الأحد، 25 يونيو 2017

نهضة مصر... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
نهضة مصر
                                                                                                      عماد أبو غازي
 منذ خمسة عشر عامًا عندما كنت أشارك في إعداد "سجل الهلال المصور"، بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لصدور مجلة الهلال، صادفت في أرشيف الصور الفوتوغرافية بدار الهلال صورة فوتوغرافية لوثيقة لم أرها من قبل، ولا أعرف مصدرها، الوثيقة عبارة عن رسالة خطية من الزعيم سعد زغلول، يقول نص الرسالة الوثيقة:
"حضرة المصور الماهر مختار
 شاهدت المثّال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدته أبلغ رمز للحقيقة وأنهض حجة على صحتها فأهنيك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام."
                                                          سعد زغلول
                                                  باريس 6 مايو سنة 1920

  هذا إذًا نص خطاب وجهه الزعيم سعد زغلول للمثال الشاب محمود مختار عندما شاهد النموذج الأول لتمثال "نهضة مصر" الذي عرضه مختار في صالون باريس سنة 1920، ليشيد بهذا العمل الفني الذي عبر من خلاله مختار عن النهضة المصرية التي أطلقتها الثورة المصرية، ثورة 1919، وفي سياق الثورة كان لقاء مختار الأول بالوفد المصري وزعيمه سعد، فعندما كان مختار في باريس أشترك في حركة الطلاب المصريين لدعم الوفد المصري في مفاوضات السلام، لكن إسهامه الأساسي في التعبير عن الثورة كان من خلال الفن الذي تعلمه وأتقنه وأحبه، فن النحت.


  لقد كانت ثورة 1919 التي فجرها نفى سعد وصحبه هي البداية تفجر مختار وانطلاقه الفني في طريق إرساء ملامح مدرسة مصرية حديثة في فن النحت، فقد كانت الثورة بداية لمرحلة جديدة في حياة مصر الفكرية والفنية مثلما كانت بداية مرحلة جديدة في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان مختار بهذا التمثال هو واحد من مشيدي أروع الرموز الفنية لتخليد ثورة 1919.
 ورغم أن مختار حصل على تقدير زعيم الأمة لعمله، كما نال شهادة تقدير من صالون باريس للفنون لم ينلها فنان مصري قبله، لكن التقدير الأكبر لهذا العمل جاء من المكانة التي احتلها التمثال في قلوب المصريين ولا يزال، ولم يكن هذا الرمز للثورة ليحتل هذه المكانة لولا أنه تحول من هذا النموذج الصغير الذي عرضه مختار في باريس إلى أكبر تمثال ميدان في قلب القاهرة.
 لقد انطلقت المسيرة للخروج بالتمثال من قاعات العرض إلى الشارع عندما كتب مجد الدين حفني ناصف الذي كان يدرس في باريس مقال من أربع حلقات بجريدة الأخبار عن مختار وتمثاله، ثم تحمس بعض أعضاء الوفد للتمثال، وفي مقدمتهم الدكتور حافظ عفيفي وويصا واصف وواصف غالي، فبدأت من خلال مقالاتهم الدعوة لإقامة التمثال في أحد ميادين القاهرة، وتبنى أمين الرافعي في جريدته، جريدة "الأخبار"، الدعوة لاكتتاب شعبي لإقامة التمثال في ميدان محطة مصر.." ونشر دعوة للاكتتاب بعنوان: "نهضة مصر ـ دعوة للأمة المصرية".
 وتلقى الدعوة استجابة شعبية واسعة، فيتبرع المصريون من كل الطبقات بالملاليم والقروش والجنيهات القليلة، فالكل مؤمن بأن التمثال تعبير عن إرادة الأمة وثورتها، ونهضتها من أجل بناء المستقبل.
 ويعود مختار إلى مصر بطلًا من أبطال نهضتها... "فتمثاله رمز للنهضة وعلامة من علامات الثورة والبعث، فهو أول أثر فني يقيمه مصري، ويقيمه في عهد السلاطين ولكنه لا يرمز للنهضة بالحاكم وإنما يرمز لها بالشعب ويجعل الفلاحة في الميدان العام رمزًا لمصر"، كما قال بدر الدين أبو غازي في كتابه المثال مختار.
 وتشكلت لجنة إقامة التمثال برئاسة حسين باشا رشدي رئيس الوزراء السابق، ووافقت حكومة عدلي باشا يكن على الترخيص بإقامة التمثال، وبدأ العمل في التمثال اعتمادًا على التبرعات الشعبية التي بلغت 6500 جنيه، وعلى الدعم الحكومي الذي قدمته وزارة عبد الخالق ثروت في سنة 1922 ومقداره 3000 جنيه لقطع أحجار الجرانيت من أسوان، وعقب صدور دستور 23 وتشكيل أول برلمان وطني منتخب أنبرى ويصا واصف للدفاع عن التمثال وضرورة توفير الاعتمادات الكافية لإنجازه، واستجاب سعد زغلول وكان على رأس الوزارة لهذه الدعوة إذ رأى أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثالها، فدعمه بمبلغ 12 ألف جنيه.

 لكن العمل في التمثال تحول إلى معركة أخرى من معارك الديمقراطية في مصر عندما حاولت حكومات الانقلابات الدستورية التي أتى بها فؤاد إلى الحكم إعاقة العمل في التمثال، ورغم انتهاء مختار من تمثاله إلا أن إزاحة الستار عنه تأخرت لعدة شهور بسبب رفض الملك تحديد موعد لإزاحة الستار عن التمثال.



 وفي العشرين من مايو من العام القادم، عام 2008، ستمر الذكرى الثمانين على إزاحة الستار عن تمثال نهضة مصر، أول تمثال ميدان في مصر ينحته فنان مصري



 وقبلها بأيام ستمر الذكرى المئوية لتأسيس مدرسة الفنون الجميلة، التي أسسها الأمير يوسف كمال وافتتحت قبل الجامعة الأهلية بشهور، لتخرج أجيالًا من الفنانين المصريين المبدعين، إننا أمام مناسبتين فاصلتين في تاريخ الحركة الفنية في مصر تستحقان أن نحتفل بهما احتفالًا يليق بقيمتهما في تاريخنا الحديث.

الدستور 10 أكتوبر 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق