السبت، 15 أكتوبر 2016

مخربشات

ليه قلت آه ...؟

عماد أبو غازي

 يوم الأربعاء الماضي كان موعد الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور، ولأول مرة أجد نفسي حائرًا ومترددًا في قراري فيما سأفعل، هل أشارك أم أقاطع؟ وإذا شاركت ماذا سأقول لا أم نعم أم سأبطل صوتي؟

 فمنذ استخرجت بطاقتي الانتخابية عام 1973 عندما أكملت عامي الثامن عشر لم أتغيب عن استفتاء أو انتخاب إلا مضطرًا، لغياب جبري مرتين، أو لعجز عن الوصول إلى أبواب اللجنة الانتخابية مثلما حدث في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2000 بسبب المعارك بين أنصار المرشحين والحصار الأمني الذي لم يسمح إلا بدخول من يعرفه مندوبو واحد من المرشحين، لذلك فبطاقتي الانتخابية مسجل عليها مشاركتي في 19 انتخاب واستفتاء منذ مايو 1974، ورغم عدم ثقتي في كثير من الانتخابات التي شاركت بالتصويت فيها، إلا أنه كانت لدي قناعة دائمة أن واجبنا أن نشارك ونقول ما نريد أو نختار من نريد أيًا كانت النتيجة، فالمشاركة أول خطوات التغيير، وهي السبيل لسد الطريق أمام من قد يتلاعبون في أصواتنا، في كل مرة كنت أذهب بقرار واضح مُحددًا لمن سأعطي صوتي في الانتخابات حتى ولو كنت متأكدًا من عدم فوز من أرشحه، وفي كل استفتاء كنت أتجه إلى الصندوق بقرار واضح لأقول لا في مرات ونعم في مرات أخرى وأبطل صوتي في مرات ثالثة.

 أما هذه المرة فالأمر اختلف، لم يعد الموضوع بهذه السهولة والوضوح، فالاستفتاء حول تعديل للدستور طالبت به القوى الديمقراطية في مصر لسنوات طويلة، لكن الصيغة التي أقرها مجلس الشعب للتعديل وضعت ضوابط مبالغ فيه للترشيح لمنصب الرئاسة تصل إلى حد التعجيز، وجاءت هذه الضوابط في صلب مواد الدستور بدلًا من موضعها الطبيعي، أي القانون المنظم لانتخابات منصب رئيس الجمهورية، والهدف بالطبع عدم تمكين المعترضين على هذه الضوابط من الطعن عليها بعدم الدستورية، وتواكب مع هذا تصعيد للمواجهة الأمنية ضد المظاهرات السلمية للمعارضين، وحصار لمحاولاتهم إيصال رأيهم للمواطنين بصورة لا تبشر بأمل في تغيير حقيقي، وجاءت دعوة المعارضة لمقاطعة الاستفتاء والتزام البيوت يوم 25 مايو لتزيد التردد، فكرت بالفعل في المقاطعة وأعجبتني للوهلة الأولى فكرة البقاء في البيت، لكني تساءلت: إذا كنا نعاني من المقاطعة السلبية للمواطنين وإحجامهم عن المشاركة السياسية، فهل واجبنا في مواجهتها دعوة الناس للمشاركة أم دفعهم إلى مزيد من السلبية؟ وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء بنسبة مشاركة منخفضة فهل هذا نتاج دعوة المعارضة للمقاطعة وقناعة الناس بها أم نتاج السلبية والإحجام عن المشاركة السائدين في مجتمعنا؟ ثم هل شعار التزام البيوت كشكل من أشكال العصيان السياسي شعار صائب من أحزاب المعارضة الرئيسية؟ أتصور أنه شعار خاطئ فلا ينبغي أن ترفع المعارضة شعارًا لا تستطيع تحقيقه فهذا إضعاف لموقفها.
 ساعدتني على حسم موقفي ابنتي، فطول الأسبوع السابق على الاستفتاء كانت مريم (14 سنة ونصف) تسألني يوميًا هل سأذهب للاستفتاء أم لا؟ وإذا ذهبت ماذا سأقول؟ قالت لي إن المقاطعة سلبية، وعندما قلت لها عندك حق، لكن التعديل لا يفي بالغرض منه، وأنا متردد هل أذهب وأقول لا؟ وهل لا هنا ستكون لا للصورة التي تم بها تعديل المادة أم لمبدأ التعديل نفسه؟ قالت لي ممكن تروح ومتقولش نعم أو لا تبطل صوتك، سر اهتمام مريم بالاستفتاء لأنها تدرس بالمدرسة الفرنسية، وتتعلم في مقررات المواد الاجتماعية وفقًا للمناهج الفرنسية حقوق المواطن وواجباته، وفي مقدمتها حقوقه السياسية، بعد مناقشة طويلة مع مريم وبعد طول تفكير حزمت أمري وقررت أن أذهب إلى لجنتي الانتخابية وأدلي بصوتي، إذًا لن أقاطع سأذهب، لكن ماذا أقول في الاستفتاء؟

 يوم الاستفتاء قررت بعد تفكير وذهبت وقلت نعم، رغم عدم موافقتي على صيغة التعديل، لكني أتصور أن التعديل مهما كانت عيوبه وجوانب القصور فيه خطوة مهمة إلى الأمام، وهو خطوة أولى وليس نهاية الطريق، لقد كان تغيير أسلوب اختيار رئيس الجمهورية مطلبًا للقوى الديمقراطية منذ وعينا على العمل السياسي، فإذا تحقق هذا المطلب اليوم منقوصًا سنأخذه ونطالب بالمزيد، وإذا كان اختيار الشعب لرئيس الجمهورية من بين عدد من المرشحين في انتخاب سري مباشر قد احتاج إلى 50 سنة من النضال والعمل الدؤوب قبل أن يتحقق، فإنه من المؤكد أن تعديل شروط الترشيح لن تحتاج إلى خمسين سنة أخرى، فالزمن غير الزمن، وقد دارت عجلة التغيير ولن يوقفها أحد.

* الدستور، أول يونيو 2005.

الخميس، 13 أكتوبر 2016

مخربشات

غصب عني أنا باصطاد في الميه العكره !!

عماد أبو غازي

  بما إني كتبت من أسبوعين عن التاريخ الدموي للإخوان، في سياق التعليق على مشروعهم لإعادة كتابة تاريخ مصر، فقد اعتبرت نفسي ممن وجه لهم الزميل خالد البلشي في مقاله المنشور في دستور 11مايو الاتهام بأنهم "يصطادون في الماء العكر"، ومن الذين تسببوا في "الخوف الذي تملكه"، مع أني كتبت مقالي قبل مظاهرات الأخوان، وبالطبع قبل حملة الاعتقالات التي طالتهم في الأسبوعين الأخيرين، ولم أقصد به ـ لا سمح الله ـ تبرير هذه الحملة أو تأييدها، لكن لما قرأت مقال خالد المعنون "عندما جاءوا لاعتقال الإخوان كان لابد أن نعترض"، أخافني بشدة ليس لأنه قد يعتبرني صيادًا في الماء العكر، وأنا أكره الصيد أساسًا، لكن لأنه نبهني إلى مدى الارتباك الذي تعيشه القوى الديمقراطية في مصر في موقفها تجاه جماعات الإسلام السياسي.
 بداية أخافتني وجهة نظره التي طرحها في قوله إنه "لا وقت الآن إلا للتضامن مع الإخوان، ولا وقت إلا لمساندتهم في محنتهم"، رغم الاختلافات الحادة بينه وبينهم، وإن وقت السؤال عن سبب خروجهم الآن بالذات قد مضى، فهل فعلًا لا وقت الآن إلا للتضامن مع الإخوان؟ عموما ربنا يفك سجن كل مظلوم، وهل سؤال الساعة هو سؤال لماذا تطاردهم الحكومة بعنف؟
 أتصور أن الوقت الآن أكثر من أي وقت، هو وقت السؤال عما ستفعل القوى الديمقراطية في مواجهة خروج الإخوان إلى الساحة بهذا الوضوح الآن، أما عن السبب، فالسبب واضح، مثلما هو واضح تمامًا سبب مطاردة الحكومة لهم.
 ومرة أخرى أخافني مقولته حول حق الإخوان في المنافسة على الحكم والوصول إليه طالما كانت تلك هي إرادة المواطنين، فأنا أتصور أن هذه مثالية حالمة مفرطة يتبناها كثير من الديمقراطيين الحقيقيين، وهي مثالية تفضي إلى الموت ليس موت أصحابها وحدهم بل موت الوطن كله، وهي مثالية لا محل لها في عالم السياسة.
 وأذكرك يا عزيزي، وأنت تذكر بالتأكيد، أن النازية وصلت للحكم من خلال صناديق الانتخاب، لأن أسلاف زميلنا خالد البلشي من أكثر من سبعين سنة قالوا إن من حق الحزب النازي المشاركة في الحياة السياسية ما دام يعلن التزامه بقواعدها، فكانت النتيجة انقلابًا سريعًا على هذه القواعد، ثم كارثة عانت منها ألمانيا لسنوات راح ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الشعب الألماني في معتقلات النازي، وراح ضحيتها ملايين من البشر على مستوى العالم في الحرب التي أشعلها، فهل نكرر التجربة؟
 والمرجعية الدينية في السياسة مرجعية معادية للديمقراطية، لا تقبل الأخر المختلف، فالمختلف مع أصحاب هذه المرجعيات ليس مختلفًا مع البشر وأفكارهم، لكنه من وجهة نظرهم يقف في مواجهة ما أمر به الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله، ومهما ادعى الأخوان المسلمون أنهم ديمقراطيين ويقبلون الاختلاف في وجهات النظر، فلن نصدقهم حتى يكفوا عن أن يكونوا حزبًا دينيًا، إنهم حتى لا يقبلون الاختلاف داخلهم، وواقعة حزب الوسط ليست ببعيدة.
 أنا معك أن التشكيك يطال الجميع كل الأحزاب لها مشاكلها مع التناقض بين الأفكار المعلنة والممارسات، لكن فارق كبير بين رئيس الحزب الليبرالي الذي يكبس على نفس حزبه مدى الحياة، والحزب الذي يدعي المطالبة بالعدالة الاجتماعية وينتهك حقوق العاملين في جريدته، وبين تنظيم ديني يدعي الإيمان بالديمقراطية بينما مرجعيته تأتي من السماء، من الدين كما يفسره هو، وأنا لا أحاسب على النيات لكن على مواقف نواب هذا التنظيم وممارساتهم المعادية لحرية الفكر والإبداع، على سلوكهم في كثير من النقابات التي سيطروا عليها، ولا يتركوا فيها مساحة للمختلفين إلا مضطرين.
 ترى هل نصدق الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في مظاهرة الأربعاء عندما أمر متظاهريه بإنزال المصاحف ورفع شعارات تبدو سياسية؟ أم نصدق جموع أعضاء الجماعة الذين رفعوا المصحف واكتفوا بإخفاء السيف مؤقتا؟
 بل إن حتى هذه الشعارات التي رفعها الدكتور أبو الفتوح مثل "سنطالب بحرية هذا الشعب بمسيحيه ومسلميه" و"نقول نريد الشريعة الإسلامية التي تكفل المساواة والعدالة لإخواننا المسيحيين ولن نبخس حقوقهم"، تحمل بشكل واضح بذور الطائفية البغيضة التي تقسم المواطنين وفقا لهويتهم الدينية.
 ولا أعتقد أننا نملك رفاهية أن نجربهم ونشوف وإحنا وحظنا، فإذا جاءوا بصناديق الانتخاب فسوف يحطمونها في اليوم التالي، وفي مجتمع حرم من الممارسة الديمقراطية لسنوات سيكون من الصعب مقاومة الفاشية الدينية وإزاحتها إذا تمكنت وتحكمت، وأمامنا النموذج الإيراني.
 ولا يمكن أن نصدق المقارنة الواهمة بينهم وبين نظرائهم في تركيا، فالإخوان ليسوا حزب العدالة، ومصر ليست تركيا، فهناك نظام علماني راسخ تحميه المؤسسة العسكرية من ناحية ورغبة تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى ولدينا مجتمع مؤسساته مخترقة بالفكر السلفي.
 عزيزي خالد إذا كنت تفكر بقلق في مستقبل ابنك فعلًا كما قلت، فعليك أن تقف في مواجهة أفكارهم اليوم وغدًا وفي كل وقت، فالتغيير ليس هدفًا وفقط، بل الهدف هو التغيير للأفضل، وهذا الأفضل بالطبع سنختلف حوله، لكن ليس فرضًا علينا أن نؤيد أي تغيير حتى لو جاء من الإخوان.
 أخيرًا لا أعرف لماذا ذكرتني مقالتك هذه بقصة وقعت منذ قرابة ربع قرن عندما كانت المعتقلات عامرة بمعتقلي حملة سبتمبر 1981، ثم أضيف إليهم من الذين قبض عليهم عقب جريمة اغتيال الرئيس أنور السادات، وقتها تعرض المعتقلون من التيارات الإسلامية للتعذيب، وأضرب عن الطعام عدد من السياسيين من مختلف التيارات للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية في المعتقلات، وللمطالبة بوقف التعذيب للإسلاميين، الذين لم يشترك أي منهم في الإضراب، لكنهم استفادوا من نتائجه الإيجابية، وعندما سألهم الذين أضربوا عن الطعام عن موقفهم، قالوا: "ربنا سخركم لنا لتجوعوا ونستفيد نحن"!

 يا ترى أنت تعرف ليه أنا افتكرت هذه القصة؟

* الدستور، مايو 2005.

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

مخربشات

عندما اختار المصريون حاكمهم
 لأول وآخر مرة...

عماد أبو غازي


يوم 13 مايو الحالي تمر الذكرى المئوية الثانية لواحد من أهم الأحداث في تاريخ مصر الحديث، ففي مثل هذا اليوم من عام 1805، نجح المصريون للمرة الأولى في تاريخهم المعروف لنا في اختيار من يحكمهم.
 فقد عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر لحظات تحول شكلت مسار التاريخ المصري الحديث، فمنذ رحلت الحملة الفرنسية عن مصر في سبتمبر من سنة 1801 لم يعد الاستقرار إلى البلاد مرة أخرى، ولم يتمكن العثمانيون من استعادة سطوتهم الكاملة على مصر، لقد أصبحت مصر مسرحًا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها على البلاد والانفراد بحكمها...
 الأتراك العثمانيون الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعي في حكم مصر منذ احتلها سليم الأول سنة 1517، وأمراء المماليك الجراكسة الذين اقتسموا خيرات البلاد مع العثمانيين وأصبحوا معاونين لهم منذ سقطت دولتهم، وإنجلترا التي انتبهت إلى أهمية موقع مصر وخطورته الاستراتجية عندما احتل الفرنسيون البلاد فشاركت في الحرب ضد الفرنسيين.
 وعندما خرجت الحملة الفرنسية من مصر بقى في البلاد جيش إنجليزي يتكون من ألف جندي، وأخذت إنجلترا تماطل شهرًا وراء شهر لتؤجل جلاء قواتها عن مصر، وخلال ذلك كانت توطد علاقتها ببعض أمراء المماليك وجعلت منهم حلفاء لها.
 لكن غاب عن هذه القوى المتصارعة جميعا أن هناك عنصرًا جديدًا ظهر على الساحة مجددًا هو الشعب المصري، بدأت قوته في الظهور من جديد في السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات ثورة يوليو 1795 التي قادها مشايخ الأزهر، ونجحت في إرغام إبراهيم بك ومراد بك، وهما قائدا المماليك على توقيع وثيقة التزاما فيها بعدم فرض ضرائب جديدة على الناس، وخلال سنوات الاحتلال الفرنسي لمصر والتي امتدت من 1798 إلى 1801 انخرط المصريون في النضال من أجل تحرير بلادهم، فثارت القاهرة ثورتين كبيرتين، وحمل المصريون في الدلتا والصعيد السلاح في وجه قوات الحملة الفرنسية، واستمرت مقاومتهم لها إلى أن رحلت.
 وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف بمصر والذي كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين، وكان له دور بارز في حشدهم للتصدي للحملة الفرنسية في العاصمة وضواحيها، ولكنه فضل الهجرة إلى الشام عندما احتلت الحملة القاهرة، هذا وقد شعر المصريون أن أمر بلادهم لابد أن يعود إلى أيديهم، فقد أثبتوا قدرتهم على الدفاع عن بلادهم وحمايتها، وسقطت بذلك الحجة التي استند إليها الغزاة والحكام الأجانب منذ عصر البطالمة، والتي أبعدوا بسببها المصريين عن المشاركة في إدارة أمور بلادهم.
 تجاهل الأتراك والمماليك والإنجليز تلك القوة الجديدة الصاعدة ـ أعني الحركة الشعبية المصرية ـ ولم يضعوها في حساباتهم، لكن رجلًا واحدًا فقط هو الذي أدرك ببصيرة نافذة أن الجواد الرابح في هذا الصراع هو الشعب المصري، كان ذلك الرجل هو محمد علي الضابط الألباني الذي جاء إلى مصر على رأس فرقة من فرق الجيش العثماني التي اشتركت في القتال ضد الفرنسيين، فأخذ يوطد صلته بقادة الحركة الشعبية.
 خلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة الفرنسية من مصر أخذت أحوال البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم المماليك والأتراك وتدخل القوى الأوروبية في شئون البلاد، فارتفعت الأسعار واختفت السلع من الأسواق وزادت الضرائب وغاب الأمن ففاض الكيل بالمصريين، خصوصًا بعد أن اعتمد الباشا العثماني الذي كان يحكم مصر باسم السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم في قمع حركات التمرد والاحتجاج بدلًا من أن يسعى لحل مشاكل الناس.
  وفي يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 بدأت الأحداث تتصاعد عندما اعتدى هؤلاء الدلاة على أهالي مصر القديمة التي كانت معقلًا من معاقل التمرد على الباشا العثماني، وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه شرارة الثورة التي أطاحت بالباشا العثماني، وفرضت إرادة المصريين على السلطان، فخرج سكان القاهرة وضواحيها إلى الشوارع في تحد واضح للجيش العثماني، مطالبين بإخلاء المدينة من الجند الدلاة ومحاسبة قادتهم على ما ارتكبوه من مذابح، وأعطى زعماء الشعب مهلة للباشا العثماني تنتهي يوم السبت 11 مايو لتنفيذ مطالبهم، لكنه لم يصدق أن الإنذار حقيقي واغتر بقوته العسكرية ولم يستجب لهم.
 وفي اليوم التالي لانتهاء المهلة ركب المشايخ  إلى بيت القاضي، واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال، حتى امتلأ المكان بالناس، وتعالت الهتافات "يا رب يا متجلي اهلك العثملي"، وطلب المجتمعون من القاضي أن يستدعي رجال الدولة لتقديم عرضحال لهم بطلبات الشعب لتقديمه للباشا، فأخذوه ووعدوهم بالرد في اليوم التالي.
 وحاول الباشا العثماني المماطلة فأرسل إلى القاضي والعلماء يطلب حضورهم للقلعة للتشاور معهم في أحوال البلاد، وأحس زعماء الشعب بسوء النية، وبدلًا عن الصعود للقلعة يوم الاثنين، اتخذوا خطوة غير مسبوقة في تاريخ مصر، فتوجهوا وحولهم جموع المتظاهرين إلى محمد على، وعرضوا عليه حكم مصر بشروطهم، فتمنع في البداية لكنه قبل في آخر الأمر، فنصبه السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي حاكمًا لمصر ضاربين عرض الحائط بالسلطان العثماني وبنائبه في القلعة وبقوته التي كانت تحتل مصر، وكان ذلك عصر يوم الاثنين 13 مايو 1805، وأعلن الخبر في القاهرة وفي أنحاء البلاد في الليلة نفسها.

 إن ما حدث كان تحولًا مهمًا في التاريخ المصري، تحولًا توج مرحلة من النضال الشعبي امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم، ففي ذلك اليوم نجح المصريون لأول مرة في اختيار الحاكم الذي يتولى شئونهم، وفي وضع الشروط التي يولونه الحكم على أساسها، وقد رأى المصريون في ذلك الحين أن محمد علي هو الشخصية التي تصلح لتولي الأمر، بعد أن ظل طوال أربع سنوات يتقرب منهم ويتودد إليهم، لكن الأمور سارت في مسار آخر، فتخلص محمد علي من قادة الشعب الذين نصبوه حاكمًا بالقتل أو النفي أو شراء الذمة، وأسس نمطًا من الاستبداد جعل من ثورة مايو 1805 المرة الأخيرة التي اختار فيها المصريون حاكمهم.
* جريدة الدستور مايو 2005.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

مخربشات

بورسعيد بدون اللمبي

عماد أبو غازي




 أخيرًا نجح محافظ بورسعيد في وأد احتفال من أبرز الاحتفالات التي ارتبطت بمدينة بورسعيد في شم النسيم مدمرًا بذلك جزءًا من تراث المدينة الذي ارتبط بها لسنوات طويلة ربما تعود لنشأتها في القرن التاسع عشر، لقد مر شم النسيم على بورسعيد هذا العام بدون اللمبي كما بشرتنا الصحف، قد تظن أن اللمبي الذي منعه المحافظ هو محمد سعد أو أحد أفلامه، خاصة مع سابقة منع فيلم أبو العربي في بورسعيد بقرار من المحافظ والمجلس المحلي، لكن اللمبي الذي منعه السيد المحافظ احتفال شعبي جميل ظل أهالي بورسعيد يمارسونه لسنوات وسنوات، ويقوم الاحتفال الذي يبدأ الإعداد له قبل شم النسيم بفترة، على فكرة حرق رمز للشر يختاره الناس كل عام ويسمونه اللمبي، أحيانًا يكون هذا الرمز شخصية حقيقية سياسية أو رياضية أو فنية، أساءت لبورسعيد أو للوطن أو للإنسانية، ففي سنة كان إيدن وفي سنة جولدا مائير وفي سنة ثالثة أحد حكام كرة القدم وهكذا، أحيانًا أخرى يكون اللمبي عادة سيئة مثل الإدمان أو التسول، ويتفنن أهالي بورسعيد في صنع عرائس ضخمة من القماش المحشو بالقش على شكل الشخص المقصود إذا كان شخصية حقيقية، أو يبتكرون عرائس ترمز إلى العادة القبيحة، وتتنافس الأحياء والشوارع والحواري في صنع عرائسها وعرضها في الفترة السابقة على شم النسيم، وإذا جاءت ليلة الأحد الاثنين يتبارى الجميع في إشعال الحرائق في العرائس بعد أن يزفوها في الشوارع بأغاني من التراث الشعبي البورسعيدي، وتستمر الزفة إلى موعد الولعة، ويسعى كل حي إلى أن تكون حريقته هي الأكبر.
  وعادة حرق رمز الشر عادة قديمة عند معظم شعوب العالم، وما عروسة الرقية التي كانت جداتنا ترقينا بها ونحن أطفال عندما نمرض لإبعاد الحسد إلا شكل آخر من أشكال إبعاد الشر، كذلك تنتشر في بعض قرى الدلتا عادة حرق الكراكيب القديمة في شم النسيم، في دلالة إلى التخلص من القديم مع بداية ربيع جديد، وربما أيضا لإبعاد الحشرات.
  وقد حافظ أهالي بورسعيد على تقاليدهم لأجيال طويلة وسنوات ممتدة، حتى في سنوات التهجير، بين هزيمة يونيو 67 ونصر أكتوبر 73 ثم إعادة فتح القناة في 75، لم يتخل البورسعيدية عن طقوسهم الشعبية ونقلوها معهم إلى عديد من مدن الدلتا وقرها التي هجروا إليها، إلى أن أصبح اللمبي علامة مميزة للمدينة، إذا ذكر قفزت إلى أذهاننا على الفور مدينة بور سعيد.
 هذه حكاية اللمبي لمن لايعرفها وأنا شخصيًا كنت أسمع عنها من زملاء الدراسة في الجامعة من أبناء بورسعيد في مطلع السبعينيات، ولم أعرفها حق المعرفة إلا عندما قدمت بثينة كامل حلقة من برنامجها الإذاعي "مصر التي لا نعرفها" عن احتفالات شم النسيم أواخر الثمانينيات، ثم من خلال توثيقها للحدث تلفزيونيًا في فقرة من فقرات صباح الخير يا مصر، فشاهدت بعينيي رأسي نموذجًا من نماذج الثراء والتنوع في الثقافة المصرية.
 أما لماذا سمى البورسعيدية هذه العروسة اللمبي؟ فربما يرجع ذلك إلى أن اللورد اللنبي (بالنون) القائد البريطاني الشهير عين معتمدًا بريطانيا في مصر في أبريل 1919، ليقوم بقمع الثورة الشعبية الكبرى التي اندلعت في 9مارس من نفس العام عقب نفي الزعيم سعد زغلول ورفاقه، وقد وصل اللورد إلى مصر عبر ميناء بورسعيد في فترة الاحتفال بشم النسيم، وأعتقد أن هذا هو السبب في تسمية العروسة الشريرة باسم اللنبي التي قلبها الناس في لغتهم إلى اللمبي (بالميم).
 هذا عن قصة الناس مع اللمبي أما حكاية المحافظين والأمن معه فحكاية أخرى، فمنذ سنوات أصبح هناك صداع سنوي في بورسعيد أسمه اللمبي المحافظة تريد إلغاء الاحتفال والأهالي يصرون على إقامته، وتبدأ المطاردات بين الأمن ومشعلوا الحرائق، مرات بحجة الخطورة المفترضة للحرائق وما يمكن أن تسببه، فبدلًا من تأمين أماكن الاحتفال وتحديدها نلغيه ونريح دمغنا، ومرة بحجة اتقاء شر الجماعات الإرهابية والسلفية التي تحرم هذا الاحتفال وغيره من الاحتفالات مثلما تحرم علينا عيشتنا، فنشتري دمغنا ونلغي الاحتفال، وهي ظاهرة تكررت مرارًا في السنوات الأخيرة في أماكن متعددة واحتفالات مختلفة منذ بدأ نفوذ هذه الجماعات الوهابية في الصعود في السبعينيات، حدث في موالد عديدة بالقاهرة والصعيد ووجه بحري، وفي احتفال المحمل في منفلوط، مثلما حدث في احتفالات فنية وعروض سينمائية في الجامعات المصرية، وهو أسلوب فيه كثير من الاستسهال في التعامل مع التطرف الفكري في أحسن الأحوال، وفي أسوأها فيه مؤشرات على اختراق الفكر المتطرف لمؤسسات الدولة، إن إلغاء الاحتفالات الشعبية ومنها حرق اللمبي في بورسعيد قتل لروح الشعب، وتشجيع للتطرف الديني، فضلًا عن أنه تعدي على التراث الشعبي الذي تحميه القوانين المصرية والاتفاقيات الدولية.
 عبر التاريخ كان أعداء البهجة والفرح المتشددون الدينيون وحلفاؤهم أو مداهنوهم من العسكر، وظهر إلى جانبهم اليوم المتثقفون المتحفلطون الذين يتعالون على الشعب واحتفالاته، لكن روح الشعب المرحة المحبة للبهجة كانت دائمًا تنتصر، وأثق في أنها سوف تنتصر غدًا مثلما انتصرت دائمًا، وأتمنى أن يأتي علينا شم النسيم القادم وقد عادت إلى بورسعيد فرحتها وبهجتها باحتفال حرق اللمبي، الذي يمكن أن نحوله ـ كما يحدث قي كل بلاد الدنيا ـ إلى مناسبة للجذب السياحي ومصدر إضافي لدخل المدينة.

 أتساءل في الختام لماذا لم نسمع عن غيرة البورسعيدية على تراثهم المحلي مثلما فعلوا مع دعابات ونكت تضمنها فيلم أبو العربي؟

* الدستور، مايو 2005.

الأحد، 2 أكتوبر 2016

مخربشات
عندما يكتب الإرهابيون التاريخ
عماد أبو غازي

  نشرت جريدة "المصري اليوم" في عددها الصادر يوم الخميس 14/4/2005 في صفحتها الثالثة تقريرًا صحفيًا تحت عنوان: "الإخوان المسلمين يكتبون تاريخ مصر"، ورغم أن أحمد الخطيب ـ كاتب الموضوع ـ قد افتتحه بعبارة: "في واقعة غير مسبوقة تنذر بجدل واسع..." إشارة إلى مشروع جماعة الأخوان المسلمين بكتابة تاريخ مصر المعاصر، انتظرت هذا الجدل الواسع يومًا بعد يوم وأسبوعًا بعد أسبوع دون جدوى، فلم يثر جدل واسع ولا حتى ضيق حول الموضوع، ولما كنت اعتقد أن قرار جماعة سياسية دينية بكتابة التاريخ أمر يستحق التوقف عنده بالفعل، فقد قررت أن أبدأ الجدل عله يتسع.
  يشير التقرير الصحفي إلى أن الجماعة كشفت عن قيام لجنة تضم عددًا من العلماء من مختلف التخصصات بكتابة تاريخ مصر المعاصر، وإن ذلك جاء بناء على تكليف من مكتب الإرشاد، وإن هذه اللجنة بدأت عملها بالفعل ووصلت فيه إلى سنة 1949.
  ولا أعرف في الحقيقية ما هي "مختلف التخصصات" المطلوبة لكتابة التاريخ المعاصر لمصر، والتي ينتمي إليها هؤلاء العلماء أعضاء اللجنة الذين صدر إليهم تكليف مكتب إرشاد الإخوان المسلمين ليعيدوا كتابة تاريخنا، على هوى الجماعة وهوى مرشدها العام ومكتبه!! فهل تضم اللجنة مثلًا علماء في الطبيعة النووية وأطباء ومهندسين زراعيين وكيميائيين؟
 ما نعرفه أن كتابة التاريخ منذ سنوات طويلة أصبحت علمًا له قواعده المنهجية، والمختصون فيه هم المؤرخون الدارسون للتاريخ دراسة أكاديمية، وقد رفض نائب المرشد العام الدكتور محمد حبيب الإفصاح عن أسماء أعضاء اللجنة حماية لهم من الضغوط حسب قوله، إذًا فنحن أمام لجنة سرية تكتب تاريخ مصر المعاصر من وجهة نظر جماعة عاشت معظم تاريخها سرية، فلا شك أن من يقبلون تكليف مكتب الإرشاد هم أعضاء الجماعة وأتباعها، كذلك لم يفصح الدكتور حبيب عن أسماء الشهود/المصادر الذين لجأت اللجنة إليهم، وإن كان قد أكد أن اللجنة ستبدأ بالاستماع لأعضاء الجماعة ثم بالمحبين والمتعاطفين وتنتهي بالشخصيات الثقة والذين ترجح أمانتهم وإخلاصهم، لمين؟ للجماعة طبعًا، كما قد تلجأ اللجنة للسفر إلى الخارج لجمع المادة من مصادرها، وهذا طبيعي فتلقي الدعم الخارجي للجماعة عبر تاريخها كان اتهامًا أساسيًا موجهًا لها.
 أما عن مبرر تشكيل اللجنة وسعي الجماعة لكتابة تاريخ مصر المعاصر، فمرجعه وفقًا لنائب المرشد العام، الحرص على تقديم تاريخ موثق لمصر دون أي رتوش  "لأننا ـ يعني جماعة الإخوان ـ نرى أن التاريخ في حاجة لمن يكتبه بصدق وأمانة"! لا يا شيخ!
  فهل مثل هذه اللجنة المكلفة من مكتب الإرشاد والتي تذكرنا بلجان كتابة التاريخ في الأحزاب الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق وفي الأحزاب العقائدية، يمكن أن تكتب التاريخ بأمانة، أم أنها سوف تكتب التاريخ من وجهة نظر حزبية ضيقة؟
 لو كانت هذه اللجنة تكتب تاريخ الجماعة المنحلة ربما هان الأمر بعض الشيء، هما أحرار في تاريخهم، ولن يعتبر أحد أن ما يكتبوه هو تاريخهم الحقيقي لكنه تاريخهم المحسن كما يريدوا لنا أن نراه، ولو قالوا أن لجنتهم تكتب وجهة نظرهم في تاريخ مصر المعاصر، لضربنا لهم تعظيم سلام، واعتبرنا أن ما يكتبوه شهادة مجموعة شاركت في الحياة السياسية المصرية أكثر من ثلاثة أرباع القرن، وإنهم يسجلون شهادتهم غير المحايدة، التي يستفيد منها الباحثون ويتعاملون معها كرؤية منحازة، لكن زعمهم بأن ما سوف يكتبونه هو الحقيقة، وأن تاريخنا في حاجة لمن يكتبه بصدق، وأنهم هم الصادقون، فهو ما لن نصدقهم فيه أبدًا، حتى يكتبوا لنا عن مساهمة شركة قناة السويس التي كانت أجنبية في تمويل الجماعة عند نشأتها الأولى على يد مؤسسها حسن البنا، وعن الدور الذي لعبته جماعة الأخوان المسلمين لحساب السرايا ضد حزب الأغلبية الشعبية، الوفد المصري، وعن دورهم في شق الوحدة الوطنية للأمة بأفكارهم التي تعود بمجتمعنا إلى العصور الوسطى، وعن جرائمهم الإرهابية التي ارتكبها جهازهم السري في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ولا يكفي هنا للتكفير عنها إعلانهم إدانة العنف اليوم، بل لابد من الاعتذار للشعب المصري عن التاريخ الإجرامي للجماعة وللتنظيمات الجهادية التي خرجت من عباءتها، لن نصدقهم حتى يكتبوا لنا عن حقيقة دعمهم لتصفية الحياة الديمقراطية عقب قيام حركة الجيش، ثم انقلابهم على الضباط الأحرار بعد فشلهم في احتواء الحركة، وعن تفسيرهم للظاهرة التي أصبحت "تاريخية" تشترك فيه كل التنظيمات الدينية، ظاهرة الشبه الشديد بين الأفاعي وتلك التنظيمات، وهي النشأة في أحضان أعداء الوطن أو أعداء الديمقراطية ثم الانقلاب عليهم بعد ذلك ولدغهم، وكما يقول المثل "اللي يربي الحيه تلدغه".
  لقد سطرت جماعة الأخوان من قبل صفحات من تاريخنا بدماء الأبرياء، فهل ينوي الإخوان الآن أن يلطخوا تاريخنا بأفكارهم.

  إنها فقط محاولة إثارة الجدل حول مشروع الإخوان لكتابة تاريخ مصر...
* جريدة الدستور، أبريل 2005.