السبت، 8 يوليو 2017

"جامعة دينها العلم"... من أرشيف مقالاتي القديمة

   مخربشات 
"جامعة دينها العلم"

عماد أبو غازي
"جامعة دينها العلم" عنوان أحدث مؤلفات الناقد والمفكر المصري الدكتور جابر عصفور، عنوان الكتاب الذي يصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مع احتفالات مئوية الجامعة المصرية مستلهم من كلمة قالها الزعيم سعد زغلول عن الاحتفال بافتتاح الجامعة، فقد  كتب سعد زغلول في مذكراته عن حفل افتتاح الجامعة في ديسمبر 1908، وعلق على كلمات الافتتاح التي ألقيت في الحفل فقال:"إن أحسنها تلاوة وإلقاء ومعنى وعبارة خطبة عبد الخالق ثروت، وأسوأها خطب رئيس الجامعة والخديوي، وأثقلها على السمع وأبعدها عن الموضوع وأفرغها من حسن الذوق خطبة أحمد زكي لأنه تكلم فيها عن الإسلام ومجده بأمور متكلفة ليس من اللياقة إلقاؤها في افتتاح جامعة لا دين لها إلا العلم".

عبد الخالق ثروت

أحمد زكي
 "لا دين لها إلا العلم"، هكذا كان تصور سعد زغلول وحلمه بالجامعة الوليدة، أن تقوم مثلها مثل أي جامعة حديثة على احترام العلم واتخاذه مرجعية وحيدة لعملها، ولكي يكون العلم وحده مرجعية الجامعة ـ أية جامعة ـ لابد من توافر مناخ الحرية، فالجامعة الحقيقية لا تقوم لها قائمة إلا بالحرية؛ حرية البحث العلمي وحرية التفكير حرية التعبير، للطلاب وللأساتذة.
 وجامعتنا المصرية منذ نشأتها قبل مئة عام تعيش في ظل أجواء صراع بين أنصار الحرية وأنصار المصادرة ـ مصادرة كل الحريات ـ في الجامعة، فمنذ سنوات الجامعة الأولى شهدت عدة أزمات كشفت عن مدى ضعف مجتمعنا وعجزه عن احتضان جامعة حديثة بفضل سيادة التيارات المحافظة في المجتمع وامتداد نفوذها إلى الجامعة.
 في السنوات الأولى لإنشاء الجامعة خاضت أربع معارك كشفت عن أن للجامعة دينا آخر غير العلم.
 في البداية كانت قضية جورجـي زيدان مؤسس دار الهلال وأول من دعا لتأسيس الجامعة المصرية، لقد كان للرجل دراسة مهمة عن التمدن الإسلامي دفعت إدارة تراجعت عن قرارها خشية أن يثير تكليف مسيحي شرقي بتدريس مادة التاريخ الإسلامي "مشاعر المسلمين العاديين غير المتعلمين"، فأثبتت الجامعة بعد أقل من عامين على افتتاحها أن دينها ليس العلم.

جورجي زيدان
 وبعد عامين آخرين اضطرت الجامعة إلى وقف الدراسة في الفرع النسائي استجابة لضغوط الرأي العام الرجعي الذي ثار ثورة عارمة لمجرد فكرة التحاق النساء بالدراسة الجامعية، وزادت ثورته عندما أرسل سكرتير الجامعة خطابات إلى النساء الملتحقات بالدراسة بمواعيد المحاضرات وكتب على أظرف الخطابات أسماء الطالبات، فاعتبر المعارضون لالتحاق النساء بالجامعة أن ما حدث فضيحة كبرى لا يمحوها إلا الدم، مرة أخرى فضلت إدارة الجامعة أن تتراجع خطوة إلى الوراء أمام قوى التخلف بدلا من الاستمرار في المواجهة.
 لكن المعارك الكبرى حول حرية البحث العلمي بدأت مع رسائل الدكتوراه سواء تلك التي حصل عليها طلاب الجامعة من المبعوثين الأوائل إلى أوروبا، أو تلك التي حصلوا عليها هنا في مصر، وتحضرني هنا قضيتان كانت النتيجة فيهما مختلفة، الأولى قضية منصور فهمي في رسالته عن "وضع المرأة في الإسلام" والثانية قضية طه حسين في رسالته عن أبي العلاء المعري.


 أما منصور فهمي فقد كان من طلبة البعثة الجامعية الأولى، التي أوفدتها الجامعة المصرية إلى فرنسا للعودة بالدكتوراه، وكان بعد ما يقارب أربع سنوات قد انتهى من إعداد دراسته عن وضع المرأة في الإسلام، إلا أن الجامعة طالبته بعدم تقديمها للمناقشة لما تصورته فيها من عبارات تمس التقاليد الدينية، إلا أن منصور فهمي رفض تعديل رسالته وأصر على مناقشتها، وحصل على درجة الدكتوراه بالامتياز مع مرتبة الشرف، وبعد عودته أسند إليه كرسي المذاهب الفلسفية بالجامعة، إلا أن الجامعة أقدمت على فصله في نهاية عام 1913 بعد ستة أشهر فقط من تعيينه، ولم تكتف الجامعة بذلك بل قررت أن يعرض عليها موضوعات البحث التي يختارها الطلاب لرسائلهم، وألا يقدموها للجامعات التي يدرسون بها إلا بعد موافقة الجامعة المصرية عليها، وأن يبعث الطالب بأصل رسالته إلى مجلس إدارة الجامعة للإطلاع عليها وإقرار ما يراه في شأنها!!!
كانت هذه هي الحادثة الأولى التي اختارت فيها الجامعة الخضوع لمنطق الرأي العام الديني والأخلاقي السائد، في مجال البحث العلمي، حتى ولو كان ذلك على حساب رسالتها وعلى حساب مبدأها: استقلال الجامعة عن الدولة والمجتمع في آن واحد. ذلك الخضوع الذي سيصبح سمة مؤسسية للجامعة في علاقاتها بمؤسسات الدولة، بما فيها البرلمان، ومؤسسات المجتمع بما فيها الصحافة.

منصور فهمي
وفي العام التالي، عام 1914، ناقشت الجامعة أول رسالة للدكتوراه يتقدم بها أحد طلابها، الطالب طه حسين الذي قدم رسالة عن الشاعر أبي العلاء المعري.
 كانت الرسالة نقطة تحول في مناهج الدراسة الأدبية في مصر، ورغم أن الجامعة احتفت بالرسالة وصاحبها، وقررت إيفاده إلى فرنسا للدراسة، فإن بعض الأزهريين هاجموا الرسالة والجامعة، وتقدم أحدهم وكان عضوا بالجمعية التشريعية باقتراح بقطع دعم الحكومة عن الجامعة الأهلية لأنها خرّجت ملحدا!! فما كان من سعد زغلول الذي كان رئيسا للجنة الاقتراحات بالجمعية إلا أن استدعى النائب وقال له إنه إن لم يسحب طلبه فسوف يقدم طلبا مقابلا بوقف دعم الحكومة للأزهر لأن طه حسين تعلم في الأزهر قبل أن يلتحق بالجامعة، فسحب النائب طلبه، وانتهت المشكلة، لكن معارك طه حسين من أجل حرية البحث العلمي وحرية الرأي والتعبير لم تنته، ومسار طه حسين ومسار الجامعة المصرية مساران لا يفترقان.
الدستور 9 يناير 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق