الثلاثاء، 4 يوليو 2017

معمل التاريخ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
معمل التاريخ
عماد أبو غازي
 مع ظهور الدول القومية الحديثة في العالم كانت كل دولة منها في حاجة إلى كتابة تاريخ قومي تستند إليه، ومن تلك اللحظة بدأ التاريخ يتحول من كتابة أدبية تعتمد على تسجيل الوقائع والمشاهدات وجمع حكايات القدماء إلى مجال معرفي يحاول أن يقتبس المناهج العلمية ويتخذها طريقًا لدراسة التاريخ وكتابته، وأصبحت الوثائق مادة خام يستخدمها المؤرخ في كتابة التاريخ، فنشأت الحاجة لتأسيس الأرشيفات القومية لتجمع الوثائق التاريخية وتتيحها للمؤرخين، الذين أطلقوا على الأرشيف اسم معمل التاريخ.
 وفي مصر بدأت رحلة الأرشيف القومي الحديث مع إنشاء الدفترخانة العمومية سنة 1829، ورغم أن حفظ الوثائق كان معروفًا في مصر منذ أقدم العصور إلا أنه كان حفظًا لأغراض العمل الإداري، ولم يظهر حفظ الوثائق بغرض استخدامها في كتابة التاريخ إلا مع ظهور الدولة القومية الحديثة.


 وقد كان الغرض من إنشاء الدفترخانة في بدايتها حفظ الأوراق والسجلات والدفاتر الناتجة عن نشاط دواوين الحكومة وفروعها في الأقاليم بطريقة منظمة، بحيث يمكن للقائمين عليها الوصول إلى محتوياتها بسهولة، وفي نفس الوقت توفير مكان آمن لها لا تتعرض فيه للسرقة أو الحريق، مثلما حدث عندما شبت النيران بديوان الكتخدا وأتت على جميع الدفاتر الموجودة به سنة 1820.
 وطوال القرن التاسع عشر صدرت عدة لوائح للدفترخانة كان آخرها سنة 1895، وقد طورت تلك اللوائح وظائف الدفترخانة، فبعد أن بدأت عملها كمجرد مكان لحفظ الوثائق الإدارية والمالية للدولة لأغراض العمل الحكومي، أصبحت مع نهاية القرن التاسع عشر تقوم بمهام الأرشيف القومي الحديث، بعد أن أضيف إلى اختصاصها حفظ الوثائق لأغراض البحث التاريخي والقانوني والعلمي والإحصائي، وقد تغير اسم الدار إلى دار المحفوظات العمومية ولا زالت تحمل هذا الاسم إلى الآن، وتتبع حاليا وزارة المالية، وتحتفظ بأنواع محددة من الوثائق، مثل: سجلات المواليد والوفيات، وملفات خدمة موظفي الدولة بعد إحالتهم إلى المعاش، ودفاتر الضرائب العقارية.
 وفي عام 1932، وبعد عشر سنوات من تصريح فبراير 1922 الذي تحولت مصر بمقتضاه إلى مملكة، أنشأ الملك أحمد فؤاد الأول قسم المحفوظات التاريخية بقصر عابدين والذي يعرف بين الباحثين بأرشيف عابدين التاريخي، وكان هدفه الأساسي من وراء ذلك توفير الوثائق للباحثين لكتابة تاريخ أسرة محمد علي، وضم ذلك القسم الوثائق التركية المحفوظة بالقصر إلى جانب الوثائق التي انتزعت من مجموعاتها الأرشيفية بدار المحفوظات العمومية، خصوصًا تلك التي تتعلق بمحمد علي والخديوي إسماعيل.


 وفي عام 1954 مع بداية العصر الجمهوري صدر قرار إنشاء دار الوثائق القومية التاريخية لتكون أرشيفًا قوميًا لمصر، وضمت وثائق أرشيف عابدين ووثائق أخرى من مجموعات دار المحفوظات، إلى جانب الوثائق التي تنتقل إليها من مجلس الوزراء ومؤسسات الحكومة المختلفة.
 ظلت الدار تعمل من قصر عابدين حتى سنة 1969 عندما انتقلت إلى القلعة، ثم منها إلى كورنيش النيل في مطلع التسعينيات، وتضم الدار ملايين من الوثائق المفردة والسجلات والدفاتر، التي تغطي الفترة من القرن الثاني عشر الميلادي حتى القرن الحادي والعشرين، وقد بدأ الآن الإعداد لإنشاء مبنى جديد للدار بالفسطاط في منطقة تعد لتكون مجمعًا ثقافيًا متكاملًا، وفي نفس الوقت يجري الإعداد لإصدار قانون جديد للوثائق المصرية يلائم التطورات العالمية في مجال الوثائق والأرشيف.
 وتقدم دار الوثائق القومية خدماتها للباحثين في مجالات التاريخ والآثار والوثائق والعلوم السياسية، كما تقدم أيضًا خدمات للجمهور الذي يحتاج إلى صور رسمية من الوثائق القديمة لاستخدمها في المنازعات القضائية.
 ورغم أن عمر دار الوثائق القومية تجاوز 50 عامًا، فإن الدار لا تضم كل الوثائق التاريخية المصرية، فالمجموعات المصرية موزعة بين أكثر من مكان ومؤسسة، حيث تحتفظ وزارة الأوقاف بعدة آلاف من وثائق الوقف التي ترجع أقدمها إلى أواخر عصر الدولة الفاطمية وأحدثها إلى النصف الأول من القرن العشرين، كما تحتفظ المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية مثل الأزهر الشريف، وبطريركية الأقباط الأرثوذكس، ودير سانت كاترين، وحاخمخانة اليهود، ببعض وثائقها وهي وثائق ذات قيمة كبيرة في التعرف على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مصر عبر العصور، ولا توجد قواعد محددة لإتاحته للجمهور.


 هناك كذلك الأرشيفات المتخصصة التي تحفظ أنواع ذات طبيعة نوعية خاصة من المواد الأرشيفية، مثل الخرائط التي تحتفظ بها مصلحة المساحة، وتقوم المصلحة بمهمة مزدوجة، فهي تنتج الخرائط وتحفظها في ذات الوقت، وتقدم خدمات نسخ الخرائط للجمهور بمقابل مالي، ومثل الرسوم المعمارية وتصميمات المباني الحكومية التي يحتفظ بها المكتب العربي الهندسي، ويعد المكتب العربي الهندسي شركة من شركات قطاع الأعمال الحكومي، يقوم بدور بيت الخبرة وفي نفس الوقت يعمل بمثابة أرشيف هندسي معماري، وترجع الجذور الأولى لهذا المكتب إلى القرن التاسع عشر، عندما تأسس ديوان الأبنية، ومثل المواد الفلكلورية التي يحتفظ بها المركز القومي للفنون الشعبية، والتي تشكل نواة لتأسيس أرشيف للفلكلور المصري.
 هناك كذلك الأرشيفات الصحفية، وأرشيفات للمواد المسموعة والمرئية، مثل الأرشيف القومي للسينما التابع لوزارة الثقافة والذي تواجهه عقبات كثيرة بسبب المشكلات القانونية والمالية، ومكتبات الأفلام والتسجيلات الصوتية في الإذاعة والتلفزيون، وهي تضم مواد وثائقية شديدة الأهمية.
 ومازال أمامنا طريق طويل لنستكمل أركان معامل التاريخ، أرشيفتنا القومية.

الدستور نوفمبر 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق