الجمعة، 30 يونيو 2017

قضية المثال مختار... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
قضية المثال مختار
عماد أبو غازي

 رغم كل العقبات استمر مختار يعمل في التمثالين، تمثال سعد في القاهرة وتمثاله في الإسكندرية، وكانت أم المصريين، السيدة صفية زغلول أرملة الزعيم سعد زغلول تزوره في موقع العمل وتشد من أزره، مثلما زاره سعد من قبيل رحيله في موقع العمل بتمثال النهضة.

أم المصريين في زيارة لموقع العمل بتمثال الإسكندرية
 وكلما زاد تعنت الحكومة وتضيقها على مختار وتمثاليه كلما زاد إصراره على إنجاز العمل، لقد أصر مختار على استكمال عمله وتسجيل ملحمة نضال الشعب المصري من خلال تماثيل الزعيم سعد زغلول، فأعد النماذج الكاملة لمشروعه تمهيدًا لتنفيذه برضاء الحكومة أو بقوة القانون.
 حاولت الحكومة من ناحيتها شراء مختار؛ فعرضت عليه تعطيل العمل من جانبه مقابل تعويضه عن كل ما تحمله ماليًا، لكنه رفض لأن ما يعنيه لم يكن ما أنفقه من مال على العمل طوال سنوات، بل كل ما كان يشغله إنجاز العمل الفني القومي لبلاده، العمل الذي يخلد فيه كفاح الشعب من أجل الجلاء والدستور، ويضيف به صرحيين جديدين إلى جانب صرحه الأول الذي خلده إلى الأبد: تمثال نهضة مصر، لقد ساندت الأمة مختار في مشروع تمثال النهضة وكان مختار يحاول أن يرد بعضًا من الدين إلى الأمة في محنتها، عندما اغتال الطغاة دستورها وكبلوا حريتها، وكان سلاحه الفن الذي أتقنه واحترفه.
 اضطر مختار إلى مقاضاة الحكومة، وكان محاميه في هذه القضية التي عرفها الرأي العام باسم "قضية المثال مختار" هو الأستاذ عبد الرحمن الرافعي المحامي، وكان اختيارًا ذكيًا من مختار، فالرافعي من خصوم سعد السياسيين، فهو أحد أبناء الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، ورغم أن كثيرين من أعضاء ذلك الحزب وأنصاره انضموا للوفد المصري، ومن أبرزهم عبد الرحمن فهمي القائد الميداني لثورة 19 ومصطفى النحاس خليفة سعد في زعامة الوفد وزعامة الأمة، إلا أن من بقوا في الحزب القديم كان لهم موقفًا معارضًا للوفد ومناهضا لسياسته القائمة على التفاوض من أجل تحقيق الاستقلال الكامل، فقد كان الشعار التاريخي للحزب الوطني: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، ورغم الخصومة السياسية بين الرافعي وسعد أو بين الحزب الوطني والوفد المصري إلا أنها كانت خصومة شريفة قائمة على اختلاف وجهات النظر السياسية واختلاف الوسائل والأولويات لتحقيق هدف واحد هو الاستقلال والجلاء.
 قال الرافعي في عريضة الدعوة التاريخية التي قدمها للمحكمة:
 "هذه قضية فذة لم يسبق للمحاكم أن نظرت مثلها في ظروفها وملابساتها، سواء في مصر أو في غير مصر، لأن هذه أول مرة فيما نعلم تقف حكومة ما موقف الخصومة والإساءة والتحدي تجاه فنان يعد بحق نابغة الفنانين في بلاده، ولا نعرف حتى الآن حكومة وقفت من نوابغ فنانيها مثل الموقف الذي وقفته الحكومة من المثال مختار، وإذا وقفت أية حكومة حيال الفن والفنانين موقف الاضطهاد واللدد في الخصام كان ذلك نذيرًا بالقضاء على النهضة الفنية في البلاد، وهذا هو الموقف الذي تقفه الحكومة في هذه الدعوى".


 لقد رحل مختار عن عالمنا في 27 مارس سنة 1934 قبل أن تنتهي القضية، وقبل أن يرى التمثالان النور ودون أن يراهما مختار في موضعهما الذي اختاره، لكن الأمور سارت في طريق معاكس، فكسب مختار القضية وحكم لورثته بالتعويض لما لحق به من أضرار، وسقطت حكومة إسماعيل صدقي وحكومات السرايا التي توالت بعدها، وعاد دستور 1923، ومات فؤاد، واستأنفت الحكومة مشروعات تخليد ذكرى سعد، فنقلت رفاته إلى ضريحه في سنة 1936، وأزيح الستار عن التمثالين في صيف 1938، وفي نفس الوقت تقريبًا نصب تمثال مصطفى كامل في موضعه الحالي بوسط القاهرة في ميدان سوارس بعد أن ظل حبيس الأسوار قرابة ثلاثين عامًا، وانتصرت بذلك إرادة الأمة على إرادة الملك وأعوانه.
 ويوم نقل رفات سعد إلى ضريحه الذي تستقر فيه إلى اليوم، نشر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد قصيدة بهذه المناسبة قال فيها:
 عرف النفي حياة ومماتا
    وأصاب النصر روحا ورفاتا
كلما أقصوه عن دار له
    رده الشعب إليها واستماتا
كيف نجزيه افتئاتا وهو من
    كان لا يرضى على الشعب افتئاتا
أصبحت دارك مثواك فلا
   تحس بعد اليوم يا سعد شتاتا
حبذا الخلد ثمارا للذي
   غرس المجد ونماه نباتا
كل أرض للمصلي مسجدا
   غير أن الكعبة الكبرى مقاما
هكذا قبرك مرفوع الذرى
    في جوار البيت أو سفح الإمام
أرض مصر حيث أمسيت بها
   فبنوا مصر حجج وزحام
غير أن الذكر يبقى منسكا
   مثلما يبغيه حج واستلام
فالق في قبرك خلدا كلما
  مر عام تبعته ألف عام

الدستور نوفمبر 2007   

الأربعاء، 28 يونيو 2017

صدقي يحارب سعد حيًا وميتًا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
صدقي يحارب سعد حيًا وميتًا
عماد أبو غازي
 كانت معركة الحكومة ضد تمثالي سعد طويلة، في البداية قررت نقل تمثال القاهرة من المكان المقرر لإقامته، ميدان قصر النيل، إلى الضفة الأخرى من النيل، إلى ميدان الجزيرة، المكان الذي يقف فيه التمثال الآن شامخًا، وتقرر أن يقام في ميدان التحرير تمثالًا للخديوي إسماعيل، لم يقم أبدًا كأن اللعنة قد حلت على هذا المكان، أقيمت القاعدة الجرانيتية لتمثال إسماعيل لكنها ظلت خالية إلى أن تم فكها مطلع الثمانينيات عندما بدأ العمل في الخط الأول لمترو أنفاق القاهرة ولم تعد إلى مكانها، وهي القاعدة التي كتب عنها أمل دنقل رائعته "الكعكة الحجرية" تحية لانتفاضة الطلبة في يناير 1972، والتي اعتصم فيها الطلاب في ميدان التحرير.
 قبل مختار مرغمًا قرار نقل موضع التمثال، فكانت الخطوة التالية من جانب الحكومة لتعطيل العمل في التمثالين صدور أمر بوقف العمل بحجة تزيين الميادين العامة في القاهرة والإسكندرية والمدن المصرية الكبرى احتفالًا بعيد جلوس الملك، لكن الزينات مهما طال بقاؤها في الميادين سيأتي وقت وترفع، فبدأت الحكومة تبحث عن خطة جديدة.
 وجاء القرار، يعطل العمل في التمثالين لإعادة دراسة المشروع من الناحية الفنية، رغم أن العقد المبرم بين مختار والحكومة كان ينص على عدم إجراء أي تعديل فيما تم الاتفاق عليه، وعندما سئل رئيس الحكومة عن الأسباب التي دعته لتعطيل العمل في التمثالين أجاب قائلًا: "لقد كان رأيي تأجيل المشروع حتى يتاح دراسة رسوم التمثال من جديد، وإدخال التعديلات اللازمة خاصة ما يتعلق منها بالارتفاع، إن ارتفاع كلا التمثالين وفقًا للتصميمات يصل إلى 20 مترًا وهو ارتفاع لا نظير له في العالم إلا في تمثال نابليون بباريس وبسمارك بهامبورج ونلسون بلندن، وينبغي أن نلاحظ أن تمثال سعد بالإسكندرية سيكون قريبًا من تمثال محمد علي الذي لا يتجاوز ارتفاعه سبعة أو ثمانية أمتار، وليس من اللياقة أو الجمال أن يتجاوز ارتفاع تمثال سعد تمثال رب الأسرة العلوية".
 ولو كانت هذه الأزمة قد وقعت في أيامنا هذه لنجحت الحكومة في حلها جذريًا ببساطة، من خلال فتوى دينية من أحد كبار المشايخ بتحريم النحت من أساسه، "ويا دار ما دخلك شر"؛ لكن من حظنا أن الأزمة وقعت في زمن كانت قيم الدولة المدينة تحترم فيه، وكان المشايخ يعرفون حدودهم، وكان الذين يحاولون خلط الدين بالسياسة يجدون من يتصدى لهم من الساسة ويوقفهم في أماكنهم.
 نعود لتصريحات رئيس الحكومة، لم يكن المقصود بالطبع تعديل الجوانب الفنية في التمثالين بل عرقلة مشروعات تخليد الزعيم سعد زغلول بأية وسيلة، فماذا كان رد فعل الرأي العام المصري وقتها، كان الأمر واضحًا وضوح الشمس أمام الرأي العام، وتناولت الصحف الوطنية موقف حكومة إسماعيل صدقي بالهجوم في حدود ما كانت تسمح به ظروف الرقابة والتضييق على الحريات العامة في تلك الفترة.

 ودخل الكاريكاتير والزجل ميدان المعركة دفاعًا عن مختار وفنه ودفاعًا عن سعد وذكراه، فنشرت إحدى الصحف رسمًا ساخرًا لمختار وإلى جانبه تمثال سعد زغلول، وأمامه إسماعيل باشا صدقي يخاطبه حاملًا تمثالًا لرأسه شخصيًا ـ أعني رأس صدقي ـ ويقدمه لمختار على "صنية" وتحت الرسم عنوان كبير: "رأس تمثال سعد"، ثم عنوان آخر صغير يقول: "إقتراح يتقدم به صاحب الدولة رئيس الوزراء إلى المثال مختار"، ثم قصيدة زجلية على لسان صدقي يقول فيها:
 بلاش مقاوحة يا شيخ في الفن ومغالطة
 فين سعد؟ فين وشه؟ فين المجد والسلطة؟
الجسم جسمه صحيح... قابلينه بالبلطة.
لكن بقى الوش في التمثال ودماغه
بالهايفة فيهم ميتين أو تلتميت غلطة
بلاش تغير! ما فيش للتعب داعي
أدي دماغ تانية من صنعي وإبداعي
شوف فيها فني... وشوف في الفن طول باعي
ركبها واخلص على التمثال... وأنا اقطع
إن حد قال بم للتمثال دهو ـ دراعي
هاود وطاوعني أحسن لك وأبقى لك
مالك مبوز كده؟ مال حضرتك مالك؟
هاود وطاوعني واستنقح لتمثالك
أحسن ميدان في البلد ـ دا سعد كان روحي ـ
واجعل جبال الدهب ربحك وراسمالك
 لكن هل توقف مختار عن العمل في التمثالين؟
 وهل نجحت جهود إسماعيل صدقي في إثنائه عن غايته؟
الدستور 31 أكتوبر 2007


الثلاثاء، 27 يونيو 2017

الزعيم والطاغية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الزعيم والطاغية
عماد أبو غازي
 عندما توفي الزعيم سعد زغلول في 23 أغسطس سنة 1927 شيعته جماهير الشعب المصري في جنازة مهيبة شارك فيها عشرات الآلاف من المصريين، وبعد أن انتهت مراسم الحداد الرسمي والحزن الشعبي الذي فاق الوصف، بدأ التفكير في خطوات تخليد ذكرى زعيم الأمة، وكانت الوزارة التي تتولى الحكم وزارة ائتلافية يؤيدها الوفد المصري.

 وكان من القرارات التي اتخذتها الحكومة لتخليد ذكرى سعد شراء بيته واعتباره من الأملاك العامة لصيانة آثار سعد الباقية فيه، وتشييد ضريح يليق بالزعيم، ينقل إليه جثمانه بعد الانتهاء من تشييده، على أن يستلهم تصميمه من خطوط العمارة المصرية القديمة، وتقرر أن يشيد الضريح في أرض خالية بالقرب من بيت سعد الذي عرف باسم "بيت الأمة" منذ بدأ الرجل يقود حركة الشعب المصري نحو الاستقلال أواخر عام 1918.
 كما قررت الحكومة كذلك إقامة تمثالين للزعيم واحد في القاهرة والثاني في الإسكندرية، واستدعت الحكومة المثال مختار من باريس لتكلفه بإقامة التمثالين، كان مختار وقتها أبرز نحات مصري، وكانت له قصة طويلة مع الثورة المصرية، ثورة 1919 منذ عبر عنها بتمثاله الرائع نهضة مصر الذي التف حوله الشعب بكل طبقاته، وتحمس مختار للفكرة ولبى الدعوة واعتبر المهمة عملًا قوميًا يتيح له تسجيل حياة الشعب المصري وكفاحه ومثله السياسية التي كان يناضل من أجلها من خلال تمثالي الزعيم، وكانت فكرة التمثالين حاضرة في ذهن مختار، فهو القائل: "إن في وجدان كل مصري ولو لم يكن فنانًا تمثالًا لسعد زغلول".
 وتقرر أن يقام تمثال القاهرة في ميدان قصر النيل بينما يقام تمثال الإسكندرية في محطة الرمل، وأراد مختار أن يكون عمله صرحًا كبيرًا يرتفع إلى عنان السماء ليرفع زعيم الأمة إلى المكانة التي يستحقها.
 وتعاقدت الحكومة مع مختار وتقرر في العقد أن يعهد إلى الفنان بالتنفيذ الكامل، وأن تكون الحكومة طرفًا في التعاقد معه، تلتزم بما تقضي به أحكام العقد دون تدخل في عمل المثال، أو في الجوانب الفنية.
 وكان من الممكن أن تسير الأمور في مسارها الطبيعي ويشيد الضريح وينقل إليه جثمان سعد، ويرتفع التمثالان في القاهرة والإسكندرية، خاصة أن مختار كان يطمح في إنهاء العمل خلال عام واحد فقط. لكن الملك فؤاد كان يعتبر سعدًا حتى بعد وفاته خصمًا لدودًا له، كما كان للزعيم خصومه السياسيون من بين الساسة ورجال الأحزاب الموالين للسرايا والإنجليز. ولم ينس خصوم سعد للرجل مواقفه خاصة في سنواته الأخيرة، وقيادته لثورة الشعب عام 1919، ودفاعه المجيد عن إقامة حياة دستورية سليمة، لقد كانت القوى الرجعية تتحين كل فرصة للانقضاض على المكاسب الديمقراطية التي حققتها ثورة 1919، وتحرص دائمًا على حصار الحريات العامة التي اكتسبها الشعب بكفاحه، وتسعى إلى تحطيم رموز الحرية الفكرية.
 وعندما وقع الانقلاب الدستوري في عام 1930، وجاءت إلى الحكم وزارة إسماعيل صدقي باشا الموالية للسراي والمعادية للشعب توالت الاعتداءات على الدستور وعلى حرية الفكر والتعبير في البلاد، فألغي دستور 1923 ليحل محله دستور 1930 الذي زاد من سلطات الملك على حساب سلطات البرلمان المنتخب وعلى حساب حقوق الشعب، وتعرض كثير من المفكرين لعدوان السلطة، فسجن العقاد بتهمة العيب في الذات الملكية، وأبعد طه حسين عن الجامعة، فاستقال أحمد لطفي السيد من منصبه كمدير للجامعة المصرية، وفصل حافظ إبراهيم من دار الكتب المصرية، أما مختار فكان نصيبه من الهجمة الرجعية عرقلة العمل في مشروع تمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وكان الهدف من العرقلة مزدوجًا سعد ومختار في آن واحد، فهناك "تار بايت بين الملك ومختار" منذ اختار الفلاحة رمزًا يعبر به عن مصر، ومنذ نحت تماثيل شخصية لرجل العصر الذين شيدوا دعائم الحرية من أمثال عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وسعد زغلول، ولم يعرض أن ينحت تمثالًا للملك فؤاد، وعندما طلب منه ذلك وبدأ في نحت التمثال مرغمًا، توقف عن العمل فيه بمجرد أن أبدى فؤاد ملاحظات فنيه على العمل، ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية للتمثال في مرحلة الإعداد الأولي.


 وبدلًا من ذلك نحت تمثالًا كاريكاتيريًا ساخرًا من الملك، وقام بعض أصدقائه المقربين من السرايا بتحطيم التمثال حماية لمختار وخوفًا عليه عندما علموا بأن خبره تسرب إلى الملك.
 أما سعد فلم تكتف الحكومة بعرقلة العمل في تمثاليه، بل استولت على ضريحه ونقلت إليه مومياوت الفراعنة بحجة عدم ملائمة عرضها على الجمهور، لتشغل المكان وتوقف إجراءات نقل الجثمان.

الدستور 24 أكتوبر 2007

الاثنين، 26 يونيو 2017

الزعيم والفنان... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الزعيم والفنان...
عماد أبو غازي
 "إن في وجدان كل مصري ـ ولو لم يكن فنانًا ـ تمثالًا لسعد زغلول".
 كانت هذه كلمات النحات محمود مختار عندما كلفته الحكومة بنحت تمثالين للزعيم سعد زغلول بعد رحيله في 23 أغسطس 1927، ليقام أحدهما بالقاهرة والثاني بالإسكندرية، في إطار مشروعات تخليد ذكرى سعد، تلك المشروعات التي تضمنت إقامة ضريح ليدفن فيه جثمان الزعيم، ثم تحويل بيته، بيت الأمة، إلى متحف.
 وبالفعل قام مختار بإنجاز ما كلف به، وما زال تمثاليه لسعد زغلول شامخان يشهدان على قدرة الفنان ومكانة الزعيم في آن واحد؛ من خلال تمثالي سعد بالقاهرة والإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالي ميدان كغيرهما من التماثيل التي جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19، لقد كانت المرة الأولى التي يحول فيها فنان مصري تمثال الميدان الشخصي إلى عمل ملحمي يعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وأمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919.
الجماهير تحمل سعد

13 نوفمبر
ورمزين مجسمين للوجهين القبلي والبحري.
 الوجه القبلي

الوجه البحري
 وحين صور مختار العدالة والدستور والاستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافًا يسعى الشعب المصري إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطني.


 وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل في الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 في نحت جداري ميداني لأول مرة.

 لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية في القاهرة تشكيلًا متكاملًا مع تمثال الزعيم الذي يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هي التي رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز في وجدان وتاريخ الأمة.
 يعرف الناس عن علاقة المثال محمود مختار بسعد زغلول، أن مختار هو مبدع تمثالي الميدان للزعيم في القاهرة والإسكندرية، كذلك يشاهد زوار متحف مختار بالجزيرة تمثالًا نصفيًا لسعد وتمثالًا آخر لرأس سعد ـ مأخوذًا عن تمثال سعد الميداني بالقاهرة ـ وهو واحد من أروع أعمال مختار في فن التمثال الشخصي.


 وإذا كانت علاقة مختار بسعد قد بدأت بإشادة سعد بمشروع تمثال نهضة مصر وانتهت بنحت مختار للتمثالين الصرحيين، فإن ما لا يعرفه الناس عن علاقة الفنان بالزعيم، إن هذه العلاقة لم تسر دائمًا في اتجاه التأييد والتمجيد من الفنان للزعيم، ففي المرحلة التي أعقبت قيام الحكم البرلماني وما شهدته من صراع سياسي وفكري وانشقاقات خرجت عن الوفد المصري، تعارضت نظرة مختار إلى سعد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والسياسي الذي يصارع على الساحة السياسية في الداخل مع نظرته لسعد زعيم الأمة وقائد الثورة، ووقف مختار بفنه في كثير من الأحيان في مواجهة مع سعد ومواقفه، وقدم من خلال مجلة " الكشكول " مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عرفت باسم " الزغلوليات " أنتقد فيها بعض مواقف سعد وسخر منها، كما قدم كذلك رسومًا كاريكاتورية ساخرة في "السياسة الأسبوعية"، ومن اللافت للنظر أن كثيرًا من الأدباء والمفكرين ذوى الميول الليبرالية والديمقراطية قد انحازوا في هذه الفترة إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين أو التفوا حول جريدته الأسبوعية التي كانت في تلك المرحلة من العشرينات أحد أهم المنابر الثقافية في مصر.

 ولم يقتصر نقد مختار لسعد على الرسوم الكاريكاتورية، فقد نحت تمثالًا لسعد يعد من أعمال النحت الكاريكاتوري النادرة مثل فيه سعدًا مرتديًا ملابس فقراء الهنود وجالسًا في جلسة التأمل في اليوجا ومرتديًا في الوقت نفسه ياقة منشاة ورابطة عنق (بابيون) في إشارة إلى التعارض بين المواقف والأقوال، مع تضخيم الأذنين بشكل مبالغ فيه تلميحًا إلى أن سعد يستمع إلى الوشايات التي تنقل إليه لقد حاول مختار أن يلخص في هذا التمثال الساخر رأيه الناقد لسعد في مرحلة من مراحل حياته السياسة.

 وظل هذا التمثال مجهولًا لعشرات السنين ـ بعد وفاة مختار ـ لأن أسرة مختار رأت أن التمثال يمكن أن يستخدم في سياق حملات تشويه سعد وحزب الوفد، خاصة في أعقاب انقلاب يوليو 52، ولم يكشف الستار عن التمثال إلا في احتفالات مئوية ميلاد مختار سنة 1991، في محاضرة ألقيتها بمتحف مختار، وبعدها بعام في مقال نشرته بالهلال، وقد قمت بإهداء التمثال لمتحف مختار في مارس 2005، لكنه لم يعرض حتى الآن.
 وقد أثارت رسوم مختار وانتقاداته حفيظة سعد عليه وأدت إلى قطيعة بينهما دامت سنوات، ورغم قسوة الانتقادات لم يلجأ سعد للقضاء، فقد كان يعتبر أن نقد الشخصية السياسية العامة مهما كانت قسوته مباح، وظلت القطيعة إلى أن التقيا مصادفة في فندق مينا هاوس وتصافيا وتصالحا، وتأكيدًا للمصالحة قام بعدها سعد بزيارته الشهيرة لموقع العمل في تمثال النهضة بصحبة جماعة من الساسة والأدباء والصحفيين، وقد احتفى مختار بسعد احتفاءً بالغًا في تلك الزيارة التي كانت من أيام الوداع في حياة سعد فلم يمهل القدر مختارًا حتى يحظى بمشاركة سعد في حفل إزاحة الستار عن تمثال النهضة بسبب مماطلات الحكومة التي أجلت الحفل لشهور طوال فكان سعد قد فارق الحياة.
 لقد انقضت بذهاب سعد تفاصيل الخلافات العابرة والانتقادات الساخرة ولم يبق إلا الرمز الذي خلفه كزعيم للأمة واستوحاه مختار في تمثاليه الميدانيين لسعد، هذان التمثالان اللذان تسببا فيما لاقاه مختار من عنت واضطهاد في سنواته الأخيرة ورحل قبل أن يراهما قائمين في مكانيهما.



الدستور 17 أكتوبر 2007

الأحد، 25 يونيو 2017

نهضة مصر... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
نهضة مصر
                                                                                                      عماد أبو غازي
 منذ خمسة عشر عامًا عندما كنت أشارك في إعداد "سجل الهلال المصور"، بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لصدور مجلة الهلال، صادفت في أرشيف الصور الفوتوغرافية بدار الهلال صورة فوتوغرافية لوثيقة لم أرها من قبل، ولا أعرف مصدرها، الوثيقة عبارة عن رسالة خطية من الزعيم سعد زغلول، يقول نص الرسالة الوثيقة:
"حضرة المصور الماهر مختار
 شاهدت المثّال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة وأنهض حجة على صحتها فأهنيك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام."
                                                          سعد زغلول
                                                  باريس 6 مايو سنة 1920

  هذا إذًا نص خطاب وجهه الزعيم سعد زغلول للمثال الشاب محمود مختار عندما شاهد النموذج الأول لتمثال "نهضة مصر" الذي عرضه مختار في صالون باريس سنة 1920، ليشيد بهذا العمل الفني الذي عبر من خلاله مختار عن النهضة المصرية التي أطلقتها الثورة المصرية، ثورة 1919، وفي سياق الثورة كان لقاء مختار الأول بالوفد المصري وزعيمه سعد، فعندما كان مختار في باريس أشترك في حركة الطلاب المصريين لدعم الوفد المصري في مفاوضات السلام، لكن إسهامه الأساسي في التعبير عن الثورة كان من خلال الفن الذي تعلمه وأتقنه وأحبه، فن النحت.


  لقد كانت ثورة 1919 التي فجرها نفى سعد وصحبه هي البداية تفجر مختار وانطلاقه الفني في طريق إرساء ملامح مدرسة مصرية حديثة في فن النحت، فقد كانت الثورة بداية لمرحلة جديدة في حياة مصر الفكرية والفنية مثلما كانت بداية مرحلة جديدة في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان مختار بهذا التمثال هو واحد من مشيدي أروع الرموز الفنية لتخليد ثورة 1919.
 ورغم أن مختار حصل على تقدير زعيم الأمة لعمله، كما نال شهادة تقدير من صالون باريس للفنون لم ينلها فنان مصري قبله، لكن التقدير الأكبر لهذا العمل جاء من المكانة التي احتلها التمثال في قلوب المصريين ولا يزال، ولم يكن هذا الرمز للثورة ليحتل هذه المكانة لولا أنه تحول من هذا النموذج الصغير الذي عرضه مختار في باريس إلى أكبر تمثال ميدان في قلب القاهرة.
 لقد انطلقت المسيرة للخروج بالتمثال من قاعات العرض إلى الشارع عندما كتب مجد الدين حفني ناصف الذي كان يدرس في باريس مقال من أربع حلقات بجريدة الأخبار عن مختار وتمثاله، ثم تحمس بعض أعضاء الوفد للتمثال، وفي مقدمتهم الدكتور حافظ عفيفي وويصا واصف وواصف غالي، فبدأت من خلال مقالاتهم الدعوة لإقامة التمثال في أحد ميادين القاهرة، وتبنى أمين الرافعي في جريدته، جريدة "الأخبار"، الدعوة لاكتتاب شعبي لإقامة التمثال في ميدان محطة مصر.." ونشر دعوة للاكتتاب بعنوان: "نهضة مصر ـ دعوة للأمة المصرية".
 وتلقى الدعوة استجابة شعبية واسعة، فيتبرع المصريون من كل الطبقات بالملاليم والقروش والجنيهات القليلة، فالكل مؤمن بأن التمثال تعبير عن إرادة الأمة وثورتها، ونهضتها من أجل بناء المستقبل.
 ويعود مختار إلى مصر بطلًا من أبطال نهضتها... "فتمثاله رمز للنهضة وعلامة من علامات الثورة والبعث، فهو أول أثر فني يقيمه مصري، ويقيمه في عهد السلاطين ولكنه لا يرمز للنهضة بالحاكم وإنما يرمز لها بالشعب ويجعل الفلاحة في الميدان العام رمزًا لمصر"، كما قال بدر الدين أبو غازي في كتابه المثال مختار.
 وتشكلت لجنة إقامة التمثال برئاسة حسين باشا رشدي رئيس الوزراء السابق، ووافقت حكومة عدلي باشا يكن على الترخيص بإقامة التمثال، وبدأ العمل في التمثال اعتمادًا على التبرعات الشعبية التي بلغت 6500 جنيه، وعلى الدعم الحكومي الذي قدمته وزارة عبد الخالق ثروت في سنة 1922 ومقداره 3000 جنيه لقطع أحجار الجرانيت من أسوان، وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطني منتخب أنبرى ويصا واصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الاعتمادات الكافية لإنجازه، واستجاب سعد زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها، فدعمه بمبلغ 12 ألف جنيه.

 لكن العمل في التمثال تحول إلى معركة أخرى من معارك الديمقراطية في مصر عندما حاولت حكومات الانقلابات الدستورية التي أتى بها فؤاد إلى الحكم إعاقة العمل في التمثال، ورغم انتهاء مختار من تمثاله إلا أن إزاحة الستار عنه تأخرت لعدة شهور بسبب رفض الملك تحديد موعد لإزاحة الستار عن التمثال.



 وفي العشرين من مايو من العام القادم، عام 2008، ستمر الذكرى الثمانين على إزاحة الستار عن تمثال نهضة مصر، أول تمثال ميدان في مصر ينحته فنان مصري



 وقبلها بأيام ستمر الذكرى المئوية لتأسيس مدرسة الفنون الجميلة، التي أسسها الأمير يوسف كمال وافتتحت قبل الجامعة الأهلية بشهور، لتخرج أجيالًا من الفنانين المصريين المبدعين، إننا أمام مناسبتين فاصلتين في تاريخ الحركة الفنية في مصر تستحقان أن نحتفل بهما احتفالًا يليق بقيمتهما في تاريخنا الحديث.

الدستور 10 أكتوبر 2007

السبت، 24 يونيو 2017

بعد الهزيمة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
بعد الهزيمة
عماد أبو غازي

توفيق في القاهرة في حراسة قوات الاحتلال
 في التل الكبير "الولس هزم عرابي"، وربما كان في العبارة تورية ذكية، الولس بالعامية المصرية الخيانة، والولس هو ولسلي القائد البريطاني، كان الهجوم في التل الكبير مفاجأ وكانت الخيانة كبيرة والاستعدادات المصرية أقل من مستوى الحدث، مع ذلك كانت هناك جيوب للمقاومة، فرغم أن الجيش المصري تشتت، البعض فروا هاربين من رصاص الإنجليز ونيران مدافعهم، والبعض هرولوا منسحبين بلا نظام، والبعض فترت همتهم للقتال وأصبحوا متخاذلين بسبب فرمان "خليفة المسلمين" وسلطان الدولة العثمانية عبد الحميد الثاني بعصيان عرابي، والبعض باعوا أنفسهم للخديوي والإنجليز، رغم هذا كله فقد صمدت قلة قليلة من المقاتلين في وجه موجات الجيش البريطاني، نجح جنود خط الاستحكامات الأول للجيش المصري في قتل وجرح 200 ضابط وجندي بريطاني في المواجهة الأولى، كما صمد الأميرالاي محمد عبيد على رأس آلايين من الجنود السودانيين، استشهد أغلبهم، كما استشهد قائدهم محمد عبيد، ومن الضباط الذين صمدوا بفرقهم في القتال كذلك أحمد بك فرج وعبد القادر بك عبد الصمد، واليوزباشي حسن أفندي رضوان قائد المدفعية الذي نجح في إعادة تنظيم صفوف فرقته وظلت مواقعه تقصف الإنجليز حتى نهاية المعركة التي أصيب فيها.

احتلال القاهرة - 14 سبتمبر 1882
 عندما أدرك عرابي أن الهزيمة وقعت اتجه إلى القاهرة، وكان أعضاء المجلس العرفي الذي يدير البلاد مجتمعين في قصر النيل، ويعقوب باشا سامي يحجب الأخبار التي ترد بالتلغرافات عن المجلس، إلى أن أبلغهم بعودة عرابي فتيقنوا أن الهزيمة وقعت، اجتمع عرابي بالمجلس في حضور عدد كبير من الأمراء والكبراء ليتشاوروا في القرار المصيري، الاستمرار في المقاومة أم الاستلام، اختلفت الآراء وكان ميل الغالبية إلى الاستسلام، إلى أن قام الأمير إبراهيم باشا أحمد ابن عم الخديوي ووقف متحدثًا في المجتمعين داعيًا إلى الصمود والمقاومة، مؤكدًا أن القاهرة مليئة بالمقاتلين، والذخائر والمؤن متوفرة، وإن الواجب يقتضي المقاومة والدفاع عن الوطن حتى النهاية، فتحولت الدفة في هذا الاتجاه، وانتهى الاجتماع إلى قرار بإنشاء خط دفاعي شمال شرق القاهرة، وتوجه عرابي بالفعل مع بعض معاونيه إلى العباسية للإشراف على التحصينات، لكنه عاد إلى المجلس ليبلغه بأن القوة المتبقية لا تكفي للتصدي للإنجليز، فاتخذ المجلس قرارًا بالتسليم وإرسال عريضة استرحام إلى الخديوي في الإسكندرية، وقبل أن تصل العريضة إلى الخديوي أتبعها العرابيون بعريضة ثانية حملها عبد الله النديم، وقبل أن يصل النديم إلى الإسكندرية علم بأن الخديوي رفض عريضة الاسترحام، وقبض على حامليها فاختفى وظل هاربًا لتسع سنوات.

محاكمة عرابي
  أما محمود سامي البارودي فكان يرى ضرورة الانسحاب إلى الصعيد وتنظيم المقاومة من هناك، ولمصر تجربتان سابقتان في تاريخها الحديث للمقاومة من الصعيد، تجربة طومان باي في مقاومة العثمانيين والتي استمرت ثلاثة أشهر، وتجربة مراد بك مع الفرنسيين التي استمرت لعامين، لكن مشروع البارودي للمقاومة من الصعيد لم يلق قبولًا.
 وعلى المستوى الشعبي خرج فتوات الحسينية وباب الشعرية بعصيهم لمحاربة الإنجليز، لكن محافظ العاصمة إبراهيم بك فوزي منعهم من ذلك حيث رأى أن ما يقومون به مغامرة لن تجد نفعًا.
 وفي دمياط صمد عبد العال باشا حلمي بحاميته في مواجهة الإنجليز لمدة أسبوع وهو يحشد الأهالي إلى جانب الجيش، واستمر في موقفه هذا إلى أن صدر قرار بالقبض عليه وإعدامه رميًا بالرصاص، وكان قد أيقن أن الهزيمة حاقت بمصر كلها، وأن القادة العسكريين وعلى رأسهم عرابي قد سلموا أنفسهم للإنجليز، وإن باقي الزعماء قد قبض عليهم، فاستسلم للإنجليز هو الآخر.
 وفي رأي بيو فيس مؤلف كتاب "الفرنسيون والإنجليز في مصر" أن احتلال الإنجليز للقاهرة كان من الممكن أن يكون مغامرة خطيرة، فيقول:
 "لم يكن الجنرال دروري لو القائد الإنجليزي يسير في زحفه في طريق آمنة إذ لم يكن معه سوى عدة مئات من الجند، وكان أمامه مدينة آهلة بالسكان تدافع عنها حامية قوية كبيرة العدد ترابط في العباسية والقلعة وفي المعاقل التي بنيت أخيرًا فوق جبل المقطم، وأمامه ذكريات الثورات الهائلة التي سببت المتاعب والخسائر الكبيرة لنابليون وكليبر خلال الحملة الفرنسية، لكن جبن الرؤساء العرابيين أخرجه من المأزق."
 إذن هزمت الثورة واحتلت مصر، وبدأت محاكمة قادة الحركة الوطنية ومناصريهم، وصدرت الأحكام بالنفي ومصادرة الأملاك والتجريد من الممتلكات على عرابي وزملائه القادة السبعة العسكريين للثورة العرابية. وكان الإنجليز قد أرغموا توفيق على تخفيف عقوبات الإعدام إلى النفي مدى الحياة، ولم يطبق حكم الإعدام سوى على اثنين من الضباط: سليمان سامي داوود الذي أحرق الإسكندرية، ويوسف أبو دية الذي اتهم ظلما بأنه كان وراء الاعتداء على الأجانب في طنطا.
 وصدرت أحكام أخرى بفصل أكثر من 250 ضابطًا من الجيش المصري، وعزل عدد من كبار الموظفين، أما الأعيان فنفي البعض وحددت إقامة البعض الآخر، وتظهر في أسماء المحددة إقامتهم أشخاصًا من عائلات كبيرة مثل عائلة أباظة والفقي ولملوم والشريعي والوكيل.
 وفي المقابل تمت مكافأة الخونة وعلى رأسهم سلطان باشا، بالأوسمة والتعويضات المالية والمناصب.
 وهكذا انتهت حلقة من حلقات نضال الشعب المصري من أجل الاستقلال والدستور، لتبدأ عقب الاحتلال مباشرة أشكال جديدة من المقاومة تأخذ شكل الجماعات السرية، كان في مقدمتها جماعة الانتقام التي اعتقل أعضائها بعد الاحتلال وكان من بينهم الشاب سعد زغلول.

الدستور 3 أكتوبر 2007

الجمعة، 23 يونيو 2017

من كفر الدوار إلى التل الكبير... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
من كفر الدوار إلى التل الكبير
عماد أبو غازي
 بعد الهزائم المتوالية التي تلقاها الجيش البريطاني على الجبهة الشمالية الغربية بين الإسكندرية وكفر الدوار، بدأ القائد البريطاني الجديد ولسلي يخطط للانقضاض على مصر من جهة الشرق، عبر قناة السويس، وكانت بريطانيا قد مهدت للهجوم من جبهة الشرق عندما تحججت بترميمات طابية الجميل بالقرب من بور سعيد لتقتحم إحدى سفن أسطولها القناة من جهة الشمال وتخترقها حتى بحيرة التمساح في الأسبوع الأخير من يوليو 1882، وبعدها بأيام كانت سفن الأسطول البريطاني القادمة من الهند قد بدأت تلقي مراسيها في السويس لتكمل احتلال المدينة في الثاني من أغسطس، تحتلها باسم الخديوي الخائن الذي باع البلد من أجل عرشه، لكن التحرك الكبير في اتجاه احتلال القناة بدأ مع توالي الهزائم البريطانية في كفر الدوار، فخلال ثلاثة أيام من 20 إلى 22 أغسطس احتلت القوات البريطانية منطقة القناة بالكامل وأغلقتها أمام السفن التجارية، وسيطرت على السكة الحديد بين السويس والإسماعيلية وعلى الترعة التي تغذي المنطقة بالمياه العذبة.


 وبعد السيطرة على القناة لم يضع الإنجليز وقتًا، فبدأ زحفهم تجاه الغرب من يوم 23 أغسطس، وتساقطت المواقع المصرية بسرعة موقعًا بعد موقع، بل إن رئيس الأركان المصري محمود باشا فهمي وقع في الأسر في موقعة تل المسخوطة يوم 25 أغسطس 1882، وفي اليوم التالي مباشرة انتقل عرابي من جبهة الشمال إلى جبهة الشرق، إلى التل الكبير، ليقود المعارك بنفسه.


 توالت هزائم الجيش المصري وكان أهمها الهزيمة التي وقعت في معركة القصاصين الثانية يوم 9 سبتمبر وكانت إيذانًا بالنهاية، في تلك المعركة التي بدأت بهجوم الجيش المصري على القوات البريطانية في محاولة لاستعادة القصاصين من الإنجليز.
 خلال كل تلك المعارك كان الخديوي يصدر منشورًا وراء منشور يعلن فيه عصيان عرابي ويدعو المصريين لاستقبال قوات الاحتلال بالترحاب! باعتبارها قوات حليفة جاءت لمساندة شرعيته وحمايتها في مواجهة الثوار، لكن التأييد الشعبي لعرابي وللثوار كان جارفًا، بل إن بعض سيدات الأسرة العلوية الحاكمة تضامنن مع الثورة وتبرعن بحليهن وأموالهن وجياد مزارعهن لصالح المجهود الحربي.
 كذلك برز دور الخيانة في تحقيق النصر للإنجليز، خصوصًا في معركة القصاصين، خيانة الأميرالاي علي بك يوسف خنفس الذي سلم خطة العرابيين لولسلي، وخيانة شيخ العرب سعود الطحاوي ورجاله الذين ضللوا محمود سامي البارودي فلم يصل إلى ميدان المعركة في الوقت المحدد، بفضل الأموال التي دفعها سلطان باشا بأوامر الخديوي لهم، وباع عدد من مشايخ العرب في الشرقية ومنطقة القناة ضمائرهم للعدو وأرشدوه في دروب الصحراء.
 وضاقت الحلقة حول عرابي ورفاقه من قادة الحركة الوطنية المصرية عندما أصدر السلطان العثماني فرمانًا بعصيان عرابي دعا فيه المصريين للانفضاض من حوله.
 وبالمناسبة فإن هذا السلطان هو عبد الحميد الثاني خليفة المسلمين الذي يصدع االبعض رءوسنا بالدفاع عنه، ومحاولة تبيض تاريخه الأسود لمصلحة تيار الإسلام السياسي الذي يروج للخلافة الإسلامية.


 ثم كانت الهزيمة الكبرى يوم 13 سبتمبر في التل الكبير، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ مصر.
 وأعتقد أنه لا يكفي لتفسير الهزيمة الخيانة رغم وطأتها، كما لا يكفي لتفسيرها الفارق في القوة بين الجيش البريطاني والجيش المصري، فقد انتصر المصريون على الإنجليز في سنة 1807 رغم أن فارق القوة كان أكبر لصالح الإنجليز بما لا يقارن، لكن عرابي وقع منذ بداية الأحداث في سلسلة من الأخطاء القاتلة التي انتهت إلى الهزيمة، ربما كان أول الأخطاء في ميدان القتال الانسحاب من الإسكندرية وإخلائها في وقت كانت القوات البريطانية التي نزلت إلى المدينة قليلة العدد فلم تكن الإمدادات قد وصلت إليها بعد، وكان هجومًا من الجيش المصري كفيلًا باستعادة المدينة.


 الخطأ الثاني الذي ارتكبه عرابي عدم قيامه بسد القناة أو إغلاقها وتعطيل الملاحة فيها، لقد صدق عرابي وعد ديلسيبس له بالحفاظ حياد القناة وعدم السماح للقوات البريطانية بدخول مصر من القناة، ولم يأخذ بنصيحة معاونيه وأركان جيشه، ولو كان عرابي أغلق القناة لأعاق تقدم الجيوش البريطانية، ويقول جون نينيه رئيس الجالية السويسرية في مصر وصديق عرابي في كتابه "عرابي باشا":
 "إن بساطة عرابي جعلته يرتكب أغلاطًا كبيرة ظهرت عواقبها فيما بعد، فبمقدار ما بذل من الهمة في الدفاع عن الإسكندرية وتحصين خطوط الدفاع في كفر الدوار بحيث امتنعت على الإنجليز، قد أظهر منذ بداية المعارك غفلة بالغة إذ استمع إلى النصائح الكاذبة التي خدعه بها المسيو فردينان دلسبس حين زعم أن الإنجليز لا يمكن أن يتعرضوا للعمل الفرنسي، فامتنع عرابي عن سد القناة في الوقت المناسب واستمسك برأيه رغم ما كانت تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما ارتآه زملاؤه وما ارتأيته أنا، وكررته عشر مرات، تارة بالقول القارس وطورًا بالكتابة في وجوب سد القناة، ورغم كل ذلك أصر عرابي على رأيه، فمهد للجنرال ولسلي نصرًا من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك".


 أما الخطأ السياسي الأكبر لعرابي فكان إحجامه عن عزل الخديوي توفيق الذي أظهر خيانته لمصر المرة تلو المرة وتعاون مع المحتل ودفع عددًا من الساسة المصريين الذين كانوا "وطنيين" إلى التعاون مع الاحتلال، وفي مقدمة هؤلاء سلطان باشا.
 لكن قبل ذلك وبعده، كان السبب في ذلك، الموقف الوسطي بين القديم والجديد، موقف اللي رقصت على السلم لا اللي فوق شفوها ولا اللي تحت شفوها"، وقد لخص صلاح جاهين في رائعته "على اسم مصر" هزيمة عرابي في أبيات على لسان الطهطاوي، قال فيها:
"مالك سلامتك بتبكي ليه يا طهطاوي
قال لك عرابي ... انكسر بسلاح أوروباي
وسلاح أوروبا ما هواش المدافع بس
ده فكر ناقد مميز للثمين والغث
قلناها ميت ألف مرة بصوت جهير داوي
بس الحماقة لا ليها طبيب ولا مداوي
ولا حد م الخلق بالخطر اللي داخل حس
الغفلانين اللي خلوا العقل صابه مس
قالوا الخطر هو فكر أوروبا لو يندس
                          على اسم مصر"

الدستور 26 سبتمبر 2007

الخميس، 22 يونيو 2017

كفر الدوار صفحة مجيدة في تاريخ العسكرية المصرية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
كفر الدوار 
صفحة مجيدة في تاريخ العسكرية المصرية

عماد أبو غازي

 يوم 14 سبتمبر 1882 نجحت القوات البريطانية في دخول القاهرة وأكملت السيطرة عليها في اليوم التالي، بعد نجاحها في هزيمة الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي في معركة التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882، لكن رحلة الاحتلال البريطاني لمصر التي طالت لأكثر من شهرين لم تكن كلها انتصارات لجيوش بريطانيا العظمى، الطريق لم يكن سهلًا أو ميسرًا؛ فعلى جبهة الدلتا، وبعد أسابيع قليلة من احتلال الإنجليز للإسكندرية، لقت قوتهم هزيمة تلو هزيمة على يد الجيش المصري في محافظة البحيرة، في واحدة من الصفحات المجيدة في تاريخ العسكرية المصرية.


 فبعد 75 سنة من هزيمة الإنجليز في البحيرة أثناء حملة فريزر تلقوا هزيمتهم الثانية فيها أيضًا، لكن النهايات اختلفت؛ ففي المعركة الأولى سنة 1807 كانت الهزيمة دافعًا لخروج الحملة من مصر بلا عودة، أو بمعنى أدق بلا عودة إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن، إذا اعتبرنا أن المشروع البريطاني لاحتلال مصر ظل قائمًا ينمو خطوة بخطوة، إلى أن تحقق الهدف في النهاية، أما الهزيمة الثانية سنة 1882 فدفعت الإنجليز إلى تغيير خططهم، والتوجه لاحتلال مصر من جبهة الشرق نقطة الضعف التي أتت منها الشرور، بدلا من جبهة الشمال، فمعظم حملات الاحتلال وغزوات الأعداء الناجحة طوال تاريخنا الممتد لآلاف السنين جاءت عبر بوابتنا الشرقية، أما جبهة الشمال فقلما نجح الغزاة في التسرب من خلالها، فمن الشرق جاء الرعاة الأسيويون في عصر الدولة القديمة، والهكسوس في عصر الدولة الوسطى، والآشوريون والفرس في نهاية عصر الدولة الحديثة، ومن بعدهم الإغريق والعرب ثم الأتراك العثمانيون، وأخيرًا إسرائيل.
  لقد غاب عن عرابي احتمال قيام الجيوش البريطانية بالهجوم من الشرق لأنه صدق وعود فردينان دي ليسبس حول حياد قناة السويس وعدم سماح شركة القناة للأسطول البريطاني بالمرور منها لاحتلال مصر، صدق عرابي بطيبة وسذاجة سياسية وعود دي ليسبس ورفض نصيحة معاونية بإغلاق القناة. فكانت الثغرة في دفاعاته هي الجبهة الشرقية.



 أما الجبهة الشمالية الغربية فقد أعد العدة فيها لمواجهة العدو، ويصف لنا عرابي باشا خط الدفاع في البحيرة في مذكراته قائلًا:
 "إن الاستحكامات في كفر الدوار كانت تمتد من عزبة خورشيد إلى كفر الدوار وأنشئوا في كفر الدوار استحكامًا من ترعة المحمودية إلى الملاحة، وحفروا خندقًا عرضه أربعة أمتار، وجعل خط الدفاع في المقدمة عند عزبة خورشيد على طول الخط من المحمودية إلى الملاحة، وجعل ما وراء هذا الخط من التلال والمرتفعات مواقع حصينة وركبت فيها مدافع كروب، وكذلك التلال الكائنة بين المحمودية وسد أبو قير، وقد تم إجراء هذه الأعمال الدفاعية بمعرفة المهندس الحربي العظيم محمود باشا فهمي ورجال الهندسة الحربيين، ومساعدة 5000 رجل من الأهالي من مديريات البحيرة والغربية والمنوفية".
 من ناحية أخرى كان محمود باشا فهمي قد قام بسد ترعة المحمودية حتى لا تصل المياه العذبة إلى الإسكندرية، التي احتلتها القوات البريطانية وغادرها معظم أهلها.
 كانت أولى المعارك على الجبهة الشمالية الغربية يوم 5 أغسطس 1882، وقد وقعت وفقًا لوصف المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي عندما تحرك الإنجليز من رمل الإسكندرية في اتجاه الجنوب بأورطتين من المشاة وأورطتين من الفرسان، فالتقى بهم الجيش المصري بقيادة البكباشي أحمد أفندي البيار والبكباشي مصطفى أفندي حسان ومنعوا تقدمهم، في الوقت الذي هاجمهم فيه خورشيد باشا طاهر قائد دفاعات أبو قير بثلاث بلوكات من الفرسان من جهة الشرق فانهزم الإنجليز بعد ثلاث ساعات ونصف من القتال، وبعد يومين عاود الإنجليز الكرة بقوة أكبر هاجمت الجيش المصري على ثلاث جبهات، لكن القوة المصرية تصدت للهجوم وأرغمت الإنجليز على التراجع بعد أربع ساعات ونصف من القتال تكبد فيه الإنجليز خسائر في الأرواح أكبر من خسائر الجيش المصري.
 ولم يمض أسبوعان على تلك الاشتباكات إلا وكان الإنجليز يكررون المحاولة، لكن دون جدوى، فقد كانت الاستحكامات المصرية أقوى من هجمات الإنجليز؛ "ففي يوم السبت 19 أغسطس سنة 1882 تحركت قوة كبيرة من الإنجليز جاء جانب منها بالقطارات المسلحة من جهة القباري وجانب آخر من جهة الرمل ومحطة السيوف وحجر النواتية، فلما وصلت القطارات إلى مقدمة الجيش المصري أطلق اليوزباشي أحمد أفندي فضلي مدفعًا فكان إيذانًا ببدء القتال، ودارت معركة شديدة بينهم وبين المصريين، فصدهم المصريون عن التقدم بعد أن كبدوهم خسائر جمة، ودام القتال ثلاث ساعات حتى غروب الشمس، وكان يتولى قيادة الجيش المصري في هذه المعركة طلبة باشا عصمت قومندان فرقة كفر الدوار ومعه رضا باشا ومصطفى بك عبد الرحيم وعيد بك محمد وأحمد بك عبد الغفار والقائم مقام أحمد بك عفت والقائم مقام سليمان سامي داود وبدو بك حكمدار المدفعية، وانتهت المعركة بارتداد الإنجليز إلى الإسكندرية".


 وقد حاول الإنجليز على مدى ثلاثة أيام تالية لهزيمتهم في كفر الدوار اختراق دفاعات الجيش المصري في الجبهة الشمالية الغربية بلا طائل، لتصبح معارك كفر الدوار واحدة من الصفحات المشرقة في تاريخ العسكرية المصرية.
 وفي هذه الأثناء كان قد تم تعيين القائم مقام جنرال ولسلي قائدًا للجيوش البريطانية العاملة في مصر، ورأى إبدال الخطة العسكرية والتوجه لاحتلال مصر من الشرق عبر احتلال قناة السويس مستفيدًا من تقاعس العرابيين عن احتلالها. ليحقق ولسلي انتصاره الكبير وربما الوحيد في تاريخه العسكري الذي انتهى سنة 1903 بهزيمته أثناء حرب البوير بجنوب أفريقيا.
 لكن كيف نجح ولسلي في تحويل الهزائم المتوالية في معارك جبهة الشمال الغربي إلى نصر كامل في الحرب؟

الدستور 19 سبتمبر 2007