الجمعة، 30 يونيو 2017

قضية المثال مختار... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
قضية المثال مختار
عماد أبو غازي

 رغم كل العقبات استمر مختار يعمل في التمثالين، تمثال سعد في القاهرة وتمثاله في الإسكندرية، وكانت أم المصريين، السيدة صفية زغلول أرملة الزعيم سعد زغلول تزوره في موقع العمل وتشد من أزره، مثلما زاره سعد من قبيل رحيله في موقع العمل بتمثال النهضة.

أم المصريين في زيارة لموقع العمل بتمثال الإسكندرية
 وكلما زاد تعنت الحكومة وتضيقها على مختار وتمثاليه كلما زاد إصراره على إنجاز العمل، لقد أصر مختار على استكمال عمله وتسجيل ملحمة نضال الشعب المصري من خلال تماثيل الزعيم سعد زغلول، فأعد النماذج الكاملة لمشروعه تمهيدًا لتنفيذه برضاء الحكومة أو بقوة القانون.
 حاولت الحكومة من ناحيتها شراء مختار؛ فعرضت عليه تعطيل العمل من جانبه مقابل تعويضه عن كل ما تحمله ماليًا، لكنه رفض لأن ما يعنيه لم يكن ما أنفقه من مال على العمل طوال سنوات، بل كل ما كان يشغله إنجاز العمل الفني القومي لبلاده، العمل الذي يخلد فيه كفاح الشعب من أجل الجلاء والدستور، ويضيف به صرحيين جديدين إلى جانب صرحه الأول الذي خلده إلى الأبد: تمثال نهضة مصر، لقد ساندت الأمة مختار في مشروع تمثال النهضة وكان مختار يحاول أن يرد بعضًا من الدين إلى الأمة في محنتها، عندما اغتال الطغاة دستورها وكبلوا حريتها، وكان سلاحه الفن الذي أتقنه واحترفه.
 اضطر مختار إلى مقاضاة الحكومة، وكان محاميه في هذه القضية التي عرفها الرأي العام باسم "قضية المثال مختار" هو الأستاذ عبد الرحمن الرافعي المحامي، وكان اختيارًا ذكيًا من مختار، فالرافعي من خصوم سعد السياسيين، فهو أحد أبناء الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل، ورغم أن كثيرين من أعضاء ذلك الحزب وأنصاره انضموا للوفد المصري، ومن أبرزهم عبد الرحمن فهمي القائد الميداني لثورة 19 ومصطفى النحاس خليفة سعد في زعامة الوفد وزعامة الأمة، إلا أن من بقوا في الحزب القديم كان لهم موقفًا معارضًا للوفد ومناهضا لسياسته القائمة على التفاوض من أجل تحقيق الاستقلال الكامل، فقد كان الشعار التاريخي للحزب الوطني: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، ورغم الخصومة السياسية بين الرافعي وسعد أو بين الحزب الوطني والوفد المصري إلا أنها كانت خصومة شريفة قائمة على اختلاف وجهات النظر السياسية واختلاف الوسائل والأولويات لتحقيق هدف واحد هو الاستقلال والجلاء.
 قال الرافعي في عريضة الدعوة التاريخية التي قدمها للمحكمة:
 "هذه قضية فذة لم يسبق للمحاكم أن نظرت مثلها في ظروفها وملابساتها، سواء في مصر أو في غير مصر، لأن هذه أول مرة فيما نعلم تقف حكومة ما موقف الخصومة والإساءة والتحدي تجاه فنان يعد بحق نابغة الفنانين في بلاده، ولا نعرف حتى الآن حكومة وقفت من نوابغ فنانيها مثل الموقف الذي وقفته الحكومة من المثال مختار، وإذا وقفت أية حكومة حيال الفن والفنانين موقف الاضطهاد واللدد في الخصام كان ذلك نذيرًا بالقضاء على النهضة الفنية في البلاد، وهذا هو الموقف الذي تقفه الحكومة في هذه الدعوى".


 لقد رحل مختار عن عالمنا في 27 مارس سنة 1934 قبل أن تنتهي القضية، وقبل أن يرى التمثالان النور ودون أن يراهما مختار في موضعهما الذي اختاره، لكن الأمور سارت في طريق معاكس، فكسب مختار القضية وحكم لورثته بالتعويض لما لحق به من أضرار، وسقطت حكومة إسماعيل صدقي وحكومات السرايا التي توالت بعدها، وعاد دستور 1923، ومات فؤاد، واستأنفت الحكومة مشروعات تخليد ذكرى سعد، فنقلت رفاته إلى ضريحه في سنة 1936، وأزيح الستار عن التمثالين في صيف 1938، وفي نفس الوقت تقريبًا نصب تمثال مصطفى كامل في موضعه الحالي بوسط القاهرة في ميدان سوارس بعد أن ظل حبيس الأسوار قرابة ثلاثين عامًا، وانتصرت بذلك إرادة الأمة على إرادة الملك وأعوانه.
 ويوم نقل رفات سعد إلى ضريحه الذي تستقر فيه إلى اليوم، نشر الكاتب الكبير عباس محمود العقاد قصيدة بهذه المناسبة قال فيها:
 عرف النفي حياة ومماتا
    وأصاب النصر روحا ورفاتا
كلما أقصوه عن دار له
    رده الشعب إليها واستماتا
كيف نجزيه افتئاتا وهو من
    كان لا يرضى على الشعب افتئاتا
أصبحت دارك مثواك فلا
   تحس بعد اليوم يا سعد شتاتا
حبذا الخلد ثمارا للذي
   غرس المجد ونماه نباتا
كل أرض للمصلي مسجدا
   غير أن الكعبة الكبرى مقاما
هكذا قبرك مرفوع الذرى
    في جوار البيت أو سفح الإمام
أرض مصر حيث أمسيت بها
   فبنوا مصر حجج وزحام
غير أن الذكر يبقى منسكا
   مثلما يبغيه حج واستلام
فالق في قبرك خلدا كلما
  مر عام تبعته ألف عام

الدستور نوفمبر 2007   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق