السبت، 14 أكتوبر 2017

بلاد الشمس المشرقة دائما... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
بلاد الشمس المشرقة دائمًا
عماد أبو غازي
 خاضت اليابان تجربة التحديث مرتين، الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما أُرغمت على فتح أبوابها أمام العالم، فخاضت تجربة الحداثة، وحققت نهضتها في أقل من نصف قرن، وأصبحت ضمن القوى الاستعمارية المتنافسة على اقتسام العالم في مرحلة ما بين الحربين العالميتين.
 خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومدمرة، واحتلتها الولايات المتحدة الأمريكية لعدة سنوات بعد الحرب، ومع ذلك تجاوزت اليابان المحنة، وأعادت بناء نفسها مرة أخرى، لتصبح بعد أقل من نصف قرن واحدة من الثمانية الكبار، ولتملك اقتصادا قويا من بين أقوى اقتصادات العالم، لكن كيف نجحت اليابان في القيام من كبوتها مرة أخرى؟


 أولا اعترفت اليابان بالهزيمة، وعرفت أين كان يكمن الخطأ، وتخلصت من الديكتاتورية العسكرية التي أذاقت شعوب شرق آسيا وجنوب شرقها العذاب، وقبل ذلك وبعده أذاقت الشعب الياباني نفسه الويلات، عندما ذهبت إلى اليابان أول مرة سنة 2007 زرت متحف تاريخ الفن الياباني الحديث، الذي يضم أعمالًا فنية تمثال الاتجاهات والمدارس المختلفة في الفن التشكيلي الياباني منذ بدأت اليابان تحتك بالفنون الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر، المتحف مرتب ترتيبًا تاريخيًا وفقًا لتتابع الزمن، في القاعة المخصصة لمرحلة الثلاثينيات يكتشف الزائر أنه أمام اتجاهين متباينين تمامًا في الإبداع التشكيلي، يحتل كل منهما حائطًا من حائطي القاعة، الاتجاه الأول يغلب عليه تأثيرات من الفن الياباني الكلاسيكي، لكنها تأثيرات مصطنعة، ويظهر فيه بوضوح طابع الفن الدعائي المباشر الفج الذي ساد في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وروسيا الستالينية، أما الحائط الثاني فأعماله متنوعة تعكس اتجاهات ومدارس فنية مختلفة يغيب عنها الطابع الدعائي، وفسر لي صديقي وزميل الدكتور أوتوشي الأستاذ الياباني المتخصص في عصر المماليك كيف أن تلك القاعة تعكس إنقسام النخبة المثقفة في المجتمع الياباني في الثلاثينيات ما بين أنصار عسكرة المجتمع ويمثلهم الاتجاه الأول، ودعاة الديمقراطية والسلم ويمثلهم الاتجاه الثاني، وحكى لي كيف كان أنصار السلام والديمقراطية من الفنانيين والمثقفين يتم تجنيدهم في الجيش الياباني والدفع بهم إلى الخطوط الأمامية لجبهات القتال، بينما يقضي أنصار العسكرة والديكتاتورية خدمتهم العسكرية في الخطوط الخلفية والمكاتب الإدارية.
 سقطت الديكتاتورية في اليابان، وخضعت البلاد للاحتلال الأمريكي، لكن اليابان لم تسقط في صراعات داخلية مدمرة مثلما نشهد في العراق بعد سقوط ديكتاتورية صدام حسين، اهتم اليابانيون بإعادة بناء ما دمرته الحرب وبإعادة الحيوية لاقتصادهم، ولم يهتموا مثلما حدث في العراق ببناء ميلشيات "مقاومة" قتلت من الشعب العراقي أضعاف أضعاف ما قتلت من جنود الاحتلال الأمريكي، وأكثر مما قتل جنود الاحتلال من العراقيين.
  خطوة خطوة استعادت اليابان قدراتها وامتلكت مقدراتها، من عاش فترة الستينيات يذكر كيف كان المنتج الياباني في الأسواق رمزًا للمقلد وغير الأصيل، رمزا للأقل جودة، في السيارات في الساعات في الأجهزة الكهربائية، في كل شيئ، كان الأمريكي والأوروبي يأتي في المقام الأول، تماما مثلما نقول اليوم على المنتج التايواني، ترى كيف أصبح المنتج الياباني قبل أن ينتهي القرن العشرين يتصدر منتجات العالم من حيث الجودة والإتقان والكفاءة والاحتمال، إنها قصة شعب يحترم العلم ويحترم العمل ويحترم العقل ويسعى نحو الإتقان.
 كل هذه كانت شروط ضرورية للنجاح، لكن للقصة جانب آخر أيضًا، فمثلما كان موقع اليابان في أقصى العالم عنصرًا ساعدها على تحقيق نهضتها الأولى، كانت الظروف الدولية بعد الحرب العالمية الثانية عنصرًا أساسيًا ساعد اليابان على تحقيق طفرتها الثانية، لقد انتهت الحرب والقوات الأمريكية على أرض اليابان، لكن الحلفاء المنتصرين سرعان ما انقسموا إلى معسكرين، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في جانب، والاتحاد السوفيتي في الجانب الآخر، تحول حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم.
 سرعان ما كسر الاتحاد السوفيتي الاحتكار الأمريكي لسلاح الدمار الشامل الجديد، القنبلة الذرية.
 بدأت أوروبا المحررة من النازية والفاشية تنقسم إلى قسم شرقي تسيطر عليه جبهات شعبية تقودها الأحزاب الشيوعية، وغربي استعاد نظمه الديمقراطية الليبرالية.
 هناك في الشرق الأقصى أيضًا اشتعلت الحرب بين حلفاء الأمس في الصين الذين شكلوا جبهة لمواجهة الاحتلال الياباني، حزب الكومنتانج  والحزب الشيوعي الصيني، ونجحت مسيرة ماو تسي تونج في إسقاط نظام كاي تشيك الموالي للغرب، وإقامة الصين الشعبية الشيوعية المتحالفة مع الاتحاد السوفيتي، ثم قامت الحرب الكورية ونجح الشيوعيون بقيادة كيم إيل سونج في السيطرة على شمال البلاد، وتم تقسيم كوريا إلى دولتين، وبدأت حرب التحرير الشعبية في الهند الصينية ضد الاستعمار الفرنسي بقيادة الشيوعيين، كل هذه التحولات المتسارعة ودخول العالم في مرحلة الحرب الباردة أرغمت الغرب بقيادته الجديدة ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية على ضرورة ترك اليابان تخوض تجربة النمو مرة أخرى كي تكون قوة توازن إقليمي في الشرق الأقصى.

 هكذا نجحت اليابان مرة أخرى في أن تشغل موقعًا بارزًا على خريطة العالم، بفضل شعبها المبدع الذي عرف كيف يستفيد من المتغيرات الدولية ويوظفها لصالحه.
الدستور 5 أغسطس 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق