الأربعاء، 18 يناير 2017

مخربشات

130 سنة على المرشد الأمين للبنات والبنين

عماد أبو غازي


 من 130 سنة في عام 1875، صدرت الطبعة الأولى من كتاب "المرشد الأمين للبنات والبنين" عن مطبعة المدارس الملكية، بعد وفاة مؤلفه بعامين، والكتاب واحد من أهم الكتب التي صدرت في مصر في القرن التاسع عشر، بل هو من أهم الكتب العربية في ذلك القرن، ومؤلف الكتاب هو الأزهري العظيم، رائد النهضة المصرية الحديثة، ومؤسس حركة التنوير، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، والكتاب من كتب رفاعة الأخيرة التي ألفها بعد نضوج فكره واكتمال رؤيته، وقد ألفه بتكليف من ديوان المدارس، يعني وزارة التربية والتعليم بتاعة زمان، ليكون بمثابة خطة لتطوير سياسة التعليم والتربية في مصر في لحظة من لحظات التطلع للنهوض بهذا البلد، ويعكس هذا التكليف الطريقة التي كان المسئولين يفكرون بها في ذلك الزمن، فعندما يريدون وضع خطة لتطوير التعليم يلجئون لمفكر بارز له خبرة طويلة في هذا المجال وله رؤية تحديثية متطورة ليضع هذه الخطة، وهو ما حدث بعدها بأكثر من نصف قرن، عندما كلفت وزارة المعارف، اللي هي برضه وزارة التربية والتعليم، الدكتور طه حسين بوضع تصور لمستقبل التعليم في مصر، فجاء كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر"، ومن اللافت للنظر أيضا أن تلك الخطط كانت تطرح على عامة المصريين في شكل كتب يتداولها الناس ويناقشوا ما فيها، وهو أسلوب يقر بحق المجتمع في المشاركة في اتخاذ القرار.
 ومن الغريب أن هذا الكتاب استغرقت طباعته ثلاث سنوات تقريبا، ففي صفحة العنوان إشارة إلى تاريخ الطبعة الأولى باعتباره العشر الأواخر من شوال 1289 هـ أي أواخر ديسمبر 1872، قبل وفاة رفاعة في مايو 1873، بينما تشير الصفحة الأخيرة من الكتاب إلى صدوره بأشراف علي فهمي رفاعة، ابن المؤلف، في عام 1292 هـ، التي تقابل 1875، وقد نبهني إلى وجود تاريخين على الكتاب الصديق الكاتب نبيل فرج، حيث ظللت لفترة طويلة أنسب الكتاب إلى سنة 1872 خطأ.
 نرجع للكتاب وصاحبه، ينقسم كتاب رفاعة إلى مقدمة وسبعة أبواب وخاتمة، تناول في المقدمة مفهوم التربية وعلاقتها بالقيم الدينية ودور المنزل في التنشئة، وربما تكون هذه المقدمة من أول ما كتب في مجال التربية الحديثة في العربية، ثم تناول في الباب الأول الإنسان كحيوان ناطق وعلاقته بسائر المخلوقات، ثم مبدأ المساواة بين البشر، وفي الأبواب من الثاني إلي السابع يتعرض لقضية تعليم البنات والبنين، ويناقش الآراء المختلفة بين الجنسين، وفي أهمية التعليم والعمل لكليهما، وفي فضل تعليم البنات والبنين تعليما تربويا سليما على رقي الوطن وتمدن الأمة، ويستعين بالشواهد التاريخية المتعددة من تاريخنا المصري ومن التاريخ العربي وتاريخ العالم للتعريف بما للمرأة من أدوار في الحياة العامة للمجتمعات الإنسانية المختلفة، كذلك يتطرق إلى قضايا الزواج والأسرة، ويؤكد على علاقة نجاح الحياة الأسرة بالتعليم السليم للبنات والبنين على حد سواء، أما الخاتمة فقد عرض فيها لبعض الأمور المتعلقة بحفظ الصحة ثم أورد بعض الأحاديث التي تدعو إلى الفضائل.
 ورغم أن تعليم البنات كان قد بدأ بالفعل في مصر قبل صدور الكتاب، إلا أن "المرشد الأمين للبنات والبنين" يعد أول مبادرة للتأصيل الفكري لقضية حق الفتاة في التعليم، بل أن رفاعة يذهب أكثر من ذلك حيث يطرح بجرأة الدعوة لعمل لمرأة، فيقول: "إن التعليم يمكن المرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل عن البطالة، ... فالعمل يصون امرأة ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء"، كم كان عظيما هذا الرجل الذي أرسى الدعائم الفكرية لمصر الحديثة، هذا ولم تكن أفكار رفاعة المتقدمة عن المرأة وحقوقها وليدة كتابه "المرشد الأمين"، بل نجد جذور تلك الأفكار واضحة في كتاباته الأولى، حيث دعا في كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي صدر عقب عودته من فرنسا إلى رفع سن الزواج حتى تتمكن المرأة من أن تتعلم، فكان بذلك صاحب دعوة رائدة لتطوير وضع المرأة المصرية والنهوض بها على قواعد اجتماعية ثابتة تحرر المرأة من أوضاع التخلف التي ورثتها عن العصور الوسطى، وتتيح أمامها إمكانيات حقيقية للرقي بوضعها، وهو ما جسده في ممارسته الفعلية في الحياة الأسرية عندما منح زوجته حق تطليق نفسها بالثلاثة إذا تزوج عليها أو تسرى بجارية، فكان نموذجا للمثقف المتسق مع ذاته وأفكاره، لم يكن رفاعة مجرد ابنا لعصره بل صانعا من صناعه، لقد ولد مع مطلع قرن جديد شهد تحولات تاريخية حاسمة في مصر، انتقلت خلاله من مرحلة العصور الوسطى بقيمها إلى عصر التحديث والاستنارة، وكان الرجل واحدًا من صناع هذه التحولات، لقد كان في كل ما يطرحه مبشرًا بالتقدم وصانعًا له في وقت واحد.

 الدستور 29 يونيو 2005
مخربشات
"آل عاكف" حين يحكم وطنًا!
عماد أبو غازي
 كنت قد قررت أن أتوقف عن الكتابة حول موضوع جماعات الإسلام السياسي لأنتقل لهموم وقضايا أخرى، لكن استوقفتني فقرتان في مقال الصديق إبراهيم عيسى المنشور على الصفحة الخامسة من دستور الأسبوع الماضي تحت عنوان "آل باتشينو حين يحكم وطنًا!"... فقررت أن أعود ثانية.
 استوقفتني الفقرة التي استشهد فيها بالمفكر الراحل سيد قطب في تفسيره لآية من آيات القرآن الكريم، وتعجبت من استشهاد ديمقراطي أصيل وحقيقي مثل إبراهيم عيسى بمفكر من مؤسسي الفكر الإرهابي التكفيري في مصر، خصوصًا أن تفسير سيد قطب لا يضيف جديدًا مهمًا لما قاله إبراهيم ، لكنه فسر ذلك بأن الاستشهاد من نص يعود لمرحلة سابقة على التحول الأخير في حياة سيد قطب، الذي تحول من ناقد أدبي ليبرالي إلى إسلامي متشدد ثم إلى منظر للإرهاب الفكري والمادي، ربما كان معه حق وكل واحد حر في استشهاداته مادام يرى أنه تدعم موضوعه.
 أما الأمر الثاني الذي استوقفني في المقال، إنني اعتبرت أن إبراهيم يقصدني بشكل أو بآخر في الفقرة التي يقول فيها: "وأنا أعلم يقينًا أن هناك شرائح فكرية وسياسية في مصر وغيرها أهون عليها أن تظل فلسطين محتلة من أن تحكمها حماس وأبرد على قلبها أن يحكم مصر فسدة ومستبدون من أن يشارك في حكمها إخوان مسلمون"، فقد دارت بيننا وأصدقاء آخرين أكثر من مناقشة خلال السنوات الماضية حول هذا الموضوع، واختلفنا فيها، تطرقنا خلالها إلى إمكانية استقلال فلسطين على يد حماس، وكنت أعتقد وما زلت أن الحل الديمقراطي الذي طرحته الحركة الوطنية الفلسطينية للقضية منذ قرابة أربعين عاما، بإقامة دولة ديمقراطية علمانية يعيش فيها العرب واليهود جنبا إلى جنب هو المناسب حتى وإن كان يبدو اليوم بعيد المنال في ظل صعود التطرف الديني على الجانبين، وأرى أن ما تطرحه حركة حماس وغيرها من الحركات الإسلامية في فلسطين تحت شعار "فلسطين إسلامية" لا يقدم حلًا مقبولًا للقضية، بل يقدم حلًا ـ إذا اعتبرناه حلًا أصلًا ـ يرسخ المفهوم الذي قامت عليه الحركة الصهيونية والذي يجعل من التمايز والتمييز على أساس الدين الأساس الذي تقوم عليه الدولة، فضلًا عن أنه حل يشق الحركة الوطنية الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني، مسيحيون ومسلمون خاضوا طوال عقود ممتدة نضالًا وطنيًا وليس دينيًا ضد الحركة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي، وبهذا المعنى فإن حماس تخدم إسرائيل أكثر مما تخدم القضية الفلسطينية بشقها للحركة الوطنية الفلسطينية.
 وإذا تحقق لحماس أن تحكم فلسطين أو جزء منها فسوف تقيم دولة دينية تضاهي إسرائيل في عنصريتها وتميزها بين البشر، وإذا كنا نعترض على إسرائيل لأنها دولة مغتصبة تقوم على التمييز على أساس الدين، فإذا استبدلنا بها نظامًا "وطنيًا" ـ وطنيًا بين قوسين لأن الإسلاميين ضد مفهوم الوطن ـ يقوم هو الآخر على التمييز على أساس الدين فلن نكون قد تقدمنا كثيرًا، وفي الآخر الشعب الفلسطيني حر في نفسه، لكن من المؤكد إننا لن نكون سعداء أو أكثر استقرارًا بقيام دولة دينية جديدة على حدودنا.
 وشواهد التاريخ القريب كثيرة عن الكوارث التي  يتسبب فيه منطق تأييد أي قوة محلية في مواجهة الحكم الأجنبي أو أعوانه بغض النظر عن المواقف السياسية والرؤى الفكرية التي تتبنها تلك القوى، وأمامنا مثال كمبوديا التي تخلصت من حكم الجنرال لون نول الفاسد المستبد الموالي لأمريكا ليحل محله حكم بول بوت الذي جاء بصيغة عقائدية ليحارب الفساد والتبعية فأباد نصف الشعب الكمبودي في المعتقلات ومعسكرات العمل الإجباري وعاد ببلاده سنوات وسنوات إلى الوراء، إلى أن أزاحته الجبهة الشعبية بدعم عسكري فيتنامي، كلف كمبوديا سنوات أخرى من الدمار والخراب المادي والمعنوي، كل هذا لمجرد تفضيل نظام "وطني" على حكم فاسد عميل.
 وأمامنا إيران بين حكم الشاه المستبد الفاسد وحكم آيات الله والملالي الذي شارك رئيسه السابق ـ وغالبا سيكون القادم ـ في فضيحة إيران جيت، النظام الذي سمح مؤخرًا للمرأة بارتداء الصندل وتسامح مع عدم إطلاق الرجال للحاهم في إطار الجهود الإصلاحية "الكبيرة" لرئيسه الذي ينهي مدته الثانية، النظام الذي عرفت معتقلاته عمليات تعذيب لا تقل بشاعة عما كان جهاز السافاك يمارسه في عهد الشاه.
 وكذلك مثال أفغانستان بين الحكم الموالي للاحتلال السوفيتي وحكم المجاهدين بمختلف فصائلهم ليس ببعيد، فقد عاشت البلاد في ظل الحكم "الوطني" الذي هو "أهون" من الاحتلال السوفيتي وحلفائه عصرًا من "أزهى" عصور الانحطاط عادت فيه أفغانستان ألف عام إلى الوراء، وأصبحت مهمة وزير "الثقافة" الأولى في نظام طالبان هي تحطيم تماثيل بوذا لأنها في رأي فضيلته أصنامًا، وقد وجدت هذه التصرفات الجاهلة من يدافع عنها على طول العالم الإسلامي وعرضه.
 وفي المقابل لك أن تتصور الحال في جنوب أفريقيا لو أن الذي انتصر لم يكن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، بل منظمة من المنظمات ذات التوجه العنصري الأفريقي هي التي انتصرت على النظام العنصري الأبيض، هل كان من الممكن أن تقوم في جنوب القارة دولة من أكثر الدول ديمقراطية في العالم الثالث، بل في العالم عمومًا.
 عزيزي إبراهيم ليس كل ما هو "وطني" ـ محلي يعني ـ أفضل بالضرورة، أظن هذه كلماتك.
 أما عن مصر في حال حكم الإخوان المسلمين أو أي جماعة من جماعات الإسلام السياسي إذا سيطروا على البلاد والعباد ـ لا قدر الله ـ فسيعلنون أنفسهم وحدهم المؤمنون وغيرهم كفارًا، أو عصاة في أفضل الأحوال، هم الفرقة الناجية ومن عادهم في النار، ومن حسن الحظ أن الدكتور أيمن الظوهري قد أعلن أمس الجمعة في شريط بثته الجزيرة رؤيته للإصلاح، وأظنها أبعد ما تكون عما تتمناه لمصر، دعنا نتصور معا السيناريو الأسود لحكمهم لمصر.
في اليوم التالي سوف تخصص أماكن للرجال وأخرى للنساء في دور العرض السينمائي، منعا للاختلاط، ويقتصر البث الإذاعي والتلفزيوني على تلاوة القرآن الكريم والأناشيد الدينية والأفلام والمسلسلات الدينية كذلك ستتحول جميع البرامج إلى برامج إخبارية أو دينية وستبدأ نشرة الأخبار التي سيقرأها رجال أو مذيعات محجبات بأخبار المرشد العام، بعد شهر سيمنع دخول النساء للسينما، وستحرم الأناشيد الدينية المصحوبة بالموسيقى لأن الموسيقى حرام كما ستمنع المسلسلات الدينية والأفلام التي تظهر فيها الممثلات غير منقبات، وبعد سنة ستمنع أي مسلسلات أو أفلام بها ممثلات أصلًا من باب الاحتياط، كما ستقتصر تلاوة القرآن الكريم على المصحف المرتل فقط، وستغلق دور السينما من أصله، "ستنقى" المكتبات العامة من الكتب الخارجة عن الدين مثل روايات نجيب محفوظ ومسرحيات توفيق الحكيم ودواوين الشعر من المتنبي وأبي نواس إلي حجازي ودرويش وأدونيس، فضلا عن كتب الفلسفة التي تحوي من وجهة نظرهم كفرًا بواحًا، ستغلق المتاحف الأثرية والفنية لأن ما بها أصنام ينبغي هدمها، سينطلق المطوعون في الشوارع والحدائق العامة ليمنعوا الناس من ممارسة حياتهم العادية، ستعطى الحرية كل الحرية لأنصارهم وسيحرم الكلام على سواهم، سترسوا كل العطاءات والمناقصات والممارسات في وزارات الدولة المختلفة ومصالحها على شركات يملكها "المؤمنون" لأنه لا تصح موالاة غير المؤمن.

 عزيزي إبراهيم إذا كانت قضيتك هي الإصلاح والديمقراطية ومحاربة الفساد، وأنا معك، فقد حكمت جماعات الإسلام السياسي خلال الخمسين سنة الماضية منفردة أو متحالفة مع النظم العسكرية الاستبدادية، ولن أعود إلى التاريخ البعيد فهو تاريخ أسود من قرن الخروب لكن قيم العصور الوسطى كانت قيم مختلفة، فقل لي متى أصلح هؤلاء ومتى صانوا الديمقراطية والحريات العامة والخاصة ومتى كانوا بعيدين عن الفساد.
الدستور 22 يونيو 2005

مخربشات

صلاح عيسى ... وحجاب بثينة كامل!!!

عماد أبو غازي

 ما علاقة الأستاذ صلاح عيسى بحجاب بثينة كامل؟  كنت قد بدأت في كتابة مخربشاتي هذا الأسبوع حول مشروع الدستور المصري الذي أُعد سنة 1954 ولم ير النور، وكان الكاتب الكبير الأستاذ صلاح عيسى قد قدم دراسة مهمة حوله في جريدة المصري اليوم، وتواصلت حلقات هذه الدراسة القيمة على مدار عدة أسابيع، وأنهاها بالحلقة التي نشرت في عدد يوم السبت 4 يونيو وضمنها نص الدستور كاملًا، مع دعوة لتشكيل جماعة تتبنى هذا المشروع ليكون دستورًا جديدًا لمصر يحل محل دستور 1971، بعد أن أدخل صلاح عيسى على المشروع الأصلي بعض التعديلات التي اقترحها، كي يتواكب مشروع الدستور القديم مع العصر الذي نعيش فيه اليوم، وليلبي متطلبات جدت خلال السنوات الخمسين الماضية، وهي تعديلات محدودة فمشروع دستور 54 الذي يقوم على أساس النظام الجمهوري البرلماني، وينص بشكل حاسم على صيانة الحريات الأساسية للمواطنين، ويحافظ على مبدأ الفصل التام بين السلطات ويحفظ لكل سلطة كيانها واستقلالها، هذا المشروع ما زال صالحا ليكون أساسا لإصلاح ديمقراطي حقيقي في مصر، ودعوة صلاح عيسى دعوة مهمة تستحق الالتفاف حولها وتأييدها من أجل مستقبل هذا البلد.
  لكن ما علاقة كل هذا ببثينة كامل وحجابها، وأنا أبدأ في مقالي تلقيت على الفاكس رسالتين من جريدة الدستور إلى بثينة، بهما تعليقان من اثنين من قراء الدستور على مقال لها نشرته منذ أسبوعين حول تجربتها مع الحجاب التي خاضتها قبل أكثر من عشرين سنة، وقد دفعني ما جاء في التعليقين إلى تحويل مثار مخربشاتي لمناقشة بعض ما جاء بهما من آراء، وأكثر ما استفزني في كلام الأستاذ تامر الشامي والسيد صبري سراج هو الأحكام القاطعة التي يصدرانها بجرأة يحسدان عليها في أمور تعد بأي مقياس عقلاني أمورًا شخصية ومتغيرة، فالزي يخص من يرتديه يتحمل مسئوليته في الدنيا والآخرة، وإذا كان الأستاذ تامر والسيد سراج مقتنعان أن الإسلام دعوة صالحة لكل مكان وزمان ـ وهو كذلك بالفعل ـ فلا يمكن ربط الدين بزي محدد، فالزي متغير اجتماعي يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، ونصوص القرآن الكريم التي يستندون إليها تقبل تفسيرات متعددة، ويمكن فهمها بمعان مختلفة، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن مجتمعاتنا عاجزة وفاشلة ومحبطة، وبدلًا من أن تقدم إضافة جديدة للإنسانية ولنفسها لتتجاوز عثرتها وتشغل نفسها بالعلم والعمل، شغلت نفسها بالمساحة التي ينبغي أن تغطيها المرأة من جسدها، وطول جلباب الرجل، ودعاء ركوب الدابة ودعاء دخول المرحاض، يا ناس ارحمونا وارحموا هذا البلد وتطلعوا إلى المستقبل قليلا بدل من إضاعة الوقت في الشكليات التي لن تقدم ولن تؤخر، إن هذا الحال يذكرني بقول الشاعر:
هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم    * يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
 ثم من قال إن الحجاب هو العفة وعدم ارتداؤه عري، كيف ننظر إلى المرأة باعتبارها مجرد عورة ينبغي أن نغطيها حتى لا نستثار، ومنذ متى كانت هذه هي نظرة الرجل إلى المرأة في مجتمعنا المصري، لقد خرجت المرأة المصرية في المدينة إلى ساحات العلم والعمل والنضال الوطني إلى جانب الرجل منذ عشرات السنيين وخلعت النقاب والحجاب، ولا يجرؤ أحد على وصم جيل أمهاتنا وجدتنا بالعري أو أن يقلل من أهمية دورهم في بناء هذا البلد، أما المرأة في الريف المصري فلم تعرف طوال تاريخها الحجاب أو الاحتجاب إلا مع غزو الأفكار الوافدة من الخليج في السنوات الأخيرة، وقبل أن يعود إلينا الحجاب مع انتشار الفكر الوهابي لم نكن نسمع عن جرائم الاغتصاب وهتك العرض في الطرق العامة إلا فيما ندر، لأن رجالنا كانوا أسوياء لا ينظرون للمرأة على أنها مجرد عورة، أما السيد صبري الذي يعترض على دعوة الرجال لأن يغضوا البصر فلماذا يعصى أمر الله هنا؟ أو ليس غض البصر أمرًا إلهيًا صريحًا لا يحتمل تأويل؟ وإذا كانت نفس الإنسان سليمة وسوية من الداخل فلن يمشي مغمض العينين ولا حاجة، لكن عليه ألا ينظر نظرة جنسية حسية لكل إمرأة يرها، وبعدين إيه الحكاية؟ وإيه جاب كشف الشعر للعري؟
 وبالمناسبة ومن باب الشغب مع الدكتورة هبة رؤوف، إذا كانت الأمور وصلت لديكم فعلًا إلى هذا الحد غمضوا عنيكم أحسن أو أقعدوا في بيوتكم، هاقول لكم زي ما صاحب المطعم وصاحب المكتبة قالوا للدكتورة: "مش عاجبك ما تبصيش".
وبعيدًا عن المقالين فإن ما يسود في حياتنا اليوم من تنصيب الناس لأنفسهم قيمين على الأخلاق العامة باسم الدين، ومن إصدار الأحكام بثقة شديدة لا تستند إلى علم أو معرفة، ومن التدخل في الحريات الخاصة للأفراد والتعدي عليها بتنطع لا يضاهيه سوى تنطع جماعات المطوعين، بات أمرًا يحتاج إلى وقفة جادة في مواجهته.
 أخيرًا أعتقد أن الموضوع لا يبعد كثيرًا عن دستور 1954، واقترح على الأستاذ صلاح عيسى إضافة تعديل جديد مع تعديلاته ينص على تجريم التعدي على الحريات الخاصة أو التحريض على التعدي عليها خاصة لو جاء ذلك باسم الدين.

 أخيرًا ومن باب الشغب مرة ثانية، هذا النموذج الصغير لعقليات أنصار الإسلام السياسي وطريقة تفكيرهم، أهديه للزميلين خالد البلشي وإيهاب عبد الحميد ولكل من يذهب مذهبهما ليعرفا أي مستقبل أسود ينتظرنا لو وصل الإخوان إلى الحكم.
الدستور 15 يونيو 2005

الاثنين، 2 يناير 2017

مخربشات

رد على رد ... الإخوان تاني

عماد أبو غازي

 مرة ثالثة أعود إلى موضوع الإخوان المسلمين؛ ففي دستور الأسبوع الماضي كتب الزميل إيهاب عبد الحميد معلقًا على ما كتبته من أسبوعين حول ضرورة المواجهة الفكرية لتيار الإسلام السياسي والتصدي لفكره المعادي للديمقراطية.
 وفي الرد عدة نقاط تحتاج إلى مناقشة؛ بداية من العنوان الذي تصدر الرد "الإخوان أفضل من النظام الحالي"، وانتهاء بالخلاصة التي وصل إليها في ختام مقاله بأنه ليس هناك شيء أسوأ مما نحن فيه، مرورًا بالأسئلة التي يراها ضرورية، والإجابات التي يعتقدها بديهية.
 أولًا: أنا لم أطرح من الأساس مقارنة بين الإخوان والنظام؛ لكن ما طرحته بشكل أساسي كان في سياق الرد على كلام الزميل خالد البلشي الذي اعتبر أن أي هجوم على الإخوان في محنتهم الحالية صيد في الماء العكر، وقد كان رأيي ولا يزال أن مواجهة فكر الإخوان وكشف تاريخهم الإرهابي الذي لم يعتذروا عنه إلى الآن واجب على من يرغب في بناء ديمقراطية حقيقية، بغض النظر عن تقديرنا من الأسوأ ومن الأفضل في هذا المضمار، عمومًا ورغم أن هذا لم يكن موضوع مقالي الذي يرد عليه إيهاب عبد الحميد، فمن الأخر الثبات والجمود أفضل في تصوري من التغيير إلى الوراء؛ فإذا لم يكن التغيير يدفعنا إلى المستقبل فقلته أحسن، وواهم من يتصور أن التغيير مجرد التغيير هو اتجاه إلى الأفضل، فهناك دومًا تغيير للأفضل وتغيير للأسوأ.
 ثانيًا: الأسئلة التي يطرحها زميلنا إيهاب ويرى أن إجاباتها بديهية، وتلك التي يطرحها باعتبارها أولى بالمناقشة تحتاج هي نفسها لمناقشة.
 فالسؤال حول ضرورة مساندة الإخوان في نيل حقهم في التعبير ليست له إجابة بديهية أو إجابة واحدة بالضرورة؛ بل هو سؤال إشكالي، وإجابته خلافية في تقديري.
 فهل النضال من أجل السماح لتيار معاد للديمقراطية ولحرية الرأي والتعبير عداءً أصيلًا بحقه في الدعوة لأفكاره أمر لا يحتاج إلى نقاش؟ فما هي أهدافهم التي علينا أن نناضل من أجل السماح لهم بالوصول إليها بطريقة سلمية؟ هل تقييد الحريات ودفع المجتمع قرونًا إلى الوراء أمر مقبول إذا جاء بطريقة سلمية؟
 ثم أين هي المشكلة أصلًا؟ إن التيار الديني بتلويناته المختلفة هو الأكثر تعبيرًا عن أفكاره منذ السبعينيات عندما تحالف الإخوان مع النظام وقتها ضد اليسار والقوى الديمقراطية، ويملك الإخوان تأثيرًا أكبر من غيرهم من القوى السياسية والاتجاهات الفكرية من خلال تغلغلهم في مؤسسات المجتمع، ومن خلال المساحة المتاحة لهم للدعوة لأفكارهم تحت ستار الدعوة الدينية، وزاد من سطوتهم أن قطاعات من المجتمع تهيأت لتلقي أفكارهم بعد انتشار الفكر الوهابي بين العائدين من الخليج عمومًا، ومن السعودية خصوصًا.
 أما السؤال الذي لا مفر منه في تقديري، فليس ماذا لو كان ثمن الديمقراطية وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر؟ بل ينبغي أن يكون السؤال الذي تطرحه القوى الحريصة على الديمقراطية وعلى مستقبل هذا الوطن، كيف نمنع الإخوان المسلمين من الوصول إلى حكم مصر؟
 ثالثًا: إن القول بأن الصعود الديمقراطي للإخوان سيكرس الديمقراطية أكثر مما يكرس الدولة الدينية، استنادًا إلى اختلاف النظام العالمي أمر مشكوك فيه، فالنظام العالمي اليوم نظام تصعد فيه قوى اليمين الديني المسيحي واليهودي والهندوسي وتزداد قوة، ويمكن أن يتقبل يمينًا دينيًا إسلاميًا ما دام لن يمس مصالح القوى الكبرى في النظام العالمي الجديد.
 عزيزي إيهاب لا تطمئن كثيرًا للنظام العالمي، ولا تتعب نفسك بالبحث عن الفارق بين الإخوان في مصر وغيرهم من الأحزاب الدينية في العالمين العربي والإسلامي، فالفكر الديني واحد.
 وأمامنا ممارسات نوابهم في مجلس الشعب المعادية لحرية الفكر والتعبير والإبداع، ومشروعهم الذي قدموه في السبعينيات لتشريعات تقطيع الأطراف والجلد والرجم وأسموه بتقنين الشريعة الذي جمد بسبب حل مجلس الشعب سنة 1978.
وأمامنا النموذج الإيراني الذي صادر الحريات ولا يزال، ولا يخدعنا أن هناك انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح، وأن هناك امرأة ترشح نفسها لمنصب الرئاسة، ففي المقابل هناك مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يستبعد المرشحين بعد ترشحهم حتى ولو كانوا أعضاء في البرلمان، وهناك الملاحقات المستمرة لأي فكر أو إبداع خارج إطار المرجعية الدينية الرسمية، فحتى المراجع الدينية العليا التي تختلف مع النظام مثل آية الله منتظري يعزلون سياسيًا لاختلافهم مع النظام.
إذا وصل الإخوان أو جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة فلا مجال للمشاركة ولن تكون هناك ديناميكية ولا يحزنون، المشكلة لا تكمن في إعلان الإخوان القبول بآليات التغيير الديمقراطي وتقبلهم لقواعد الصراع السياسي البرلماني بدلًا عن الإرهاب المسلح، لكن القضية تكمن في ضرورة إعلانهم بالقبول بالدولة المدنية وتخليهم عن فكرة الدولة الدينية، وإعلانهم بشكل واضح القبول بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة، واعتذارهم عن جرائمهم التي ارتكبوها في الماضي باسم الدين.

الدستور 8 يونيو 2005