الأحد، 16 يوليو 2017

يوم الحشر... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
يوم الحشر
عماد أبو غازي

 عصر يوم الثلاثاء الحادي عشر من فبراير سنة 1908 خرج عشرات الآلاف من المصريين وراء نعش لفه العلم المصري في جنازة غير مسبوقة في تاريخ مصر، كان الجثمان المحمول داخل النعش للزعيم الشاب مصطفى كامل الذي رحل قبل أن يكمل عامه الرابع والثلاثين، رحل في الرابعة عصرًا يوم الاثنين 10 فبراير 1908.


 ورغم أن وفاة مصطفى كامل لم تكن مفاجأة لأحد، فقد اعتلت صحته ولازم الفراش لمدة ثلاثة أشهر كاملة قبل وفاته، إلا أن الخبر كان له وقع الصدمة على جموع المصريين، وقد عبر أحمد شوقي عن مشاعر الأمة في رثائه للزعيم عندما قال:
المشرقان عليك ينتحبان
             قاصيهما في مأتم والداني
 لقد ولد مصطفى كامل بحي الصليبة بالقاهرة في 14 أغسطس سنة 1874، ومصر تعيش لحظة من لحظات نهوضها في العصر الحديث، ففي سبعينيات القرن التاسع عشر اتسعت حركة المطالبة بالدستور والحكم النيابي، وارتفع شعار مصر للمصريين في وجه محاولات التدخل الأجنبي في البلاد، لكن هذه النهضة التي توجت بالثورة العرابية سنة 1881، لم يقدر لها أن تصل إلى مداها، فقد سقطت مصر في يد الاحتلال البريطاني في صيف عام 1882.
 وقضى الفتى مصطفى كامل سنوات دراسته الابتدائية والثانوية في فترة من أحلك الفترات في تاريخ مصر الحديث، فقادة الحركة الوطنية بين منفي وسجين ومطارد ومستسلم للاحتلال، ومصائر البلاد عادت مرة أخرى بغير أيدي أبنائها.
 لكن سرعان ما عادت بذور المقاومة الكامنة في التربة المصرية لتثمر ثمارها؛ فقبل أقل من عشر سنوات من الاحتلال بدأت الجمعيات الأدبية والفكرية تنشط في مصر، وأخذ الوطنيون المصريون يعملون من خلالها لبعث روح المقاومة ضد المحتل، ولم يكن مصطفى كامل الشاب الصغير الذي لم ينه العقد الثاني من عمره بعيدًا عن هذه الروح الجديدة، فقد أخذ يتردد على جمعية الاعتدال التي كانت تعقد جلساتها الأسبوعية بمدرسة الأمريكان، فتعرف من خلال هذه الجمعية على كثير من أدباء ومفكري عصره، وفي السادسة عشرة من عمره أسس جمعية أدبية وطنية أسماها جمعية الصليبة الأدبية.
 وبمجرد انتهاء مصطفى كامل من دراسته الثانوية في صيف 1891 اتجه إلى دراسة القانون في مدرسة الحقوق الخديوية، ويبدو أنه رأى في تلك الدراسة طريقًا للدفاع عن قضية استقلال مصر، ففي خطاب أرسله لأخيه علي فهمي بك الذي كان وقتئذ ضابطًا بالجيش المصري بالسودان يقول:
 "السلام عليك أيها الأخ الحبيب، اليوم أبشرك أن العقبة الكئود التي أمامي وهي شهادة الدراسة الثانوية قد زالت من أمامي، فقد نلتها بعد أن أضنت جسمي فأصبح نحيلًا، لا صحيحًا ولا عليلًا، ولكني أؤمل أن تعود إلي القوى لأدخل مدرسة الحقوق الخديوية، فقد عزمت على الانضمام إلى صفوف طلابها، لأنها مدرسة الكتابة والخطابة  ومعرفة حقوق الأفراد والأمم، وأنت تعلم إني أميل إليها كثيرًا، وعزمت كذلك على تأسيس جمعية أسميها جمعية إحياء الوطن، وربما دهشت من إقدامي هذا لضعفي الذي تعلمه في اللغة الفرنساوية، ولكن اعتمادي على الله وعلى نفسي أكبر ضامن لنجاحي والله الموفق إلى أقوم سبيل.
حفظك الله لأخيك مصطفى كامل"
 وكان التحاق مصطفى كامل بمدرسة الحقوق فاتحة لمشاركته الفاعلة في العمل الوطني ضد الاحتلال، فبدأ يراسل كبريات الصحف المصرية وينشر فيها مقالاته الوطنية، كما تصدى لقيادة الحركة الطلابية الناشئة في المدارس العليا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، فكان من خطبائها البارزين كما كان في طليعة من قادوا المظاهرات في يناير 1893 تأييدًا لمواقف الخديوي الشاب عباس حلمي الثاني ضد اللورد كرومر.
 وأصدر مصطفى كامل وهو في التاسعة عشرة من عمره مجلة شهرية أسماها "المدرسة" وقد رحب بها عبد الله نديم في مجلته الأستاذ.
 وقد سار نضال مصطفى كامل الوطني منذ البداية في خطين متوازيين: العمل على بعث الروح الوطنية في مصر لمواجهة الاحتلال البريطاني، والدعاية للقضية المصرية في أوروبا ومحاولة اكتساب الأنصار لها.
 وكانت نقطة الانطلاق الكبرى في نضال مصطفى كامل الوطني في يناير سنة 1900 عندما أصدر العدد الأول من جريدة اللواء التي أصبحت سلاحه الماضي في مواجهة الاحتلال البريطاني، لقد تحولت اللواء من جريدة إلى مؤسسة للصحافة الوطنية تصدر العديد من الصحف والمجلات بالعربية والفرنسية والإنجليزية، وتتصدى لسياسات الاحتلال البريطاني في مصر.
 وقد توج مصطفى كامل نضاله الوطني قبل وفاته بأسابيع قليلة بتأسيس الحزب الوطني الذي جمع فيه الرجال الذين شاركوا الزعيم في نضاله الوطني طوال ما يقرب من خمسة عشر عامًا، ففي 22 أكتوبر سنة 1907 أعلن مصطفى كامل في خطبة ألقاها بمسرح زيزينيا بالإسكندرية الدعوة لتأسيس الحزب الوطني ليكون حزبًا للنضال من أجل تحقيق الجلاء، وفي يوم 27 ديسمبر سنة 1907 انعقدت أول جمعية عمومية للحزب في دار اللواء بالقاهرة، واختارت أعضاء اللجنة الإدارية للحزب ومن بينهم انتخب محمد فريد بك وأحمد فائق باشا وكيلين للحزب، كما انتخبت مصطفى كامل رئيسًا للحزب مدى الحياة، لكن الحياة كانت قصيرة لم يتبق فيها إلا أسابيع معدودة، لقد كان تأسيس الحزب الوطني أخر أعمال مصطفى كامل، فمن يومها لم يغادر فراش المرض حتى وافته المنية في 10 فبراير سنة 1908، ويومها نعاه حافظ إبراهيم بقصيدة طويلة جاء فيها:
شاهدت يوم الحشر يوم وفاته           
             وعلمت منه مراتب الأقدار
ورأيت كيف تفي الشعوب رجالها
       حق الولاء وواجب الإكبار
تسعون ألفًا حول نعشك خشعٌ
            يمشون تحت لوائك السيار

الدستور 13 فبراير 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق