السبت، 29 يوليو 2017

ضمير للوطن... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ضمير للوطن
عماد أبو غازي
  قدم الجيل الذي ولد مع ثورة 1919وتفتح وعيه في ظل الحقبة الليبرالية الكثير للثقافة في مصر، معظم أبناء هذا الجيل من المبدعين بدء ظهورهم على ساحة العمل الثقافي والفكري منذ الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، كان المجال متاحًا أمامهم ليقدموا إسهامهم في بناء ثقافة جديدة، خاضوا معاركهم انتصروا وانكسروا وواصلوا، في كل مجالات الإبداع الفني والأدبي وفي الدراسات الاجتماعية والإنسانيات ظهر جيل جديد، كانوا في مقتبل شبابهم، وكانت مصر تتغير.
 في مجال السينما ظهرت أسماء كثيرة كان من بينهم يوسف شاهين، كانت السينما حلمه وعشقه، أبدع وقدم رؤية سينمائية لها مذاقها المميز منذ فيلمه الأول "بابا أمين" حتى فيلمه الأخير "هي فوضى"، خلق الرجل ليصنع فنًا، كان دائمًا مجربًا ومجددًا، يحترف اكتشاف المواهب الجديدة ويتطرق إلى مناطق جديدة، سنوات قليلة وأصبح شاهين قمة من قمم السينما في مصر، انطلق إلى العالمية ومعه السينما المصرية.


 ألحت عليه مجموعة من القضايا قدمها من خلال أعماله، كانت البداية القوية في الدفاع عن قضايا التحرر الوطني آواخر الخمسينات، والتي تجلت بوضوح في فيلمه عن جميلة بوحريد أول عمل سينمائي يقدم ثورة الجزائر من خلال قصة حقيقية، قصة المناضلة جميلة بوحريد، عرّف العالم بقضيتها وقدم عريضة دفاع عنها وعن ثورة الجزائر وهي حبيسة محكوم عليها بالإعدام.
 قضية أخرى شغلته وظهرت بقوة في أفلامه، قضية ثقافة الحوار مع الآخر، أو ما أصبحنا نطلق عليه حوار الثقافات، القضية واضحة عنده منذ فيلم "الناصر صلاح الدين"، لتعود وتظهر بقوة في "وادعا بونابرت" و"المصير" و"الآخر" وفي جزئين على الأقل من سيرته الذاتية السينمائية، "إسكندرية ليه؟" و"إسكندرية نيو يورك"، وفي فيلمه القصير عن 11 سبتمبر والذي يشكل فقرة من11 فقرة لـ 11 مخرجًا من 11 بلدًا، كانت حياته كلها محاولة لمد جسور الحوار الإنساني لتحل محل العدوانية بين البشر، كان شاهين ممتلكًا الرؤية الإنسانية واسعة الأفق التي قدمها من خلال فنه.
 كان الإنسان الهم الأساسي في سينما يوسف شاهين، الإنسان القادر على المقاومة من أجل الدفاع عن حقه ومن أجل التغيير من أجل مقاومة الفساد، في الناس والنيل والأرض والعصفور وهي فوضى، في العصفور كانت محاولة لتقديم الإنسان الذي يسعى لمحاربة الفساد المحتمي بالاستبداد الذي قاد إلى الهزيمة في 67، وإذا كانت السينما المصرية قد تناولت هذه القضية كثيرًا بعد حرب أكتوبر، فإن شاهين كان رائدًا في مناقشتها فقد أنجز فيلمه قبل الحرب، وقد أصبحت الأغنية الأساسية للفيلم التي لحنها الراحل علي إسماعيل "راجعين شايلين في إيدنا سلاح" علامة على العبور، كأنما كان يوسف شاهين وهو يعري الفساد يستشرف المستقبل.
 كان استشراف المستقبل لعبته التي أتقنها، في "جميلة" كان مستشرفًا لانتصار ثورة الجزائر، وفي رائعته ورائعة السينما المصرية "عودة الإبن الضال" كان مستشرفًا للانهيار العربي متنبأ به.
 أما في فيلمه الأخير "هي فوضى" الذي اشترك معه في إخراجه المخرج خالد يوسف أحد تلاميذه البارزين نجح في الوصول إلى الجماهيرية الواسعة، فقد كان راصدا للواقع محذرا مما يمكن أن يؤدي إليه، وأذكر في الأسابيع الأولى لعرض الفيلم كم استمعت إلى تعليقات من سائقي التاكسي ومن حرفيين تعاملت معهم ترى في الفيلم أصدق تعبيرا عن أحوالهم وأحوال البلد.
 لقد كان أول فيلم أشاهده ليوسف شاهين في دار عرض سينمائي فيلم "الناصر صلاح الدين" قبل أن أكمل عشر سنوات، لم أكن أعرف وقتها أن الفيلم ليوسف شاهين ولم يكن يشغلني اسم المخرج، لكن عندما شاهدت فيلم "الأرض" في السينما وكنت في الرابعة عشر عشقت يوسف شاهين وأدمنته، من يومها أصبحت أحرص على مشاهدة كل أفلامه في السينما، وأحيانًا كنت أدخل الفيلم أكثر من مرة، بلغت في فيلم "عودة الإبن الضال" ثلاثين مرة، في أحد الأيام شاهدت الفيلم في ثلاثة عروض متوالية، أما يوسف شاهين نفسه فقد شاهدته وجهًا لوجه لأول مرة أثناء العرض الأول لفيلمه الاختيار، كنت قد ذهبت لمشاهدة الفيلم بصحبة أبي الذي كان وزيرًا للثقافة وقتها، وكان المخرج يوسف شاهين والفنان محمود المليجي والفنان عزت العلايلي والفنان سيف عبد الرحمن  يجلسون في البنوار المجاور، وقد شاهدت ثورة يوسف شاهين وغضبه في غيرة شديدة على فنه بعد نهاية العرض بسبب الاستقبال السلبي لقطاع من الجمهور الذي حضر العرض للفيلم، لقد كان الفيلم عميقًا ومركبًا ويحمل مدلولات أبعد من القصة البوليسية الظاهرة على السطح لم يفهمها بعض الحاضرين، وقد جاء الفيلم بعد فيلم الأرض المأخوذ عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي التقليدية الواضحة، فكان الاختيار صادمًا لقطاع من الجمهور، كان بداية لأفلامه التي وصفها البعض بأنها صعبة.



 كانت المرة الثانية التي أجلس فيها إلى جانب يوسف شاهين بعد ثلاثين عامًا من اللقاء الأول، يوم الاحتفال بعيد ميلاده الخامس والسبعين في المجلس الأعلى للثقافة، وكان الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس جينذاك قد سافر إلى جامعة هارفارد فجر يوم الاحتفال في رحلة طويلة للتدريس هناك، فكان عليّ أن أجلس على المنصة إلى جانب الناقد سمير فريد مقرر لجنة السينما بالمجلس وقتها وإلى جانب المحتفى به يوسف شاهين، كانت المرة الأولى التي أدير فيها ندوة من ندوات المجلس، كنت أرتجف من داخلي فأنا أجلس إلى جوار العملاق يوسف شاهين الذي عشقت فنه لسنوات، وكادت الاحتفالية تنتهي بكارثة عندما تحمس شاهين في الحوار وانفعل بشدة في الإجابة على أحد الأسئلة عن الأوضاع العامة في مصر والعالم العربي، وخرج يوسف شاهين من قاعة الندوات بالمجلس الأعلى للثقافة إلى المستشفى.
 يوسف شاهين لم يكن مجرد مخرج سينمائي مبدع قدم سينما جديدة متميزة، بل كان أكثر من ذلك بكثير، كان يوسف شاهين ضميرًا للوطن، ضميرًا للوطن بفنه، وضميرًا للوطن بمواقفه، بدفاعه عن قضايا الوطن وقضايا الديمقراطية.

الدستور 30 يوليو 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق