب عن أسماء الشهود/المصادر الذين لجأت اللجنة إليهم، وإن كان قد أكد أن اللجنة ستبدأ بالاستماع لأعضاء الجماعة ثم بالمحبين والمتعاطفين وتنتهي بالشخصيات الثقة والذين ترجح أمانتهم وإخلاصهم، لمين؟ للجماعة طبعًا، كما قد تلجأ اللجنة للسفر إلى الخارج لجمع المادة من مصادرها، وهذا طبيعي فتلقي الدعم الخارجي للجماعة عبر تاريخها كان اتهامًا أساسيًا موجهًا لها.
 أما عن مبرر تشكيل اللجنة وسعي الجماعة لكتابة تاريخ مصر المعاصر، فمرجعه وفقًا لنائب المرشد العام، الحرص على تقديم تاريخ موثق لمصر دون أي رتوش  "لأننا ـ يعني جماعة الإخوان ـ نرى أن التاريخ في حاجة لمن يكتبه بصدق وأمانة"! لا يا شيخ!
  فهل مثل هذه اللجنة المكلفة من مكتب الإرشاد والتي تذكرنا بلجان كتابة التاريخ في الأحزاب الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق وفي الأحزاب العقائدية، يمكن أن تكتب التاريخ بأمانة، أم أنها سوف تكتب التاريخ من وجهة نظر حزبية ضيقة؟
 لو كانت هذه اللجنة تكتب تاريخ الجماعة المنحلة ربما هان الأمر بعض الشيء، هما أحرار في تاريخهم، ولن يعتبر أحد أن ما يكتبوه هو تاريخهم الحقيقي لكنه تاريخهم المحسن كما يريدوا لنا أن نراه، ولو قالوا أن لجنتهم تكتب وجهة نظرهم في تاريخ مصر المعاصر، لضربنا لهم تعظيم سلام، واعتبرنا أن ما يكتبوه شهادة مجموعة شاركت في الحياة السياسية المصرية أكثر من ثلاثة أرباع القرن، وإنهم يسجلون شهادتهم غير المحايدة، التي يستفيد منها الباحثون ويتعاملون معها كرؤية منحازة، لكن زعمهم بأن ما سوف يكتبونه هو الحقيقة، وأن تاريخنا في حاجة لمن يكتبه بصدق، وأنهم هم الصادقون، فهو ما لن نصدقهم فيه أبدًا، حتى يكتبوا لنا عن مساهمة شركة قناة السويس التي كانت أجنبية في تمويل الجماعة عند نشأتها الأولى على يد مؤسسها حسن البنا، وعن الدور الذي لعبته جماعة الأخوان المسلمين لحساب السرايا ضد حزب الأغلبية الشعبية، الوفد المصري، وعن دورهم في شق الوحدة الوطنية للأمة بأفكارهم التي تعود بمجتمعنا إلى العصور الوسطى، وعن جرائمهم الإرهابية التي ارتكبها جهازهم السري في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ولا يكفي هنا للتكفير عنها إعلانهم إدانة العنف اليوم، بل لابد من الاعتذار للشعب المصري عن التاريخ الإجرامي للجماعة وللتنظيمات الجهادية التي خرجت من عباءتها، لن نصدقهم حتى يكتبوا لنا عن حقيقة دعمهم لتصفية الحياة الديمقراطية عقب قيام حركة الجيش، ثم انقلابهم على الضباط الأحرار بعد فشلهم في احتواء الحركة، وعن تفسيرهم للظاهرة التي أصبحت "تاريخية" تشترك فيه كل التنظيمات الدينية، ظاهرة الشبه الشديد بين الأفاعي وتلك التنظيمات، وهي النشأة في أحضان أعداء الوطن أو أعداء الديمقراطية ثم الانقلاب عليهم بعد ذلك ولدغهم، وكما يقول المثل "اللي يربي الحيه تلدغه".
  لقد سطرت جماعة الأخوان من قبل صفحات من تاريخنا بدماء الأبرياء، فهل ينوي الإخوان الآن أن يلطخوا تاريخنا بأفكارهم.

  إنها فقط محاولة إثارة الجدل حول مشروع الإخوان لكتابة تاريخ مصر...
* جريدة الدستور، أبريل 2005.

الاثنين، 26 سبتمبر 2016

مخربشات

مولد مصري وعروسة صيني

عماد أبو غازي



 نشرت صحيفة الوفد الجمعة الماضية في صفحتها الأولى عنوانًا عريضًا "عروسة المولد ... صيني"، وفي الداخل تحقيقًا صحفيًا صغيرًا حول عرائس المولد الصيني التي بدأت تملأ السوق المصري وتنافس العرائس المصرية، وفي التحقيق إشارات إلى الحال الذي أدى لتراجع العروسة المصرية.
 ومن زمن طويل والمولد في مصر يرتبط بحلاوة المولد بأنواعها المختلفة وأهمها العروسة الحلاوة كشكل من أشكال الاحتفال بهذه المناسبة الدينية العظيمة، لكن في السنوات الأخيرة ومع الوعي بخطورة الألوان الصناعية المضافة إلى الأغذية بدأت حملة ضد العروسة الحلاوة بسبب ألوان "الذواق" المستخدمة في صنعها، وبدلًا من الرقابة على صناعة العروسة الحلاوة وعرضها في الأسواق، ابتعدنا عنها وبدأنا نصنع بدلًا منها عرايس بلاستيك، وكان طبيعي أن تتفوق علينا الصين فيها، وتغزو عرايسهم أسواقنا!
 وقصة عروسة المولد قديمة، ففي مصر تتنوع أشكال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ومستوياته، ما بين الاحتفال الرسمي الذي تقيمه مؤسسات الدولة المختلفة، والاحتفالات الأهلية التي تنظمها الطرق الصوفية، وقد ابتكر الشعب المصري أشكاله الخاصة للاحتفال والتي تعبر عن روحه وحضارته، وتتميز وتختلف عن أشكال الاحتفال في بلدان العالم الإسلامي الأخرى.
 وربما كانت حلوى المولد وعرائسه هي أشهر طقوس الاحتفالات الشعبية بالمولد النبوي الشريف في مصر، والعروسة الحلاوة تقليد مصري صرف، يرتبط عادة بمناسبة سعيدة هي المولد النبوي الشريف، وتكاد تكون هناك درجة عالية من الإجماع بين المؤرخين على أن الاحتفال المنتظم بالمولد النبوي الشريف قد بدأ في مصر، وإن ذلك كان في زمن الفاطميين، وقد وضع الأستاذ حسن السندوبي الذي كان أمينًا لمكتبة وزارة الأوقاف بقبة الغوري في الأربعينيات، كتابًا مهمًا عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي صدرت طبعته الأولى عام 1948، وقد تتبع فيه هذا الكتاب الاحتفال منذ بداياته الأولى في القرن العاشر إلى وقت تأليفه الكتاب، وقد تميزت الدولة الفاطمية في مرحلتها المصرية بإدراك عال لروح الشعب المصري المحبة للبهجة والمرح، فحاول رجال هذه الدولة أن يجعلوا حياة المصريين احتفالات في احتفالات، فكانت الدولة تنظم العديد من الاحتفالات الدينية وفي مقدمتها المولد النبوي الشريف وموالد آل البيت ورأس السنة الهجرية، إلى جانب الاحتفال الرسمي بالأعياد الدينية المسيحية كعيد الميلاد المجيد والغطاس، فضلًا عن رأس السنة المصرية المعروفة بالنيروز، وبعض الاحتفالات المصرية الأخرى وأهمها عيد وفاء النيل، وقد اهتمت المصادر التاريخية بوصف الاحتفالات الرسمية التي كانت تقيمها الدولة الفاطمية في مصر بالتفصيل بما فيها احتفال المولد النبوي الشريف.
 ولما كان الاحتفال بالمولد النبوي قد بدأ في مصر منذ زمن الفاطميين فقد ربط الناس دائما بين العروسة الحلاوة والعصر الفاطمي، وتتردد بين الناس أساطير حول ظهور هذا الطقس الاحتفالي في المولد، حيث يردد البعض أن الحاكم بأمر الله الفاطمي قد فرض على المصريين ضمن تشريعاته الغريبة الشاذة منع احتفالات الزفاف في جميع أيام السنة عدا ليلة المولد النبوي الشريف، ومن هنا كان الناس يعدون كل شئ استعدادًا للاحتفال بأفراحهم في ليلة المولد، فيعقدون قران الراغبين في الزواج، ويعدون جهاز العرائس، ثم في الأيام القليلة السابقة على ليلة المولد يعدون الحلوى، ومن بين أشكال الحلوى عرائس السكر المزينة الملونة ابتهاجًا بحفلات الزفاف، وبعد وفاة الحاكم بأمر الله ذهب معه قراره واستمرت العروسة الحلاوة كطقس من طقوس المولد، والأسطورة لا تخلو من طرافة، إلا أنها بعيدة عن الحقيقة، فعرائس الحلاوة، أو التماثيل المصنوعة من السكر عمومًا، هي من الطقوس الاحتفالية المصرية الأصيلة والتي لم يقتصر استخدامها في العصر الفاطمي على المولد النبوي فقط؛ فالمصادر القديمة تحكي لنا عن صنع تماثيل السكر على أشكال العرائس والطيور والحيوانات في احتفالات وفاء النيل في ذلك العصر، ولازالت العروسة الحلاوة طقسًا احتفاليًا في عديد من المناسبات غير المولد النبوي في بعض مناطق الريف المصري.
 وبالمناسبة فلمن يريد الاستزادة حول عروسة المولد فعليه بكتاب الفنان عبد الغني الشال عن عروسة المولد والذي طبع في الستينيات وأعيد طبعه مؤخرًا في المجلس الأعلى للثقافة.
 وفكرة العروسة ورسومها كشكل احتفالي موجودة من زمن قدماء المصريين، وقد استمرت في العصر البطلمي والروماني ثم القبطي وانتقلت بعد ذلك إلى مصر الإسلامية، مع عديد من العادات والتقاليد التي ما زالت تحيى بيننا منذ آلاف السنيين، ومن الطقوس المرتبطة بعروسة المولد في الأحياء الشعبية في المدن وفي قرى ريف مصر إلى الآن قيام العريس الجديد بإهداء عروسة حلاوة كبيرة إلى عروسه في أول مولد نبوي يمر عليهما بعد الخطبة وتسمى عروسة النفقة، وأتذكر أني في أول مولد نبوي بعد كتب كتابي قدمت لعروسي شمعدان خزف على شكل عروسة مولد ما زلت أحتفظ بها إلى الآن.

 حقيقي ما كانتش عروسة حلاوة لكن ما كانتشي صيني.
*أبريل 2005.

الأحد، 25 سبتمبر 2016

مخربشات
يوميات عودة الإرهاب
عماد أبو غازي 
مساء الخميس... في نهاية أسبوع حافل بالنشاط الثقافي والعلمي بين المجلس الأعلى للثقافة والجمعية التاريخية في احتفالية ثمانينية أندريه ريمون، ودار الوثائق القومية حيث الاحتفال بيوبيلها الذهبي، نشاط شارك فيه باحثون مصريون وعرب وأجانب، استمعت إلى الخبر الكئيب حول حادث التفجير الإرهابي في خان الخليلي، قلت لنفسي عملوها مرة تانية أولاد ال..... الذين يستحلون القتل وسفك الدماء باسم الدين وتحت شعاراته، أو باسم الوطنية وهي بريئة منهم.
 صباح الجمعة كان علي أن أذهب إلى المعهد الفرنسي للآثار الشرقية في المنيرة لأصطحب المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون وزوجته إلى المطار بعد زيارة قصيرة للقاهرة للاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، وأنا في انتظارهما على باب المعهد أتصفح جرائد الصباح، اقترب مني عم محمد الغفير، وهو صعيدي أسمر من الأقصر في العقد السادس من العمر، وعلق على الصور المنشورة في الصفحة الأولى من الجريدة مستهجنا بحسه الإنساني الجريمة ومتخوفًا من آثارها، ومستفهمًا عن الدافع الذي يجعل إنسانًا يرتكب مثل هذا العمل.
صباح السبت .. فكرت في أن سؤال عم محمد، السؤال الذي يستحق البحث عن إجابة له، فبغض النظر عما ستنتهي إليه نتائج التحقيق في الحادث الإجرامي الذي وقع في خان الخليلي يوم الخميس الماضي، وعما إذا كان العمل فرديًا أم من تخطيط مجموعة إرهابية ... صغيرة أو كبيرة؟ وهل فجر الإرهابي نفسه أم انفجرت العبوة فيه بطريق الخطأ، فإن الأمر يستدعي منا وقفة تأمل في المناخ العام الذي يدفع بهذا الإرهابي وبأمثاله إلى ارتكاب جرائمهم.
 المناخ الذي نقرأ ونسمع فيه عشرات من الكتاب والإعلاميين والساسة الذين يشيعون ليل نهار روح الكراهية والعداء ضد كل ما هو أجنبي، ويعيدون ويزيدون في قصص حول مؤامرات الغرب التي تستهدفنا، رغم أن الأمور كلها واضحة الغرب له مصالح يخطط لتحقيقها، ونحن لنا مصالح علينا أن نسعى لتحقيقها، ومن المؤكد أنه ليس من مصلحتنا الانكفاء على أنفسنا ومعادة الغرب عمال على بطال.
 المناخ الذي يروج لأعمال الإرهاب في العراق، التي تتم باسم المقاومة، ويعتبرها أعمالًا بطولية، رغم ما فيها من إجرام، فلم نسمع من قبل عن مقاومة قتلت من شعبها ثلث ما قتله المحتلون، ولم نسمع عن مقاومة تخطف الصحفيين والمهندسين والعمال البسطاء من الأجانب، تقتل بعضهم ذبحًا أو رميًا بالرصاص، وتفرج عن بعضهم مقابل فدية مالية، وتترك المحظوظ منهم ليعود إلى أهله ووطنه بعد ترويعه لأيام أو أسابيع حسب الأحوال والأهواء، ثم نجد من يشيدون بهذه المقاومة ويدافعون عنها، هذه الأفكار التي تمجد الأعمال الإرهابية وتقدم مرتكبيها باعتبارهم أبطالًا هي التي تشجع أشخاصًا مثل مرتكب جريمة خان الخليلي على ارتكاب جرائمهم.
 صباح الأحد... قرأت في "الأهرام" تحقيقًا صغيرًا حول الحادث الإرهابي تحدثت فيه الأستاذة الدكتورة عزة كريم، أستاذة علم الاجتماع بالمركز القومي للبحوث الاحتماعية والجنائية عن الفارق بين الشهيد والمجرم، وقالت: "إن الأول ـ الشهيد يفجر نفسه من أجل قضية مثلما يحدث في فلسطين، والثاني ـ المجرم ـ يفجر نفسه داخل بلده دون أن تكون تحت سيطرة استعمار أجنبي، ودون أن تكون له قضية".
 وتنبهت إلى خطورة هذا المنطق، فالعمليات الانتحارية ـ في تقديري ـ أيا كانت دوافعها جريمة ضد الإنسانية، بالدرجة الأولى ضد إنسانية من ينفذها ويفجر نفسه، لقد دخل هذا النوع من العمليات إلى منطقتنا بقوة منذ الثمانينيات من القرن العشرين، وبدأ يذيع صيته مع عملية سناء محيدلي عضوة الحزب القومي السوري، والتي نفذتها في جنوب لبنان، ثم انتشر هذا الأسلوب بين التنظيمات الإسلامية التي كانت ترى فيه في البداية انتحارًا مجرّمًا من الناحية الدينية، ثم قبلته و"تفوقت" فيه على نفسها وعلى غيرها، وأسلوب العمليات الانتحارية ملائم تمامًا للتنظيمات العقائدية التي تلغي عقل الإنسان وإرادته، والتي يضلل فيها القادة الكبار فتية وفتيات شبانًا وشابات في مقتبل العمر، ويدفعونهم إلى تحويل أنفسهم إلى قنابل بشرية تفجر نفسها وتنفجر في الآخرين لقاء دخول الجنة، وتصل لا إنسانية هذه التنظيمات إلى حد تسجيل شرائط فيديو يودع فيها الانتحاري الدنيا ويبث رسالته ليسير على دربه غيره من رفاقه، وعبر السنوات الماضية لم نسمع أبدًا عن قيادي في أي من هذه التنظيمات ذهب ليفجر نفسه، دائمًا يبقى القادة سالمين ـ إلا من صواريخ العدو ورصاصه ـ لأنهم قادة يفكرون ويخططون وينبغي أن يحافظوا على أنفسهم!! ويدفعوا دائمًا بالشباب الصغار الأقل أهمية قربانًا لخططهم، يا لها من فاشية!!
 إن حركات التحرر الحقيقية يقف القادة فيها في الصفوف الأولى دائما، هكذا كان سعد زغلول ومصطفى النحاس في مصر، وغاندي ونهرو في الهند، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وهوشي منه في فيتنام.
 إن تأييد مثل هذه العمليات لابد أن يدفع بأمثال إرهابي خان الخليلي للقيام بفعلته، ولن يجدي تمييز الدكتورة عزة بين من يفجر نفسه في المستعمر ومن يفجر نفسه في أبناء بلده، فهذا الأخير يتصور أنه صاحب قضية هو الآخر، ومهما كان إدراكنا لزيف قضيته وخوائها فهو لا يدرك ذلك.

 لقد شبّعنا عقول الناس تأييدًا لتلك العمليات الانتحارية، فلماذا لا يقوم هذا أو غيره بعملية انتحارية ليدخل الجنة! إن ما يجب علينا هو أن نميز بين أعمال المقاومة الشعبية الحقيقية سواء كانت سلمية أو مسلحة، التي يمكن أن يضحي فيها الإنسان من أجل وطنه لكنه دائمًا يخرج مقاومًا ولديه أمل ولو واحد في المليون في الحياة، وبين الاغتيالات والأعمال الإرهابية  والعمليات التي يغرر فيها بالشباب ليقتلوا أنفسهم ويبقى الآخرين. 
# أبريل 2005.

السبت، 24 سبتمبر 2016

مخربشات

..... الأمة وثوابتها

عماد أبو غازي



 يوم 27 مارس يصادف ذكرى وفاة نحات مصر الكبير محمود مختار، وفي احتفال صغير سلمت تمثالًا مجهولًا من تماثيل مختار ليودع في متحفه بعد ثمانين عامًا على نحته له، وهو تمثال كاريكاتوري يسخر فيه الفنان من زعيم الأمة سعد زغلول، والتمثال يُعرض للمرة الأولى، وإن كنت قد عرضت صورا له في ندوة أقيمت بالمتحف أثناء الاحتفال بالمئوية الأولى لميلاد مختار عام 1991، ونشرت بعض هذه الصور في مقال بمجلة الهلال وآخر بجريدة الدستور.
 في أعقاب إزاحة الستار عن التمثال الصغير بدأت تعليقات الحضور، أكثر ما لفت انتباهي فيها تعليق الأستاذ محمود مرسي مدرس التربية الفنية، الذي اعترض على عرض التمثال بالمتحف، وقال: إنه لا يستطيع أن يأتي مع تلاميذه إلى المتحف ويريهم هذا التمثال، لما يراه فيه من إساءة لمختار ولسعد، لأنه عمل ضد التقاليد والقيم والأخلاق القويمة!!
 تذكرت على الفور الضجة التي أثيرت منذ أسابيع بسبب فيديو كليب للمنلوجست سعد الصغير، و لم أكن قد رأيته حتى ذلك الحين، ووصلت الأمور إلى حد اتهامه بالإساءة لتاريخنا الوطني، والسخرية من رموزنا القومية والتطاول على ثوابت الأمة، وكل ذلك لأن فكرة الكليب تعتمد على الخلط بين شخصية الزعيم سعد زغلول والمنلوجست سعد الصغير اعتمادًا على اشتراكهما في الاسم الأول سعد، وحاولت مشاهدة الكليب على أي من القنوات التليفزيونية لأعرف مقدار الجرم الذي ارتكبه الصغير، ولكني لم أصادفه أبدا، إلى أن شاهدته ذات مرة على شاشة عرض بمحطة من محطات مترو الأنفاق، ولم أجد فيه ما يستدعي حملة التجريم التي شنها بعض الكتاب على تلك الأغنية الخفيفة، قد يعجب بها البعض منا وقد لا يستسيغها ولا يتذوقها البعض الأخر، لكن الأمر لا يمكن أن يصل إلى هذا الحد من الضيق بالفكاهة والنكتة.
  وفي لحظات تداعت على ذهني خواطر متوالية حول هالات التقديس التي أصبحنا نضفيها على شخصيات لعبت دورًا في تاريخنا السياسي أو الثقافي أو الفني، أو على أحداث أو حتى أماكن، فأصبح الاقتراب من هذه المناطق أحد المحرمات في حياتنا.
 منذ أسابيع قليلة عندما أثارت الدكتورة رتيبة الحفني موضوع زواج مصطفى أمين من أم كلثوم، تعرضت للهجوم كأنها اتهمتهما ـ لا سمح الله ـ بارتكاب عمل مشين وليس زواجًا على سنة الله ورسوله، وبغض النظر عن صحة الواقعة أو عدم صحتها، فالأمر لا يستدعي تلك الحالة الهيستيرية من الهجوم على الدكتورة، وقبلها قامت الدنيا ولم تقعد لأن الممثل محمد سعد غنى أغنية من أغنيات أم كلثوم بأداء كوميدي، وهاجمه الكتاب في الصحف وضيوف البرامج التلفزيونية باعتباره يدمر تراثنا الفني ويسيء إليه، لماذا هذه الضجة؟ قبل محمد سعد بأربعين سنة قدم كوميديانات كبار مثل إسماعيل يس وفؤاد المهندس مشاهد في أفلامهم ومسرحياتهم استخدموا فيها مقاطع من أغاني لأم كلثوم ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ قاموا بأدائها بصورة ساخرة، لم نسمع أن أم كلثوم اعترضت، ولم يؤد ذلك إلى تدمير تراثها الغنائي الذي عاش وسيعيش دون هذا الدفاع المتشنج عنه والذي يحوله إلى مقدس ديني يعلو فوق النقد وفوق أي تعامل إنساني معه، تذكرت عشرات من الحالات المماثلة في السنوات الأخيرة كلها تعكس حالة ضيق الصدر بالسخرية وبالنقد اللاذع التي أصبح يعيشها مجتمعنا، والتي هي نتاج لضيق أفق شديد، اتسعت بسببه "ثوابت الأمة" وامتدت من ثوابت الدين إلى السياسة لتصل اليوم الغناء.
 قطعت شريط أفكاري فقد كان علي أن أرد على الأستاذ محمود مرسي، وقلت له: إن سعد زغلول الذي سخر منه مختار هذه السخرية في تمثاله، وأكثر منها في رسومه الكاريكاتورية التي أطلق عليها اسم "الزغلوليات"، لم يتهم مختار بالخيانة، ولم يصدر أمرًا باعتقاله وهو على رأس السلطة، ولم يقاضيه أو يتهمه بالسب والقذف، بل بمجرد أن التقيا مصادفة تصافحا، وزار سعد مختار في موقع العمل بتمثال نهضة مصر قبل إزاحة الستار عنه، وهكذا يكون سلوك الكبار وسلوك الزعماء، فمادام سعد قد تصدى للعمل العام فعليه أن يقبل النقد والسخرية من شخصه العام، مهما كانت هذه السخرية لاذعة وقاسية.
  إن سعد وأم كلثوم وغيرهما من صناع تاريخنا وحضارتنا ومن رموز ثقافتنا قدموا إسهامات مهمة لهذا البلد، ولكنهم بشر يجوز لنا أن ننتقدهم في حياتهم وبعد موتهم، كما يحق لنا وللأجيال من بعدنا أن نعيد استخدام بعض من تراثهم في شكل ساخر، فالشعوب القادرة على السخرية من نفسها ومن موروثها هي الشعوب القابلة للحياة السليمة وللتطور، وليس من حق كائن من كان أن ينصب نفسه حارسا للقيم أو قيما على الناس باسم الدفاع عن ثوابت الأمة وحمايتها، فالناس قادرون على تمييز الغث من الثمين، والثوابت ـ لو كانت ثوابت بالفعل ـ لن تهتز من مونولوج أو فيلم سينمائي أو مقال أو كتاب.
 يا ناس شوية تسامح، وشوية قبول للآخر المختلف، وشوية تقبل للنقد والسخرية، فنحن أبناء حضارة اخترعت السخرية منذ آلاف السنيين، وظلت تمارسها عبر تاريخها، ولم تؤد هذه السخرية مهما كانت لاذعة إلى تقويض حضارتنا أو تدمير قيمنا أو تشويه ثقافتنا بل على العكس زادتها قوة.

  وأقول لأخوانا بتوع "الثوابت" أن السخرية اللاذعة هي ثابت الثوابت في تاريخ مصر!!!
الدستور... مارس 2005...

الجمعة، 23 سبتمبر 2016

مخربشات

علماني ... لا يشرب الكوكاكولا !!!

عماد أبو غازي


   نظم مركز البحوث والدراسات التاريخية في كلية الآداب بجامعة القاهرة ندوة عن فكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، والرجل مفكر مصري أسهم بدور مهم في الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في مصر منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وهو إنسان متعدد المواهب والاهتمامات، فرغم أنه أستاذ جامعي متخصص في الأدب الإنجليزي، وكاتب لأدب الأطفال حاصل على جوائز عن إبداعه فيه، إلا أن إسهامه الأكبر جاء في مجال دراسة الصهيونية واليهودية وإسرائيل، ومنذ سنوات أصبح ينتمي فكريا إلى اتجاه إسلامي مستنير، وفي هذا السياق قدم دراسة معمقة عن العلمانية، صدر منها مجلدان بعنوان "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وهما يشكلان حسب مقدمة الدكتور المسيري القسم الأوسط من ثلاثية تضم دراسة أوسع عن العلمانية، قسمها الأول يتناول الحلولية ووحدة الوجود باعتبارها مقدمات العلمانية، وقسمها الثالث يتناول ما بعد الحداثة باعتبارها ثمرة العلمانية الشاملة ـ وفقا لنظرية المسيري ـ وتقوم الدراسة على نقد ونقض مفهوم العلمانية، وتسعى إلى مناقشة التعريف الشائع للعلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، الذي يرى فيه الدكتور المسيري معنى العلمانية الجزئية، وتقديم تعريف جديد للعلمانية الشاملة،  التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص.
  وينقسم كتاب "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، إلى مجلدين في كل منهما بابين، الباب الأول في المجلد الأول: "العلمانية الشاملة ـ محاولة للتعريف" والباب الثاني: "بعض تبديات النموذج العلماني"، أما الباب الأول في المجلد الثاني فبعنوان: "عمليات العلمنة الشاملة"، والباب الثاني بعنوان: "العلمانية الشاملة واليهود واليهودية والصهيونية".
 ويؤكد الدكتور المسيري أن دراساته تتسم بروح استكشافية، ولا تنتهي إلى يقين... وبالمناسبة فإنه يعود بذلك علمانيًا.
 ويربط المسيري بين العلمانية وكل شرور المجتمع الرأسمالي، بل يحملها وزر هذه الشرور، ويعتبر أن فصل الدين عن الدولة أدى إلى ما آلت إليه المجتمعات الرأسمالية الآن من فقدان الإنسان لإنسانيته وتحوله إلى سلعة، كما تسبب في انهيار القيم والأخلاق وعدم الاكتراث بأي مبدأ أخلاقي، وسيادة الابتذال في كل مناحي الحياة، وهذه ما يسميها بالعلمانية الشاملة، فهل هذا حق؟
  إن في هذا تحميل للعلمانية بأوزار ليست مسئولة عنها، إن العلمانية بمعناها "الجزئي" ـ أي فصل الدين عن الدولة ـ كما يوّصفها الدكتور عبد الوهاب المسيري، كانت وما تزال احتياجًا سياسيًا واجتماعيًا، ارتبط بتطور المجتمع الإنساني وظهور الدولة القومية في بداية العصر الحديث، تلك الدولة التي تقوم على أساس رابطة المواطنة وعلى قاعدة المساواة بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الدين والعقيدة أو اللون أو الجنس، والعلمانية بهذا المعنى تحاول تجاوز الصراعات الدينية داخل المجتمع، والابتعاد عن نموذج الدولة القائمة على أساس التمييز بين البشر تبعًا للعقيدة الدينية، وهو النمط من الدول الذي ساد في العصور القديمة والوسطى.
  وقد ترتب على الصراع الديني أو الصراع الذي يتخذ الدين ستارًا له، مآسي ومذابح راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر عبر التاريخ باسم الدين وتحت شعاراته، ونذكر هنا ـ على سبيل المثال فقط ـ عشرات الآلاف الذين راحوا ضحايا أثناء الحروب الصليبية بين أوروبا الكاثوليكية والشرق المسلم والأرثوذكسي، وأولئك الذين سقطوا قتلى منذ العصور الوسطى وإلى يومنا هذا، في الصراعات بين البروتستانت والكاثوليك في الغرب، وبين السنة والشيعة في المشرق العربي والعالم الإسلامي، وبين الهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية.
  وهذا لا يعني بالطبع أن الرأسمالية وصراعاتها ـ بعد علمنة كثير من دولها ـ لم تؤد هي الأخرى إلى حروب ومجازر راح ضحيتها الملايين تفوق من سقطوا في حروب العصور الوسطى عددًا، مثلما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها حروب المصالح الرأسمالية، وليست حروب العلمانية أو بسبب العلمانية، ومواجهة حروب المصالح والتصدي لها أيسر من مواجهة حروب العقائد، ولا ترجع ضخامة أعداد الضحايا في الحربين العالميتين قياسًا إلى أعدادهم في حروب العصور الوسطى إلى رأفة قلوب المقاتلين الذين خرجوا للحرب تحت شعار الدين، لكن للتقدم التقني الهائل في صناعة أسلحة الدمار الجزئي والشامل خلال القرنين الماضيين، وهي أسلحة لا تتورع القوى التي تحارب باسم الدين عن استخدامها إلا لأنها لا تملكها، وهي تسعى سعيا حسيسًا لامتلاكها، لتمارس طقوسها "المقدسة" في إبادة المختلفين، وأعتقد أن المجتمعات الحديثة التي تقوم على الديمقراطية والعلمانية تمتلك من أدوات الردع الأخلاقية لدعاة الحروب فيها أكثر مما تمتلك المجتمعات التي تقوم على أساس الدين، والتي تعتبر إبادة الآخر المختلف دينيًا جهادًا مقدسًا، فالمجتمعات العلمانية هي التي أفرزت وما زالت تفرز حركات مناهضة الحرب، مناهضة العنصرية، وجماعات الدفاع عن حقوق الإنسان، ومجموعات حماية البيئة، كما أن مقاومة الاتجاهات اللا إنسانية في الرأسمالية في مرحلة العولمة "المتوحشة" بدأت أيضا من المجتمعات الرأسمالية العلمانية، وفي المجتمعات العلمانية نظام قيمي لا يرتبط بالضرورة بالدين، لكن هناك نظام للقيم، فالأخلاق مرتبطة بالفكر الإنساني بنفس قدر ارتباطها بالدين، كما أن الدين بما قدمه من نموذج أخلاقي لم يمنع البشر من خوض حروب الإبادة، بل اتخذه بعض أصحاب المصالح مبررًا وغطاء لعمليات إبادة واسعة عبر العصور.
  وفي كل الأحوال فإن العلمانية لا تحارب الدين ولا تعاديه ولا تجعل من الاصطدام به هما لها، لكنها فقط تسعى لبناء الدولة على أساس يفصل بين الشأن العام الذي ينبغي أن يكون مدنيًا يجمع المواطنين ولا يفرقهم، والمعتقد الخاص الذي يشمل الدين والعقيدة، وهو يرتبط بالحرية الشخصية للأفراد والجماعات، فكل يمارس طقوسه كما يشاء ما دام لا يتعدى على حقوق الآخرين.
 ويجب أن لا ننسى أن الغرب الاستعماري الإمبريالي صنع أهم الدول التي تقوم على أساس الدين في عالمنا المعاصر: السعودية ـ  باكستان ـ إسرائيل، كما صنع ودعم أهم حركات التطرف الديني في العالم الثالث، والتي انقلبت عليه فيما بعد، كل ذلك لدعم مصالحه، وفي المقابل كانت العلمانية دومًا سلاحنا في مواجهة الاستعمار الذي كان يسعى إلى التفرقة بيننا على أساس الدين.

 تبقى نقطة أخيرة تؤكد إصرار الدكتور المسيري على الربط بين العلمانية وقيم الاستغلال الرأسمالي وتنميط الأفراد داخل المجتمع، لقد اعتبر أن هناك مجموعة من الرموز للعلمانية الشاملة تتمثل في: التي شيرت الذي يحمل دعاية للسلع الرأسمالية واختار نموذج تي شيرت اشرب كوكاكولا، والوجبات السريعة واختار الهامبورجر، والسكن في المنازل سابقة التجهيز، وأفلام كارتون توم وجيري، وأفلام الويسترن الأمريكية، ورغم إنني علماني "أب عن جد"، فأنا وبكل فخر أمثل الجيل الثالث من العلمانيين في عائلتي، إلا إنني لم أجد في ملابسي تي شيرت واحد يحمل شعار شركة كوكاكولا، ولم أرتد مثله في حياتي، ربما ارتديت تي شيرتات تحمل رسائل عكسية، مثل شعارات التضامن مع القضية الفلسطينية أو قضايا السلام وحقوق الإنسان، كما أنني لا أشرب الكوكاكولا أصلا منذ عادت إلى مصر بعد إنهاء المقاطعة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كما لا أكل الهامبورجر، فأنا نباتي، بينما كثيرون من المتدينين المعادين للعلمانية يأكلون الهامبورجر ويشربون الكوكاكولا، ولا ولم أسكن في مبنى سابق التجهيز، وأكره كارتون توم وجيري لأني ابن حضارة زراعية تحب القطط وتكره الفئران، وأخيرا فقدت أي رغبة في مشاهدة أفلام الويسترن من أكثر من خمس وثلاثين سنة ولم أعد أستمتع بها.

الخميس، 22 سبتمبر 2016

مخربشات
عاشق القاهرة
عماد أبو غازي



 فرنسي في الثمانين هذا العام (2005)، ولد في 2 أغسطس 1925، أمضى أكثر من نصف قرن من عمره دارسًا لتاريخ الشرق، ووجه جزءًا كبيرًا من حياته العلمية إلى البحث في تاريخ القاهرة، حتى أصبحت عشقًا دائمًا له، إنه المؤرخ الفرنسي الكبير أندريه ريمون الذي يزور القاهرة في هذه الأيام لحضور احتفالات مصر بعامه الثمانين، من خلال ندوة علمية كبيرة، تنظمها الجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة، وتدور حول المجتمع المصري في العصرين المملوكي والعثماني، الموضوع الأثير لدى أندريه ريمون، تستمر الندوة من 2 إلى 4أبريل، ويشارك فيه مجموعة من الباحثين والباحثات من مصر وبعض البلدان العربية، يدرسون فيها أعمال هذا الشيخ الجليل الذي قدم لدراسات التاريخ العثماني الكثير، وأسهم في إلقاء الضوء على المجتمع المصري في ذلك العصر، الذي ظل عصرًا مجهولًا لدارسي التاريخ لعقود طويلة حتى جاءت دراسات ريمون لتعرفنا بهذا العصر، وتفتح الباب أمام أجيال من الباحثين للغوص في أعماق تاريخ مصر العثماني منقبين في المخطوطات والوثائق خلف خطى هذا الرائد العظيم، وبالنسبة لأبناء جيلي من دارسي التاريخ الذين التحقوا طلابًا بالجامعة في مطلع السبعينيات كان لاسم أندريه ريمون وقع السحر، وقد عرفه جيلي من خلال ترجمة الأديب والكاتب والمترجم الراحل زهير الشايب لبعض أبحاثه ودراساته في كتاب صدر عن مؤسسة روزاليوسف في عام 1974، وقد صدر بعنوان "فصول من تاريخ القاهرة في العصر العثماني"، وأظن ـ إن لم تكن قد خانتني الذاكرة ـ أن زهير الشايب كان قد نشر بعضًا من هذه الفصول قبل صدورها في الكتاب على حلقات متوالية في مجلة الثقافة التي كان يصدرها يوسف السباعي، والشايب هو صاحب أول وأهم ترجمة عربية لكتاب "صف مصر" الذي وضعه علماء الحملة الفرنسية، كما ترجم أعمالًا عدة في التاريخ عن الفرنسية.
 ومن الجدير بالذكر أن الأبحاث التي ترجمها الشايب وضمنها كتابه صدرت بعد عامين فقط من حصول ريمون على درجة دكتوراه الدولة من جامعة السوربون "باريس 1" عام 1972، وهو بالمناسبة العام الذي التحقت فيه بكلية الآداب جامعة القاهرة، أما الرسالة التي قدمها ريمون للحصول على دكتوراه الدولة ودشنته زعيمًا للمتخصصين في تاريخ مصر في العصر العثماني ورائدًا لهم فكان موضوعها "الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر"، وقد ترجم اثنان من الباحثين الشبان ـ هما الدكتور ناصر إبراهيم وباتسي جمال الدين ـ هذا العمل المهم إلى العربية ليصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في سلسلة المشروع القومي للترجمة، بمقدمة للمؤرخ المصري الدكتور رؤوف عباس، ولا شك في أن نقل هذا العمل العمدة إلى العربية بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إنجازه، سيسهم في مزيد من التعرف على فكر ريمون.
 هذا ولم تكن دراسة ريمون عن الحرفيين والتجار في القاهرة هي بداية علاقته بتاريخ المنطقة العربية كما لم تكن كذلك رسالته الأولى للدكتوراه، فقد حصل ريمون على درجة دكتوراه الفلسفة من جامعة أكسفورد عام 1954 برسالة موضوعها "السياسة البريطانية تجاه تونس 1830 ـ 1881"، بعد تخرجه من جامعة السوربون بعشر سنوات، وقد أمضى أندريه ريمون النصف الثاني من الخمسينيات دارسًا ومدرسًا بين دمشق والقاهرة وتونس، ثم عاد مرة أخرى إلى دمشق في منتصف الستينيات ليمضي عشر سنوات بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية هناك، وطوال خمسين عامًا قدم ريمون دراسات عديدة أهمها: "أسواق القاهرة" بالاشتراك مع العالم الفرنسي الكبير جاستون فييت الذي يعد أستاذًا له، و"المدن العربية الكبرى في العصر العثماني"، و"القاهرة"، و"ابن أبي ضياف: حوليات ملوك تونس"، و"قاهرة الإنكشارية"، و"مصريون وفرنسيون في القاهرة (1798 ـ 1801)، و"حلب في العصر العثماني"، فضلًا عن ما يربو على مئة بحث ومقال نشرت في الدوريات الفرنسية والإنجليزية ترجم العديد منها إلى العربية ونشر بمجلات مختلفة بالقاهرة ودمشق وبيروت.
 ولم تقتصر جهود ريمون في خدمة الدراسات العربية على مؤلفاته المتعددة في التاريخ، بل أسهم في تعريف الغرب بالثقافة العربية من خلال تأسيسه لمعهد بحوث ودراسات العالم العربي والإسلامي في جامعة إكس أن بروفانس الفرنسية، ومن خلال إسهامته في نشاط معهد العالم العربي بباريس الذي كان نائبًا لرئيسه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.

 أما آخر أعماله فكان نشر وتحقيق "ديوان القاهرة 1800 ـ 1801"، الذي صدر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة عام 2003، ومثلما شاركه أستاذه جاستون فييت في عمل علمي من أوائل أعماله، شارك هو تلميذه محمد عفيفي في تحقيق وقائع ديوان القاهرة، والدكتور محمد عفيفي أستاذ للتاريخ الحديث بجامعة القاهرة وأحد أبرز المتخصصين المصريين في العصر العثماني، ووقائع ديوان القاهرة هذه جمعها الشيخ إسماعيل الخشاب أحد معاصري الجبرتي وصديقه المقرب إليه، وكان الخشاب يعمل بالديوان الذي أسسه بونابرت عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر، وضم هذا العمل محاضر جلسات الديوان ووقائعه، وهي نصوص ممتعة وطريفة تكشف عن جوانب من الحياة اليومية للمصريين والفرنسيين في زمن الحملة الفرنسية على مصر، وربما تكون لنا عودة إلى الديوان ووقائعه في مقال آخر.