الاثنين، 31 يوليو 2017

"النحاس ولو كره بعض الناس"... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
"النحاس ولو كره بعض الناس"
عماد أبو غازي
 السبب الأول لإقامة تمثال لمصطفى النحاس صدور حكم قضائي نهائي من مجلس الدولة ينبغي أن يحترمه الجميع ويعملون على تنفيذه، لكن هناك أسباب كثيرة قبل ذلك وبعده، فربما كان مصطفى النحاس الزعيم المصري الوحيد منذ أحمد عرابي الذي لم يلق ما يستحق من تقدير يعادل دوره الوطني في تاريخ مصر السياسي الحديث لا يوجد أي شكل من أشكال التقدير لهذا الرجل العظيم، ولا اعتذار لاسمه عما لحق به من تشويه استمر لسنوات طويلة، باستثناء ذلك الشارع في مدينة نصر الذي يحمل اسمه، والذي جاء في إطار المصالحة مع التاريخ دون حساسيات التي تميز بها عصر مبارك، وربما يكون في إقامة تمثال له رد اعتبار جزئي للرجل لن يكتمل إلا بتصحيح صورته في مناهج التعليم العام، وإبراز دوره الوطني والديمقراطي.

 لقد كان مصطفى النحاس تاريخًا من النضال من أجل مصر، دستورها واستقلالها، ومن المواقف التي تكشف عن احترام النحاس باشا للدستور ودفاعه عنه، موقفه في وزارته الثانية، فعندما تبين بوضوح أن الملك فؤاد لا يحترم دستور البلاد ويسعى باستمرار لخرقه المرة بعد المرة، سعت حكومة النحاس باشا الثانية التي تشكلت في أول يناير 1930 بعد انتخابات برلمانية نزيهة أجرتها حكومة عدلي باشا يكن الانتقالية وجاءت ببرلمان بأغلبية وفدية كاسحة إلى وضع الضمانات لصيانة الدستور، الأمر الذي أكده النحاس باشا في خطاب قبول تشكيل الوزارة حيث قال: "ستتقدم الوزارة ببرنامجها إلى البرلمان جاعلة من أغراضها الأولى العمل على تثبيت قواعد الدستور وصون نصوصه وأحكامه والسير بالبلاد في طريق الإصلاح بجميع نواحيه..."، وأعدت وزارة النحاس مشروع قانون محاكمة الوزراء تمهيدًا لتقديمه للبرلمان، وتضمن المشروع نصوص تقضي بمحاكمة الوزراء الذين يقدمون على قلب دستور الدولة أو حذف حكم من أحكامه أو تغييره أو تعديله بغير الطريقة التي رسمها الدستور، أو مخالفة حكم من أحكامه الجوهرية، كما نص مشروع القانون كذلك على محاكمة الوزراء الذين يبددون أموال الدولة العامة، إلا أن الملك رفض توقيع مرسوم إحالة مشروع القانون إلى البرلمان، وزاد على ذلك أن تدخل في أعمال الوزارة فيما يتعلق يترشيح أسماء أعضاء مجلس الشيوخ المعينيين منتهكًا بذلك الدستور، فما كان من النحاس باشا إلا الدفاع عن الدستور ومبادؤه، فقدم استقالة وزارته، وقال في خطاب الاستقالة: "أرفع إلى سدتكم العلية استقالتي وزملائي من الوزارة نظرًا لعدم تمكننا من تنفيذ برنامجنا الذي قطعنا العهد على أنفسنا بتنفيذه".... واتجه النحاس باشا إلى مجلس النواب الذي يستمد منه الشرعية ليعلن استقالته ويحدد أسبابها قائلًا: "عندما تولت الوزارة الحاضرة الحكم قطعت على نفسها عهدًا أن تصون أحكام الدستور وأن تحوطه بسياج من التشريع يكفل له حياة متصلة ونموًا مطردًا... لكن الوزارة لم تتمكن من أن تقدم إلى البرلمان هذا التشريع الذي تقضي به المادة 68 من الدستور، لذلك رأت من واجبها أن ترفع استقالتها إلى السدة الملكية..."


 قبل الملك الاستقالة في 19 يونيو 1930 أي أن الحكومة لم تكمل ستة أشهر، لقد قدم النحاس نموذجًا لرئيس الوزراء الذي يعتبر أنه مسئول أمام الشعب ممثلًا في البرلمان المنتخب انتخابًا ديمقراطيًا وليس مسئولًا أمام الملك الذي يصدر مرسوم تعيينه ومرسوم إقالته، إن حكومته هي حكومة الشعب وليست حكومة الملك، تحترم الدستور الذي ارتضاه المصريون لأنفسهم ولا تحترم إرادة الملك المستبد الذي يسعى إلى الإطاحة بالدستور.
 لقد أتى فؤاد بإسماعيل صدقي عدو الشعب رئيسًا للوزراء فعطل البرلمان وألغى دستور 1923 ليحل محله دستور جديد يسحب سلطات الأمة ويعطيها للملك، إنه دستور 1930 الذي رفضه الشعب بكل فئاته وطوائفه، فماذا كان موقف مصطفى النحاس زعيم الأغلبية وزعيم الأمة؟


 كان رده الخروج إلى الشارع للتصدي للانقلاب الدستوري ولديكتاتورية صدقي، جسد المعنى الحقيقي للزعامة، لم يقبع الرجل في مقر حزبه ويكتفي بخطب في الغرف المغلقة أو مقالات في الصحف، بل قدم النموذج للزعيم الذي ينزل إلى الشارع يختلط بالجماهير يقودها بالفعل معرضًا حياته للخطر، بدأ النحاس باشا جولة في الأقاليم لحشد الجماهير ضد عدوان الملك ورئيس الوزراء صدقي باشا على الدستور، توجه إلى الزقازيق ليخطب في مؤتمر جماهيري بمحلج يملكه القطب الوفدي عبد العزيز بك رضوان، لم يتعال باعتباره رئيسًا لحزب ورئيسصا للوزراء، بل اجتماع بجماهيريه في محلج قطن في مره، ونام ليله على دكه في رصيف محطة القطار في مره أخرى، وفتح صدره للرصاص مرات ومرات دون أن يهاب طغيان السلطة، أينما حل كان قوة دافعه للجماهير يحشدها من حوله، ويجمعها في مواجهة الاعتداء على حقوقها وعلى دستورها، عندما أحست حكومة إسماعيل صدقي بقوة النحاس باشا وخطورة حركته بين الجماهير وعجز قوات البوليس على التصدي لها، دفعت بالجيش إلى ساحة المواجهة.
 وفي المنصورة في الثامن من يوليو سنة 1930 احتشد الآلاف لاستقبال مصطفى النحاس، ودفعت الحكومة بقوة من الجيش قوامها ثلاثة آلاف جندي للتصدي للجماهير، وأطلق الجنود النار في الهواء في شارع البحر، وهددوا بالضرب في المليان ما لم تنفض الجموع، لكن الحشود تزايدت، وعربة النحاس باشا واصلت طريقها وسط الجماهير التي حملتها على الأكتاف لتعبر بها الخنادق التي حفرتها قوات الأمن، فما كان من الجنود إلا أن هاجموا الجموع بسناكي بنادقهم، بل هجم أحدهم على النحاس باشا يطعنه بالسونكي، فتلقى سنيوت بك حنا الطعنة عنه وأصيب بجرح بالغ في ذراعه، واستشهد أربعة من الأهالي وقتل ثلاثة من رجال الجيش والبوليس وجرح 145 مواطنًا، وكافأت السرايا والحكومة ضابط نكره باع ضميره بترقيته إلى رتبة اللواء استثناء، في الوقت الذي أحالت فيه الصاغ محمد أمين إلى الاستيداع عقابًا له على رفضه استخدام القوة مع الأهالي، رغم عنف السلطة وطغيانها استمرت المقاومة واستمر النحاس باشا في وسط الجماهير، إلى أن سقطت وزارة صدقي ومن بعدها سقطت وزارتا عبد الفتاح يحيي وتوفيق نسيم، وعاد الدستور وعاد مصطفى النحاس إلى الحكم مرة أخرى بعد انتخابات ديمقراطية نزيهة.

الدستور 13 أغسطس 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق