الأربعاء، 1 فبراير 2017

  مخربشات   
 مئة عام على رحيل الإمام

                                                    عماد أبو غازي


"عبقري الإصلاح والتعليم والهداية"  هكذا وصفه العقاد، إنه الرجل الذي شيعته مصر في جنازة شعبية منذ مئة عام، ففي شهر يوليو من عام 1905 رحل الإمام محمد عبده، الذي يعد رائدًا من أبرز رواد التجديد الفكري في مصر، نتذكره اليوم ليس فقط بمناسبة المئوية الأولى لرحيله، بل لدوره في تحديث المجتمع المصري، لأننا نعود اليوم "بفضل" قوى التخلف التي تسود مجتمعنا إلى نقطة البداية التي قادنا لتجاوزها منذ أكثر من قرن من الزمان، لأننا عدنا اليوم في حاجة ماسة إلى من هو في قدر الإمام محمد عبده من الاستنارة والانفتاح الفكري والتطلع إلى المستقبل.
 لقد كان الشيخ محمد عبده الداعي لفتح باب الاجتهاد والتجديد في الخطاب الديني أواخر القرن التاسع عشر، ووضع التصورات الحديثة لتطوير نظام القضاء الشرعي ليتوافق مع تطورات العصر، وهو الذي أباح في فتاواه التعامل مع البنوك والنظم الاقتصادية الحديثة، وتبنى مواقف متقدمة وعقلانية من الفنون الجميلة وشجع على دراستها، وكان لرأيه هذا الفضل في إنشاء أول مدرسة للفنون في مصر، وهو الذي أكمل مسيرة الرواد الأوائل الطهطاوي وعلي مبارك في الوقوف إلى جانب قضايا المرأة، فضلًا عن رؤيته المتطورة للإسلام كدين للعلم والمدنية، تلك الرؤية التي صاغها في مناظراته، والتي ظهرت فيها بذور فكرة الدولة المدنية لديه.
 لقد ولد محمد عبده سنة 1849، أي في نفس العام الذي توفي فيه محمد علي، وكان ظهور محمد عبده على ساحة العمل العام وهو شاب في العشرينيات في عصر إسماعيل، حيث ارتبط بجمال الدين الأفغاني وتتلمذ عليه، ثم اشترك معه في إصدار مجلة العروة الوثقى بعد ذلك بسنوات، لكنه اختلف معه حيث كان منهج محمد عبده يميل إلى الإصلاح بينما يتجه الأفغاني إلى الحلول الثورية.
  وفي النصف الثاني من سبعينيات قرن التاسع عشر انضم الشيخ محمد عبده إلى جماعات المفكرين الأحرار الذين دعوا إلى الإصلاح الدستوري والتخلص من النفوذ الأجنبي، وكانت لمحمد عبده أفكارًا متقدمه عن المواطنة والدولة المدنية، ويظهر أثر تلك الأفكار في برنامج الحزب الوطني المصري، الذي صاغه الشيخ  في ديسمبر من عام 1881 عندما كان منخرطًا في صفوف الثوار، وقد نصت مادته الخامسة على أن "الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء".
وكان محمد عبده قد التقى بأحمد عرابي ورفاقه من الضباط، ولكنه اختلف معهم في أسلوبهم في العمل السياسي، فقد كان يتوقع أن يؤدي منهجهم إلى سقوط مصر في يد الاحتلال، ومع ذلك فقد اعتقل بعد الاحتلال وتمت محاكمته ونفي إلى بيروت وظل في المنفى ست سنوات، وهناك نجد فكرة وحدة المجتمع والأمة على أساس من الرابطة الوطنية وحقوق المواطنة لجميع أبناء المجتمع حاضرة مرة أخرى فيما كتبه في مجلة "ثمرات الفنون" البيروتية تعليقًا على بعض محاولات إثارة النزعات الطائفية، حيث يقول: "إن التحامل على شخص بعينه لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملة، فإن ذلك اعتداء على غير معتد، ... وليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيستعملوها بشيء من الطعن، أو ينسبوها إلى شائن العمل، تعللًا بأن رجلًا أو رجالًا منها قد استهدفوا لذلك".
 وبعد أن قضى الشيخ ست سنوات في المنفى عاد إلى مصر ليحاول مقاومة الاحتلال من خلال بناء أسس المجتمع الحديث ومقومات الدولة العصرية، من خلال العمل الأهلي والرسمي، فشارك في الصالونات الثقافية، وأشرف على تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية 1892، وفي السنوات الأخيرة من حياته تولى منصب مفتي الديار المصرية.
لقد كانت القيم السياسية لثورة 1919 بقيادة سعد زغلول تلميذ الأمام محمد عبده، شعارها "الدين لله والوطن للجميع"، علمها بهلاله يعانق الصليب، تجسيدًا حيًا لأفكار الأمام في الواقع الفعلي، كما كانت تلك الأفكار أساسًا لما طرحه الشيخ على عبد الرازق بعد ذلك بربع قرن في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وهدم فيه أسانيد دعاة الدولة الدينية وإحياء الخلافة، لكن الأفكار التي تقبلها المجتمع من الإمام محمد عبده في مطلع القرن العشرين قبولًا حسنًا، أثارت البعض ضد علي عبد الرازق في العشرينيات ودفعت به خارج هيئة العلماء، ولا زالت إلى الآن تجلب عليه، وعلى المدافعين عن أفكاره، هجوم القوى الظلامية في مجتمعاتنا.

لقد كانت آراء محمد عبده وفتاواه متقدمة في عصره، لأنها كانت تؤسس لبناء عصري حديث، لوطن يقوم على رابطة المواطنة التي تجمع أبناء الأمة لا على رابطة الدين التي تفرقهم، بل هي مواقف متقدمة ومستنيرة بمقاييس عصرنا، فبعد قرن على وفاة الأمام محمد عبده نجد بيننا اليوم من يدعون بقوة إلى الدولة الدينية ويحرضون على رافضيها، مغامرين بوحدة الأوطان لصالح أفكار بالية لم تعد تصلح لعصر مجتمع المعرفة وحضارة الموجة الثالثة.
الدستور 6 يوليو 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق