الأحد، 31 ديسمبر 2017

حوار الموت والحياة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
حوار الموت والحياة
عماد أبو غازي
 على مدى خمسة أيام، انتهت مساء السبت الماضي، شهدت القاهرة والإسكندرية أعمال الحلقة البحثية حول الموت والحياة، التي حملت عنوان حوارات من مصر، وقد تم تنظيم هذه الندوة في القاهرة بين المجلس الأعلى للثقافة ومركز دراسات الموت والحياة بجامعة طوكيو باليابان، وفي الإسكندرية بين المركز الياباني ومركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية، لكن ما هو برنامج دراسات الموت والحياة؟
  قال عنه سوسومو شيمازونو مدير البرنامج في محاضرته الافتتاحية بالقاهرة، إنه قد قام منذ عام 2002 على شراكة بين مدرسة الدراسات الإنسانية والاجتماعية (كلية الآداب) بجامعة طوكيو، مع كلية الطب، وكلية التربية، وجهات أخرى، لتنفيذ برنامج لدراسات الموت والحياة بمركز القرن الحادي والعشرين بالجامعة، ويسعى لتطوير نظام تعليم وبحوث رصين فى هذا المجال، ويتطلع المركز من خلال أنشطته إلى التعاون مع المؤسسات الثقافية والأكاديمية عبر العالم، ومن هنا كانت مبادرة تنظيم هذه الحلقة البحثية.
 أما دراسات الموت والحياة، كما عرفها سوسومو شيمازونو مدير مركز دراسات الموت والحياة في جامعة طوكيو، فتعد تخصُّص أكاديمى جديد يبحث عن نقاط الالتقاء والتبادل بين الطب، والعلوم الاجتماعية، والإنسانيات. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة وتطورت بسرعة، بسبب التطور الذي شهدته العلوم الطبية في السنوات الأخيرة، والذي لا يواكبه بنفس السرعة تطور في منظومة القيم، فعلى الرغم من أن المرافق الطبية المعاصرة تبذل جهدًا كبيرًا فى رعاية المشرفين على الموت، فإن مشكلات هؤلاء لا يمكن حلها جميعًا على أساس النموذج الطبى الحديث القائم على العلوم الطبيعية فقط. فمنذ ستينيات القرن الماضى حقَّقت حركة رعاية مرض الموت، على سبيل المثال، قفزات واسعة فى أمريكا الشمالية وأوربا، كما أحرزت البرامج التعليمية والبحوث التى استهدفت تلبية احتياجات هؤلاء المرضى الذين يواجهون الموت وأسرهم تقدمًا ملحوظًا.
 وقد تزامن هذا التطور مع ظهور عدد كبير من المشكلات المتعلقة بأخلاقيات البيولوجيا. فمع إمكانية زرع الأعضاء، والتلقيح الصناعى، واختبار الجينات، أصبح التغلُّب على عدد من المشكلات التى كان من المستحيل التغلُّب عليها فى السابق أمرًا ممكنًا، وزادت الاستجابة لاحتياجات الإنسان بشكل كبير. ولكن، على الرغم من أن الطب قد عزَّز قدراته على حلِّ تلك المشكلات، فقد أصبح السؤال المتعلق بالخط الفاصل الذي يحدِّد دور التدخل الطبى مشكلة خطيرة تواجهنا الآن. لذلك فقد أصبحت القرارات الأخلاقية القائمة على رؤية الموت والحياة تفرض تساؤلات يومية على المستويين الإكلينيكى والبحثى على حد سواء. بيد أن محاولات الدراسات المقارنة المتزايدة لمختلف رؤى الموت والحياة، فى جميع أنحاء العالم، أسفرت عن تقدُّم فى العثور على حلول لمشكلتنا الجديدة العالمية الحالية.
 ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينظم فيه المجلس الأعلى للثقافة أنشطة بحثية تدور حول أخلاقيات البحث العلمي في مجال العلوم الطبية، أو أثر التطورات الحديثة في العلوم البيولوجية على المجتمع والتطورات التشريعية فيه، فقد سبق للمجلس من خلال لجانه المتخصصة أن نظم مع جامعة المنوفية ومع المركز الثقافي الفرنسي بالقاهرة ندوتين في هذا المجال.
 وكانت الحلقة البحثية الأخيرة من الأنشطة الناجحة لكل من المؤسسات الثلاثة، المجلس الأعلى للثقافة ومركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية ومركز دراسات الموت والحياة بجامعة طوكيو، والغريب أن نجاحها لم يكن فقط نجاحا علميا وثقافيا من خلال الأبحاث والمداخلات، بل كذلك نجاحا جماهيريا من خلال الحضور غير المتوقع للجمهور في قاعة المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وفي قاعة المؤتمرات بمكتبة الإسكندرية، فرغم جفاف موضوع الندوة وطابعه التخصصي كان الحضور لافتا، والمشاركة من الجمهور واضحة، وقد دار الحوار في الندوة باللغتين العربية والإنجليزية مع توافر الترجمة الفورية.
 وقد جرى الإعداد لهذه الحلقة البحثية على مدى أربعة عشر شهرا، حيث شارك فيها أكثر من ثلاثين مشارك، وتم تكليف 25 باحثة وباحث من بينهم من مصر واليابان بإعداد أوراق بحثية تتناول الرؤى المختلفة للموت في الثقافتين المصرية واليابانية عبر عصور حضارتي البلدين المتعاقبة، ورؤى الحياة عبر فيها مفهوم الموت، وتم تناول الموضوع من خلال مداخلات لمتخصصين في مجالات معرفية متعددة تتراوح ما بين التاريخ والآثار والوثائق وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والفلسفة والأدب والفلكلور والقانون والطب، وقد أضاف هذا التنوع في تخصصات المشاركين ثراء إلى الندوة وإلى ما دار فيها من حوارات سواء في قسمها القاهري أو السكندري، كانت الندوة في المحصلة النهائية مجالا للحوار الثقافي والحضاري بين شعبين وثقافتين مختلفتين، ومجالا كذلك للتفاعل المعرفي بين المتخصصين المصريين واليابانيين في علوم مختلفة.

الدستور 7 أكتوبر 2009

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

موقعة اليونسكو من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
موقعة اليونسكو
عماد أبو غازي


 انتهت معركة انتخابات المدير العام لمنظمة اليونسكو التي خاضها الفنان فاروق حسني وزير الثقافة باقتدار مرشحًا لمصر، مؤيدًا من المجموعة العربية والمجموعة الإسلامية ومدعومًا بقرارات من الاتحاد الأفريقي لم يلتزم بها بعض الأعضاء للأسف، وحاز المرشح المصري منذ الجولة الأولى على أعلى الأصوات بفارق كبير، ووصل في الجولة الرابعة إلى نصف أصوات المجمع الانتخابي، لكن نتائج مثل هذه الانتخابات في المنظمات الدولية تحسم دائمًا بناء على توازنات وتربيطات دولية واتفاقات تتم تحت الترابيزة، الانتخابات معناها مكسب وخسارة وكل الاحتمالات مفتوحة، المهم أن يكون الآداء على المستوى المطلوب، وقد كان الآداء المصري في معركة اليونسكو متميزًا وعلى المستوى بالفعل، وخسارة المنصب ليست نهاية العالم بل من الممكن أن تكون بدايته، خصوصًا إذا كانت كما قيل "خسارة بطعم النصر" وهي مقولة أظنها صحيحة.
  إن السبب الرئيسي في التكتل الشمالي لإسقاط فاروق حسني يكمن في المخاوف الأمريكية الأوروبية المدفوعة بمصالحها، فالولايات المتحدة ترفض وجود مدير للمنظمة يحرك الماء الراكد ولديه رؤية لإدارة المنظمة ويتحدث عن حوار ثقافي حقيقي بين الحضارات، وحتى وإن كان الخطاب السياسي للرئيس الأمريكي أوباما يتحدث عن الحوار، إلا أنه على ما يبدو أن القرار موجود سلفًا وإن الانقسام واضح في الإدارة الأمريكية يجعل هناك مسافة بين الخطاب المعلن والممارسة الفعلية التي تنطلق من المصالح الأمريكية التي تقضي بألا يوجد مدير من الجنوب للمنظمة يتمتع بشخصية مستقلة ولا يقبل الضغوط، ويبدو أن تجربة الدكتور أحمد مختار أمبو السنغالي الذي تولى إدارة المنظمة في السبعينيات والتي انطلقت خلالها المنظمة لتقوم بدور تقدمي في الثقافة العالمية لازالت ماثلة في أذهان الغرب، وهي التجربة التي يبدو أن الغرب لن يغفرها أبدا.
 بالطبع الغرب ليس شيئًا واحدًا وليس كتلة مسمطة، فهناك اختلافات بين دوله، وهناك فارق بين الحكومات والشعوب، وبين المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني.
 لا يمكن أن ننسى كذلك أن المصالح الأمريكية الإسرائيلية تتعارض مع وجود مدير عربي أو مدير يتعاطف مع القضية الفلسطينية في مرحلة تسعى فيها إسرائيل لتهويد القدس وجزء مهم من هذه المعركة ثقافي، والمدير الذي سيرحل جمد ملف تسجيل القدس كتراث إنساني عالمي مشترك للأديان الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، فعل هذا بالطبع لحساب إسرائيل ومشروعها.
 وبعد أن انتهت المعركة يجب أن نقف لنتسأل إذا كنا قد خسرنا المنصب فما الذي يمكن أن نعتبر أننا كسبناه في معركة اليونسكو؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه أو نستفيد به من المعركة للمستقبل؟
 في تقديري أن أول ما كسبناه في معركة انتخاب مدير عام المنظمة الدولية كان القدرة على معرفة الحلفاء الحقيقيين وأولئك الذين يمكن أن تتحول مواقفهم، عرفنا مواطن القوة ومواطن الضعف في علاقاتنا الدولية، عرفنا أن لنا قدرة تنافسية عالية ويمكن أن يحسب حسابنا عندما نحسن إدارة معاركنا، حتى لو لم ننتصر فيها في النهاية لكننا خضناها بقوة وكفاءة، ولا شك أن الفريق الذي أدار المعركة يستحق التحية.
 لكني أظن أن أهم ما خرجنا به كان برنامج فاروق حسني الانتخابي ورؤيته التي طرحها للعمل الثقافي الدولي، والتي ينبغي أن تطرح على الناس ليعرفوا ما قدمه، لقد قدم برنامجًا واضح المعالم للانطلاق بالمنظمة الدولية بعد الكبوة التي أصبتها في ظل إدارة مديرها الحالي، برنامج يحيي فكرة الحوار بين الحضارات التي طرحها المدير السابق للمنظمة فريدريكو مايور في تقريره الشهير "التنوع البشري الخلاق".
  لقد ركز فاروق حسني في رؤيته على التصالح والحوار بين الحضارات والثقافات، على دور الثقافة في بناء السلام العالمي الذي تحتاجه البشرية أكثر من أي وقت مضى لتركز جهودها على مواجهة الأخطار البيئية المحيقة بكوكبنا، ركز على احترام التنوع الثقافي وصيانة حرية التعبير، طرح برنامجًا يقوم على استخدام الثقافة "سلاحًا" في مواجهة الفقر والتخلف، الثقافة من أجل التنمية المستدامة، الثقافة من أجل تطوير التعليم ومواجهة الأمية على مستوى العالم، الثقافة من أجل وضع أفضل للمرأة، أكد كذلك في برنامجه على دور لليونسكو في مواجهة أخطار التغيرات المناخية التي باتت تهدد الأرض.
 هذا ما كسبناه في ظني فما الذي يمكن أن نتعلمه؟
 أول ما نخرج به من دروس: ضرورة الاهتمام بأفريقيا وإيلائها أهمية أكبر في سياستنا عمومًا وفي سياستنا الثقافية خصوصًا، أيضًا أن نفرق بين الشعوب والحكومات ونعتمد الدبلوماسية الشعبية ومد الجسور مع الجماعات والتجماعات الثقافية عبر العالم، ونحافظ على رؤيتنا المتمسكة بالحوار الثقافي والحضاري مع الشرق والغرب على السواء.
 أما همنا الأكبر فينبغي أن يكون في مواجهة معركة تهويد القدس.

الدستور سبتمبر 2009

الخميس، 16 نوفمبر 2017

نباشو القبور... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
نباشو القبور
عماد أبو غازي

 رغم أن العيد مناسبة سعيدة، مناسبة للبهجة والفرح، فقد كان العيد يرتبط عندنا في مصر دائمًا بزيارة الراحلين في المقابر، مهما بعد الزمن بيننا وبين رحيلهم نحرص على زيارتهم ولا ننساهم. فالأموات في عقيدة المصريين منذ القدم لا يغيبون برحيلهم عن عالمنا، بل هم عند موتهم يرحلون في رحلة طويلة إلى عالم الأبدية، وإن غابت أجسادهم تحت التراب، فأرواحهم معنا، لذلك فنحن نذهب لزيارتهم في المناسبات السعيدة، تمامًا كأنهم بيننا، يتشاركون معنا في فرحنا.
 أذكر وأنا صغير كيف كانت زيارة مقابر العائلة وعائلة العائلة في ثاني أيام العيد بصحبة جدتي وأبي طقسًا من طقوس العيدين التي لا يمكن أن تفوتني أنا وأخي الأكبر، لا أعرف الآن ما المتعة في ذلك، بل هل كنا نجد متعة بالفعل من أصله، أم أنها كانت مجرد رغبة في مصاحبة الكبار وحب لتقليدهم فيما يفعلونه؟
 عندما أتذكر الزيارتين السنويتين في العيد الصغير والعيد الكبير لمقابر الأمام الشافعي ومقابر باب الوزير، تلوح في ذهني رباعية صلاح جاهين التي يصف فيها زيارة المقابر في العيد، فيقول:
"عيد والعيال اتنططوا على القبور
لعبوا استغامية... ولعبوا بابور
وبالونات ونايلونات شفتشي
والحزن هيروح فين جنب السرور
عجبي"
 تداعت على ذهني الصور وتذكرت هذا كله والعيد يقترب مع تصريحات متوالية تتجدد حول نية محافظ القاهرة نقل المقابر من مناطق الإمام الشافعي والبساتين إلى خارج المدينة بدعوى تحويل المنطقة إلى حدائق عامة.
 ليست المرة الأولى التي تتردد فيها مثل هذه الأخبار، فمننذ سنوات والفكرة تظهر على استحياء ثم تختفي، إلى أن أصبحت في الفترة الأخيرة تلح بقوة، في المرة الأخيرة أكدت الأخبار التي نسبت إلى المحافظة ردا على انتقادات سابقة، إن الأرض ستحول إلى مساحات خضراء وحدائق، كما أن المشروع سيراعي الحفاظ على المقابر الأثرية.
 ما السر وراء المشروع؟ وما سبب الحماس له؟ المقابر على أطراف المدينة القديمة، لا تعوق حركة مرور أو تتسبب في زحام، هل تتجه النية إلى تحويل المنطقة إلى أراضي للبناء كما أشيع من قبل؟ أين سيذهب سكان المنطقة ومن يعملون في المقابر ويتعيشون من خدمة الموتى وخدمة الأحياء المترددين على زيارتهم؟ وأين سيذهب الموتى، هل ستمنح المحافظة مقابر جديدة لأصحاب المقابر الحالية؟ هل ستنبش المحافظة قبور الأباء والأجداد لتحمل ما تبقى من رفاتهم إلى المقابر الجديدة أم ستترك المهمة لأهل الراحلين؟
أسئلة وأسئلة وأسئلة والإجابات دائما لا تشفي غليلًا.
 قصة تحويل المنطقة إلى حدائق غريبة على المحافظة التي لا تهتم بالحفاظ على الخضرة، ولا تقوم بواجبها في حماية القليل الذي تبقى منها وتتغاضى عن تقطيع الأشجار وإزالة الخضرة، بل تمارس بنفسها تقطيع الأشجار، وما حدث منذ أيام في مركز شباب الجزيرة شاهد على ذلك.
 وإذا كانت المحافظة ترغب فعلًا في زيادة المساحة الخضراء، فما الذي يمنع من تشجير منطقة المقابر مع بقائها على حالها؟ إننا نشاهد المقابر في الغرب وسط الغابات والحدائق، لنجعل مقابرنا حدائق ونزرعها أشجارًا دون أن نزيلها.
 ثم ما مفهوم المقابر الأثرية التي أكدت تصريحات المحافظة على الحفاظ عليها؟ هل هي فقط المقابر التي مر عليها مائة عام أو أكثر؟ طيب لو كان قد مر عليها 90 عامًا فقط؟ وماذا عن مباني المقابر ذات الطراز المميز التي تزخر بها منطقة البساتين والإمام الشافعي؟ تلك المقابر التي تعكس طرز بدايات القرن العشرين، هل سنحافظ عليها أم سنزيلها؟ وماذا عن مقابر المشاهير المنتشرة في تلك المنطقة، رجال السياسة ورجال الفكر ورجال الفن؟ هل سنترك مقبرة أم كلثوم رغم أنها من الناحية القانونية ليست أثرًا بعد، أم ستهون علينا هذه المقابر مثلما هانت على محافظتنا من قبل المقابر المقابلة لسور القاهرة الشمالي في منطقة باب النصر وباب الفتوح، وأزلناها من الوجود رغم أنه كانت تضم رفات المفكر والمؤرخ والفقيه عبد الرحمن بن خلدون؟
 كانت مقابر مصر منذ أقدم العصور لها مكانتها وحرمتها الخاصة عند المصريين، لا يقبلوا التعدي عليها ولا يسمحوا به، كانوا يحترمون الموت لأنهم يحبون الحياة، لقد شيد الأجداد الهرم أضخم مقبرة في التاريخ وحفروا جبال البر الغربي في الأقصر وأبدعوا فيها أجمل المقابر، وشيدوا في عصر المماليك القباب والأضرحة لتضم رفات الموتى فكانت تحفًا في الفن والعمارة.
 كانت المقابر قديمًا عرضة لمطامع الطامعين، لذلك كان المصري القديم يكتب على مقبرته التعاويذ التي تستحضر اللعنات على منتهكي حرمة المقابر وعلى نابشي القبور، كانت مقابر الأجداد في الأزمان الغابرة مطمعًا لما فيها من ذهب وحلي يحملها الراحل عن عالمنا معه إلى عالم الخلود، وإذا كنا اليوم لم نعد نحمل ذهبنا معنا، فإن أراضي المقابر أصبحت ذهبًا يجري له لعاب الطامعين، فهل نحتاج اليوم إلى استدعاء تعاويذ الأجداد لحماية مقابرنا؟
 اتركوا أمواتنا في سلام يا نباشو القبور...

الدستور 16 سبتمبر 2009

السبت، 28 أكتوبر 2017

امسك فاطر...من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
امسك فاطر...
عماد أبو غازي
 من الواضح أن الاختراق الوهابي في المجتمع المصري يتسع يوما بعد يوم، ويمتد إلى أجهزة مهمة وحساسة في الدولة، فبعد أن أعلن الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف النية المبيتة لإلغاء الموالد في مصر نهائيا، واعتبر أن أنفلوانزا (إتش وان إن وان) مناسبة ملائمة للبدء في تنفيذ هذه النية، توالت في الأسبوع الماضي أنباء الحملات التي تقوم بها جماعة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في محافظة أسوان وفي بعض المحافظات الأخرى لملاحقة من تعتقد أنهم مفطرين مرتدية ملابس الشرطة المصرية، ومتسترة بستارها، وكان من الممكن تصور أن الأمر تجاوز من ضابط هنا أو ضابط هناك تصور أن من حقه أن يحاسب الناس على صيامهم وإفطارهم، لكن تصريحات نسبت لمسؤلين في وزارة الداخلية دافعت عن هذا السلوك تؤكد أن الأمر أكبر بكثير من أن تكون مواقف اتخذها بعض رجال الشرطة من تلقاء أنفسهم، أو على الأقل إنها حتى لو كانت كذلك فإن وزارة الداخلية سوف تتغاضى عن تصرفهم ولن تحاسبهم عليه، بل هي تبرره وتدافع عنه.
  وبعيدا عن المبررات العملية التي يمكن أن يسوقها المعترضون على سلوك رجال الشرطة الذين قاموا بملاحقة المفطرين، مثل أن يكون بعض من هؤلاء المفطرين مرضى مضطرون لتناول الطعام أو الشراب أو الدواء، أو يكون بعضهم مفطرون لأنهم على سفر، أو يكونوا غير مفطرين من الأساس لكنهم يشترون احتياجات ما بعد الإفطار مثلما حدث مع بعض من قبض عليهم في أسوان، أو أن يكونوا غير مسلمين أصلا، وبعيدا عما يقال حول التأثير السلبي لهذا السلوك على السياحة، أو تضرر بعض الأجانب منه مثلما أشارت تقارير صحفية من بعض الموانئ المصرية، فإن الموضوع على بعضه يشكل اعتداء على الحرية الشخصية التي هي مصونة بحكم الدستور والمواثيق الدولية.
 إن العقيدة الدينية أمر يخص الإنسان وحده، إنها علاقة بين الإنسان وربه، والممارسات والطقوس الدينية كذلك تدخل في نطاق هذه العلاقة التي ليس من حق أحد أن يتدخل فيها، ولا من حق المجتمع أن يراقبها طالما لا تضر الآخرين ولا تشكل إعتداء على حرية الغير، فلا يحق لإنسان أن يسأل إنسان عن صلاته وصيامه وحجه، وعن مدى صحة عقيدته الدينية وسلامتها، إنها أمور يحاسبنا عليها الله سبحانه وتعالى وحده، إنها جزء من المجال الخاص، لا ينبغي أن تنتقل إلى المجال العام.
 أعرف أن الكثيرين يرون أن المشكلة هنا ليست في عدم الصيام أو الإفطار إنما فيما نسميه الجهر بالإفطار، لكن الجهر بالإفطار نفسه جزء من الحرية الشخصية للإنسان التي يحاسبنا الله عليها، وإذا كان الإنسان لا يمارس الفريضة الدينية فهل مطلوب منه أن يدعي غير ذلك نفاقا للمجتمع؟ إن الفروض والعبادات لله تعالى وليست للناس، والمفطر إن ضر فإنما يضر نفسه ولا يضر غيره بإفطاره، لكننا أصبحنا نعيش في مجتمع تحكمه المظاهر لا نهتم فيه بجوهر الأمور لكن بشكلها الخارجي فقط، وجزء من هذا الشكل الخارجي إدعاء الإنسان ما ليس فيه، إخفاء سلوكه الحقيقي وراء مظاهر وأقنعة غير الحقيقة، في ظل انتشار الحجاب والنقاب وإطالة اللحى وظهور الزبيبة على جباه الرجال وتقصيرهم الجلاليب والبنطلونات وتركهم العمل ومصالح الناس لأداء الصلاة، في ظل كل هذه المظاهر الشكلية للتدين، ينتشر الفساد في الجهاز الإداري للدولة، ويقوم الموظف من على السجادة ليتلقى الرشوة أو يمارس السرقة والاختلاس من المال العام ببال هادئ، وتزداد حالات التحرش الجنسي والاغتصاب، ويتحول العنف الأسري والسلوك العنيف في الشارع إلى ظاهرة، عندما كان الناس من ثلاثين وأربعين سنة وأكتر لا يتركون عملهم للصلاة ولا يهتمون بالزبيبة وإطالة اللحية وتقصير البنطلون ولا يرتدين الحجاب والنقاب، كان الفساد أقل والتحرش الجنسي أقل والعنف أقل، ألا يلفت هذا النظر للتأمل، إن تدينا تدين شكلي ومظهري لا يؤثر على سلوكنا ومعاملاتنا، إن أصبح أقرب للنفاق الاجتماعي، أليس حدث في أسوان وغيرها هو نوع من هذا النفاق الاجتماعي.
  أما الحديث عن مراعاة مشاعر الصائمين فحديث لا معنى له، وإن دل على شيئ فإنما يدل على ضعف إرادة الصائم، فإذا كان في رؤية من يتناول الطعام والشراب ما يجرح مشاعري وأنا صائم فهذه مشكلتي وليست مشكلة المجاهر بإفطاره، ثم لماذا لا نمنع الجهر بالإفطار أيام الاثنين والخميس من كل أسبوع حيث يصوم الكثير من المسلمين؟ أم أن مشاعر الصائمين لا تتأذى إلا في رمضان؟ ولو تكلمنا في موضوع المشاعر، فلماذا لا نغلق محلات اللحوم ويمتنع من يأكلونها عن أكلها خلال الصيام الكبير وصيام السيدة العذراء حتى لا نجرح مشاعر المسيحيين الذين يصمون عن كل ما فيه روح؟
 إن صيحة الشرطة في رمضان امسك فاطر تعود بنا إلى أجواء المنافسة غير الحميدة بين الحكومة وجماعات الإسلام السياسي من منهم يمثل الإسلام أكثر من الآخر وكله على حساب الشعب وحرياته، وعلى حساب إرساء أسس دولة مدنية حديثة تفصل الدين عن السياسية تعمل في إطار شعار "الدين لله والوطن للجميع".

الدستور 9 سبتمبر 2009

الجمعة، 20 أكتوبر 2017

دفاعا عن موالدنا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
دفاعا عن موالدنا
عماد أبو غازي


  في هوجة المواجهة الحكومية لأنفلونزا إن إتش وان اتخذت الحكومة قرارا بإلغاء الاحتفالات بالموالد هذا العام، وقد أثار القرار انتقادات واسعة بين أتباع الطرق الصوفية ومرتادي الموالد، كما أثار أسئلة منطقية عديدة، مثل: لماذا تلغى الموالد ولا تلغى عمرة رمضان تماما رغم أن السعودية المصدر الأول لأنفلونزا إن إتش وان إلى مصر؟ ولماذا ألغيت الموالد بينما لم تلغ تجمعات جماهيرية أخرى مثل العروض السينمائية والمباريات الرياضية رغم أن الأخيرة كانت سببا في أكبر حالة عدوى جماعية ظهرت في مصر إلى الآن؟ ولماذا لا تؤجل الدراسة في المدارس والجامعات؟ وبالمقابل يتسأل المتسألون لماذا لم تتوقف الأنشطة الاجتماعية والفنية والرياضية في مختلف دول العالم ومنها دول فاقت عدد الإصابات فيها مصر بكثير؟ وهل كانت هناك بالفعل ضرورة لاتخاذ مثل هذا القرار؟
 وبغض النظر عن مدى صحة القرار من عدمه، أو عن جدواه ومنطقيته، فإن الحكومة لم تنجح في تطبيق القرار تطبيقا كاملا، ففي ميت دمسيس أقيم مولد ماري جرجس كما هي العادة، وفي محافظة كفر الشيخ أعلن المحافظ ـ ومعه الحق فيما أعلنه ـ أن مولد سيدي إبراهيم الدسوقي سيقام في دسوق في موعده لأنه مناسبة اقتصادية اجتماعية مهمة.
 لقد اُتخذ القرار، ومُنع الناس من فرحتهم بمولد السيدة زينب، لكن اللافت للنظر والخطير في الأمر تصريح نُسب للدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف قال فيه: إن أنفلونزا الخنازير كانت مناسبة لإلغاء الموالد هذا العام تمهيدا لمنعها نهائيا، إذن أعلنت وزارة الأوقاف رسميا وعلى لسان وزيرها الحرب على الموالد، والأنفلونزا مجرد حجة، مثلما حدث مع الخنازير عند بداية ظهور الوباء، حيث أعلن مسؤل رسمي أن الأنفلونزا كانت فرصة لتنفيذ قرار مبيت لدى الحكومة بالتخلص من الخنازير في بر مصر، وإذا كانت مذبحة الخنازير قد مرت فلا ينبغي أن تمر تصريحات وزير الأوقاف دون مراجعة، خاصة أن السنوات الماضية شهدت أكثر من مرة ممارسات متعددة للتضييق على المحتفلين بالموالد الأمر الذي ينبأ بنية مبيته للقضاء على طقس من الطقوس الاحتفالية الشعبية في مصر، ويكشف عن اختراق وهابي إخواني للحكومة المصرية، والغريب أن يصل الاختراق إلى وزارة الأوقاف التي يتولاها عالم وأكاديمي يرى فيه الناس نموذجا لمفكر مستنير، وإذا كانت الحكومة تسعى بجدية لمحاربة التطرف الديني والإرهاب باسم الدين فلتدعم الطرق الصوفية أو على الأقل لتتركها في حالها تنمو بفكرها المتسامح وطقوسها المحببة لقلوب الناس.
 إن الموالد تحارب دائما من اتجاهين رغم أنهما يقفان غالبا على طرفي نقيض إلا أنهما يجتمعان على العداء لهذا الطقس الاحتفالي الشعبي الجميل، الاتجاه السلفي بتنويعاته الذي يرى في الموالد بدعة ينبغي أن تحارب، وقطاعات من المثقفين الذين يتعالون على هذه الاحتفالات ويصفونها بالتخلف لأنهم منعزلون عن روح الشعب وثقافته الحقيقية.
 والموالد من أهم الاحتفالات الشعبية ذات الطابع الديني في مصر، فهي تراث مصري أصيل، ومكون مهم من مكونات ثقافتنا الشعبية المصرية، ولا تخص الموالد أتباع دين من الأديان وحده، بل نحتفل بها جميعا، مسيحيون ومسلمون، فالمسيحيون المصريون يحتفلون بمولد السيدة العذراء ومولد ماري جرجس وموالد قديسين عديدين بنفس الطقوس التي تصاحب احتفالات المسلمين المصريين بموالد آل البيت وفي مقدمتها احتفالهم بمولد السيدة زينب وسيدنا الحسين، واحتفالهم بموالد أولياء الله الصالحين بطول البلاد وعرضها، هذا بالطبع بالإضافة إلى الاحتفالين الكبيرين بالمولد النبوي الشريف وعيد الميلاد المجيد. ولا يقتصر الأمر على التشابه في مظاهر الاحتفال بل نجد أن المصريين يتشاركون في احتفالاتهم بالموالد مع اختلاف أديانهم.
 ولا تكاد تخلو قرية أو مدينة مصرية من مقام أو ضريح أو مزار لولي مسلم أو لقديس مسيحي، بل إننا نجد في بعض المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية مقاما لولي من الأولياء في كل حي من الأحياء القديمة بالمدينة.
 وتختلف أهمية الموالد في مصر وتتفاوت في حجم المترددين عليها تفاوتا كبيرا، فهناك ما يمكن أن نسميه موالد "قومية" يفد إليها الناس من كل صوب من مصر، مثل موالد سيدنا الحسين والسيدة زينب بالقاهرة والسيد البدوي بطنطا والسيدة العذراء بدرنكة بأسيوط وماري جرجس بميت دمسيس، وهناك موالد أصغر يفد إليها أهالي المحافظة أساسا وربما بعض الوافدين من خارجها، وهناك موالد صغيرة قاصرة على حي من الأحياء أو قرية من القرى، مثل مولد السيدة عائشة في حي الخليفة بالقاهرة، وهذا المولد من الموالد المتميزة، له سمات خاصة فالاحتفال الأساسي الذي يقع يبدأ عصر يوم 15 شعبان من كل عام يبدأ في شكل كرنفال فني يسير من ميدان القلعة إلى ميدان السيدة عائشة، وأتذكر كذلك من أيام طفولتي مولد سيدي الأبريقي بحي منيل الروضة الذي كان يقتصر على سكان الحي، وكانت الاستعدادات تبدأ لتنظيمه قبل موعده بأيام حيث يطوف المنظمون على أهالي منيل الروضة في بيوتهم لجمع تبرعات هي ملاليم أو قروش قليلة للمساهمة في الصرف على موكب الاحتفال بالليلة الكبيرة للمولد والتي كانت تسمى البندير.
  إن الحفاظ على الموالد جزء من الحفاظ على الهوية الثقافية للمصريين، ومن يحاربها يرتكب جريمة تدمير جزء من التراث الإنساني.

الدستور 2 سبتمبر 2009

الخميس، 19 أكتوبر 2017

متحف مفتوح في قلب القاهرة الفاطمية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات

متحف مفتوح في قلب القاهرة الفاطمية

عماد أبو غازي

  من سنوات وأنا أتردد على شارع المعز لدين الله، كدارس للتاريخ والوثائق، ذلك الشارع الذي كان يتوسط مدينة القاهرة الفاطمية ويقطعها من الشمال إلى الجنوب، تحول الشارع إلى المركز التجاري الرئيسي للمدينة القديمة مع تحول القاهرة من مدينة مغلقة على الخليفة الفاطمي وكبار رجال دولته إلى مدينة مفتوحة أمام الكافة، وفي هذا الشارع وفي الشوارع والحواري المتفرعة منه شيد الفاطميون قصورهم وبعض من أهم المساجد في عصرهم، كجامع الحاكم والأقمر، وإذا كانت القاهرة قد اضمحلت مع بداية العصر الأيوبي، إلا أنها سرعان ما عادت لها الحياة في أواخر ذلك العصر، ثم عاودت إزدهارها في عصر المماليك، وتحف بشارع المعز عديد من أهم المساجد والمدارس والمنشآت التي شيدت في العصر المملوكي بشقيه البحري والجركسي، فهناك مجموعة قلاوون ومدرسة برقوق ومدرسة برسباي وقصر بشتاك، هذا بخلاف آثار العصر العثماني من أسبلة ومكاتب ومساجد وبيوت، إلى جانب أن الشارع وما حوله ارتبط بشخصيات لعبت دورا في الحياة المصرية من المقريزي حتى نجيب محفوظ.


 إن كل أثر من تلك الآثار الباقية في شارع المعز وما حوله كفيل بأن يكون مزارا تتجه إليه الأنظار، إنه سجل لتاريخ العمارة الإسلامية في مصر على مدى تسعة قرون، من العاشر حتى القرن التاسع عشر الميلاديين.
 وقد شهدت آثار شارع المعز تدهورًا كبيرًا بسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية وتعديات الأهالي على الآثار والتلوث الناجم عن حركة المرور وعوامل الزمن، وكادت كثير من آثار هذا الشارع تتحول إلى خرائب.
  وفي عام 1998 بدأت وزارة الثقافة مشروعًا لإنقاذ شارع المعز، ويعد المشروع تجربة رائدة في الحفاظ على المناطق التاريخية الأثرية وتطويرها، وقد تمت من خلال مشروع القاهرة التاريخية بالتعاون مع كافة الجهات المعنية بالمدينة التاريخية.
 وقد زرت مؤخرًا الشارع، ورأيت إنجازًا حضاريًا وثقافيًا مهمًا، رغم أن ما تم تنفيذه يعد أول خطوه فقط فى خطة متكاملة للحفاط على التراث العمرانى للمدينة التاريخية روعي فيها البعد الاجتماعى بالتوازي مع الحفاظ على الطابع العمراني، تلك الخطوة "مثالًا لما سيكون عليه الحال مستقبلًا للعودة بالمدينة القديمة السابقة ريادتها الحضارية لتكون منارة ثقافية تشع للعالم الحضارة المصرية المجيدة" كما يذكر الكتاب التوثيقي الذي أصدرته وزارة الثقافة المصرية لتسجيل هذا الإنجاز المهم.
 ويمضي هذا السجل التوثيقي في تتبع المشروع منذ بدايته: "لقد سجلت مدينة القاهرة على قائمة التراث العالمى عام 1979م، ثم كانت نقطة الانطلاق للمشروع فى منتصف عام 1998 ومع ظهور الدراسة التى قام بإعدادها برنامج الإنماء التابع للأمم المتحدة والمجلس الأعلى للآثار تحت مسمى مشروع تطوير القاهرة التاريخية، إلا أنه بعد عقد لقاء لليونسكو بالقاهرة وعرض نتائج الدراسة ومناقشة تفاصيلها فى باريس فى اجتماع آخر فى نفس العام، تبين مدى احتياج هذه الدراسة لمواكبة التغييرات البيئية والسكانية والعمرانية والثقافية للمنطقة بصورة متلاحقة حيث اعتمدت الدراسة على جميع الإحصائيات التى تمت بالقاهرة من خلال أجهزة الحكومة المصرية التى تقوم بإعداد مثل هذه الإحصائيات بشكل دورى واعتمدت الدراسة على آخر هذه الإحصائيات فى ذلك الوقت والتى تعود إلى عام 1986م.


 لذا فقد كان الاتجاه الأساسى هو التعرف على المتغيرات التى حدثت بالمنطقة خلال أثنى عشر عامًا من سنة 1986 إلى 1998م وكذلك التعرف بشكل تفصيلى واضح على حالة المبانى الأثرية بالمنطقة ومدى احتياجها لأعمال الحفاظ والترميم وبيان مدى خطورتها حيث لم تركز الدراسة على هذه النقطة.
 وبناء على هذه المناقشات، أعدت وزارة الثقافة ورقة عمل خاصة بالحالة الراهنة آنذاك للعرض على الحكومة المصرية، وأوصت بضرورة إعداد مسوح شاملة للوضع الراهن بكامل متغيراته تمهيدًا لإعداد دراسات للمشروع الخاص بالقاهرة التاريخية على أن تمثل كل الجهات التى تعمل فى نطاق القاهرة التاريخية فى هذا العمل، وأن يكون العمل وفقًا لتصور متكامل للمنطقة يحافظ على شخصية القاهرة الاعتبارية ويعمل على الحفاظ عليها من المتغيرات المتلاحقة، وكذلك إعداد منهج لخطة عمل لجميع الهيئات المؤثرة فى هذه الدراسة، وبناء على هذه الورقة فقد صدر قرار رئيس الحكومة المصرية رقم (1352) فى مايو 1998م بتشكيل مجموعة عمل على المستوى الوزارى وهم يمثلون وزارات الأوقاف، التعمير، التخطيط، الحكم المحلى، الداخلية، النقل، ومحافظة القاهرة وبرئاسة وزير الثقافة وتكون مهمة هذه اللجنة الإشراف على وضع خطة عمل ومنهج لإعداد الدراسات المتكاملة لمشروع القاهرة التاريخية طبقًا لتصورات وزارة الثقافة باعتبارها الجهة المنوط بها أكبر حجم من العمل فى المنطقة".
 وانطلق العمل وبعد عشر سنوات أصبح لدينا بحق متحفًا مفتوحًا لتاريخ العمارة الإسلامية.

الدستور 26 أغسطس 2009

الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

الغزلان تعشق الفريسكا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الغزلان تعشق الفريسكا
عماد أبو غازي


 إذا كانت طوكيو مدينة يغلب عليها الطابع الحديث، فإنك تلحظ هذا التعايش بين القديم والجديد بوضوح عندما تزور العواصم التاريخية القديمة للبلاد: كيوتو ونارا، هناك أنت في متاحف مفتوحة، المعابد الأثرية الشنتوية والبوذية في كل مكان، كلها مزارات أثرية سياحية، لكنها في نفس الوقت ما زالت مستخدمة كدور للعبادة، تجد الزائر الأجنبي ـ أو حتى الياباني ـ الذي جاء لزيارة المعبد باعتباره معلمًا أثريًا يعكس مرحلة من مراحل الحضارة اليابانية في عصورها القديمة، وتجد في نفس الوقت الياباني الذي جاء ليمارس طقوسه الدينية، داعيًا ومتضرعًا أو مشعلًا عودًا من البخور أو مقدمًا نذرًا صغيرًا أو كبيرًا.


أو مرسلًا رسالة إلى أرواح الأجداد، مثلما كان يفعل قدماء المصريين، أو مثلما يفعل محدثوهم عندما يرسلون رسائلهم إلى الإمام الشافعي.


  معظم الشوارع في مدينتي كيوتو ونارا ضيقة كثيرة الانحناءات، تقترب من حوارينا الصغيرة، مع ذلك تسير فيها السيارات في الاتجاهين وبسرعة دون حوادث، في التقاطعات والملفات مرايات ضخمة معلقة على الحوائط تكشف الطريق للسيارات لمنع الحوادث.
 كيوتو عاصمة اليابان القديمة منذ عام 794م حتى عام 1868م عندما انتقلت العاصمة إلى إيدو التي تحول اسمها إلى طوكيو مع عصر ميجي الذي يعد عصر الإصلاح في اليابان، مدينة كيوتو مدينة رائعة الجمال، تبدو كأنها مشيدة في قلب فوهة بركان عملاق خامد، تحيط بها الجبال بشكل دائري من كل الاتجاهات، جبالها خضراء تغطيها الأشجار العملاقة، وتتخللها الجداول التي ينساب ماؤها رائقًا.








تتميز كيوتو بالمعبدين الذهبي والفضي وهما من أهم المعالم الأثرية في المدينة، بل في اليابان كلها، يرجع تاريخ بناء المعبد الذهبي إلى سنة 1397م أي إلى مرحلة توازي العصور الوسطى في تاريخنا المصري وعلى وجه التحديد عصر المماليك البحرية، المعبد تحفة معمارية مشيد من الخشب المغطى برقائق الذهب، يقع في وسط مساحة خضراء شاسعة تتخللها البحيرات والجداول المائية، والماء دائمًا لصيق بالمعابد البوذية، وعادة ما تعيش فيه أسماك ملونة ضخمة. أما المعبد الفضي الذي شيد بعد المعبد الذهبي بقرابة تسعين عامًا، في سنة 1489م فيوازي تاريخ تأسيسه مرحلة الانتقال من عصر حكم المماليك البحرية إلى حكم المماليك الجراكسة، وتحيط به منطقة سياحية تشبه خان الخليلي، مليئة بالمحلات الصغيرة التي تبيع المنتجات التقليدية.


 من المعالم التي تتميز بها المدينة كذلك حدائقها الصخرية الموجودة في بعض المعابد البوذية، تلك الحدائق التي تعكس اتجاهًا صوفيًا في الديانة البوذية، والحدائق الصخرية عبارة عن مساحات مستطلية ليست بالكبيرة مزينة بصخور مختلفة الأشكال والألوان منسقة بأشكال معينة تعكس مفاهيم هذا الاتجاه الصوفي.


 نارا العاصمة الأقدم لليابان، كانت عاصمة للبلاد لفترة بسيطة بين سنتي 710 إلى 784م، قبل أن تنتقل العاصمة إلى ناجاواكا لمدة عشر سنوات تقريبًا، ثم إلى كيوتو، تتميز نارا بغزلانها البرية التي تتجول في شوارع المدينة أمنة منطلقة بين الناس والسيارات، تأكل العشب من الأرض، وأوراق الشجر، وقد يرتكب الزائر للمدينة للمرة الأولى "حماقة" محاولة إطعام تلك الغزلان بنفسه، فتكون العواقب وخيمة، في شوارع المدينة يقف باعة عجائز رجالًا ونساءً يحملون صناديق زجاجية بداخلها رقائق تشبه "الفريسكا" التي نأكلها على شواطئ مصر، الناس تشتري هذه الرقائق لإطعام الغزلان، بمجرد أن تفتح الباكو وتحاول إطعام غزال من هذه الغزلان الجميلة تجد نفسك في ثواني محاطًا بالعشرات منها تناشدك قطعة فريسكا صغيرة، ليس لأنها جوعانة، فمدينة نارا كأنها غابة كبيرة، الخضرة في كل مكان وتستطيع الغزلان أن تأكل كما تشاء، لكن يبدو أن الغزلان تعشق الفريسكا، كما تعشق الورق كذلك، شاهدت غزال يختطف كتالوج معرض للآثار من يد سيدة يابانية ويلتهمه بعد أن فشلت في انتزاعه منه، لا توجد لافتات تحذرك من أن تطعم الغزلان، فهي عمومًا لن تؤذيك وأنت تطعمها لكنها سترغمك على إنفاق ما معك من مال على شراء الفريسكا، التحذيرات التي تملأ الشوارع تحذر من الاقتراب من ذكور الغزلان في موسم التزاوج، ومن الأمهات بعد الولادة.







 مدينة نارا بها أضخم تمثال برونزي على وجه الأرض تمثال بوذا بمعبد تودا يجي، الذي يعد من أضخم المعابد الخشبية، مدينة نارا تضم عددًا كبيرًا من المعابد البوذية ومن معابد الشنتو، المعابد تتجاور دون أدنى مشكلة، الحالة الدينية في اليابان فريدة، كما قال لي صديق ياباني: اليابانيون يحتفلون بطقوس الميلاد في معابد الشنتو وطقوس الزواج في كنائس كاثوليكية وطقوس الوفاة في معابد بوذية.






 التعايش الديني في اليابان يذكرني بمصر التي كانت، مصر التي قامت حضارتها القديمة على الوحدة من خلال التنوع، على احترام التعددية، على قبول الآخر المختلف.
  إذا فكرت في أن أوجز إنطباعاتي عن اليابان في عبارات قصيرة أقول: الدقة والإتقان والتعايش بين المتعارضات سمة لكل شيئ في الحياة اليابانية وسر من أسرار نجاح اليابان.
الدستور 19 أغسطس 2009

السبت، 14 أكتوبر 2017

الحالة اليابانية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الحالة اليابانية
عماد أبو غازي
 القديم إلى جوار الحديث يتعايش معه جنبًا إلى جنب، بهذه العبارة يمكن أن نلخص الحالة اليابانية، فهناك التقاليد لا تقف عائقًا في طريق التطور ولا تصادر المستقبل لصالح الماضي، انتقل اليابانيون إلى عصر الحداثة وما بعدها وفي نفس الوقت لم يتخلوا عن تراثهم، يستدعونه بقدر الحاجة، ويظهر في حياتهم بلا تزيد ولا مزايدة.


 



 تتفاوت حالة التداخل بين القديم والحديث من مدينة إلى أخرى من المدن اليابانية، فيكتشف الزائر لطوكيو أنها مدينة ضخمة حداثية من الدرجة الأولى، تتبين فيها آثار الماضي بصعوبة، مدينة طوكيو مدينة للأبراج العملاقة والأضواء المبهرة والكباري العلوية وقطارات المونوريل المعلقة وشبكة مترو الأنفاق متعددة الطوابق التي تتجاوز خطوطها العشرة خطوط، رغم تعقد الشبكة لا يمكن أن تتوه فيها إذا عرفت كيف تستعمل الخريطة، البدائل كثيرة وطرق الوصول إلى غايتك متعددة، لوحات الإعلانات داخل محطات المترو تحدد مواعيد وصول القطارات بدقة متناهية، تستطيع أن تعرف متى تصل إلى هدفك بالثانية، لا مجال للتأخير أو الخطأ، أماكن وقوف القطار وفتح الأبواب محددة بدقة، لا يمكن أن يقف القطار متقدمًا أو متأخرًا سنتيمتر واحد عن مكانه المحدد، محطات المترو مذهلة في نظافتها، محطة طوكيو الرئيسية للقطارات، أسفل منها عدة أدوار من خطوط المترو، يتحرك فيها كل يوم عشرات أضعاف من يتحركون داخل محطة مصر، ومع ذلك لا أثر فيها لقذارة، لا توجد ورقة ملقة على الأرض أو كوم زبالة، أو ذرة تراب، المحلات داخلها لا تقل في مستواها عن محلات الأسواق الحرة في أكبر مطارات العالم، هذا النظام وهذه النظافة رغم أن اليابان صاحبة أعلى كثافة سكانية في العالم.




 كل شيئ يتحدث معك في المدينة وأنت تسير أو تركب المترو أو القطار، الإعلان عن مسار الرحلة على المحطة يتم بشكل دائم باليابانية والإنجليزية حتى لا تفقد اتجاهك، قبل أن يصل القطار إلى محطة تعلن الإذاعة الداخلية عن وصوله ومساره بصوت واضح لا يضيع في ضجيج الزحام، داخل العربات تسجيل صوتي يعلن عن المحطة القادمة والتي تليها، وتنبه من يرغب في تغيير الخط إلى الخطوط الأخرى في المحطة، إشارات المرور تنبه المارة والمشاة العابرون للتقاطعات إلى أنه أغلقت أو فتحت، والهدف هنا تنبيه المكفوفين، فالإشارة هناك ضوئية صوتية، عندما زرت اليابان للمرة الأولى لفت انتباهي شريط باللون الأصفر على الأرض بطول الأرصفة في الشوارع وبطول أرصفة القطارات وسلالم محطاتها، الشريط عليه دوائر ومربعات بارزة، عندما سألت عن السبب في وجودها عرفت أن الهدف منها مساعدة المكفوفين على تبين طريقهم.
 المكن في الشوارع أيضا يتحدث، كل شيء مميكن، لا تجد كشك يبيع السجائر أو المشروبات المثلجة أو الساخنة، مكينة للمشروبات الباردة، وأخرى للمشروبات الساخنة، وثالثة للوجبات السريعة.
 رغم زحام طوكيو أو ربما بسببه يحترمون كل مساحة خضراء، لا يجروء مسؤل على أن يسعى لاقتطاع رقعة خضراء ليبني عليها، حديقة الحيوان في قلب العاصمة لم يفكر أحد في نقلها وتحويل أرضها إلى أبراج سكنية أو إدارية.

 القديم في طوكيو متفرق وموزع بين أحيائها وسط غابة العمائر الكبيرة، معبد بوذي هنا، ومعبد شنتو هناك، قصر الإمبراطور، بعض المباني التي ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بوابة تاريخية لجامعة طوكيو التي كانت حدائقها قصرًا من قصور أحد الأمراء، تعرف هذه البوابة باسم البوابة الحمراء.

 وجامعة طوكيو عمرها 132 سنة، احتفلت منذ عامين بعيدها الثلاثون بعد المائة، أي أنها من عمر دار العلوم تقريبًا، وتسبق الجامعة المصرية بتسعة وعشرين عامًا، الجامعة كما عرفت كانت قد دمرت في زلزال كبير في بدايات القرن الماضي وأعيد بناؤها ثانية، أغلب مبانيها من طراز قديم ينم عن عراقة معمارية، المباني الحديثة متجانسة مع المبنى القديم.


 تتميز جامعة طوكيو بحديقتها المفتوحة أمام الناس، فهي المتنزه العام لسكان المنطقة التي تتوسطها الجامعة، وفي قلب هذه الحديقة توجد بحيرة كبيرة يأتي إليها الناس من خارج الجامعة لتناول غذائهم على ضفافها، ومن الأمور المعتادة أن ترى الناس يسيرون بكلابهم في الحديقة، لا أحد يعترضهم، كما أن الملاعب الرياضية للجامعة مفتوحة أمام الناس، وفي الليل تشاهد الطلاب والطالبات يقفون في مجموعات بين مباني الجامعة وساحتها يغنون ويعزفون، دون أن نشاهد رجل أمن بصفارة يهش الطلاب مثلما يحدث في جامعة القاهرة العريقة بدعوى أن المحاضرات انتهت وأن بقاء الطلاب في الجامعة بعد المغرب قلة أدب.


الدستور 12 أغسطس 2009

بلاد الشمس المشرقة دائما... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
بلاد الشمس المشرقة دائمًا
عماد أبو غازي
 خاضت اليابان تجربة التحديث مرتين، الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما أُرغمت على فتح أبوابها أمام العالم، فخاضت تجربة الحداثة، وحققت نهضتها في أقل من نصف قرن، وأصبحت ضمن القوى الاستعمارية المتنافسة على اقتسام العالم في مرحلة ما بين الحربين العالميتين.
 خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومدمرة، واحتلتها الولايات المتحدة الأمريكية لعدة سنوات بعد الحرب، ومع ذلك تجاوزت اليابان المحنة، وأعادت بناء نفسها مرة أخرى، لتصبح بعد أقل من نصف قرن واحدة من الثمانية الكبار، ولتملك اقتصادا قويا من بين أقوى اقتصادات العالم، لكن كيف نجحت اليابان في القيام من كبوتها مرة أخرى؟


 أولا اعترفت اليابان بالهزيمة، وعرفت أين كان يكمن الخطأ، وتخلصت من الديكتاتورية العسكرية التي أذاقت شعوب شرق آسيا وجنوب شرقها العذاب، وقبل ذلك وبعده أذاقت الشعب الياباني نفسه الويلات، عندما ذهبت إلى اليابان أول مرة سنة 2007 زرت متحف تاريخ الفن الياباني الحديث، الذي يضم أعمالًا فنية تمثال الاتجاهات والمدارس المختلفة في الفن التشكيلي الياباني منذ بدأت اليابان تحتك بالفنون الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر، المتحف مرتب ترتيبًا تاريخيًا وفقًا لتتابع الزمن، في القاعة المخصصة لمرحلة الثلاثينيات يكتشف الزائر أنه أمام اتجاهين متباينين تمامًا في الإبداع التشكيلي، يحتل كل منهما حائطًا من حائطي القاعة، الاتجاه الأول يغلب عليه تأثيرات من الفن الياباني الكلاسيكي، لكنها تأثيرات مصطنعة، ويظهر فيه بوضوح طابع الفن الدعائي المباشر الفج الذي ساد في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وروسيا الستالينية، أما الحائط الثاني فأعماله متنوعة تعكس اتجاهات ومدارس فنية مختلفة يغيب عنها الطابع الدعائي، وفسر لي صديقي وزميل الدكتور أوتوشي الأستاذ الياباني المتخصص في عصر المماليك كيف أن تلك القاعة تعكس إنقسام النخبة المثقفة في المجتمع الياباني في الثلاثينيات ما بين أنصار عسكرة المجتمع ويمثلهم الاتجاه الأول، ودعاة الديمقراطية والسلم ويمثلهم الاتجاه الثاني، وحكى لي كيف كان أنصار السلام والديمقراطية من الفنانيين والمثقفين يتم تجنيدهم في الجيش الياباني والدفع بهم إلى الخطوط الأمامية لجبهات القتال، بينما يقضي أنصار العسكرة والديكتاتورية خدمتهم العسكرية في الخطوط الخلفية والمكاتب الإدارية.
 سقطت الديكتاتورية في اليابان، وخضعت البلاد للاحتلال الأمريكي، لكن اليابان لم تسقط في صراعات داخلية مدمرة مثلما نشهد في العراق بعد سقوط ديكتاتورية صدام حسين، اهتم اليابانيون بإعادة بناء ما دمرته الحرب وبإعادة الحيوية لاقتصادهم، ولم يهتموا مثلما حدث في العراق ببناء ميلشيات "مقاومة" قتلت من الشعب العراقي أضعاف أضعاف ما قتلت من جنود الاحتلال الأمريكي، وأكثر مما قتل جنود الاحتلال من العراقيين.
  خطوة خطوة استعادت اليابان قدراتها وامتلكت مقدراتها، من عاش فترة الستينيات يذكر كيف كان المنتج الياباني في الأسواق رمزًا للمقلد وغير الأصيل، رمزا للأقل جودة، في السيارات في الساعات في الأجهزة الكهربائية، في كل شيئ، كان الأمريكي والأوروبي يأتي في المقام الأول، تماما مثلما نقول اليوم على المنتج التايواني، ترى كيف أصبح المنتج الياباني قبل أن ينتهي القرن العشرين يتصدر منتجات العالم من حيث الجودة والإتقان والكفاءة والاحتمال، إنها قصة شعب يحترم العلم ويحترم العمل ويحترم العقل ويسعى نحو الإتقان.
 كل هذه كانت شروط ضرورية للنجاح، لكن للقصة جانب آخر أيضًا، فمثلما كان موقع اليابان في أقصى العالم عنصرًا ساعدها على تحقيق نهضتها الأولى، كانت الظروف الدولية بعد الحرب العالمية الثانية عنصرًا أساسيًا ساعد اليابان على تحقيق طفرتها الثانية، لقد انتهت الحرب والقوات الأمريكية على أرض اليابان، لكن الحلفاء المنتصرين سرعان ما انقسموا إلى معسكرين، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في جانب، والاتحاد السوفيتي في الجانب الآخر، تحول حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم.
 سرعان ما كسر الاتحاد السوفيتي الاحتكار الأمريكي لسلاح الدمار الشامل الجديد، القنبلة الذرية.
 بدأت أوروبا المحررة من النازية والفاشية تنقسم إلى قسم شرقي تسيطر عليه جبهات شعبية تقودها الأحزاب الشيوعية، وغربي استعاد نظمه الديمقراطية الليبرالية.
 هناك في الشرق الأقصى أيضًا اشتعلت الحرب بين حلفاء الأمس في الصين الذين شكلوا جبهة لمواجهة الاحتلال الياباني، حزب الكومنتانج  والحزب الشيوعي الصيني، ونجحت مسيرة ماو تسي تونج في إسقاط نظام كاي تشيك الموالي للغرب، وإقامة الصين الشعبية الشيوعية المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي، ثم قامت الحرب الكورية ونجح الشيوعيون بقيادة كيم إيل سونج في السيطرة على شمال البلاد، وتم تقسيم كوريا إلى دولتين، وبدأت حرب التحرير الشعبية في الهند الصينية ضد الاستعمار الفرنسي بقيادة الشيوعيين، كل هذه التحولات المتسارعة ودخول العالم في مرحلة الحرب الباردة أرغمت الغرب بقيادته الجديدة ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة ترك اليابان تخوض تجربة النمو مرة أخرى كي تكون قوة توازن إقليمي في الشرق الأقصى.

 هكذا نجحت اليابان مرة أخرى في أن تشغل موقعًا بارزًا على خريطة العالم، بفضل شعبها المبدع الذي عرف كيف يستفيد من المتغيرات الدولية ويوظفها لصالحه.
الدستور 5 أغسطس 2009