الأربعاء، 19 يوليو 2017

مصر سويسرا رايح جاي... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصر سويسرا رايح جاي
عماد أبو غازي
 عندما انتهت ندوة "سويسريون في مصر" في اليوم الثالث من أيام صالون جنيف الدولي للكتاب والصحافة، وكنت من المتحدثين فيها إلى جانب عدد من المصريين والسويسريين، تقدم شيخ سويسري كبير من الحاضرين للندوة إليّ وسألني إذا كنت قد أطلعت على كتاب صدر بالفرنسية منذ سنوات عن تاريخ السويسريين الذين عاشوا في مصر، ونظرًا لضعف فرنسيتي وضعف إنجليزيته لم نتواصل طويلًا، لكني فهمت أنه يتحدث عن كتاب لكاتب سويسري صدر منذ قرابة أربعين عامًا يتناول علاقات مصر وسويسرا، وفهم مني أني لم أطلع للأسف على الكتاب وأني أرغب في الحصول على عنوان الكتاب بدقة وعلى بيانات نشره، وتبادلنا بطاقات التعرف على أمل أن نتواصل عبر البريد الإلكتروني وأعرف من خلاله بيانات الكتاب، فقد تمنيت أن يترجم الكتاب إلى العربية ضمن المشروع القومي للترجمة الذي كان حاضرًا في الصالون ببعض إصداراته، وبالحضور الكثيف لمدير المركز القومي للترجمة الناقد والمفكر الدكتور جابر عصفور.

جابر عصفور ومحمد سلماوي
 وكانت المفاجأة السارة بعد عودتي إلى مصر وكتابتي المتكررة في هذه الزاوية عن الرحلة إلى جنيف أن تلقيت على بريدي الإلكتروني رسالة من شخص مختلف تمامًا، رسالة من الصديق المهندس محسن بدوي تحمل مرفقًا، وكان المرفق عبارة عن نص مقال بعنوان: "العلاقات المصرية السويسرية كتاب لوزير سويسرا المفوَّض السابق فى مصر"، والمقال منشور في عدد نوفمبر 1957 من مجلة "المجلة" القاهرية التي كانت تصدر ما بين عامي 1957 و1971، وكانت من أهم المجلات الثقافية التي صدرت في تلك الفترة، وقد توالى على رئاسة تحريرها حسين فوزي ويحيي حقي وعبد القادر القط، والمقال للمفكر المصري الراحل عبد الرحمن بدوي، وصديقي محسن بدوي ابن شقيق عبد الرحمن بدوي، ومهتم بجمع تراثه سواء ما نشر منه في كتب أو في مقالات متفرقة في عشرات الصحف والدوريات، كما أنه يحرص على إحياء ذكرى عبد الرحمن بدوي من خلال الصالون الثقافي الشهري الذي يحمل اسمه ويعقد بالمجلس الأعلى للثقافة في الثلاثاء الأول من كل شهر.

عبد الرحمن بدوي
 سر سروري من الرسالة الإلكترونية التي تلقيتها أن مقال عبد الرحمن بدوي في المجلة عرض نقدي لكتاب أظن أنه نفس الكتاب الذي حدثني عنه الشيخ السويسري.
 وبعد أن اطلعت على مقال الدكتور عبد الرحمن بدوي عرفت أن مؤلف الكتاب هو هنري بيت دى فيشر المولد في برن سنة 1901، وأنه تنقل في الدراسة بين سويسرا وألمانيا وفرنسا، وحصل في النهاية على دكتوراه القانون من جامعة برن السويسرية، والتحق بالخارجية السويسرية منذ عام 1929 وتنقل بين أكثر من بلد، إلى أن نُقل إلى القاهرة فى سنة 1947 برتبة مساعد أول لرئيس البعثة الدبلوماسية، وفى سنة 1949 عُيِّن وزيرًا مفوضًا لسويسرا فى مصر ومعتمدًا فى إثيوبيا منذ سنة 1952، وفى ديسمبر سنة 1953 عُيِّن وزيرًا مفوضا لبلاده فى البرتغال حيث كان لا يزال يشغل هذا المنصب حين كتب عبد الرحمن بدوي مقاله.
 وحسب ما ذكره بدوي في مقاله الممتع فإن الرجل "خلال السنوات الست التى قضاها فى مصر ممثلًا لبلاده عكف على دراسة العلاقات المصرية السويسرية دراسة عميقة مستفيضة بعد أن لقّنه أبوه الإعجاب بالآثار المصرية، وكشف لعيونه الناشئة عن مواطن الجمال الرائع فى الفنِّ المصرىِّ القديم، وكان أبوه قد زار مصر سنة 1884 ليُتِمَّ دراسته فى المعمار وينمى ملَكة تذوُّق الجمال فى الآثار".
 ويتناول الكتاب في عدة فصول تاريخ العلاقات المصرية السويسرية منذ أقدم العصور حتى القرن العشرين، يطوف بين صفحات التاريخ ليرى كيف أثر المصريون في سويسرا وكيف أثر السويسريون في مصر.
 ويقول عبد الرحمن بدوي في مقاله: "سيدهش الناس لأول وهلة حينما يقرءون هذا الكتاب، إذ يرونه يتحدث عن العلاقات المصرية السويسرية فى العهد الفرعونى ثم فى العهد القبطى ثم الإسلامى، ولكن دهشتهم لن تلبث أن تزول حينما يعلمون أن العلاقات المصرية السويسرية فى العهد الفرعونى إنما قُصد بها عبادة آلهة المصريين القدماء فى بعض مناطق سويسرا فى العهد الرومانى، وأن هذه العلاقات فى العهد القبطى تنحصر فى أسطورة دينية هى أسطورة "الفيلق الطِّيبِىّ" - نسبةً إلى طيبة حاضرة مصر القديمة فى أزهى العصور- الذى وهموا أنه كان فيلقًا أرسله الرومان للحرب فى سويسرا، ثم أمره الإمبراطور مكسميان أن يقتل النصارى، فلم يذعن لهذا الأمر فأمر الإمبراطور بقتل جميع رجاله فى أجونا سنة 285 وسنة 305 ميلادية، لأن أفراد الفيلق كانوا أنفسهم نصارى مصريين، ولهذا فإن هاتين المرحلتين من مراحل العلاقات المصرية السويسرية لا تمثِّلان اتصالاً حيًّا، بل ألوان من التأثُّرات الأسطورية أو الواهية الروابط، ولكن يُحمد للمؤلف على كل حال أنه أشار إليها، وإن كان قد كرّس لها خُمْس الكتاب".
 ثم يستعرض فصول الكتاب فصلًا وراء فصل إلى أن يصل إلى العلاقات في العصر الحديث من خلال شخصيات سويسرية لعبت دورًا في الحياة الثقافية والسياسية في مصر مثل ماكس فان برشم عالم الآثار ونينيه رئيس الجالية السويسرية في مصر زمن الثورة العرابية والاحتلال البريطاني، ومن خلال الساسة المصريين الذين لجأوا إلى سويسرا هربًا من سلطات الاحتلال البريطاني وعلى رأسهم الزعيم محمد فريد.
 وفي النهاية يصدر بدوي حكمه على هذا العمل فيقول: "إن كتابه هذا الذي جمع فيه خلاصة مئات من البحوث والدراسات المتفرقة لَيُعَدُّ عملًا رائعًا من أعمال التاريخ العامِّ ودليلًا على حب استطلاع نادر المثال فى رجال الدبلوماسية ونموذجًا للاقتداء من جانب الذين يتولَّون مثل هذا المنصب الذى تولاَّه فى مصر وشاهدًا صادقًا على رسوخ العلاقات المصرية السويسرية لأنها علاقات تبرَّأَت من المطامع العدوانية واتسمت بالتبادُل العلمىّ والمالى والفنى الخصب المثمر. ولو أن السفراء والوزراء المفوَّضين فى البلاد التى يمثِّلون أوطانهم فيها صنعوا صنع بيادى فيشر مؤلِّف هذا الكتاب لأفادوا بلادهم والبلاد التى يمثِّلون فيها بلادهم أعظم الفائدة وأجزلها عائدةً على الإنسانية جمعاء".

الدستور 28 مايو 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق