الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

مخربشات

بورسعيد بدون اللمبي

عماد أبو غازي




 أخيرًا نجح محافظ بورسعيد في وأد احتفال من أبرز الاحتفالات التي ارتبطت بمدينة بورسعيد في شم النسيم مدمرًا بذلك جزءًا من تراث المدينة الذي ارتبط بها لسنوات طويلة ربما تعود لنشأتها في القرن التاسع عشر، لقد مر شم النسيم على بورسعيد هذا العام بدون اللمبي كما بشرتنا الصحف، قد تظن أن اللمبي الذي منعه المحافظ هو محمد سعد أو أحد أفلامه، خاصة مع سابقة منع فيلم أبو العربي في بورسعيد بقرار من المحافظ والمجلس المحلي، لكن اللمبي الذي منعه السيد المحافظ احتفال شعبي جميل ظل أهالي بورسعيد يمارسونه لسنوات وسنوات، ويقوم الاحتفال الذي يبدأ الإعداد له قبل شم النسيم بفترة، على فكرة حرق رمز للشر يختاره الناس كل عام ويسمونه اللمبي، أحيانًا يكون هذا الرمز شخصية حقيقية سياسية أو رياضية أو فنية، أساءت لبورسعيد أو للوطن أو للإنسانية، ففي سنة كان إيدن وفي سنة جولدا مائير وفي سنة ثالثة أحد حكام كرة القدم وهكذا، أحيانًا أخرى يكون اللمبي عادة سيئة مثل الإدمان أو التسول، ويتفنن أهالي بورسعيد في صنع عرائس ضخمة من القماش المحشو بالقش على شكل الشخص المقصود إذا كان شخصية حقيقية، أو يبتكرون عرائس ترمز إلى العادة القبيحة، وتتنافس الأحياء والشوارع والحواري في صنع عرائسها وعرضها في الفترة السابقة على شم النسيم، وإذا جاءت ليلة الأحد الاثنين يتبارى الجميع في إشعال الحرائق في العرائس بعد أن يزفوها في الشوارع بأغاني من التراث الشعبي البورسعيدي، وتستمر الزفة إلى موعد الولعة، ويسعى كل حي إلى أن تكون حريقته هي الأكبر.
  وعادة حرق رمز الشر عادة قديمة عند معظم شعوب العالم، وما عروسة الرقية التي كانت جداتنا ترقينا بها ونحن أطفال عندما نمرض لإبعاد الحسد إلا شكل آخر من أشكال إبعاد الشر، كذلك تنتشر في بعض قرى الدلتا عادة حرق الكراكيب القديمة في شم النسيم، في دلالة إلى التخلص من القديم مع بداية ربيع جديد، وربما أيضا لإبعاد الحشرات.
  وقد حافظ أهالي بورسعيد على تقاليدهم لأجيال طويلة وسنوات ممتدة، حتى في سنوات التهجير، بين هزيمة يونيو 67 ونصر أكتوبر 73 ثم إعادة فتح القناة في 75، لم يتخل البورسعيدية عن طقوسهم الشعبية ونقلوها معهم إلى عديد من مدن الدلتا وقرها التي هجروا إليها، إلى أن أصبح اللمبي علامة مميزة للمدينة، إذا ذكر قفزت إلى أذهاننا على الفور مدينة بور سعيد.
 هذه حكاية اللمبي لمن لايعرفها وأنا شخصيًا كنت أسمع عنها من زملاء الدراسة في الجامعة من أبناء بورسعيد في مطلع السبعينيات، ولم أعرفها حق المعرفة إلا عندما قدمت بثينة كامل حلقة من برنامجها الإذاعي "مصر التي لا نعرفها" عن احتفالات شم النسيم أواخر الثمانينيات، ثم من خلال توثيقها للحدث تلفزيونيًا في فقرة من فقرات صباح الخير يا مصر، فشاهدت بعينيي رأسي نموذجًا من نماذج الثراء والتنوع في الثقافة المصرية.
 أما لماذا سمى البورسعيدية هذه العروسة اللمبي؟ فربما يرجع ذلك إلى أن اللورد اللنبي (بالنون) القائد البريطاني الشهير عين معتمدًا بريطانيا في مصر في أبريل 1919، ليقوم بقمع الثورة الشعبية الكبرى التي اندلعت في 9مارس من نفس العام عقب نفي الزعيم سعد زغلول ورفاقه، وقد وصل اللورد إلى مصر عبر ميناء بورسعيد في فترة الاحتفال بشم النسيم، وأعتقد أن هذا هو السبب في تسمية العروسة الشريرة باسم اللنبي التي قلبها الناس في لغتهم إلى اللمبي (بالميم).
 هذا عن قصة الناس مع اللمبي أما حكاية المحافظين والأمن معه فحكاية أخرى، فمنذ سنوات أصبح هناك صداع سنوي في بورسعيد أسمه اللمبي المحافظة تريد إلغاء الاحتفال والأهالي يصرون على إقامته، وتبدأ المطاردات بين الأمن ومشعلوا الحرائق، مرات بحجة الخطورة المفترضة للحرائق وما يمكن أن تسببه، فبدلًا من تأمين أماكن الاحتفال وتحديدها نلغيه ونريح دمغنا، ومرة بحجة اتقاء شر الجماعات الإرهابية والسلفية التي تحرم هذا الاحتفال وغيره من الاحتفالات مثلما تحرم علينا عيشتنا، فنشتري دمغنا ونلغي الاحتفال، وهي ظاهرة تكررت مرارًا في السنوات الأخيرة في أماكن متعددة واحتفالات مختلفة منذ بدأ نفوذ هذه الجماعات الوهابية في الصعود في السبعينيات، حدث في موالد عديدة بالقاهرة والصعيد ووجه بحري، وفي احتفال المحمل في منفلوط، مثلما حدث في احتفالات فنية وعروض سينمائية في الجامعات المصرية، وهو أسلوب فيه كثير من الاستسهال في التعامل مع التطرف الفكري في أحسن الأحوال، وفي أسوأها فيه مؤشرات على اختراق الفكر المتطرف لمؤسسات الدولة، إن إلغاء الاحتفالات الشعبية ومنها حرق اللمبي في بورسعيد قتل لروح الشعب، وتشجيع للتطرف الديني، فضلًا عن أنه تعدي على التراث الشعبي الذي تحميه القوانين المصرية والاتفاقيات الدولية.
 عبر التاريخ كان أعداء البهجة والفرح المتشددون الدينيون وحلفاؤهم أو مداهنوهم من العسكر، وظهر إلى جانبهم اليوم المتثقفون المتحفلطون الذين يتعالون على الشعب واحتفالاته، لكن روح الشعب المرحة المحبة للبهجة كانت دائمًا تنتصر، وأثق في أنها سوف تنتصر غدًا مثلما انتصرت دائمًا، وأتمنى أن يأتي علينا شم النسيم القادم وقد عادت إلى بورسعيد فرحتها وبهجتها باحتفال حرق اللمبي، الذي يمكن أن نحوله ـ كما يحدث قي كل بلاد الدنيا ـ إلى مناسبة للجذب السياحي ومصدر إضافي لدخل المدينة.

 أتساءل في الختام لماذا لم نسمع عن غيرة البورسعيدية على تراثهم المحلي مثلما فعلوا مع دعابات ونكت تضمنها فيلم أبو العربي؟

* الدستور، مايو 2005.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق