الثلاثاء، 11 يوليو 2017

ميت سنة مصادرة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ميت سنة مصادرة
عماد أبو غازي
 ورث تلاميذ طه حسين وقسمه وكليته في الجامعة المصرية التركة، فخاضوا معارك الدفاع عن جامعة دينها العلم، ونالهم القسط الأكبر من تحمل عبء ضيق المجتمع بالحرية، فمع نهاية الأربعينيات وعلى وجه التحديد في عام 1947 تفجرت قضية جديدة من قضايا حرية البحث العلمي، عندما تقدم محمد أحمد خلف الله برسالته للدكتوراه عن القصص القرآني، وكانت الرسالة تحت  أشرف الشيخ أمين الخولي وهو عالم له جذوره الدينية من خلال دراسته في مدرسة القضاء الشرعي، وكان خلف الله حذرًا في دراسته في تناول الأمور الدينية، وتضمنت الرسالة دفاعًا عن الإسلام في مواجهة آراء المستشرقين، ورد الرجل على كثير من كتاباتهم رغم استخدامه مناهجهم، وميز خلف الله في رسالته بين القصص التاريخي في القرآن وقصص الرمز والمجاز، كما ركز على الجوانب الاجتماعية والنفسية وابتعد عن الخوض في الأمور الدينية التي تدخل في صلب العقيدة، ولم يكن الطالب أو أستاذه ممن يمكن أن يوصفوا بمعادة الإسلام أو اتخاذ مواقف نقدية حادة من الفكر الديني، لكن مصر وقتها كانت تعيش في ظل حكومات لا تستند إلى الإرادة الشعبية، وكانت حركة الأخوان المسلمين في مرحلة من مراحل صعودها، تسعى لفرض فكرها الديني على المجتمع، وتقف في صف حكومة الأقلية في مواجهة الحركة الوطنية الديمقراطية الصاعدة في صفوف طلاب الجامعة، القائمة على تحالف بين التيارات اليسارية في حزب الوفد والتنظيمات الشيوعية، ويقف كبيرهم في الجامعة ـ كبير الأخوان ـ ليشبه إسماعيل صدقي بإسماعيل عليه السلام، مستخدما آيات القرآن الكريم في غير مواضعها.

الشيخ أمين الخولي
 في هذا المناخ بدأ الهجوم على الرسالة وامتد إلى الطالب والأستاذ، ورفضت اللجنة منح الطالب الرسالة بأغلبية صوتين مقابل صوت واحد، ويبدو أن الصراعات الشخصية بين الأساتذة لعبت دورها هنا.
 وبرفض الرسالة بدأت المعركة الحقيقية، وبدأ الأزهريون يكفرون خلف الله ويتهموه بالردة، وطالت اتهاماتهم الشيخ أمين الخولي، ودافع خلف الله عن موقفه مؤكدًا أنه مسلم متدين، إلا أن منتقدوه طالبه بالتوبة ولوحوا له بتطبيق حد الردة عليه، كما طالبوا بإحراق الرسالة، ووقفه عن العمل هو وأستاذه الشيخ أمين الخولي، كما طالبوا بفصل الشيخ من مجلس أساتذة الأزهر، وتطهير المدارس والجامعات من الكفار، وإجراء تحقيق بمعرفة الأزهر في الأمر، إلا أن الجامعة رفضت التدخل الخارجي من الأزهر في شئون الجامعة، لكن كان على خلف الله أن يستقيل من عمله في الجامعة كمعيد، وقد نشر الرجل رسالته ككتاب سنة 1953 بمقدمة للشيخ أمين الخولي.
 وبعد ما يقارب الخمسين عامًا يتكرر المشهد مرة أخرى في قضية الدكتور نصر أبو زيد، الذي يعد من الباحثين البارزين بين أبناء جيله، وقد قرر الرجل أن يتطرق في أبحاثه العلمية إلى قضايا التراث اللغوي والديني، لكن المتربصون بحرية البحث العلمي كانوا له بالمرصاد، وعندما تقدم للترقي لدرجة الأستاذية رفض بعض أعضاء لجنة الترقيات بالجامعة بعض أبحاثه، وتحولت القضية إلى قضية رأي عام، وقرر البعض ملاحقته قضائيًا ونجحوا في استصدار حكم بالتفريق بينه وبين زوجته، ومن سخريات القدر أن أكثر الأساتذة تحريضًا ضده باسم الدين وهو أستاذ بكلية دار العلوم واجه محنة التكفير بعدها بسنوات بسبب كتاب له حاول أن يجتهد فيه برأيه!

نصر حامد أبو زيد
 وها نحن اليوم نرى ما وصل إليه حال الجامعة من ضعف وهوان عندما تطلب جامعة حلوان الرأي الديني في رسالة علمية.
 بين قضية خلف الله التي خرجت فيها الجامعة وقضية نصر أبو زيد التي أصبحت الجامعة بعدها مؤسسة مقلمة الأظافر علميًا، لا يستطيع أساتذتها أن يمارسوا البحث العلمي بحرية، يتحسبون دائمًا لردود فعل القوى المحافظة والتيارات الظلامية في المجتمع جرت مياه كثيرة وصلت بنا إلى هذا الوضع.
 فبعد انقلاب يوليو 1952 تلقت الجامعة ضربة قاسمة بصدور قرارات التطهير، التي طرد من الجامعة بمقتضاها مجموعة من خيرة أبنائها، وبدأت موجات التطهير في أواخر سنة 1952 وبلغت ذروتها بعد أزمة مارس 1954، وكان ممن طالتهم تلك القرارات المؤرخ الرائد محمد صبري السوربوني الذي عاصر طه حسين في بعثته لفرنسا، والذي قدم للمكتبة التاريخية مجموعة من أهم الدراسات عن تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، وكان يكتب بالفرنسية والعربية، ومعظم مؤلفاته صدرت باللغة الفرنسية، وكانت له دراسات مهمة في الأدب منها الشوقيات المجهولة وكتابه عن مطران، فهل مثل هذا العالم يمكن أن تفقده الجامعة بسبب التسلط السياسي، وكان منهم لويس عوض ومحمود أمين العالم، ولم تكن خسارة الجامعة تقتصر على فقدها لتلك القامات العلمية الشامخة، بل امتد أثرها إلى مناخ البحث العلمي الذي لا يمكن أن ينمو إلا في حاضنة من الحرية، كذلك تمت تصفية النشاط الطلابي المستقل، ولم يتخل النظام عن سياسة التطهير فقد انتهى عصر الرئيس السادات وهناك عشرات من أساتذة الجامعة مبعدين عنها، كان نصيب كلية طه حسين الأكبر في تلك الحملة.


 وخلال الثمانينيات والتسعينيات شهد المجتمع ظاهرة جديدة تمثلت في تدخل أولياء الأمور وأعضاء مجلس الشعب فيما يدرس وما لا يدرس في الجامعة، وأذكر ما تعرضت له كلية الآداب بجامعة القاهرة من مشكلات بسبب تدريس ألف ليلة وليلة، وموسم الهجرة إلى الشمال للأديب السوداني الكبير الطيب صالح، وما تعرضت له الجامعة الأمريكية بسبب تدريس الخبز الحافي للأديب المغربي محمد شكري، وكتاب "محمد" للمفكر الفرنسي مكسيم رودنسون.
 كان شعار "جامعة دينها العلم" مجرد حلم يبدو بعيد المنال فالتعدي على الحرية التي هي شرط العلم ممتد بامتداد تاريخ الجامعة، يتراجع مرة وتزداد وطأته مرات، في كل العصور وتحت كل الأنظمة كانت الجامعة تتلقى الطعنات تلو الطعنات، مرة من الدولة ومرات من قوى التخلف في المجتمع التي امتد نفوذها إلى داخل الجامعة، حتى أضحت جامعة معقمة من مقومات العلم وأولها الحرية.

الدستور 30 يناير 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق