الاثنين، 31 يوليو 2017

"النحاس ولو كره بعض الناس"... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
"النحاس ولو كره بعض الناس"
عماد أبو غازي
 السبب الأول لإقامة تمثال لمصطفى النحاس صدور حكم قضائي نهائي من مجلس الدولة ينبغي أن يحترمه الجميع ويعملون على تنفيذه، لكن هناك أسباب كثيرة قبل ذلك وبعده، فربما كان مصطفى النحاس الزعيم المصري الوحيد منذ أحمد عرابي الذي لم يلق ما يستحق من تقدير يعادل دوره الوطني في تاريخ مصر السياسي الحديث لا يوجد أي شكل من أشكال التقدير لهذا الرجل العظيم، ولا اعتذار لاسمه عما لحق به من تشويه استمر لسنوات طويلة، باستثناء ذلك الشارع في مدينة نصر الذي يحمل اسمه، والذي جاء في إطار المصالحة مع التاريخ دون حساسيات التي تميز بها عصر مبارك، وربما يكون في إقامة تمثال له رد اعتبار جزئي للرجل لن يكتمل إلا بتصحيح صورته في مناهج التعليم العام، وإبراز دوره الوطني والديمقراطي.

 لقد كان مصطفى النحاس تاريخًا من النضال من أجل مصر، دستورها واستقلالها، ومن المواقف التي تكشف عن احترام النحاس باشا للدستور ودفاعه عنه، موقفه في وزارته الثانية، فعندما تبين بوضوح أن الملك فؤاد لا يحترم دستور البلاد ويسعى باستمرار لخرقه المرة بعد المرة، سعت حكومة النحاس باشا الثانية التي تشكلت في أول يناير 1930 بعد انتخابات برلمانية نزيهة أجرتها حكومة عدلي باشا يكن الانتقالية وجاءت ببرلمان بأغلبية وفدية كاسحة إلى وضع الضمانات لصيانة الدستور، الأمر الذي أكده النحاس باشا في خطاب قبول تشكيل الوزارة حيث قال: "ستتقدم الوزارة ببرنامجها إلى البرلمان جاعلة من أغراضها الأولى العمل على تثبيت قواعد الدستور وصون نصوصه وأحكامه والسير بالبلاد في طريق الإصلاح بجميع نواحيه..."، وأعدت وزارة النحاس مشروع قانون محاكمة الوزراء تمهيدًا لتقديمه للبرلمان، وتضمن المشروع نصوص تقضي بمحاكمة الوزراء الذين يقدمون على قلب دستور الدولة أو حذف حكم من أحكامه أو تغييره أو تعديله بغير الطريقة التي رسمها الدستور، أو مخالفة حكم من أحكامه الجوهرية، كما نص مشروع القانون كذلك على محاكمة الوزراء الذين يبددون أموال الدولة العامة، إلا أن الملك رفض توقيع مرسوم إحالة مشروع القانون إلى البرلمان، وزاد على ذلك أن تدخل في أعمال الوزارة فيما يتعلق يترشيح أسماء أعضاء مجلس الشيوخ المعينيين منتهكًا بذلك الدستور، فما كان من النحاس باشا إلا الدفاع عن الدستور ومبادؤه، فقدم استقالة وزارته، وقال في خطاب الاستقالة: "أرفع إلى سدتكم العلية استقالتي وزملائي من الوزارة نظرًا لعدم تمكننا من تنفيذ برنامجنا الذي قطعنا العهد على أنفسنا بتنفيذه".... واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب الذي يستمد منه الشرعية ليعلن استقالته ويحدد أسبابها قائلًا: "عندما تولت الوزارة الحاضرة الحكم قطعت على نفسها عهدًا أن تصون أحكام الدستور وأن تحوطه بسياج من التشريع يكفل له حياة متصلة ونموًا مطردًا... لكن الوزارة لم تتمكن من أن تقدم إلى البرلمان هذا التشريع الذي تقضي به المادة 68 من الدستور، لذلك رأت من واجبها أن ترفع استقالتها إلى السدة الملكية..."


 قبل الملك الاستقالة في 19 يونيو 1930 أي أن الحكومة لم تكمل ستة أشهر، لقد قدم النحاس نموذجًا لرئيس الوزراء الذي يعتبر أنه مسئول أمام الشعب ممثلًا في البرلمان المنتخب انتخابًا ديمقراطيًا وليس مسئولًا أمام الملك الذي يصدر مرسوم تعيينه ومرسوم إقالته، إن حكومته هي حكومة الشعب وليست حكومة الملك، تحترم الدستور الذي ارتضاه المصريون لأنفسهم ولا تحترم إرادة الملك المستبد الذي يسعى إلى الإطاحة بالدستور.
 لقد أتى فؤاد بإسماعيل صدقي عدو الشعب رئيسًا للوزراء فعطل البرلمان وألغى دستور 1923 ليحل محله دستور جديد يسحب سلطات الأمة ويعطيها للملك، إنه دستور 1930 الذي رفضه الشعب بكل فئاته وطوائفه، فماذا كان موقف مصطفى النحاس زعيم الأغلبية وزعيم الأمة؟


 كان رده الخروج إلى الشارع للتصدي للانقلاب الدستوري ولديكتاتورية صدقي، جسد المعنى الحقيقي للزعامة، لم يقبع الرجل في مقر حزبه ويكتفي بخطب في الغرف المغلقة أو مقالات في الصحف، بل قدم النموذج للزعيم الذي ينزل إلى الشارع يختلط بالجماهير يقودها بالفعل معرضًا حياته للخطر، بدأ النحاس باشا جولة في الأقاليم لحشد الجماهير ضد عدوان الملك ورئيس الوزراء صدقي باشا على الدستور، توجه إلى الزقازيق ليخطب في مؤتمر جماهيري بمحلج يملكه القطب الوفدي عبد العزيز بك رضوان، لم يتعال باعتباره رئيسًا لحزب ورئيسصا للوزراء، بل اجتماع بجماهيريه في محلج قطن في مره، ونام ليله على دكه في رصيف محطة القطار في مره أخرى، وفتح صدره للرصاص مرات ومرات دون أن يهاب طغيان السلطة، أينما حل كان قوة دافعه للجماهير يحشدها من حوله، ويجمعها في مواجهة الاعتداء على حقوقها وعلى دستورها، عندما أحست حكومة إسماعيل صدقي بقوة النحاس باشا وخطورة حركته بين الجماهير وعجز قوات البوليس على التصدي لها، دفعت بالجيش إلى ساحة المواجهة.
 وفي المنصورة في الثامن من يوليو سنة 1930 احتشد الآلاف لاستقبال مصطفى النحاس، ودفعت الحكومة بقوة من الجيش قوامها ثلاثة آلاف جندي للتصدي للجماهير، وأطلق الجنود النار في الهواء في شارع البحر، وهددوا بالضرب في المليان ما لم تنفض الجموع، لكن الحشود تزايدت، وعربة النحاس باشا واصلت طريقها وسط الجماهير التي حملتها على الأكتاف لتعبر بها الخنادق التي حفرتها قوات الأمن، فما كان من الجنود إلا أن هاجموا الجموع بسناكي بنادقهم، بل هجم أحدهم على النحاس باشا يطعنه بالسونكي، فتلقى سنيوت بك حنا الطعنة عنه وأصيب بجرح بالغ في ذراعه، واستشهد أربعة من الأهالي وقتل ثلاثة من رجال الجيش والبوليس وجرح 145 مواطنًا، وكافأت السرايا والحكومة ضابط نكره باع ضميره بترقيته إلى رتبة اللواء استثناء، في الوقت الذي أحالت فيه الصاغ محمد أمين إلى الاستيداع عقابًا له على رفضه استخدام القوة مع الأهالي، رغم عنف السلطة وطغيانها استمرت المقاومة واستمر النحاس باشا في وسط الجماهير، إلى أن سقطت وزارة صدقي ومن بعدها سقطت وزارتا عبد الفتاح يحيي وتوفيق نسيم، وعاد الدستور وعاد مصطفى النحاس إلى الحكم مرة أخرى بعد انتخابات ديمقراطية نزيهة.

الدستور 13 أغسطس 2008

الأحد، 30 يوليو 2017

قضية الدكتور حموده... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
قضية الدكتور حموده
عماد أبو غازي

 الدكتور عبد المحسن حمودة مناضل وطني لا يكل ولا يمل، شارك في الحركة الوطنية المصرية منذ أربعينيات القرن الماضي، وفدي أصيل، ابن بار من أبناء الزعيم مصطفى النحاس، ابتكر أسلوبًا جديدًا من أساليب النضال السياسي في مواجهة الاستبداد، وتفوق فيه، النضال القضائي، أو بمعنى أدق المواجهة في ساحات القضاء، عندما فصل من الاتحاد الاشتراكي العربي سنة 1973 في إطار الحملة التي أطاحت بالعشرات من الكتاب والمثقفين عقابًا لهم على تضامنهم مع الحركة الطلابية، رفع قضية أمام المحاكم يطالب فيه بالتعويض لأنه لم يكن عضوًا بالاتحاد الأشتراكي من الأصل، وكسب القضية بعد سنوات في المحاكم، وعندما تم توقيع معاهدة كامب ديفيد وأصدر نقيب المهندسين المهندس عثمان أحمد عثمان بيانًا أعلن فيه تأييد كل مهندسي مصر للمعاهدة، رفع الدكتور مهندس عبد المحسن حمودة قضية ضد النقيب باعتباره مهندسًا لا يؤيد المعاهدة، وفي عريضة الدعوة عدّد الدكتور عبد المحسن حمودة أسباب رفضه للمعاهدة، وحول عريضة الدعوة إلى بيان سياسي ناقش فيه بالتفصيل بنود المعاهدة، وعرض وجهة نظره الرافضة لها، وصور مئات النسخ من عريضة الدعوة لتوزيعها في المؤتمرات السياسية والندوات، ورغم أن ما كانت تحمله عريضة الدعوة من نقد للمعاهدة كان حادًا وحاسمًا وقويًا، أقوى مما يمكن أن يحمله أي بيان سياسي، إلا أن أحد لم يستطع أن يتصدى له أو يمنعه من توزيع العريضة البيان، ومن القضايا التي رفعها الدكتور حموده وكسبها، قضية التعويض عن وفاة ابنه باسل بسبب سوء المعاملة في أحد أقسام الشرطة، وقد أسس بقيمة التعويض مركزًا من مركز حقوق الإنسان يحمل اسم باسل حموده.

الدكتور عبد المحسن حموده
 قضايا الدكتور حموده دفاعًا عن الحريات وعن حقوق الإنسان وعن القيم الوطنية والديمقراطية كثيرة، لكن أخر هذه القضايا التي كسبها الدكتور حموده كانت قضيته من أجل إقامة تمثال للزعيم مصطفى النحاس في ميدان التحرير.
 ومصطفى النحاس زعيم وطني يستحق أن يكون له تمثال في أهم ميادين القاهرة تخليدًا للقيم التي عاش وكافح من أجلها، واعتذارًا لهذا الرجل الذي تم تشويه تاريخه وحجب اسمه بعد انقلاب يوليو إلا إذا ذكر مقرونًا بالأكاذيب التي تشكك في وطنيته وإخلاصه، وربما كان مسلسل الملك فاروق الذي أذيع في رمضان الماضي أول عمل درامي يصحح الصورة المغلوطة التي قدمت على مدى سنوات لهذا الزعيم العظيم.

النحاس باشا
 ينتمي مصطفى النحاس إلى الرعيل الأول من مؤسسي الوفد المصري الذين انضموا إلى سعد زغلول، وكان الوفد عندما تأسس يضم خليطًا من السياسيين من اتجاهات مختلفة يمثلون أطياف الخريطة السياسية المصرية التي تشكلت في السنوات الأولى من القرن العشرين، بعضهم كان ينتمي إلى حزب الأمة أو إلى التيار السياسي الذي يمثله ذلك الحزب الذي أسسه أحمد لطفي السيد، وفي مقدمة هؤلاء سعد زغلول نفسه، وبعضهم كان ينتمي إلى الحزب الوطني حزب مصطفى كامل، أو التيار السياسي الذي يمثله، ومنهم كان مصطفى النحاس، الذي أصبح بسرعة من أقرب المقربين إلى الزعيم سعد زغلول، ونفي معه، وأصبح سكرتيرًا عامًا للوفد المصري.
 شارك مصطفى النحاس في أول حكومة وفدية تشكلت بناء على نتيجة أول انتخابات برلمانية أجريت على أساس دستور 1923، وقد تشكلت هذه الحكومة في 28 يناير 1924 برئاسة سعد زغلول، وتولى مصطفى النحاس فيها وزارة المواصلات، لكن تلك الوزارة لم تكمل العام واستقالت في نوفمبر عام 1924 احتجاجًا على العقوبات التي فرضتها بريطانيا على مصر بعد اغتيال السردار لي ستاك.
 وبعد فشل الانقلاب الدستوري الأول الذي قاده زيور باشا تنفيذًا لإرادة الملك، تشكلت حكومة إئتلافية بين الوفد والأحرار الدستوريين، وأصبح مصطفى النحاس وكيلًا لمجلس النواب، وبعد وفاة سعد زغلول في 23 أغسطس 1927 انتخب الوفد مصطفى النحاس رئيسًا له في 23 سبتمبر وأقر الانتخاب رسميًا في اجتماع الهيئة البرلمانية الوفدية في 26 سبتمبر، وحل محله في سكرتارية الوفد مكرم عبيد، ومن يومها حمل مصطفى النحاس راية النضال الوطني والديمقراطي زعيمًا لحزب الأغلبية في ظروف حصار مستمر للحياة النيابية على يد الملك المستبد والسفارة البريطانية.


 بعد أقل من ستة أشهر شكل النحاس باشا أول وزارة برئاسته، كانت وزارة إئتلافية امتدادًا للإئتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين الذي بدأ بوزارة عدلي باشا يكن سنة 1926، شكل النحاس الوزارة في 16 مارس 1928، وفي خطابه إلى الملك فؤاد الذي يعلن فيه قبول تشكيل الوزارة قال أنه يستمد قوته من ثقة ممثلو الأمة وتأييدهم، وتشجيع الرأي العام، وأكد على أن ارتباط الأمة بالملك رهنًا بصيانته للدستور وتمكين تقاليده، لكن حكومة النحاس لم تدم طويلًا، فبعد ثلاثة شهور نفذ الملك فؤاد انقلابه الدستوري الثاني عطل العمل بالدستور، مستعينًا بمحمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين.
 وخلال الفترة من مارس 1928 إلى يناير 1952 تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة سبع مرات، منها مرتان في عهد فؤاد ثم مرة في ظل مجلس الوصاية على فاروق وأربع مرات في عهد فاروق، لكن مجموع ما قضاه النحاس في الحكم لا يتجاوز سبع سنوات وعدة أسابيع قليلة، فعادة ما كان حكمه ينتهي بانقلاب دستوري يدبره الملك بمباركة الإنجليز، وفي الوزارة الأخيرة التي أقالها فاروق في 27 يناير 1952، كانت مؤامرة حريق القاهرةالمبرر لإقالة الوزارة.
 لكن لماذا ينبغي أن نقيم تمثال لمصطفى النحاس؟

الدستور 6 أغسطس 2008

السبت، 29 يوليو 2017

ضمير للوطن... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ضمير للوطن
عماد أبو غازي
  قدم الجيل الذي ولد مع ثورة 1919وتفتح وعيه في ظل الحقبة الليبرالية الكثير للثقافة في مصر، معظم أبناء هذا الجيل من المبدعين بدء ظهورهم على ساحة العمل الثقافي والفكري منذ الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، كان المجال متاحًا أمامهم ليقدموا إسهامهم في بناء ثقافة جديدة، خاضوا معاركهم انتصروا وانكسروا وواصلوا، في كل مجالات الإبداع الفني والأدبي وفي الدراسات الاجتماعية والإنسانيات ظهر جيل جديد، كانوا في مقتبل شبابهم، وكانت مصر تتغير.
 في مجال السينما ظهرت أسماء كثيرة كان من بينهم يوسف شاهين، كانت السينما حلمه وعشقه، أبدع وقدم رؤية سينمائية لها مذاقها المميز منذ فيلمه الأول "بابا أمين" حتى فيلمه الأخير "هي فوضى"، خلق الرجل ليصنع فنًا، كان دائمًا مجربًا ومجددًا، يحترف اكتشاف المواهب الجديدة ويتطرق إلى مناطق جديدة، سنوات قليلة وأصبح شاهين قمة من قمم السينما في مصر، انطلق إلى العالمية ومعه السينما المصرية.


 ألحت عليه مجموعة من القضايا قدمها من خلال أعماله، كانت البداية القوية في الدفاع عن قضايا التحرر الوطني آواخر الخمسينات، والتي تجلت بوضوح في فيلمه عن جميلة بوحريد أول عمل سينمائي يقدم ثورة الجزائر من خلال قصة حقيقية، قصة المناضلة جميلة بوحريد، عرّف العالم بقضيتها وقدم عريضة دفاع عنها وعن ثورة الجزائر وهي حبيسة محكوم عليها بالإعدام.
 قضية أخرى شغلته وظهرت بقوة في أفلامه، قضية ثقافة الحوار مع الآخر، أو ما أصبحنا نطلق عليه حوار الثقافات، القضية واضحة عنده منذ فيلم "الناصر صلاح الدين"، لتعود وتظهر بقوة في "وادعا بونابرت" و"المصير" و"الآخر" وفي جزئين على الأقل من سيرته الذاتية السينمائية، "إسكندرية ليه؟" و"إسكندرية نيو يورك"، وفي فيلمه القصير عن 11 سبتمبر والذي يشكل فقرة من11 فقرة لـ 11 مخرجًا من 11 بلدًا، كانت حياته كلها محاولة لمد جسور الحوار الإنساني لتحل محل العدوانية بين البشر، كان شاهين ممتلكًا الرؤية الإنسانية واسعة الأفق التي قدمها من خلال فنه.
 كان الإنسان الهم الأساسي في سينما يوسف شاهين، الإنسان القادر على المقاومة من أجل الدفاع عن حقه ومن أجل التغيير من أجل مقاومة الفساد، في الناس والنيل والأرض والعصفور وهي فوضى، في العصفور كانت محاولة لتقديم الإنسان الذي يسعى لمحاربة الفساد المحتمي بالاستبداد الذي قاد إلى الهزيمة في 67، وإذا كانت السينما المصرية قد تناولت هذه القضية كثيرًا بعد حرب أكتوبر، فإن شاهين كان رائدًا في مناقشتها فقد أنجز فيلمه قبل الحرب، وقد أصبحت الأغنية الأساسية للفيلم التي لحنها الراحل علي إسماعيل "راجعين شايلين في إيدنا سلاح" علامة على العبور، كأنما كان يوسف شاهين وهو يعري الفساد يستشرف المستقبل.
 كان استشراف المستقبل لعبته التي أتقنها، في "جميلة" كان مستشرفًا لانتصار ثورة الجزائر، وفي رائعته ورائعة السينما المصرية "عودة الإبن الضال" كان مستشرفًا للانهيار العربي متنبأ به.
 أما في فيلمه الأخير "هي فوضى" الذي اشترك معه في إخراجه المخرج خالد يوسف أحد تلاميذه البارزين نجح في الوصول إلى الجماهيرية الواسعة، فقد كان راصدا للواقع محذرا مما يمكن أن يؤدي إليه، وأذكر في الأسابيع الأولى لعرض الفيلم كم استمعت إلى تعليقات من سائقي التاكسي ومن حرفيين تعاملت معهم ترى في الفيلم أصدق تعبيرا عن أحوالهم وأحوال البلد.
 لقد كان أول فيلم أشاهده ليوسف شاهين في دار عرض سينمائي فيلم "الناصر صلاح الدين" قبل أن أكمل عشر سنوات، لم أكن أعرف وقتها أن الفيلم ليوسف شاهين ولم يكن يشغلني اسم المخرج، لكن عندما شاهدت فيلم "الأرض" في السينما وكنت في الرابعة عشر عشقت يوسف شاهين وأدمنته، من يومها أصبحت أحرص على مشاهدة كل أفلامه في السينما، وأحيانًا كنت أدخل الفيلم أكثر من مرة، بلغت في فيلم "عودة الإبن الضال" ثلاثين مرة، في أحد الأيام شاهدت الفيلم في ثلاثة عروض متوالية، أما يوسف شاهين نفسه فقد شاهدته وجهًا لوجه لأول مرة أثناء العرض الأول لفيلمه الاختيار، كنت قد ذهبت لمشاهدة الفيلم بصحبة أبي الذي كان وزيرًا للثقافة وقتها، وكان المخرج يوسف شاهين والفنان محمود المليجي والفنان عزت العلايلي والفنان سيف عبد الرحمن  يجلسون في البنوار المجاور، وقد شاهدت ثورة يوسف شاهين وغضبه في غيرة شديدة على فنه بعد نهاية العرض بسبب الاستقبال السلبي لقطاع من الجمهور الذي حضر العرض للفيلم، لقد كان الفيلم عميقًا ومركبًا ويحمل مدلولات أبعد من القصة البوليسية الظاهرة على السطح لم يفهمها بعض الحاضرين، وقد جاء الفيلم بعد فيلم الأرض المأخوذ عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي التقليدية الواضحة، فكان الاختيار صادمًا لقطاع من الجمهور، كان بداية لأفلامه التي وصفها البعض بأنها صعبة.



 كانت المرة الثانية التي أجلس فيها إلى جانب يوسف شاهين بعد ثلاثين عامًا من اللقاء الأول، يوم الاحتفال بعيد ميلاده الخامس والسبعين في المجلس الأعلى للثقافة، وكان الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس جينذاك قد سافر إلى جامعة هارفارد فجر يوم الاحتفال في رحلة طويلة للتدريس هناك، فكان عليّ أن أجلس على المنصة إلى جانب الناقد سمير فريد مقرر لجنة السينما بالمجلس وقتها وإلى جانب المحتفى به يوسف شاهين، كانت المرة الأولى التي أدير فيها ندوة من ندوات المجلس، كنت أرتجف من داخلي فأنا أجلس إلى جوار العملاق يوسف شاهين الذي عشقت فنه لسنوات، وكادت الاحتفالية تنتهي بكارثة عندما تحمس شاهين في الحوار وانفعل بشدة في الإجابة على أحد الأسئلة عن الأوضاع العامة في مصر والعالم العربي، وخرج يوسف شاهين من قاعة الندوات بالمجلس الأعلى للثقافة إلى المستشفى.
 يوسف شاهين لم يكن مجرد مخرج سينمائي مبدع قدم سينما جديدة متميزة، بل كان أكثر من ذلك بكثير، كان يوسف شاهين ضميرًا للوطن، ضميرًا للوطن بفنه، وضميرًا للوطن بمواقفه، بدفاعه عن قضايا الوطن وقضايا الديمقراطية.

الدستور 30 يوليو 2008

الجمعة، 28 يوليو 2017

التماثيل حكايات... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
التماثيل حكايات
عماد أبو غازي
 التماثيل حكايات، ونقل التماثيل من أماكنها كمان حكايات، إذا كان تمثال محمد فريد الذي نحته منصور فرج وأزيح عنه الستار في عام 1958 في موضعه القديم في شارع 26 يوليو بين قسمي حديقة الأزبكية قد نقل من موضعه بعد خمسين سنة من إقامته، فقد كان هذا قرارًا سليمًا، فالموضع القديم أصبح غير ملائم والشارع إغلق في هذا القسم منه، والوسعاية التي يقف فيها التمثال صارت مرتعًا لتجار الرصيف، والموضع الجديد في منتصف الشارع الذي يحمل اسم محمد فريد والذي كان يحمل قديمًا اسم شارع عماد الدين، والغريب أن الشارع كان يحمل اسم عماد الدين من بدايته في الناصرية حتى نهايته قرب ميدان رمسيس ثم اقتصر اسم عماد الدين على الجزء الممتد من تقاطع الشارع مع شارع 26 يوليو إلى نهايته عند شارع رمسيس وأطلق اسم محمد فريد على الجزء الآخر من الشارع رغم أنه القسم الذي يقع فيه ضريح الشيخ عماد الدين!!!
وتمثال محمد فريد ليس أول تمثال ينقل من مكانه أو يتغير وضعه، في عصر الخديوي إسماعيل نصبت التماثيل الأولى في الشوارع والميادين والحدائق المصرية، وعندما افتتح كوبري قصر النيل في 10 فبراير 1872، نصبت على مدخليه الأسود الأربعة التي صنعت في أوروبا وتكلفت 8425 جنيه بينما تكلف الكوبري 113850، وكانت الأسود منصوبة على قواعد مرتفعة، لكن عندما أعيد بناء الكوبري مرة أخرى وتوسيعه في ثلاثينيات القرن الماضي تغيرت القواعد وأصبحت بالصورة التي نراها عليها اليوم.


 الأمر نفسه حدث مع تمثال نهضة مصر الذي أزيح عنه الستار يوم 28 مايو 1928 في موقعه القديم بميدان باب الحديد، كانت قاعدة التمثال مرتفعه، وعندما قررت الحكومة سنة 1955 نقل التمثال من ميدان باب الحديد إلى مكانه الحالي بالقرب من جامعة القاهرة إقيم على قاعدة جديدة يبلغ ارتفاعها نصف ارتفاع القاعدة الأصلية.


 هناك تماثيل تعرضت للنقل من موقعها بسبب التطورات السياسية منها تمثال الخديوي إسماعيل بالإسكندرية الذي كان في موضوع النصب التذكاري للشهداء بالقرب من قلعة قايتباي، فأزيح بعد انقلاب يوليو، وظل في المخازن إلى أن أعاده محافظ الإسكندرية السابق اللواء عبد السلام المحجوب إلى الشارع مرة أخرى.


 وقد تعرض تمثال نوبار باشا الذي كان قائمًا في حديقة الشلال للمصير نفسه، أما تمثال سليمان باشا في القاهرة فقد نقل من مكانه في ميدان سليمان باشا إلى المتحف الحربي وحل محله تمثال الاقتصادي المصري طلعت حرب الذي نحته الفنان فتحي محمود، وتغيير اسم الميدان والشارع ليحملا اسم طلعت حرب. 


 أما تمثال ديليسبس في بور سعيد بمدخل قناة السويس الشمالي فقد دمره الشعب بسبب العدوان الثلاثي سنة 1956، وقد تم ترميمه مؤخرًا وتحتفظ به هيئة قناة السويس.


 والحرب ضد التماثيل اختلفت باختلاف العصور، فتمثال مصطفى كامل الذي كان أول تمثال يكتتب الشعب لإقامته بعد وفاة الزعيم بعامين، والذي نحته ليوبولد سافان وانتهى منه سنة 1913 ظل حبيس مدرسة مصطفى كامل حتى صيف عام 1938 بعد أكثر من ثلاثين عامًا على وفاة مصطفى كامل، عندما نقل إلى مكانه الحالي في عهد الملك فاروق، وعام 1938 العام الذي انتهت فيه أيضًا أزمة تمثالي سعد زغلول اللذان نحتهما مختار بالقاهرة والإسكندرية، لقد منعت الحكومة إقامتهما بعد انقلاب إسماعيل صدقي على الدستور، رغم أن مختار نحت التمثالين بتكليف رسمي من الحكومة، ودخل مختار في قضايا ضد الحكومة مات سنة 1934 قبل أن تنتهي ذيولها، ولم يشهد رفع الستار عن تمثاليه، ولم تكن قضية تمثالي سعد الوحيدة بين مختار والحكومة، فقد تعرض تمثاله نهضة مصر كذلك للتضييق من الحكومات الموالية للسرايا وتأخرت حفلة إزاحة الستار عنه قرابة العام.


ولتمثال أحمد باشا ماهر الذي نحته المثال محمد حلمي يوسف قصة، لقد اكتتب فيه الشعب تخليدًا لذكرى الزعيم الذي اغتالته يد الإرهاب السياسي المجرم في بهو مجلس النواب، وتحدد يوم 13 نوفمبر 1948 في الذكرى الثلاثين لعيد الجهاد الوطني لإزاحة الستار عنه، لكن عاصفة هبت بليل مزقت الملاءة التي تغطي التمثال وأزاحت الستار عنه قبل موعد الاحتفال الرسمي، ليصحو الناس في اليوم التالي ويجدوا التمثال مكشوفًا أمامهم غير مصدقين قصة الريح.


 ومن التماثيل التي ترتبط بالصراعات السياسية تمثال إبراهيم باشا الذي نحته الفنان الفرنسي كوردييه بأمر من الخديوي إسماعيل عام 1872، التمثال أقيم في أول الأمر بميدان العتبة الخضرا، ثم نقل بعد ذلك إلى موضعه الحالي بميدان الأوبرا أمام المدخل الرئيسي لدار الأوبرا المصرية القديمة التي احترقت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ليحل محلها جراﭺ قبيح المنظر، المهم أثار تمثال إبراهيم باشا أزمة سياسية كبيرة بين مصر وتركيا، فقد نحت كوردييه جداريتين من النحت البارز ليضعهما على جانبي قاعدة التمثال تمثل الأولى معركة نازيب والثانية معركة عكا، وفي المعركتين انتصر إبراهيم باشا على جيوش الدولة العثمانية، فغضبت السلطنة العثمانية، وكانت مصر من الناحية الرسمية ولاية تابعة لاسطنبول، فحمل كوردييه جداريتيه ورحل إلى بلاده، وفي عام 1900 عرضهما في معرض باريس، ومن يومها اختفت اللوحتان ولم يبق إلا صورهما الفوتوغرافية، وعندما قررت الحكومة المصرية الاحتفال بالمئوية الأولى لوفاة إبراهيم باشا سنة 1948 حاولت جلب الجداريتين من فرنسا، ولم يعثر لهما على أثر فنحت منصور فرج وأحمد عثمان جداريتين جديدتين، هما القائمتان إلى الآن على القاعدة.


 أما تمثال لاظوغلي الذي صنعه جاكمار سنة 1872 فله حكاية طريفه فهو لسقا يشبه لاظوغلي، فعندما أراد جاكمار صنع التمثال لم يجد صورة لمحمد بك لاظوغلي، فيبدو أن الحاسة الأمنية لدى الرجل الذي أسس أول جهاز للأمن السياسي في مصر الحديثة جعله يتحاشى أن ترسم له صورة، وفجأة اكتشف أحد كبار الموظفين الذي كان صغيرًا أيام لاظوغلي هذا السقا الشبيه بالرجل يسير في منطقة خان الخليلي فاتخذوه موديل للتمثال.


 هذا عن التماثيل القائمة، فماذا عن التماثيل الغائبة، التي لم تقم أصلًا؟

الدستور 23 يوليو  2008

الخميس، 27 يوليو 2017

فريد ونجيب... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
فريد ونجيب...
                                                                                                   عماد أبو غازي


رسالة على الفيسبوك من الصديق محمد مختار يتساءل فيها عن مغزى نقل تمثال محمد فريد من مكانه القديم إلى ميدان أبو ظريفة؟ يقول في رسالته:
 "مع الثورة الإنشائية التي أحدثها الخديوي إسماعيل بتشييده لما يسمى الأن "القاهرة الخديوية" تم إقامة عدة ميادين ذات طابع أوروبي، مبنية على الطرز الأيطالية والفرنسية والبلجيكية، مزينة بتماثيل".


 وكما يشير في رسالته فقد صنعت التماثيل الأولى بأيدي أوروبيين وجميعها كانت لأفراد من الأسرة العلوية الحاكمة مثل محمد علي وإبراهيم باشا والخديوي إسماعيل أو كبار رجال الدولة من أصول غير مصرية مثل سليمان باشا الفرنساوي ولاظ أوغلي ونوبار باشا، وكان أول تمثال ميدان لمصري تمثال الزعيم مصطفى كامل، وقد نحته هو الآخر نحات أوروبي عقب وفاة مصطفى كامل في فبراير سنة 1908، وكما كان أول تمثال لمصري فقد كان أول تمثال يشييد باكتتاب شعبي، لكنه كان اكتتابًا شعبيًا محدودًا من أعضاء الحزب الوطني وأنصاره.


 وبعد ثورة 1919 دخل إلى الساحة النحاتين المصريين وفي طليعتهم مختار بتمثاله الذي التفت حوله الأمة، تمثال نهضة مصر، وتبع مختار نحاتين مصريين من الأجيال التالية لجيله منهم عبد القادر رزق ومنصور فرج وأحمد عثمان ومصطفى نجيب وجمال السجيني ثم فاروق إبراهيم وعبد العزيز صعب، وفي السنوات الأخيرة شارك نحاتين من أجيال أصغر في نحت تماثيل الميادين والحدائق من أبرزهم طارق الكومي، وأصبحت تماثيل المصريين تحتل ميادين القاهرة بعد أن كانت حكرا على المصريين من أصول أجنبية، وكانت البداية بتمثالي الزعيم سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية وقد نحتهما مختار عقب وفاة سعد، وتمثال آخر لسعد ببنها لا أذكر الآن ـ للأسف ـ من نحته ومتى نصب في موضعه، وعقب جريمة إغتيال أحمد ماهر باشا أقيم تمثال له أمام كوبري الجلاء بالقاهرة، وبعد إنقلاب يوليو 1952 أقيمت عدة تماثيل احتلت عددًا من الميادين والحدائق العامة، منها تماثيل طلعت حرب ومحمد فريد وأحمد شوقي وابن خلدون بالقاهرة والجيزة، وأحمد عرابي بالشرقية، والعقاد بأسوان، ثم كان التوقف عن إقامة التماثيل الميدانية لسنوات باستثناء تماثيل بعض زعماء أمريكا اللاتينية التي أقيمت في إطار اتفاقيات لتبادل تماثيل الزعماء السياسيين بين مصر وبعض تلك الدول، إلى أن بدأت المدن المصرية تشهد في السنوات الأخيرة إقامة تماتيل الميادين والحدائق مرة أخرى.
 أعود لرسالة الصديق محمد مختار التي يقول فيها:
 "مؤخرًا عمدت الدولة إلى تجميل بعض الساحات والأماكن بتماثيل تذكارية لأبطال ورواد وزعماء مصر، كنجيب محفوظ وطه حسين وأحمد شوقي والفريق عبد المنعم رياض وعمر مكرم ومحمد فريد وهو بيت القصيد".


 يسترسل قائلا:
 "صنع تمثال محمد فريد المثال المصري منصور فرج، وتم وضع التمثال على نصبه وسط شارع 26 يوليو من جهة العتبة الخضراء حيث أزيح عنه الستار عام 1958 وفي العام الحالي أي عام 2008 تقرر نقل التمثال إلى ميدان محمد نجيب، عبد السلام عارف سابقًا."
 وهنا نفهم سبب التساؤل الاستنكاري في الرسالة فالميدان الذي يعلو محطة مترو الأنفاق التي أطلق عليها اسم الرئيس محمد نجيب ويفترض أنه يحمل اسم الرئيس نجيب أول رئيس للجمهورية في مصر، ينبغي أن يوضع فيه تمثال لمحمد نجيب وليس لمحمد فريد.
 ويتسأل محمد مختار "لماذا هذا التشويش؟ هل يقام التمثال لمداراة ومواراة تداول أسم اللواء محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر عن قصد كما حدث من قبل في كل كتب التاريخ؟  أم هي الألآجة، أي الفخامة بالمفهوم العشوائي، التي استشرى وباؤها في كافة مناحي حياتنا؟".
 وفضلا عن ذلك فلمحمد ملاحظات فنية على وضع التمثال الجديد، يقول: "ناهيكم أن الوضع المثبت عليه التمثال ليس صحيح! فالتمثال يعطي ظهره للمارة بدلا من استقبالهم.. تماما كما حدث مع مستنسخ رمسيس الثاني بشارع صلاح سالم، فأن العادة قد جرت على أن يستقبل المرحب مجابها ضيفه، وعلى الضيف أن يلتفت لوداع مضيفه وهذا عكس ما تم!".
 ويشير محمد مختار في رسالته إلى المشاكل الفنية في عدد من الأعمال الميدانية والتي تتكرر كثيرًا في السنوات الأخيرة داعيا إلى "تعديل الحسابات وتصحيح المسار القائم عليه عمل مثل هذه الأنشاءات والتي تقام لتدوم عصور وقرون."


 الحقيقة أنا متفق تمامًا مع محمد مختار في أن الرئيس محمد نجيب تعرض طوال سنوات لحملة ظالمة، وأذكر تمامًا أنه في الستينيات كان اسمه غائب تمامًا من كتب التاريخ، وعندما كنت تلميذًا في المرحلة الابتدائية وذكرت ذات مرة لزملائي في الفصل أن أول رئيس لمصر محمد نجيب وليس عبد الناصر اعتبروني مخرف، وسألوا المدرسة التي ارتاعت لمجرد ذكر اسم نجيب في الفصل واشفقت على أهلي من هذا الطفل طويل اللسان الذي من الممكن "إنه يوديهم ويوديها في داهية"، فبعد أزمة مارس سنة 1954 وهزيمة نجيب ومجموعته جرت محاولة منظمة لحذفه من ذاكرة الوطن، رغم أن انقلاب الضباط الأحرار لم يكن متاحًا له أن ينجح لولا اسم نجيب، أو ربما لهذا السبب سعوا إلى إزالته من الوجود، وانطبق عليه المثل الشعبي المصري "أخر خدمة الغز علقة"، ولم يفرج عن اسم نجيب ويرد له بعض اعتباره، وأوكد بعض اعتباره، إلا في عصر السادات وبعد حرب أكتوبر، ثم نال أول تكريم مع مشروع مترو الأنفاق الثاني عندما وجه الرئيس مبارك بإطلاق اسمه على محطة عابدين.


ورغم اتفاقي مع مختار في الظلم الذي تعرض له نجيب إلا أنني لا أظن إطلاقًا أن نقل تمثال فريد إلى ميدان أبو ظريفة جزء من مؤامرة على ذكرى الرجل، ففريد هو الأخر زعيم مظلوم، لكنه مظلوم لأنه جاء بين مصطفى كامل وسعد زغلول، فضاعت ذكراه بينهما رغم دوره المهم في تاريخنا الوطني وتضحياته الكبيرة في سبيل قضية الوطن، والحال الذي آل إليه الميدان الذي وضع فيه تمثاله كان مذريًا، وكان قرار نقله صائبًا، خصوصا أن الميدان الذي نقل إليه يتوسط الشارع الذي يحمل اسمه، ومصر مليئة بالميادين الخالية والحدائق العامة التي يمكن أن يقام فيها تمثال يليق بأول رئيس لمصر في العصر الجمهوري، ولحديث التماثيل بقية.

الدستور 16 يوليو 2008

الأربعاء، 26 يوليو 2017

نهاية التاريخ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
نهاية التاريخ
عماد أبو غازي
 "نهاية التاريخ" كان اللقاء الأول لي ولأبناء جيلي بالمفكر عبد الوهاب المسيري، و"نهاية التاريخ" عنوان الكتاب الأول الذي صدر للدكتور عبد الوهاب المسيري أواخر سنة 1972، وكان يناقش فيه بنية الفكر الصهيوني، وقد صدر الكتاب عن مركز الدراسات السياسية والاستراتـيجية في الأهرام، في سلسلة كانت جديدة في وقتها، وكان الكتاب ثاني أو ثالث كتب هذه السلسلة المهمة، والتي توجهت إصداراتها الأولى لدراسة جوانب فكرية جديدة تسهم في تكوين فهم علمي ووعي موضوعي بالصراع العربي الإسرائيلي، في وقت كنا نحتاج فيه بشدة إلى دراسات من هذا النوع، أتذكر أن الكتب الأولى في تلك السلسلة المهمة كانت لثلاثة من المفكرين الذين أسهموا إسهامًا بارزًا في الفكر المصري والعربي في العقود الأربعة الأخيرة: السيد يسين وقدري حفني وعبد الوهاب المسيري، وكانت كتبهم بالنسبة لي اكتشافًا جديدًا، وسبيلًا لوعي جديد بالصراع العربي الإسرائيلي، وكان كتاب المسيري مدخلي إلى هذا العالم الجديد وإلى تلك السلسلة التي كان الأهرام قد بدأ في إصدارها، كنت في سنتي الأولى بالجامعة، وكان كتاب المسيري رفيقي اليومي في رحلتي في مترو حلوان القديم ذهابًا وعودة من المعادي حيث كنت أسكن إلى الجامعة، شدني الكتاب وأعجبت بمؤلفه، وكانت مفاجأة لي عندما علمت أنه متخصص في الأدب الإنجليزي، كنت أتابع ما يقع بين يدي من كتابته في بعض الصحف والدوريات بين حين وحين، إلى أن التقيته للمرة الأولى في مطلع الثمانينيات قبل سفره إلى السعودية، وربما كان ذلك عقب صدور كتابه عن "الأيدولوﭼية الصهيونية" سنة 1981 إن لم تخني الذاكرة، وكان اللقاء من خلال أنشطة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، فعرفت فيه مفكرًا متميزًا وإنسانًا مميزًا.


 كانت دراسات المسيري عن الصهيونية واليهودية إضافة مهمة للإسهام الفكري العربي في هذا المجال، لقد كان دائمًا حريصًا على التناول الموضوعي والمنهجي للقضية حتى لو جاء كلامه مغايرًا للسائد الذي يردده الجميع، ولا أنسى هنا موقفه الذي دحض فيه أسطورة بروتكولات حكماء صهيون التي وقع كثيرون من المفكرين العرب في فخ الترويج لها.
اختلفت الرؤى الفكرية وتغيرت بعض الموقف لكن المسيري المفكر ظل متمسكًا بالمنهجية في التعامل مع القضايا المختلفة التي يتصدى لها، وظل دائمًا الإنسان الذي مهما كانت درجة الخلاف الفكري بينه وبين محاوريه لا يعرف إلا لغة احترام الآخر وتقديره.
 بعد أكثر من عقدين إلتقيت به خلالهما مرات قليلة متفرقة جمعتني به في ربيع 2005 ندوة بقسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة دعاني للمشاركة فيه الأصدقاء محمد عفيفي وأحمد ثابت وأحمد عبد الحليم عطية، كانت الندوة التي شارك في تنظيمها مركز الدراسات التاريخية بالكلية، تدور حول الإنجاز الفكري للمسيري، وكان هو مشاركًا فيها بالتعقيب على الأوراق المقدمة في الندوة، كان نصيبي مناقشة الدراسة المعمقة التي أنجزها عن العلمانية، وكان قد صدر منها مجلدان بعنوان "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وهما يشكلان حسب مقدمة الدكتور المسيري القسم الأوسط من ثلاثية تضم دراسة أوسع عن العلمانية، قسمها الأول يتناول الحلولية ووحدة الوجود باعتبارها مقدمات العلمانية، وقسمها الثالث يتناول ما بعد الحداثة باعتبارها ثمرة العلمانية الشاملة ـ وفقا لنظرية المسيري ـ وتقوم الدراسة على نقد ونقض مفهوم العلمانية، وتسعى إلى مناقشة التعريف الشائع للعلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، الذي يرى فيه الدكتور المسيري معنى العلمانية الجزئية، وتقديم تعريف جديد للعلمانية الشاملة،  التي هي فصل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص، من وجهة نظره.


  وينقسم كتاب "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، إلى مجلدين في كل منهما بابين، الباب الأول في المجلد الأول: "العلمانية الشاملة ـ محاولة للتعريف" والباب الثاني: "بعض تبديات النموذج العلماني"، أما الباب الأول في المجلد الثاني فبعنوان: "عمليات العلمنة الشاملة"، والباب الثاني بعنوان: "العلمانية الشاملة واليهود واليهودية والصهيونية"، وقد دعيت لمناقشة هذا العمل من أعمال المسيري بالتحديد باعتباري علمانيًا، في محاولة من منظمي الندوة لتقديم أكبر قدر من الرؤى المتعارضة والمتقاطعة، فندوة تناقش فكر عبد الوهاب المسيري وتحتفي به لابد أن تحمل أراء مختلفة معه كما كان يحب دائمًا، فقد كان الرجل يحترم الاختلاف الفكري ويقدر المختلفين معه، قد يرد عليهم بأسلوبه الساخر الجميل، الذي نالني منه ما نالني في الندوة، لكنه أبدًا لا يستهزء بهم، ولا يسفه من آرائهم مهما كانت ومهما كانوا.


 لقد تعددت اهتمامات المسيري الفكرية والثقافية فبين تخصصه الأصلي في الأدب الإنجليزي واهتمامه بدراسة الصهيونية والصراع العربي الإسرائيلي يأتي دوره الذي قد لا يعرفه الكثيرون ككاتب لأدب الأطفال حائز على جوائز في هذا المجال، بل إنه عندما شارك في الوفد العربي الكبير في معرض فرانكفورت للكتاب سنة 2004 عندما كانت الثقافة العربية ضيفًا للشرف كانت مساهمته بهذه الصفة، وقبل كل هذا وبعده يبقى الدور النضالي لعبد الوهاب المسيري، الدور الذي ظل يلعبه حتى الأيام الأخيرة في حياته رغم ظروفه الصحية.
 رحل المسيري صباح الخميس الماضي في موجه جديدة من موجات رحيل رموز ثقافية وفكرية مصرية عن عالمنا ففي أسبوعين اثنين ودعنا سعد أردش وسامي خشبة ورؤوف عباس، وها هو المسيري يرحل، و"كفاية" كده.

الدستور 9 يوليو 2008

الثلاثاء، 25 يوليو 2017

رؤوف عباس... المؤسس - من أرشيف مقالاتي القديمة

 مخربشات
رؤوف عباس... المؤسس
عماد أبو غازي
 توقفت كثيرًا عند اختيار الزاوية التي اتناول منها رؤوف عباس في هذا المقال، فكرت في البداية أن يكون مدخلي للحديث عن مؤرخنا الراحل الكبير رؤوف عباس تأسيسه لمدرسة جديدة في الدراسات العثمانية، لكني تدراكت فدوره الرائد في مجال دراسات تاريخ مصر الاجتماعي أقدم بكثير من اهتمامه بالتاريخ العثماني، وانتبهت كذلك إلى أن إسهام رؤوف عباس يتجاوز بكثير دوره الأكاديمي ليمتد إلى العمل العام في الدفاع عن استقلال الجامعة من خلال عضويته في حركة 9 مارس، كما يمتد لمؤسسات عدة خارج الجامعة، ما بين الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ودار الوثائق القومية وغيرها من المؤسسات.


 عرفت رؤوف عباس حامد للمرة الأولى كما عرفه الكثيرون من أبناء جيلي، من خلال كتابه المهم عن الحركة العمالية في مصر، الذي صدر سنة 1968، وقد تعرفت على الكتاب بعد صدوره بعدة سنوات عندما التحقت بكلية الآداب سنة 1972، وكان وقتها دراسة أكاديمية رائدة تفتح مجالًا جديدًا في دراسات التاريخ الاجتماعي، وتؤسس لمدرسة مصرية لدراسة تاريخ الطبقات الاجتماعية والتجليات السياسية لنشاط تلك الطبقات وحركتها في المجتمع، من خلال دراسة تاريخ الطبقة العاملة المصرية.
 ثم أتبع كتابه الأول بكتاب ثان عن النظام الاجتماعي في مصر في ظل الملكيات الكبيرة، صدر سنة 1973، فجمع بذلك بين دراسة قمة المجتمع المصري وقاعة في مرحلة ما قبل انقلاب يوليو 1952، ودشنه كتابه الثاني رائدًا لمدرسة التاريخ الاجتماعي لمصر في العصر الحديث بلا منازع.
 كان الكتابان في الأصل رسالتي الماجستير والدكتوراه، وقد حصل على الرسالتين من جامعة عين شمس تحت إشراف أستاذه الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى الذي ينتمي إلى الجيل الثاني في مدرسة التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، الجيل الذي درس في النصف الثاني من الأربعينيات تتلمذ على أحمد عزت عبد الكريم، الذي جعل من شعبة التاريخ الحديث في جامعة عين شمس مدرسة متميزة في الجامعات المصرية كلها، وكان رؤوف عباس نتاجا لهذه المدرسة.
 وقبل أن ينتهي عقد السبعينيات من القرن الماضي كان رؤوف عباس قد أضاف كتابين جديدين إلى المكتبة التاريخية المصرية، مذكرات محمد فريد الذي صدر عام 1975، والحركة العمالية المصرية في ضوء الوثائق البريطانية 1924 ـ 1937، ليطرق من جديد في كتابه الأخير هذا موضوعه الذي ظهر به على ساحة الكتابة التاريخية، موضوع تاريخ الحركة العمالية في مصر، ثم أضاف إليها عملًا مترجمًا تأسيسيا في مجال دراسات التاريخ الاقتصادي الاجتماعي عندما ترجم كتاب موريس دوب "دراسات في تطور الرأسمالية" إلى اللغة العربية سنة 1978.


 وخلال عقد السبعينيات أيضًا بدء رؤوف عباس في نشر عدد من الدراسات المهمة في الدوريات العلمية المتخصصة، واستمرت دراساته وأبحاثه تنشر في الدوريات المصرية والعربية والأجنبية يفتح في كل منها مجالًا جديدًا، وكان من المجالات المهمة التي تطرق إليها في دراساته تجربة النهضة اليابانية، والتي بدأ الاهتمام بدراستها بعد رحلته لليابان التي قام خلالها بالتدريس في الجامعات اليابانية، وكانت دراساته حول التجربة اليابانية موضوعًا من موضوعات دراسة التاريخ المقارن التي انشغل بها رؤوف عباس، واستمرت علاقته بتاريخ اليابان من خلال عدد من الدراسات والترجمات، كما تواصل اهتمامه بالتاريخ المقارن؛ ونظم بالتعاون مع صديقه المؤرخ الأمريكي بيتر جران حلقة بحثية لشباب الباحثين في التاريخ حول التاريخ المقارن لمصر والشرق الأوسط، كانت مجالًا مفتوحًا لتبادل الخبرة والرؤى بين عدد من الباحثين المهتمين بدراسة التاريخ المقارن.
 ورغم أن رؤوف عباس حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة عين شمس إلا أنه انتقل للعمل في جامعة القاهرة فنقل إليها تقاليد جديدة وأسس فيها مدرسة تاريخية تنتمي إليه بحق. وأهم ملامح تلك المدرسة اهتمامها بدراسة تاريخ مصر في العصر العثماني في ضوء المصادر الجديدة التي أصبحت متاحة للباحثين، وفي هذا الصدد يصف رؤوف عباس في مقدمته للترجمة العربية لكتاب نللي حنا "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية" موقف جيله من المؤرخين تجاه العصر العثماني بقوله: "ضيعنا ثلاثة قرون كاملة من تاريخنا، جريا وراء أفكار نظرية صدرها لنا من وصفوا تلك القرون بأنها عصر جمود وركود وتخلف، وكنا ـ في الستينات والسبعينات ـ نطبق تلك النظريات على تاريخنا، أو ـ بعبارة أدق ـ نصب تاريخنا في قوالبها صبًا ما دمنا قد سلمنا بما غلب على تلك القرون الثلاثة من جمود وركود وتخلف ثقافي"، ويعود فيفسر انتشار هذه الأفكار بسرعة وسهولة بالدور المهم لمصر في عصر المماليك السابق على العصر العثماني، وفي العصر اللاحق عليه، أي عصر محمد علي، فيقول: "هذا الوضع السياسي المتواضع، قياسًا بالعصرين السابق واللاحق ـ من حيث الدور الإقليمي ـ حَوَّل العصر العثماني إلي مجرد "جملة اعتراضية" في تاريخ مصر العريق، وركزت الدراسات الأكاديمية اهتمامها على ما سبقه ولحق به، ولم يحظ إلا باهتمام محدود"، وبغض النظر عن تلك القضية الشائكة فإن رؤوف عباس نجح في توجيه عدد من طلابه إلى هذا الحقل كان أولهم وأبرزهم محمد عفيفي الذي أنجز دراساتين من أهم الدراسات حول تاريخ مصر العثمانية تحت إشراف رؤوف عباس، الأولى عن الأوقاف والثانية عن الأقباط في مصر العثمانية، وكان أحدث هؤلاء التلاميذ وأقربهم إلى أستاذه، ناصر إبراهيم الذي درس تحت إشراف رؤوف عباس "المجاعات والأوبئة في مصر العثمانية" كما درس "الإدارة في زمن الحملة الفرنسية"، وقد حول رؤوف عباس المدرسة إلى مؤسسة من خلال إشرافه على سمينار التاريخ العثماني الذي بدأ في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة ثم انتقل إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وأصبح اليوم مؤسسة راسخة يسعى الباحثون إلى إثبات ميلادهم في حقل الدراسات العثمانية من خلالها.
 وما دام الحديث قد قادنا إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية فلا شك أن أي دارس لتاريخ المؤسسات العلمية والثقافية في مصر سوف يتوقف طويلا عند دور رؤوف عباس في إحياء هذه المؤسسة والانطلاق بها إلى وضع جديد يليق بتاريخها الطويل منذ تولى رئاستها في عام 1999.
 لقد كان رؤوف عباس حامد الذي ولد في بورسعيد في 24 أغسطس سنة 1939 ورحل من القاهرة في 26 يونيو سنة 2008 رجلًا حرفته البناء والتشييد، بناء البشر وتشييد المؤسسات.

الدستور 2 يوليو 2008

الاثنين، 24 يوليو 2017

كل ما تهل البشاير من يناير... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
كل ما تهل البشاير من يناير
عماد أبو غازي
 تطورت الحركة الطلابية في العام الدراسي التالي 1972/1973، وبدء النشاط الطلابي منذ بداية العام الدراسي من خلال مجلات الحائط والحلقات النقاشية، وبدأت الأزمة الأولى مع قرار إدارة كلية الطب بجامعة القاهرة إحالة عدد من الطلاب إلى التحقيق بسبب مجلات الحائط، فتصاعدت الاحتجاجات بين طلاب الجامعة تضامنًا مع زملائهم، وبدأت مؤتمرات التضامن في كليات الجامعة المختلفة، وشكل الطلاب لجان الدفاع عن الديمقراطية، وتصاعدت أنشطتهم السياسية داخل أسوار الجامعات وانضم إليهم عددًا من الفنانين والكتاب والمثقفين من خلال الأنشطة الثقافية والفنية والسياسية التي نظمتها الأسر الطلابية ذات التوجه اليساري في مختلف كليات الجامعة ـ وكان نظام الأسر الطلابية قد بدء يتبلور في تلك السنوات ـ وتحولت الندوات والمؤتمرات السياسية إلى اعتصام متصاعد، ولجأ النظام من خلال الاتحاد الاشتراكي إلى لعبة خطرة، "بلقنة" الصراع، أو "طلبنته"، فكون محمد عثمان إسماعيل أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي العربي آنذاك ومحافظ أسيوط فيما بعد، مجموعات طلابية أسماها الجامعات الدينية أو الإسلامية، ودرب أعضائها وسلحهم بالأسلحة البيضاء، ودفعهم للاعتداء على الطلاب اليساريين، وكانت العواقب وخيمة على مصر كلها بعد أقل من عشر سنوات فقد انفجرت موجات التطرف والعنف الديني، إلى أن ارتكبت مجموعة من هؤلاء الشباب جريمة اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات باسم الدين، لقد صنع النظام الوحش الذي تصور أنه سيفتك باليسار لكن الوحش فتك بالرئيس وقاد البلاد إلى موجة من التطرف الديني ما زالت آثارها ماثلة إلى يومنا هذا.



سهام صبري وأروى صالح
 من قيادات الحكة الطلابية في السبعينيات
 أما الحركة الطلابية فقد ازدادت قوة يومًا بعد يوم، وبلورت برنامجًا وطنيًا ديمقراطيًا، وصعدت المطالبة بالحريات الديمقراطية إلى الصدارة، فقد بات واضحًا أن تحرير الأرض لا يمكن أن يتحقق في غياب حريات المواطنيين الأساسية، وكان سقوط التنظيم الطليعي في مايو 1971، وصدور قانون جديد للجامعات في عام 1972 نص على انتخاب عمداء الكليات، وغياب الحرس الجامعي عن الجامعة، وعودة عددًا من أساتذة الجامعات الذين أبعدوا في تطهير 1954 إلى الجامعة عوامل ساعدت على انخراط أعداد أكبر من أعضاء هيئة التدريس إلى جانب الحركة الطلابية.
 وكان للحركة الطلابية أصداء واسعة في المجتمع كله، كانت أملًا يتفتح في بناء مجتمع حر جديد، بعد أن عاشت مصر عشرين عامًا في ظل حكم صادر حريات المواطنين ومبادرتهم الشعبية، كانت مظاهرات الطلاب تعيد حنينا إلى ماض صار بعيدًا، لقد فقد المجتمع المصري تنظمياته المستقلة ومبادرته الشعبية لسنوات طويلة، فكانت الحركة الطلابية الجديدة بمثابة عودة الروح وعودة الوعي لمصر، فأيدها أبرز مثقفي مصر ومبدعيها وفي مقدمتهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ من خلال بيان شهير أيدوا فيه مطالب الطلبة، كان البيان مستفزًا للنظام الذي لم يتصور أن في مقدور الطلاب إخراج مصر من صمتها الرهيب، الأمر الذي ترتب عليه اتخاذ إجراءات عقابية ضد كل من وقعوا على البيان حتى يكون عبرة لمن يعتبر، شملت تلك الإجراءات فصلهم من الاتحاد الاشتركي، وكان هذا يعني بالتباعية منعهم من الكتابة في الصحف، كما شهدت بعض النقابات المهنية حركة تضامن هادئة مع الطلاب.

الحكيم ومحفوظ
 وفي الأيام الأخيرة من عام 1972 بدأ النظام يفقد صبره خصوصًا بعد امتداد الحركة الطلابية إلى كل الجامعات المصرية، فشن حملة اعتقالات واسعة على قيادات الحركة الطلابية بعد خطاب شهير للرئيس السادات ألقاه مساء الخميس 28 ديسمبر 1972، أكد فيه على تمسكه بالحرية والممارسة الديمقراطية، مع تحذير "اليسار المغامر" و"اليمين الرجعي" و"القلة المندسة" في صفوف الطلاب، تلك المصطلحات التي احترف النظام ترديدها لتبرير اعتداءاته المتكررة على الحريات الديمقراطية.


 صباح السبت عندما اكتشف الطلاب اعتقال زملائهم خرجت المظاهرات تجوب الجامعات المصرية وتهتف: "يوم الخميس قالنا حرية ... وأخد اخواتنا في الفجرية"، "قال هنمارس قال هنمارس... حط في بيتنا مخبر حارس"، وتحولت المؤتمرات والمظاهرات إلى اعتصام مفتوح، وفي جامعة القاهرة احتل الطلاب قاعة الاحتفالات الكبرى، واستمرت حالة الغضب تتصاعد إلى أن خرج آلاف الطلاب صباح يوم الأربعاء  3 يناير 1973 في مظاهرات حاصرتها قوات الأمن وردت أغلبها إلى داخل أسوار الجامعات، وبعد معارك استمرت لساعات اقتحمت قوات الأمن الجامعات المصرية وسيطرت عليها، وتم تعطيل الدراسة لمدة شهر، عاد بعده الطلاب ليجدوا معظم قادتهم رهن الاعتقال، لكن لجان الدفاع عن الديمقراطية سرعان ما عاودت نشاطها بقيادة الصف الثاني، واستمر التوتر في الجامعة حتى انتهى العام الدراسي.
 ثم كانت حرب أكتوبر 1973 نقطة فاصلة في تاريخ الحركة الطلابية في تلك المرحلة، فقد انتهت حالة اللا سلم واللا حرب، وحقق الجيش المصري انتصارًا عسكريًا، الأمر الذي أدى إلى تراجع الحركة الطلابية وانفضاض كثير من الطلاب من حول قياداتها، لقد كانت السنوات التالية لانتصار أكتوبر سنوات التراجع والانحسار التدريجي للحركة الطلابية الجماهيرية الواسعة ذات التوجه اليساري، وفي نفس الوقت سنوات المد الديني السلفي داخل الجامعات، وقبل انتهاء عقد السبعينات كان الرئيس السادات قد ألغى لائحة الاتحادات الطلابية، وأضاف بعض المواد إلى لائحة تنظيم الجامعات بدلًا منها، وألغى اتحاد طلاب الجمهورية واتحادات الجامعات وأعاد نظام الريادة والحرس الجامعي، فأعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه في الخمسينات والستينات.
 إن هذا العام يشهد مرور أربعين عامًا على حركة الطلاب في العالم عام 1968، وفي نفس الوقت مرور 35 عامًا على انتفاضة 1973، أخر الانتفاضات الطلابية الكبرى، وفي هذه المناسبة ومع الذكرى الثانية لرحيل الدكتور أحمد عبد الله أحد أبرز قادة الحركة الطلابية في السبعينيات صدرت الطبعة العربية الثانية من كتابه الطلاب والسياسة في مصر عن المركز القومي للترجمة، وسوف يناقش صالون الترجمة بالمركز الكتاب في السابعة من مساء الأحد القادم 29 يونيو.

الدستور 25 يونيو 2008