الثلاثاء، 11 يوليو 2017

صاحب الديوان... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
صاحب الديوان
عماد أبو غازي
  صباح الثلاثاء الماضي 15 يناير كنت أحضر جلسة افتتاح ندوة جمال عبد الناصر بعد تسعين عامًا على مولده التي نظمتها الجمعية التاريخية بالتعاون مع دار الكتب والوثائق القومية واستضافها المجلس الأعلى للثقافة، وقبل أن ألقي كلمة المجلس في جلسة الافتتاح وأنا جالس بين المؤرخ الكبير الدكتور رؤوف عباس رئيس الجمعية التاريخية والدكتور محمد صابر عرب رئيس دار الكتب والوثائق القومية وأستاذ التاريخ البارز، ألقى إلي أحد الزملاء في المجلس بقصاصة صغيرة تحمل خبر رحيل الدكتور يونان لبيب رزق، كان الخبر مفاجأة صاعقة، ألقت بظلالها على الحاضرين، فكلهم إما زميل أو صديق أو تلميذ للدكتور يونان.


 ورغم أن الدكتور يونان مر في السنوات الماضية بعدة أزمات قلبية حادة نجى من بعضها بأعجوبة، إلا أنه كان حتى اللحظة الأخيرة يباشر عمله وحياته بحرص لكن بشكل طبيعي، قبلها بأسبوعين كان يرأس لجنة الإعداد لاحتفال المجلس الأعلى للثقافة بمئوية الجامعة المصرية، كعادته كان أكثرنا جرأة وتجديدًا في أفكاره حول الاحتفال، قدم تصورًا يقوم على طرح القضايا الإشكالية ودرس الماضي لاستشراف أفاق المستقبل، أكد أن الاحتفاء بالجامعة لا بد أن يكون محاكمة مئة عام من عمر الجامعة المصرية وليس زفة إشادة وتأييد.
 قبل رحيله بأيام قليلة  اتصل بي ليدعوني لحضور اجتماع لجنة التاريخ بالمجلس وهي المرة الأولى التي يطلب فيها هذا الطلب، قال لي: إن اللجنة ستقر خطة نشاطها للعام الجديد وأنه يرغب في حضوري للمناقشات، وبالفعل قدم الدكتور يونان تصورًا جديدًا لصالون الجبرتي الذي أشرف هو عليه في دورته الأولى، تصور يقوم على مناقشة قضايا الحاضر والمستقبل وليس قضايا الماضي، فقد كانت قناعة الدكتور يونان دائمًا أن دراسة التاريخ لا جدوى منها إن لم تخدم الحاضر والمستقبل، وبالفعل أقرت اللجنة خطة الدكتور يونان لبيب رزق الجريئة لتطوير الصالون الشهري، كان يخطط لدعوة عدد من الساسة والمبدعين ضيوفًا على الصالون لمناقشتهم في قضايا مصر والعالم العربي الساخنة من أجل اقتراح تصورات ورؤى مستقبلية، كان حريصًا في تلك الجلسة على متابعة كل الأمور المعلقة في عمل اللجنة كأنه كان يرتب أوراقه ويعد نفسه للرحيل، يومها كان معنا بعد اجتماع اللجنة في الندوة التي أقامتها لجنة التاريخ لتكريم اسم مقررها الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان، تحدث يومها الدكتور يونان لبيب رزق عن عبد العظيم رمضان المؤرخ والكاتب ومقرر لجنة التاريخ، وأكد في كلمته على أنه يرفض فكرة التأبين فمن كان له إسهام  علمي وثقافي مثل عبد العظيم رمضان لا يموت ولا يؤبن، بل يكرم فهو دائمًا سيبقى حيًا بأعماله ومؤلفاته ونشاطه العام الذي يخلد في ذاكرة الناس، وهذا ما ينطبق عليه هو أيضًا، فيونان لبيب رزق لم يمت رحل جسده فقط ، غاب حضوره الجميل عن أسرته الصغيرة وتلاميذه ومحبيه، لكن الرجل سيظل حاضرًا بيننا بأعماله وإنتاجه المتميز ورؤيته للتاريخ وأفكاره ومواقفه الوطنية.

 ولد يونان لبيب رزق في القاهرة في 27 أكتوبر 1934 ونشأ في حي شبرا والتحق بكلية الآداب بجامعة إبراهيم باشا الكبير (عين شمس حاليًا) سنة 1951، وتخرج منها عام 1955 ليكمل دراسته العليا في التاريخ الحديث تحت إشراف أحد أبرز مؤرخي الجيل الثاني من الأكاديميين المصريين في حقل الدراسات التاريخية وأحد مؤسسي جامعة عين شمس ، أحمد عزت عبد الكريم، عمل بالتدريس قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًا في عام 1969 بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة عين شمس سنة 1967، كان الشاب يونان لبيب رزق قد اتجه إلى دراسة تاريخ السودان، وسعيًا منه للبحث وراء مصادر دراسته، التحق بالبعثة التعليمية المصرية في السودان وعمل مدرسًا بأم درمان ليكون قريبًا من الوثائق الأصلية لموضوعه في الأرشيف السوداني، الذي غاص في أعماقه، ولا شك في أن معرفته بأرشيف السودان كان لها أثر في نجاحه ضمن الفريق المصري في التحكيم في النزاع حول طابا، فنجاح هذا الفريق كان بفضل الوثائق التاريخية التي ترجع إلى بداية القرن العشرين، والتي أثبتت حق مصر في طابا، وقد نجح فريقنا في الوصول إلى تلك الوثائق بعد جولة في أرشيفات العالم ومنها الأرشيف السوداني.
 لقد ترك يونان لبيب رزق أكثر من أربعين كتابًا مؤلفًا، فضلًا عن الترجمات، والأعمال المشتركة، وعشرات من الأبحاث والدراسات، ومئات من المقالات الصحفية، لكن رصيد يونان لبيب رزق أكبر من هذا، لقد كان الرجل دومًا من المدافعين عن حرية الفكر والتعبير والاعتقاد وعن مبدأ المواطنة الذي كان يعلو عنده على أي انتماء، وما زلت أذكر موقفه عندما جمعتنا لجنة من المثقفين لإبداء الرأي في فيلم "بحب السيما" للمخرج أسامة فوزي، والذي أثار اعتراض بعض الأوساط الدينية المسيحية، يومها كان من أشد المدافعين عن حرية الإبداع، وقد استدعته النيابة العامة مع باقي أعضاء اللجنة لسماع أقوالنا في البلاغ الذي تقدم به بعض المحامين ورجال الدين لوقف عرض الفيلم، استمر التحقيق مع الدكتور يونان لبيب رزق الذي كان قد جاوز السبعين لأكثر من ساعتين قدم خلالهما نموذجًا في أدب الدفاع عن حرية التعبير والإبداع.
  تميز يونان لبيب رزق بأنه كان من ذلك النوع من المؤسسين للمشروعات الكبرى، ففضلًا عن أنه حذا حذو أستاذه أحمد عزت عبد الكريم في تأسيس سيمينار للتاريخ في كليته، كلية البنات بجامعة عين شمس، على غرار سيمينار التاريخ الحديث بآداب عين شمس، ليكون مدرسة لطلاب الدراسات العليا يناقشون فيها أفكارهم بحرية ويمارسون التجريب في لبحث، أسس في الأهرام وحدة للبحوث التاريخية، وفي دار الشروق سلسلة متميزة تحمل عنوان: "الوجه الآخر للتاريخ" حاول أن يقدم من خلالها القضايا الشائكة والملتبسة في التاريخ المصري برؤى متعددة من زوايا مختلفة.
 ومع تعدد أنشطة يونان لبيب رزق واهتماماته يبقى جهده في صفحته الأسبوعية بجريدة الأهرام، والتي كان يطل علينا منها صباح كل خميس على مدار خمسة عشر عامًا أكبر إنجازاته في تحويل التاريخ إلى مادة صحفية على أيدي أستاذ أكاديمي متخصص، لقد كان ديوان الحياة المعاصرة نافذة لكل قراء الأهرام على تاريخ مصر الحديث، عرف من خلاله الدكتور يونان كيف يجعل من التاريخ موضع اهتمام لكل إنسان.
 رحل صاحب الديوان لكن ستبقى مشروعاته شاهده على بصمة واضحة تركها على صفحة الحياة المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين.

الدستور 23 يناير 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق