الاثنين، 10 يوليو 2017

معارك العميد... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
معارك العميد
عماد أبو غازي
 بدأت معارك طه حسين من أجل الحرية أو المعارك ضده وضد الحرية مع السنوات الأولى للجامعة، وإذا كان سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية في ذلك الوقت قد نجح في وأد أول تلك المعارك في مهدها داخل الجمعية التشريعية، فإن المعركة الثانية جاءت من داخل الجامعة، فقد أثار الشيخ الشاب أزمة داخل الجامعة عندما كتب مقالا في جريدة السفور ينتقد فيه أسلوب الشيخ محمد المهدي في تدريس الأدب العربي، مقارنًا أسلوبه ومنهجه بالمناهج الأوروبية، فثار الشيخ المهدي وقلب الدنيا على تلميذه طه حسين معتبرًا أن نقد التلميذ لأستاذه من الكبائر التي لا تغتفر، وقدم شكوى لإدارة الجامعة طالب فيها بشطب اسم طه حسين من قوائم خريجيها، وانشغل الرأي العام بالقضية، فطالب البعض الشيخ المهدي بعدم التهويل والمبالغة والاهتمام بدلًا من ذلك بتحضير دروسه، ورأى البعض أن نقد طه حسين لأستاذه كان نقدًا علميًا خالصًا تعرض لمدى علم أستاذه، وإن هذا من حقه لأن مبدأ التستر على الخطأ العلمي مبدأ شديد الخطر على الحياة الأدبية للأمم، ودافع آخرون عنه داعين إلى دعم روح النقد في نفوس المصريين لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى نشر العلم الصحيح بين الناس.

 ورأت الجامعة أن تتدخل للوصول إلى "حلٍ وَسَط" يرضي جميع الأطراف، ذلك النوع من الحلول الذي "حل وْسْط" الحياة العلمية والثقافية في مصر، فكلفت عالم الآثار علي بهجت سكرتير الجامعة بتصفية الأمر، ونشر بهجت بيانًا في الصحف قال فيه: "اجتمع لدي الأستاذ الشيخ المهدي والدكتور طه حسين وتكلما في شأن ما نشر في جريدة السفور، وتفاهما تفاهمًا حسنًا واعتذر الشيخ طه حسين إلى الأستاذ الشيخ المهدي عما رآه الشيخ المهدي ماسًا بكرامته".
 ويرى الدكتور عبد المنعم الجميعي في كتابه عن الجامعة المصرية والمجتمع الصادر سنة 1982 أن طه حسين بهذه الصيغة لم يتراجع في هذه المعركة عن آرائه العلمية في الشيخ المهدي أو في منهجه. لكن المعركة في مجملها تعكس ضيق المجتمع بالنقد وافتقاد الجامعة لرحابة الأفق التي تسمح بالنقد الذي يعد أساس العلم والمدخل إلى التقدم.
ووقعت أشهر معارك طه حسين سنة 1926 بعد تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية، إنها معركة كتاب "في الشعر الجاهلي"، كتاب صغير في حجمه لكنه هز ثوابت ظل الناس يجترونها لأجيال، صدر الكتاب في مارس سنة 1926، ليجمع محاضرات كان يلقيها طه حسين على طلابه، وكان الرجل يتبنى الشك منهجًا للوصول إلى يقين علمي، وتناول في الكتاب الشعر الذي ينسب إلى عصر ما قبل الإسلام مشككًا في صحة انتساب الكثير منه إلى ذلك العصر، وأكد طه حسين في كتابه أن رأي الأغلبية يصلح في السياسة لكنه لا يصح في العلم، ودلل بمثال واضح، "كانت الكثرة من العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة، وإن باحثًا هنا وباحث هناك امتلكوا الجرأة على الشك والبحث فوصلوا إلى الحقيقة وهدموا الوهم والأسطورة".


 ورغم أن الكتاب يتناول قضية بحثية في تاريخ الأدب العربي ليس لها طابع سياسي، إلا أن الضجة التي أعقبت صدوره وصلت إلى البرلمان ووصلت بصاحبه إلى المثول أمام النيابة العامة، وشارك في المعركة الساسة والمشايخ ورجال الفكر والأدب، واستمرت القضية مثارة على صفحات الصحف لثلاثة أشهر متوالية، بل ربما لم تخمد آثارها إلى الآن. انتهت القضية وقتها بتهدئة برلمانية أوقفت مطالب النواب بفصل طه حسين من الجامعة وإعدام كتابه، وبحفظ التحقيق الذي أجرته النيابة العامة، وبصدور طبعة معدلة من الكتاب تحمل عنوان "في الأدب الجاهلي"، حذف منها طه حسين بعض العبارات التي استفزت التيارات المحافظة، لكنه تمسك فيها بمنهجه في التعامل مع الشعر الجاهلي.
 وقد كشفت تلك الأزمات المبكرة في حياة الجامعة وما انتهت إليه من حلول وسط، هشاشة البيئة التي ظهرت فيها الجامعة في مصر، ومدى ضيق المجتمع بالجديد والجريء من الأفكار، وهشاشة حرية البحث العلمي في الجامعة الوليدة، وسهولة مصادرة هذه الحرية بتحريض من الرأي العام المحافظ، والتأثير السلبي للصراعات السياسية على حرية الفكر والتعبير، واستغلال القوى السياسية الرجعية للمزاج المحافظ للشارع المصري في صراعاتها، وخضوع القوى التي ينتظر منها الدفاع عن حرية الرأي لابتزاز صندوق الانتخابات، فحزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية والذي يفترض فيه الدفاع عن قضايا حرية الرأي والتعبير، تخاذل في مواقفه في قضية الشعر الجاهلي خوفًا من تأثير أي موقف إيجابي يتخذه على نتائجه في الانتخابات.
 لم تكد آثار أزمة الشعر الجاهلي تهدأ حتى تفجرت أزمة جديدة للدكتور طه حسين الذي صار أول عميد مصري لكلية الآداب، كانت أزمة من نوع جديد، أزمة استقلال الجامعة والتدخل السياسي للدولة فيها، ففي ظل الانقلاب الدستوري الذي قاده إسماعيل صدقي سنة 1930، وقعت أول أزمة سياسية في الجامعة كان الرجل بطلها وضحيتها، فقد كانت له مواقفه المعادية للديكتاتورية، وكان يحترم القيم الجامعية ولا يتهاون فيها، وعندما رفض الأوامر الحكومية بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، كان رد الحكومة عزله من عمادة كلية الآداب ونقله بعيدًا عن الجامعة موظفًا بوزارة المعارف.


 واحتجاجًا على قرار الوزير ودفاعًا عن استقلال الجامعة استقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد يوم 9 مارس 1932، اليوم الذي أصبح شعارًا لحركة استقلال الجامعات المصرية، وقرر المثقفون تنصيب طه حسين عميدًا للأدب العربي ردًا على عزله من عمادة كلية الآداب، لم يستمر الحال سقطت  حكومة صدقي وعاد الدستور، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولًا على الأعناق.


 لم تنته معارك طه حسين من أجل حرية البحث العلمي ومن أجل جامعة دينها العلم وورث تلاميذ طه حسين وقسمه وكليته في الجامعة المصرية التركة، فنالهم القسط الأكبر من تحمل عبء ضيق المجتمع بالحرية.

الدستور 16 يناير 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق