الأربعاء، 18 يناير 2017

مخربشات

130 سنة على المرشد الأمين للبنات والبنين

عماد أبو غازي


 من 130 سنة في عام 1875، صدرت الطبعة الأولى من كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" عن مطبعة المدارس الملكية، بعد وفاة مؤلفه بعامين، والكتاب واحد من أهم الكتب التي صدرت في مصر في القرن التاسع عشر، بل هو من أهم الكتب العربية في ذلك القرن، ومؤلف الكتاب هو الأزهري العظيم، رائد النهضة المصرية الحديثة، ومؤسس حركة التنوير، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، والكتاب من كتب رفاعة الأخيرة التي ألفها بعد نضوج فكره واكتمال رؤيته، وقد ألفه بتكليف من ديوان المدارس، يعني وزارة التربية والتعليم بتاعة زمان، ليكون بمثابة خطة لتطوير سياسة التعليم والتربية في مصر في لحظة من لحظات التطلع للنهوض بهذا البلد، ويعكس هذا التكليف الطريقة التي كان المسئولين يفكرون بها في ذلك الزمن، فعندما يريدون وضع خطة لتطوير التعليم يلجئون لمفكر بارز له خبرة طويلة في هذا المجال وله رؤية تحديثية متطورة ليضع هذه الخطة، وهو ما حدث بعدها بأكثر من نصف قرن، عندما كلفت وزارة المعارف، اللي هي برضه وزارة التربية والتعليم، الدكتور طه حسين بوضع تصور لمستقبل التعليم في مصر، فجاء كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر"، ومن اللافت للنظر أيضا أن تلك الخطط كانت تطرح على عامة المصريين في شكل كتب يتداولها الناس ويناقشوا ما فيها، وهو أسلوب يقر بحق المجتمع في المشاركة في اتخاذ القرار.
 ومن الغريب أن هذا الكتاب استغرقت طباعته ثلاث سنوات تقريبا، ففي صفحة العنوان إشارة إلى تاريخ الطبعة الأولى باعتباره العشر الأواخر من شوال 1289 هـ أي أواخر ديسمبر 1872، قبل وفاة رفاعة في مايو 1873، بينما تشير الصفحة الأخيرة من الكتاب إلى صدوره بأشراف علي فهمي رفاعة، ابن المؤلف، في عام 1292 هـ، التي تقابل 1875، وقد نبهني إلى وجود تاريخين على الكتاب الصديق الكاتب نبيل فرج، حيث ظللت لفترة طويلة أنسب الكتاب إلى سنة 1872 خطأ.
 نرجع للكتاب وصاحبه، ينقسم كتاب رفاعة إلى مقدمة وسبعة أبواب وخاتمة، تناول في المقدمة مفهوم التربية وعلاقتها بالقيم الدينية ودور المنزل في التنشئة، وربما تكون هذه المقدمة من أول ما كتب في مجال التربية الحديثة في العربية، ثم تناول في الباب الأول الإنسان كحيوان ناطق وعلاقته بسائر المخلوقات، ثم مبدأ المساواة بين البشر، وفي الأبواب من الثاني إلي السابع يتعرض لقضية تعليم البنات والبنين، ويناقش الآراء المختلفة بين الجنسين، وفي أهمية التعليم والعمل لكليهما، وفي فضل تعليم البنات والبنين تعليما تربويا سليما على رقي الوطن وتمدن الأمة، ويستعين بالشواهد التاريخية المتعددة من تاريخنا المصري ومن التاريخ العربي وتاريخ العالم للتعريف بما للمرأة من أدوار في الحياة العامة للمجتمعات الإنسانية المختلفة، كذلك يتطرق إلى قضايا الزواج والأسرة، ويؤكد على علاقة نجاح الحياة الأسرة بالتعليم السليم للبنات والبنين على حد سواء، أما الخاتمة فقد عرض فيها لبعض الأمور المتعلقة بحفظ الصحة ثم أورد بعض الأحاديث التي تدعو إلى الفضائل.
 ورغم أن تعليم البنات كان قد بدأ بالفعل في مصر قبل صدور الكتاب، إلا أن "المرشد الأمين للبنات والبنين" يعد أول مبادرة للتأصيل الفكري لقضية حق الفتاة في التعليم، بل أن رفاعة يذهب أكثر من ذلك حيث يطرح بجرأة الدعوة لعمل لمرأة، فيقول: "إن التعليم يمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل عن البطالة، ... فالعمل يصون امرأة ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء"، كم كان عظيما هذا الرجل الذي أرسى الدعائم الفكرية لمصر الحديثة، هذا ولم تكن أفكار رفاعة المتقدمة عن المرأة وحقوقها وليدة كتابه "المرشد الأمين"، بل نجد جذور تلك الأفكار واضحة في كتاباته الأولى، حيث دعا في كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي صدر عقب عودته من فرنسا إلى رفع سن الزواج حتى تتمكن المرأة من أن تتعلم، فكان بذلك صاحب دعوة رائدة لتطوير وضع المرأة المصرية والنهوض بها على قواعد اجتماعية ثابتة تحرر المرأة من أوضاع التخلف التي ورثتها عن العصور الوسطى، وتتيح أمامها إمكانيات حقيقية للرقي بوضعها، وهو ما جسده في ممارسته الفعلية في الحياة الأسرية عندما منح زوجته حق تطليق نفسها بالثلاثة إذا تزوج عليها أو تسرى بجارية، فكان نموذجا للمثقف المتسق مع ذاته وأفكاره، لم يكن رفاعة مجرد ابنا لعصره بل صانعا من صناعه، لقد ولد مع مطلع قرن جديد شهد تحولات تاريخية حاسمة في مصر، انتقلت خلاله من مرحلة العصور الوسطى بقيمها إلى عصر التحديث والاستنارة، وكان الرجل واحدًا من صناع هذه التحولات، لقد كان في كل ما يطرحه مبشرًا بالتقدم وصانعًا له في وقت واحد.

 الدستور 29 يونيو 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق