الخميس، 16 نوفمبر 2017

نباشو القبور... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
نباشو القبور
عماد أبو غازي

 رغم أن العيد مناسبة سعيدة، مناسبة للبهجة والفرح، فقد كان العيد يرتبط عندنا في مصر دائمًا بزيارة الراحلين في المقابر، مهما بعد الزمن بيننا وبين رحيلهم نحرص على زيارتهم ولا ننساهم. فالأموات في عقيدة المصريين منذ القدم لا يغيبون برحيلهم عن عالمنا، بل هم عند موتهم يرحلون في رحلة طويلة إلى عالم الأبدية، وإن غابت أجسادهم تحت التراب، فأرواحهم معنا، لذلك فنحن نذهب لزيارتهم في المناسبات السعيدة، تمامًا كأنهم بيننا، يتشاركون معنا في فرحنا.
 أذكر وأنا صغير كيف كانت زيارة مقابر العائلة وعائلة العائلة في ثاني أيام العيد بصحبة جدتي وأبي طقسًا من طقوس العيدين التي لا يمكن أن تفوتني أنا وأخي الأكبر، لا أعرف الآن ما المتعة في ذلك، بل هل كنا نجد متعة بالفعل من أصله، أم أنها كانت مجرد رغبة في مصاحبة الكبار وحب لتقليدهم فيما يفعلونه؟
 عندما أتذكر الزيارتين السنويتين في العيد الصغير والعيد الكبير لمقابر الأمام الشافعي ومقابر باب الوزير، تلوح في ذهني رباعية صلاح جاهين التي يصف فيها زيارة المقابر في العيد، فيقول:
"عيد والعيال اتنططوا على القبور
لعبوا استغامية... ولعبوا بابور
وبالونات ونايلونات شفتشي
والحزن هيروح فين جنب السرور
عجبي"
 تداعت على ذهني الصور وتذكرت هذا كله والعيد يقترب مع تصريحات متوالية تتجدد حول نية محافظ القاهرة نقل المقابر من مناطق الإمام الشافعي والبساتين إلى خارج المدينة بدعوى تحويل المنطقة إلى حدائق عامة.
 ليست المرة الأولى التي تتردد فيها مثل هذه الأخبار، فمننذ سنوات والفكرة تظهر على استحياء ثم تختفي، إلى أن أصبحت في الفترة الأخيرة تلح بقوة، في المرة الأخيرة أكدت الأخبار التي نسبت إلى المحافظة ردا على انتقادات سابقة، إن الأرض ستحول إلى مساحات خضراء وحدائق، كما أن المشروع سيراعي الحفاظ على المقابر الأثرية.
 ما السر وراء المشروع؟ وما سبب الحماس له؟ المقابر على أطراف المدينة القديمة، لا تعوق حركة مرور أو تتسبب في زحام، هل تتجه النية إلى تحويل المنطقة إلى أراضي للبناء كما أشيع من قبل؟ أين سيذهب سكان المنطقة ومن يعملون في المقابر ويتعيشون من خدمة الموتى وخدمة الأحياء المترددين على زيارتهم؟ وأين سيذهب الموتى، هل ستمنح المحافظة مقابر جديدة لأصحاب المقابر الحالية؟ هل ستنبش المحافظة قبور الأباء والأجداد لتحمل ما تبقى من رفاتهم إلى المقابر الجديدة أم ستترك المهمة لأهل الراحلين؟
أسئلة وأسئلة وأسئلة والإجابات دائما لا تشفي غليلًا.
 قصة تحويل المنطقة إلى حدائق غريبة على المحافظة التي لا تهتم بالحفاظ على الخضرة، ولا تقوم بواجبها في حماية القليل الذي تبقى منها وتتغاضى عن تقطيع الأشجار وإزالة الخضرة، بل تمارس بنفسها تقطيع الأشجار، وما حدث منذ أيام في مركز شباب الجزيرة شاهد على ذلك.
 وإذا كانت المحافظة ترغب فعلًا في زيادة المساحة الخضراء، فما الذي يمنع من تشجير منطقة المقابر مع بقائها على حالها؟ إننا نشاهد المقابر في الغرب وسط الغابات والحدائق، لنجعل مقابرنا حدائق ونزرعها أشجارًا دون أن نزيلها.
 ثم ما مفهوم المقابر الأثرية التي أكدت تصريحات المحافظة على الحفاظ عليها؟ هل هي فقط المقابر التي مر عليها مائة عام أو أكثر؟ طيب لو كان قد مر عليها 90 عامًا فقط؟ وماذا عن مباني المقابر ذات الطراز المميز التي تزخر بها منطقة البساتين والإمام الشافعي؟ تلك المقابر التي تعكس طرز بدايات القرن العشرين، هل سنحافظ عليها أم سنزيلها؟ وماذا عن مقابر المشاهير المنتشرة في تلك المنطقة، رجال السياسة ورجال الفكر ورجال الفن؟ هل سنترك مقبرة أم كلثوم رغم أنها من الناحية القانونية ليست أثرًا بعد، أم ستهون علينا هذه المقابر مثلما هانت على محافظتنا من قبل المقابر المقابلة لسور القاهرة الشمالي في منطقة باب النصر وباب الفتوح، وأزلناها من الوجود رغم أنه كانت تضم رفات المفكر والمؤرخ والفقيه عبد الرحمن بن خلدون؟
 كانت مقابر مصر منذ أقدم العصور لها مكانتها وحرمتها الخاصة عند المصريين، لا يقبلوا التعدي عليها ولا يسمحوا به، كانوا يحترمون الموت لأنهم يحبون الحياة، لقد شيد الأجداد الهرم أضخم مقبرة في التاريخ وحفروا جبال البر الغربي في الأقصر وأبدعوا فيها أجمل المقابر، وشيدوا في عصر المماليك القباب والأضرحة لتضم رفات الموتى فكانت تحفًا في الفن والعمارة.
 كانت المقابر قديمًا عرضة لمطامع الطامعين، لذلك كان المصري القديم يكتب على مقبرته التعاويذ التي تستحضر اللعنات على منتهكي حرمة المقابر وعلى نابشي القبور، كانت مقابر الأجداد في الأزمان الغابرة مطمعًا لما فيها من ذهب وحلي يحملها الراحل عن عالمنا معه إلى عالم الخلود، وإذا كنا اليوم لم نعد نحمل ذهبنا معنا، فإن أراضي المقابر أصبحت ذهبًا يجري له لعاب الطامعين، فهل نحتاج اليوم إلى استدعاء تعاويذ الأجداد لحماية مقابرنا؟
 اتركوا أمواتنا في سلام يا نباشو القبور...

الدستور 16 سبتمبر 2009