السبت، 25 فبراير 2017

مخربشات
الإرهاب مرة أخرى
عماد أبو غازي
 مرة أخرى تعود الأعمال الإرهابية المتسترة بشعارات إسلامية لتضرب في شهر واحد، في لندن مرتين وفي شرم الشيخ مرة، فضلا عن المسلسل اليومي للإرهاب الإسلامي/البعثي في العراق، والأعمال الإرهابية الإجرامية مجهولة المصدر في لبنان، وتدعونا هذه الأحداث المتوالية التي تندرج تحت الجرائم المعادية للإنسانية إلى وقفه مع النفس، لنفكر كيف نقف ضد الإرهاب بكل أشكاله ونواجهه مهما كانت مسمياته ومبرراته، وفي تقديري إننا نتحمل جميعا قدرا من المسئولية فيما يحدث، فالمواجهة الأمنية للإرهاب ضرورية لكنها غير كافية وحدها، فقد تنجح في منع جريمة إرهابية هنا أو تكشف مرتكبي جريمة أخرى هناك، لكنها لن تقضي على الظاهرة، قد تحجم منها بعض الشيء لكنها لن تجفف منابع الفكر الإرهابي، فالأمر لا يقتصر على  من يحملون الرشاش والقنبلة أو على من يحولون أنفسهم إلى قنابل بشرية تنفجر في الأبرياء لتقتلهم أو على من يضعون قنبلة موقوتة في عربة قطار، فهذه كلها أعراض للظاهرة الإرهابية، أما جذور المشكلة فتكمن في نظام القيم السائد لدينا، نظام القيم الذي يعلي من الإرهاب ويقدم الإرهابي باعتباره بطلًا، والأمر هنا لا يقتصر على تيار الإسلام السياسي وحده بل يمتد لمعظم التيارات الفكرية والسياسية على الساحة العربية الآن وفي الماضي الممتد لسنوات طويلة إلى الوراء مع بدايات النهوض الوطني في أوائل القرن العشرين، فالكل شركاء بين ممارس للإرهاب بشكل أو بآخر، ومؤيد له مباشرة أو مواربة أو صمتًا عن مواجهته تحت ذرائع ودعاوى متعددة.
 إذًا فالخطوة الأهم والأكثر تأثيرًا في مواجهة الإرهاب واقتلاع جذوره من تربتنا تكمن في مواجهة أنفسنا مواجهة فكرية وثقافية وسياسية، ومراجعة ما نغرسه في نفوس أبنائنا من قيم ومبادئ، ففي تاريخنا الحديث عشرات من جرائم الاغتيالات السياسية التي ارتكبت باسم الوطنية مرات وباسم الدين مرات أخرى، وقد اعتدنا ـ أو اعتاد بعضنا على الأقل ـ على أن يقدم مرتكبي هذه الجرائم باعتبارهم أبطالًا، رغم أنهم في الحقيقة إرهابيون نصبوا من أنفسهم مدعين وقضاة وجلادين، اتهموا، وحاكموا دون دفاع، وأدانوا، ونفذوا حكمهم، فعندما نقدم إبراهيم الورداني قاتل بطرس باشا غالي باعتباره بطلًا وطنيًا، ويكتب شوقي ـ المحافظ الموالي للخديوي ـ فيه قصيدته التي مطلعها: صداح يا ملك الكنار ويا أمير البلبل، ونقدم حسين توفيق وزملاءه الذين اغتالوا أمين عثمان كأبطال ويكتب إحسان عبد القدوس ـ الوطني الليبرالي ـ روايته "في بيتنا رجل" ليمجد جريمتهم، وتتحول هذه الرواية إلى فيلم سينمائي يدفعنا جميعًا للتعاطف مع الشاب الذي ارتكب جريمة الاغتيال، وحين يطلق بعض الإسلاميين والقوميين على خالد الإسلامبولي قاتل أنور السادات لقب الشهيد، عندئذ لا بد أن تختل الموازين، ومن هنا تأتي البداية في تكوين الصورة المزيفة للبطولة في وجدان شبابنا وأطفالنا، في تقديم القاتل باعتباره بطلًا وطنيًا أو شهيدًا في سبيل الله، وهذه مجرد أمثلة على حالات الخلل في المعايير والقيم التي تسمح لنا بصناعة أبطال هم في الحقيقة قتلة مهما تخفت جرائمهم وراء دوافع وطنية وشعارات نبيلة، إنهم يقتلون خصومهم لاختلافهم معهم في الرأي أو الرؤية أو منهج العمل السياسي، فهم يمنحون صكوك الوطنية والإيمان، ويعطون أنفسهم الحق بغير حق في إصدار الأحكام بالخيانة والكفر على خصومهم، قد نشفق عليهم، قد نرثى لحالهم، قد نقر بأنهم ضحايا للقيم الخاطئة في المجتمع، لكنهم ليسوا أبطالًا بحال من الأحوال.
 علينا أن نمتلك الشجاعة لتصحيح تلك المفاهيم الملتبسة ومواجهة دعاة الابتزاز الوطني، علينا أن نكف على تقديم القتلة باعتبارهم أبطالًا، علينا أن نمتلك الشجاعة لنتوقف عن عبارات ندين ولكن، وعن الصياغات التي تبرر الإرهاب بدعوى أنه رد على العدوان الأمريكي والإسرائيلي، وهذا لا يعني قبول الاحتلال وسياساته والموافقة على العدوان، لكن علينا أن نقدم النماذج  الإيجابية للوطنية التي يذخر بها تاريخنا وتاريخ كل الشعوب التي واجهت المستعمر، النماذج التي تعتمد على حركة الجماهير الواسعة وليس أعمال الإرهابيين، نقدم انتفاضة أطفال الحجارة في مواجهة انتفاضة العمليات الانتحارية، المظاهرات الطلابية في الثلاثينيات والأربعينيات في مواجهة الاغتيالات السياسية، عبد الحكم الجراحي ومصطفى موسى في مواجهة إبراهيم الورداني وحسين توفيق، حركة المثقفين ضد التطبيع في مواجهة عمليات ثورة مصر، المقاومة الشعبية في القناة في الخمسينات في مواجهة السيارات المفخخة في الألفية الثالثة.
علينا أيضا أن نغير الخطاب الذي نرد به على العمليات الإرهابية والذي نبني فيه الرد على أن هناك مسلمين في لندن كان من الممكن أن يموتوا في التفجيرات، وإن أغلب الضحايا في شرم الشيخ من المصريين، فهذا خطاب يحمل دون قصد من أصحابه إشارات سلبية كما لو كان القتل مبررًا ومقبولًا لغير المسلمين أو لغير المصريين.
 أخيرًا أضم صوتي إلى صوت رندة درغام في مقالها المنشور في جريدة الحياة اللندنية الجمعة الماضية في دعوتها لعصيان مدني ضد الإرهاب.


الدستور 27 يوليو 2005
مخربشات
طه حسين وحرية البحث العلمي
عماد أبو غازي


 كانت مشكلة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق سنة 1925  أول اختبار لليبرالية المصرية الناشئة، فيما يتعلق بقدرتها على تقبل مبدأً أساسيًا من مبادئ الفكر الحر، أعني حرية الفكر والاعتقاد والتعبير، ولم يكد يمضي عام حتى تفجرت أزمة جديدة كان بطلها هذه المرة المفكر الشاب والأستاذ الجامعي اللامع الدكتور طه حسين، وكان موضوعها ـ مثل الأزمة الأولى ـ كتاب صغير في حجمه تقل صفحاته عن مائتي صفحة، لكنه كبير في قيمته وسبقه بما حواه من مغامرة فكرية جريئة، كتاب رغم صغره هز الثوابت التي ظل الناس يجترونها جيلًا وراء جيل، إنه كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي صدر عن مطبعة دار الكتب في مارس سنة 1926، ورغم أن الكتاب يتناول قضية بحثية في تاريخ الأدب العربي ليس لها طابع سياسي كقضية الخلافة الإسلامية، إلا أن الضجة التي أعقبت صدور كتاب "في الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين فاقت تلك التي صاحبت صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، ووصلت بصاحب الكتاب إلى المثول أمام النيابة العامة متهما، وظهرت الأبعاد السياسية للصراع حول الكتاب سريعًا مثلما ظهرت في قضية الإسلام وأصول الحكم، بالطبع كان هناك أمرًا مشتركًا آخر على المستوى السياسي بين القضيتين، فالبطل في كل منهما كان ينتمي إلى التيار الليبرالي الأصيل في الحركة الوطنية المصرية، تيار الأحرار الدستوريين.
 فما الذي جاء به طه حسين في كتابه من أفكار ساقته إلى النيابة العامة؟ وهل يمكن في أي مجتمع حر أن يؤدي بحث في تاريخ الأدب بصاحبه إلى النيابة ليحاسب على آرائه العلمية محاسبة قضائية بدلًا من أن يرد عليه المختلفون معه ردًا علميًا؟
الكتاب ببساطة يتناول الشعر الذي ينسب إلى عصر ما قبل الإسلام في جزيرة العرب، العصر الذي نسميه عادة العصر الجاهلي، ويشكك في صحة انتساب الكثير من هذا الشعر إلى ذلك العصر.
 ويتكون كتاب "في الشعر الجاهلي" من ثلاثة أقسام، وعبر هذه الأقسام الثلاثة سعى طه حسين إلى أثبات فكرته هذه، فبدأ في القسم الأول بتقديم منهجه في البحث الذي يقوم على الشك، الشك الذي يقود إلى الوصول ليقين علمي، ويؤكد في هذا القسم من الكتاب أنه يرفض التسليم بما قاله القدماء في قضايا الشعر والأدب دون مناقشة وتحليل ونقد، وينتهي إلى إعلان رأيه الذي توصل إليه وهو أن غالبية الشعر المنسوب إلى العصر الجاهلي يعود إلى عصر ما بعد الإسلام، وفي القسم الثاني من الكتاب يحدد أسباب انتحال الشعر من وجهة نظره ويقسمها إلى أسباب دينية وسياسية وأدبية، أما القسم الثالث فيتناول فيه بعض الشعراء المنسوبين إلى العصر الجاهلي مثل أمرؤ القيس وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وغيرهم محاولًا التثبت من كونهم شخصيات تاريخية، أو تحديد التاريخي والأسطوري في سيرهم، وما هو من أشعارهم فعلًا إذا كانت لهم أشعار، وما هو منتحل ومنسوب إليهم.
 ويؤكد طه حسين في كتابه أن الأخذ برأي الأغلبية يصلح في السياسة لكنه لا يصح في العلم، ويدلل بمثال بسيط واضح، فقد كانت الكثرة من العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وإن باحث هنا وباحث هناك امتلكوا الجرأة على الشك والبحث فوصلوا إلى الحقيقة وهدموا الوهم والأسطورة.
 لقد أكد طه حسين في التمهيد الذي بدأ به كتابه من أن الكتاب يبحث في تاريخ الشعر العربي بمنهج جديد لم يألفه الناس عندنا، وكان واثقًا من أن فريقًا من الناس سيلقون هذا الكتاب ساخطين، وفريق آخر سيزورّون عنه ازورارًا، وقال: "أنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديثة وذخر الأدب الجديد"، لكنه لم يتوقع أن يصل الأمر بالساخطين والمزورّين إلى حد الدفع به إلى النيابة العامة.
 وإذا كانت أزمة الإسلام وأصول الحكم قد انتهت بعزل الشيخ علي عبد الرازق من القضاء الشرعي واستقالة وزراء حزب الأحرار من الحكومة، فإن أزمة "في الشعر الجاهلي" انتهت بحفظ التحقيق الذي أجرته النيابة العامة وصدور طبعة معدلة من الكتاب تحمل عنوان "في الأدب الجاهلي"، حذف منها طه حسين بعض العبارات التي استفزت التيارات المحافظة، لكنه تمسك فيها بمنهجه في التعامل مع الشعر الجاهلي.
 وقد كشفت تلك الأزمات المبكرة في الحقبة الليبرالية في مصر عن عدة جوانب مهمة، أولها ضيق المجتمع بالجديد والجريء من الأفكار، وثانيها التأثير السلبي للصراعات السياسية على حرية الفكر والتعبير، واستغلال القوى السياسية الرجعية للمزاج المحافظ للشارع المصري في صراعاتها، وخضوع القوى التي ينتظر منها الدفاع عن حرية الرأي لابتزاز صندوق الانتخابات، فحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والذي يفترض فيه الدفاع عن قضايا حرية الرأي والتعبير، تخاذل في مواقفه خوفا من تأثير أي موقف إيجابي يتخذه على نتائجه في الانتخابات، أما ثالث هذه الجوانب التي كشفت عنها قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" فكانت مدى هشاشة حرية البحث العلمي في الجامعة المصرية الوليدة، وسهولة مصادرة هذه الحرية بتحريض من الرأي العام المحافظ، وهي أعراض مازلنا نعاني منها إلى يومنا هذا.
الدستور 20 يوليو 2005

الأربعاء، 1 فبراير 2017

مخربشات
الإسلام وأصول الحكم بعد ثمانين عامًا

عماد أبو غازي


 في هذا العام تمر الذكرى الثمانين لواحدة من أهم المعارك الفكرية السياسية التي شهدتها مصر في القرن العشرين، معركة "الإسلام وأصول الحكم" التي فجرها صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي يحمل هذا العنوان، والذي أصدره في أبريل عام 1925، ليناقش فيه فكرة الخلافة الإسلامية وتطورها عبر التاريخ.
 والشيخ علي عبد الرازق أزهري من أسرة مصرية عريقة، تنتمي إلى محافظة المنيا، لعبت أسرته دورًا مهمًا في الحركة الوطنية المصرية من خلال حزب الأحرار الدستوريين، الذي حمل اللواء الفكري لليبرالية المصرية بعد ثورة 1919 وكان امتدادًا لأفكار حزب الأمة الذي أسسه أحمد لطفي السيد.
 كان علي عبد الرازق في الثلاثينيات من عمره عندما نشر كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ".
 والكتاب محاولة جريئة لمناقشة فكرة الخلافة، نشأتها وتطورها بمنهج علمي تاريخي، وقد قدم الشيخ في كتابه عددًا من الأفكار أهمها: أن الخلافة هي نظام دنيوي للحكم مثلها مثل أي نظام آخر، وإن الدين الإسلامي لم ينص عليها بل ترك للمسلمين حرية اختيار النظام الذي يلائمهم، وناقش القائلين بالنص على الخلافة في الكتاب والسنة وفند آراءهم بالأدلة التاريخية والشرعية، وذهب إلى إننا لا نجد فيما وصل إلينا من أخبار من عصر البعثة النبوية شيئًا واضحًا يمكن أن يوصف بأنه نظام للحكومة النبوية، وينتهي إلى أن الخلافة تاريخيًا ارتبطت بالاستبداد في الحكم، وإن أمرها عبر التاريخ لم يحسم إلا بقوة السيف، كما رفض الفكرة القائلة بأن إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يتوقفان على وجود خليفة للمسلمين، وهو قول كان شائعًا بشدة في ذلك الحين بعد إلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة سنة 1924، واعتبر علي عبد الرازق أن تحديد الحكومة الصالحة للمسلمين بأنها الخلافة دون سواها وبمفهوم محدد للخلافة يجاوز الواقع والعقل والتاريخ، كما رفض تحويل الرابطة الإسلامية الدينية التي تربط المسلمين ببعضهم إلى رابطة سياسية ينتظم تحتها المسلمون في كيان سياسي واحد، ولم يوافق الشيخ كذلك على الفكرة القائلة بأن الإسلام جعل من العرب وحدة سياسية واحدة، كما اعتبر أن جزءًا كبيرًا من حروب الردة لم يدر إلا لحماية الدولة الجديدة الناشئة والملك الذي تولاه أبو بكر الصديق، وإنها كانت في كثير منها حربًا سياسية حسبها العامة دينية، ويخلص الرجل من دراسته إلى أن السلاطين هم المسئولون عن ترويج الفكرة الشائعة القائلة بأن الخلافة مقام ديني بهدف الحفاظ على عروشهم، وقد توصل علي عبد الرازق إلى هذه النتائج من خلال استعراض لوجهات النظر المختلفة حول الخلافة عبر العصور، ومن خلال البحث التاريخي في الأحداث والوقائع.
 لقد كانت أفكار الشيخ علي عبد الرازق جريئة لكنها مستندة إلى أدلة تاريخية وفقهية من وجهة نظره، وكان من الطبيعي أن تثير نقاشًا واسعًا على الساحتين الدينية والسياسية، لقد تصدى لهذه الأفكار عدد من المشايخ والكتاب بالفكر والبرهان مقابل الفكر والبرهان، وإزاء إصرار الرجل على موقفه وتمسكه برأيه، أطلت على الساحة قوى الظلام ممن لا يملكون الحجة ولا القدرة على النقاش أو الرغبة فيه، ممن ينصبون من أنفسهم أوصياء على عقول الناس، كانت لهؤلاء الغلبة في النهاية، فأصدر مشايخ الأزهر حكمهم بطرد الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء، الأمر الذي ترتب عليه فصله من عمله في القضاء الشرعي، وتبع ذلك انهيار الائتلاف الحاكم المكون من حزبي الاتحاد الموالي للملك والأحرار الدستوريين ذي التوجه الليبرالي، حيث رفض وزراء حزب الأحرار قرار رئيس الوزراء بعزل الشيخ علي عبد الرازق من منصبه واستقالوا جميعًا من الحكومة احتجاجًا على الاعتداء الصارخ على حرية الفكر والاعتقاد.
 ولا شك أن الظروف السياسية التي صاحبت صدور الكتاب كان لها أثرها في اتساع ساحة المعركة واتخاذها تلك الأبعاد السياسية التي انتهت بسقوط الحكومة، فقد صدر هذا الكتاب في العام التالي لإلغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية في تركيا، في ظل شعور إسلامي عام بالغضب، وبأن الإسلام قد فقد ركنا من أركانه، رغم أن الخلافة الفعلية كانت قد زالت بالفعل منذ مئات السنين، وفي وقت كان ملوك العرب يتطلعون، بل يتنافسون على منصب الخلافة، ومنهم فؤاد الأول الذي كان يحظى بدعم الإنجليز للحصول على هذا المنصب، فأصدر الأزهري الشاب علي عبد الرازق كتابه ملقيًا به حجرًا في مياه راكدة متعفنة، ومدمرًا حلم فؤاد بالحصول على لقب خليفة المسلمين، ومقدمًا رؤية جريئة لا زلنا في حاجة إليها إلى يومنا هذا.

 الدستور 13 يوليو 2005
  مخربشات   
 مئة عام على رحيل الإمام

                                                    عماد أبو غازي


"عبقري الإصلاح والتعليم والهداية"  هكذا وصفه العقاد، إنه الرجل الذي شيعته مصر في جنازة شعبية منذ مئة عام، ففي شهر يوليو من عام 1905 رحل الإمام محمد عبده، الذي يعد رائدًا من أبرز رواد التجديد الفكري في مصر، نتذكره اليوم ليس فقط بمناسبة المئوية الأولى لرحيله، بل لدوره في تحديث المجتمع المصري، لأننا نعود اليوم "بفضل" قوى التخلف التي تسود مجتمعنا إلى نقطة البداية التي قادنا لتجاوزها منذ أكثر من قرن من الزمان، لأننا عدنا اليوم في حاجة ماسة إلى من هو في قدر الإمام محمد عبده من الاستنارة والانفتاح الفكري والتطلع إلى المستقبل.
 لقد كان الشيخ محمد عبده الداعي لفتح باب الاجتهاد والتجديد في الخطاب الديني أواخر القرن التاسع عشر، ووضع التصورات الحديثة لتطوير نظام القضاء الشرعي ليتوافق مع تطورات العصر، وهو الذي أباح في فتاواه التعامل مع البنوك والنظم الاقتصادية الحديثة، وتبنى مواقف متقدمة وعقلانية من الفنون الجميلة وشجع على دراستها، وكان لرأيه هذا الفضل في إنشاء أول مدرسة للفنون في مصر، وهو الذي أكمل مسيرة الرواد الأوائل الطهطاوي وعلي مبارك في الوقوف إلى جانب قضايا المرأة، فضلًا عن رؤيته المتطورة للإسلام كدين للعلم والمدنية، تلك الرؤية التي صاغها في مناظراته، والتي ظهرت فيها بذور فكرة الدولة المدنية لديه.
 لقد ولد محمد عبده سنة 1849، أي في نفس العام الذي توفي فيه محمد علي، وكان ظهور محمد عبده على ساحة العمل العام وهو شاب في العشرينيات في عصر إسماعيل، حيث ارتبط بجمال الدين الأفغاني وتتلمذ عليه، ثم اشترك معه في إصدار مجلة العروة الوثقى بعد ذلك بسنوات، لكنه اختلف معه حيث كان منهج محمد عبده يميل إلى الإصلاح بينما يتجه الأفغاني إلى الحلول الثورية.
  وفي النصف الثاني من سبعينيات قرن التاسع عشر انضم الشيخ محمد عبده إلى جماعات المفكرين الأحرار الذين دعوا إلى الإصلاح الدستوري والتخلص من النفوذ الأجنبي، وكانت لمحمد عبده أفكارًا متقدمه عن المواطنة والدولة المدنية، ويظهر أثر تلك الأفكار في برنامج الحزب الوطني المصري، الذي صاغه الشيخ  في ديسمبر من عام 1881 عندما كان منخرطًا في صفوف الثوار، وقد نصت مادته الخامسة على أن "الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء".
وكان محمد عبده قد التقى بأحمد عرابي ورفاقه من الضباط، ولكنه اختلف معهم في أسلوبهم في العمل السياسي، فقد كان يتوقع أن يؤدي منهجهم إلى سقوط مصر في يد الاحتلال، ومع ذلك فقد اعتقل بعد الاحتلال وتمت محاكمته ونفي إلى بيروت وظل في المنفى ست سنوات، وهناك نجد فكرة وحدة المجتمع والأمة على أساس من الرابطة الوطنية وحقوق المواطنة لجميع أبناء المجتمع حاضرة مرة أخرى فيما كتبه في مجلة "ثمرات الفنون" البيروتية تعليقًا على بعض محاولات إثارة النزعات الطائفية، حيث يقول: "إن التحامل على شخص بعينه لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملة، فإن ذلك اعتداء على غير معتد، ... وليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيستعملوها بشيء من الطعن، أو ينسبوها إلى شائن العمل، تعللًا بأن رجلًا أو رجالًا منها قد استهدفوا لذلك".
 وبعد أن قضى الشيخ ست سنوات في المنفى عاد إلى مصر ليحاول مقاومة الاحتلال من خلال بناء أسس المجتمع الحديث ومقومات الدولة العصرية، من خلال العمل الأهلي والرسمي، فشارك في الصالونات الثقافية، وأشرف على تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية 1892، وفي السنوات الأخيرة من حياته تولى منصب مفتي الديار المصرية.
لقد كانت القيم السياسية لثورة 1919 بقيادة سعد زغلول تلميذ الأمام محمد عبده، شعارها "الدين لله والوطن للجميع"، علمها بهلاله يعانق الصليب، تجسيدًا حيًا لأفكار الأمام في الواقع الفعلي، كما كانت تلك الأفكار أساسًا لما طرحه الشيخ على عبد الرازق بعد ذلك بربع قرن في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وهدم فيه أسانيد دعاة الدولة الدينية وإحياء الخلافة، لكن الأفكار التي تقبلها المجتمع من الإمام محمد عبده في مطلع القرن العشرين قبولًا حسنًا، أثارت البعض ضد علي عبد الرازق في العشرينيات ودفعت به خارج هيئة العلماء، ولا زالت إلى الآن تجلب عليه، وعلى المدافعين عن أفكاره، هجوم القوى الظلامية في مجتمعاتنا.

لقد كانت آراء محمد عبده وفتاواه متقدمة في عصره، لأنها كانت تؤسس لبناء عصري حديث، لوطن يقوم على رابطة المواطنة التي تجمع أبناء الأمة لا على رابطة الدين التي تفرقهم، بل هي مواقف متقدمة ومستنيرة بمقاييس عصرنا، فبعد قرن على وفاة الأمام محمد عبده نجد بيننا اليوم من يدعون بقوة إلى الدولة الدينية ويحرضون على رافضيها، مغامرين بوحدة الأوطان لصالح أفكار بالية لم تعد تصلح لعصر مجتمع المعرفة وحضارة الموجة الثالثة.
الدستور 6 يوليو 2005