السبت، 30 سبتمبر 2017

لماذا تقدمت اليابان؟... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
لماذا تقدمت اليابان؟
عماد أبو غازي
 منذ انتصرت اليابان على روسيا القيصرية في الحرب التي قامت بينهما سنة 1905 والمسألة اليابانية تشغل الفكر المصري، يومها كتب مصطفى كامل زعيم الحركة الوطنية المصرية كتابه عن بلاد الشمس المشرقة، تلك الجزر التي تقع في أقصى الأرض والتي بدأت نهضتها الحديثة، أو بمعنى أدق بدأت انتقالها إلى عصر الثورة الصناعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت بعد بداية التجربة المصرية بأكثر من نصف قرن، ومع ذلك نجحت في أن تهزم دولة أوروبية طالما أذاقت الدولة العلية العثمانية مرارة الهزيمة، لقد نجح اليابانيون حديثو العهد بمعطيات عصر الثورة الصناعية في هزيمة روسيا القيصرية الأوروبية، في الوقت الذي سقطت فيه مصر في قبضة الاحتلال البريطاني.


 كان هذا السؤال الذي أرق مصطفى كامل، وما زال يطرح بين الحين والحين على مفكرينا وساستنا في العالم العربي كلما أفقنا على وقع هزيمة جديدة، أو على انتكاسه لمشروع نهضوي.
 وقد ولّد السؤال أسئلة وأسئلة بعد هزيمة اليابان المروعة في الحرب العالمية الثانية، وبعد الجريمة التي أرتكبتها الولايات المتحدة الأمريكية بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونجازاكي يومي 6 و8 أغسطس سنة 1945، لقد كانت اليابان البلد الوحيد في العالم الذي ضرب بالقنابل الذرية، واحتلت الولايات المتحدة اليابان لسنوات، لكن اليابان نهضت مرة أخرى، وتجاوزت هزيمتها، وتجاوزت سنوات الاحتلال، وأصبحت قوة من القوة الاقتصادية العظمى في العالم.
 استفادت اليابان من درس الحرب العالمية الثانية، من المأساة التي قادها إليها نظام دكتاتوري عسكري فاشي، ارتكب جرائم ضد شعوب شرق آسيا كلها، لكنه بالدرجة الأولى ارتكب جريمة ضد شعبه وضد إنسانية شعبه، استوعب الشعب الياباني الدرس جيدا ولفظ الديكتاتورية والنزعة العسكرية العدوانية، وشيد نهضته الجديدة على أسس من احترام مبادئ السلم العالمي، ورغم المخاطر المحيطة باليابان ووجود دول نووية جارة لها ما زالت اليابان محافظة على موقفها الرافض لامتلاك السلاح النووي، ومازال خروج قوات يابانية عسكرية في أي مهمة دولية حتى ولو كانت مهمة لحفظ السلام أمرا مثيرا للجدل في المجتمع الياباني، لم تؤدي الهزيمة القاسية وسنوات الاحتلال الأمريكي إلى نمو نزعة انتقامية لدى اليابانيين، بل حفزت فيهم روح التحدي لبناء مجتمع ناهض جديد يعتمد على تنمية طاقات الإبداع لدى اليابانيين.
 كيف نجحت اليابان التي أرسلت في عصر الخديوي إسماعيل بعثة إلى مصر للتعلم من تجربتنا في النهضة في حين تعثرنا نحن؟
 قد يكمن جزء أساسي من الإجابة في اختلاف معطيات الموقع بين مصر واليابان، فبقدر ما نعتبر موقع مصر في القلب من العالم القديم ميزة كبيرة لها، بقدر ما كان هذا الموقع بمثابة العبء عليها، وبقدر ما كان موقع اليابان المتطرف في أقصى الشرق من مركز العالم القديم سببا في عزلتها لقرون طويلة وفي ضعف اتصالها بتطورات وأحداث العالم بقدر ما كان هذا الموقع ميزة لها في لحظة نهضتها الحديثة.
 لقد ظلت مصر طوال عشرات القرون من تاريخها الطويل تستفيد من ميزة الموقع، في البداية وفرت لها الصحراوات والبحار التي تحدها من كل جانب حماية طبيعية مكنتها من بناء أسس حضارتها القديمة، ومع نمو مصر ونمو مجتمعات العالم القديم المحيطة بها استفادت مصر مرة أخرى من ميزة الموقع الذي يتوسط طرق التجارة بين القارات الثلاثة، شيدت إمبراطوريات وخضعت لإمبراطوريات، وتفاعلت مع ثقافات وحضارات العالم القديم كله، تأثرت وأثرت، لكن عندم مفرق طرق الزمن مع بدايات عصر النهضة الأوروبية، مرحلة انتقال العالم إلى ما اصطلحنا على تسميته العصر الحديث، كانت الانتكاسة مع الاحتلال العثماني لمصر، ثلاثة قرون من بدايات القرن السادس عشر إلى بدايات القرن التاسع عشر انقلب فيها حال العالم القديم وبقيت مصر على حالها، وعندما أفقنا مع صدمة الحملة الفرنسية وبدأت تجربة التحديث في عصر محمد علي، كان الغرب الأوروبي قد وصل إلى مرحلة من التطور تمكنه بالقوة العسكرية من ضرب أي محاولة للنهوض تهدد مصالحة في الاستعمارية، وفي تلك الفترة كانت مصر بسبب موقعها في قلب بؤرة الصراع بين القوى الاستعمارية المتصارعة، كانت بسبب موقعها مرة أخرى مجالا للتنافس الاستعماري، وإذا كان هذا التنافس قد وقاها من السقوط في قبضة قوة من القوتين الاستعماريتين القديمتين إنجلترا وفرنسا لمدة ثمانين سنة، إلا إنه لم يسمح لها باستكمال أسس نهضتها، لا في عصر محمد علي ولا في عصر إسماعيل، وانتهت التجربة الثانية بسقوط مصر في قبضة الاحتلال البريطاني الذي استمر لأكثر من سبعين سنة.
 أما اليابان فاقتصر احتكاكها في العصور القديمة على الاحتكاك بحضارات الشرق الأقصى المحيطة بها، الصين وكوريا، ومن جبال الهمالايا بالهند عبر الصين انتقلت البوذية إلى اليابان، لقرون طويلة عاشت اليابان فيما يشبه العزلة، شيد الشعب الياباني حضارته، وبنى أسس ثقافته في إطار الاحتكاك بعالم صغير محدود نسبيا، وحافظت تلك الحضارة على خصائصها لقرون طويلة، وتطورت تطورا ذاتيا بطيئا، تحدى اليابانيون القدماء ظروف البيئة الصعبة، الجزر الصخرية التي يحيطها الماء من كل جانب، الأرض التي تضربها الزلازل بمعدلات عالية لا مثيل لها في منطقة مأهولة في العالم، الموارد الطبيعية المحدودة، نجح اليابانيون رغم كل الصعاب في بناء حضارتهم والحفاظ عليها في جزرهم "البعيدة".
 وعندما جاء الغرب بقوته وحضارته الصناعية ومشروعاته الاستعمارية إلى اليابان في منتصف القرن التاسع عشر بدأت اليابان تفتح أبوابها، أو أرغمت على أن تفتح أبوابها، وسعى اليابانيون إلى استيعاب معطيات العصر بسرعة، وبسبب موقع اليابان النائي والبعيد عن مناطق الصراع الاستعماري الرئيسية، بسبب كل عيوب الموقع والبيئة لم تكن اليابان في بؤرة اهتمام القوى الاستعمارية التي انشغلت بالتنافس على مناطق أكثر أهمية من وجهة النظر الاستعمارية، مثل المشرق العربي وشمال أفريقيا، بسبب الموقع وإمكانيات السوق وظروف المناخ الملائم، أو أفريقيا جنوب الصحراء بسبب الموارد الطبيعية، لقد مكن انشغال القوى الاستعمارية بعيدا عن اليابان لفترة من الزمن اليابانيون من اجتياز الخط الأحمر وامتلاك مقدرات العصر الحديث، وعندها لم يعد في مقدور القوى الاستعمارية الأوروبية أن توقف تطور اليابان حتى لو أرادت.

الدستور 29 يوليو 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق