الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

مخربشات

عندما اختار المصريون حاكمهم
 لأول وآخر مرة...

عماد أبو غازي


يوم 13 مايو الحالي تمر الذكرى المئوية الثانية لواحد من أهم الأحداث في تاريخ مصر الحديث، ففي مثل هذا اليوم من عام 1805، نجح المصريون للمرة الأولى في تاريخهم المعروف لنا في اختيار من يحكمهم.
 فقد عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر لحظات تحول شكلت مسار التاريخ المصري الحديث، فمنذ رحلت الحملة الفرنسية عن مصر في سبتمبر من سنة 1801 لم يعد الاستقرار إلى البلاد مرة أخرى، ولم يتمكن العثمانيون من استعادة سطوتهم الكاملة على مصر، لقد أصبحت مصر مسرحًا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها على البلاد والانفراد بحكمها...
 الأتراك العثمانيون الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعي في حكم مصر منذ احتلها سليم الأول سنة 1517، وأمراء المماليك الجراكسة الذين اقتسموا خيرات البلاد مع العثمانيين وأصبحوا معاونين لهم منذ سقطت دولتهم، وإنجلترا التي انتبهت إلى أهمية موقع مصر وخطورته الاستراتجية عندما احتل الفرنسيون البلاد فشاركت في الحرب ضد الفرنسيين.
 وعندما خرجت الحملة الفرنسية من مصر بقى في البلاد جيش إنجليزي يتكون من ألف جندي، وأخذت إنجلترا تماطل شهرًا وراء شهر لتؤجل جلاء قواتها عن مصر، وخلال ذلك كانت توطد علاقتها ببعض أمراء المماليك وجعلت منهم حلفاء لها.
 لكن غاب عن هذه القوى المتصارعة جميعا أن هناك عنصرًا جديدًا ظهر على الساحة مجددًا هو الشعب المصري، بدأت قوته في الظهور من جديد في السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات ثورة يوليو 1795 التي قادها مشايخ الأزهر، ونجحت في إرغام إبراهيم بك ومراد بك، وهما قائدا المماليك على توقيع وثيقة التزاما فيها بعدم فرض ضرائب جديدة على الناس، وخلال سنوات الاحتلال الفرنسي لمصر والتي امتدت من 1798 إلى 1801 انخرط المصريون في النضال من أجل تحرير بلادهم، فثارت القاهرة ثورتين كبيرتين، وحمل المصريون في الدلتا والصعيد السلاح في وجه قوات الحملة الفرنسية، واستمرت مقاومتهم لها إلى أن رحلت.
 وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف بمصر والذي كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين، وكان له دور بارز في حشدهم للتصدي للحملة الفرنسية في العاصمة وضواحيها، ولكنه فضل الهجرة إلى الشام عندما احتلت الحملة القاهرة، هذا وقد شعر المصريون أن أمر بلادهم لابد أن يعود إلى أيديهم، فقد أثبتوا قدرتهم على الدفاع عن بلادهم وحمايتها، وسقطت بذلك الحجة التي استند إليها الغزاة والحكام الأجانب منذ عصر البطالمة، والتي أبعدوا بسببها المصريين عن المشاركة في إدارة أمور بلادهم.
 تجاهل الأتراك والمماليك والإنجليز تلك القوة الجديدة الصاعدة ـ أعني الحركة الشعبية المصرية ـ ولم يضعوها في حساباتهم، لكن رجلًا واحدًا فقط هو الذي أدرك ببصيرة نافذة أن الجواد الرابح في هذا الصراع هو الشعب المصري، كان ذلك الرجل هو محمد علي الضابط الألباني الذي جاء إلى مصر على رأس فرقة من فرق الجيش العثماني التي اشتركت في القتال ضد الفرنسيين، فأخذ يوطد صلته بقادة الحركة الشعبية.
 خلال السنوات الأربع التالية لخروج الحملة الفرنسية من مصر أخذت أحوال البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم المماليك والأتراك وتدخل القوى الأوروبية في شئون البلاد، فارتفعت الأسعار واختفت السلع من الأسواق وزادت الضرائب وغاب الأمن ففاض الكيل بالمصريين، خصوصًا بعد أن اعتمد الباشا العثماني الذي كان يحكم مصر باسم السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم في قمع حركات التمرد والاحتجاج بدلًا من أن يسعى لحل مشاكل الناس.
  وفي يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 بدأت الأحداث تتصاعد عندما اعتدى هؤلاء الدلاة على أهالي مصر القديمة التي كانت معقلًا من معاقل التمرد على الباشا العثماني، وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه شرارة الثورة التي أطاحت بالباشا العثماني، وفرضت إرادة المصريين على السلطان، فخرج سكان القاهرة وضواحيها إلى الشوارع في تحد واضح للجيش العثماني، مطالبين بإخلاء المدينة من الجند الدلاة ومحاسبة قادتهم على ما ارتكبوه من مذابح، وأعطى زعماء الشعب مهلة للباشا العثماني تنتهي يوم السبت 11 مايو لتنفيذ مطالبهم، لكنه لم يصدق أن الإنذار حقيقي واغتر بقوته العسكرية ولم يستجب لهم.
 وفي اليوم التالي لانتهاء المهلة ركب المشايخ  إلى بيت القاضي، واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال، حتى امتلأ المكان بالناس، وتعالت الهتافات "يا رب يا متجلي اهلك العثملي"، وطلب المجتمعون من القاضي أن يستدعي رجال الدولة لتقديم عرضحال لهم بطلبات الشعب لتقديمه للباشا، فأخذوه ووعدوهم بالرد في اليوم التالي.
 وحاول الباشا العثماني المماطلة فأرسل إلى القاضي والعلماء يطلب حضورهم للقلعة للتشاور معهم في أحوال البلاد، وأحس زعماء الشعب بسوء النية، وبدلًا عن الصعود للقلعة يوم الاثنين، اتخذوا خطوة غير مسبوقة في تاريخ مصر، فتوجهوا وحولهم جموع المتظاهرين إلى محمد على، وعرضوا عليه حكم مصر بشروطهم، فتمنع في البداية لكنه قبل في آخر الأمر، فنصبه السيد عمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي حاكمًا لمصر ضاربين عرض الحائط بالسلطان العثماني وبنائبه في القلعة وبقوته التي كانت تحتل مصر، وكان ذلك عصر يوم الاثنين 13 مايو 1805، وأعلن الخبر في القاهرة وفي أنحاء البلاد في الليلة نفسها.

 إن ما حدث كان تحولًا مهمًا في التاريخ المصري، تحولًا توج مرحلة من النضال الشعبي امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم، ففي ذلك اليوم نجح المصريون لأول مرة في اختيار الحاكم الذي يتولى شئونهم، وفي وضع الشروط التي يولونه الحكم على أساسها، وقد رأى المصريون في ذلك الحين أن محمد علي هو الشخصية التي تصلح لتولي الأمر، بعد أن ظل طوال أربع سنوات يتقرب منهم ويتودد إليهم، لكن الأمور سارت في مسار آخر، فتخلص محمد علي من قادة الشعب الذين نصبوه حاكمًا بالقتل أو النفي أو شراء الذمة، وأسس نمطًا من الاستبداد جعل من ثورة مايو 1805 المرة الأخيرة التي اختار فيها المصريون حاكمهم.
* جريدة الدستور مايو 2005.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق